02 اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها

وَقَدْ ظَهَرَ سِرُّ هَذَا التَّفْضِيلِ وَالِاخْتِصَاصِ فِي انْجِذَابِ الْأَفْئِدَةِ، وَهَوَى الْقُلُوبِ وَانْعِطَافِهَا وَمَحَبَّتِهَا لِهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ، فَجَذْبُهُ لِلْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ جَذْبِ الْمِغْنَاطِيسِ لِلْحَدِيدِ، فَهُوَ الْأَوْلَى بِقَوْلِ الْقَائِلِ:

محَاسِنُهُ هَيُولَى كُلِّ حُسْنٍ وَمِغْنَاطِيسُ أَفْئِدَةِ الرِّجَالِ

وَلِهَذَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَثَابَةٌ لِلنَّاسِ، أَيْ: يَثُوبُونَ إِلَيْهِ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَعْوَامِ مِنْ جَمِيعِ الْأَقْطَارِ، وَلَا يَقْضُونَ مِنْهُ وَطَرًا، بَلْ كُلَّمَا ازْدَادُوا لَهُ زِيَارَةً ازْدَادُوا لَهُ اشْتِيَاقًا.

لَا يَرْجِعُ الطَّرْفُ عَنْهَا حِينَ يَنْظُرُهَا حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهَا الطَّرْفُ مُشْتَاقا

فَلَلَّهِ كَمْ لَهَا مِنْ قَتِيلٍ وَسَلِيبٍ وَجَرِيحٍ، وَكَمْ أُنْفِقَ فِي حُبِّهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَرْوَاحِ، وَرَضِيَ الْمُحِبُّ بِمُفَارَقَةِ فِلَذِ الْأَكْبَادِ وَالْأَهْلِ وَالْأَحْبَابِ وَالْأَوْطَانِ، مُقَدِّمًا بَيْنَ يَدَيْهِ أَنْوَاعَ الْمَخَاوِفِ وَالْمَتَالِفِ وَالْمَعَاطِفِ وَالْمَشَاقِّ.

الشيخ: الله أكبر، يعني: يترك أهله وأولاده في المكان البعيد؛ شوقًا لبلاد الله الحرام، وأداء النسك هناك؛ لعلمه بأن الله يُحب ذلك؛ لأنَّ الله شرع ذلك، فيُبادر ويُسارع إلى ذلك من البلاد البعيدة؛ تاركًا فلاذ كبده، وهم أولاده، تاركًا أهله، تاركًا وطنه وأصحابه وأقرباءه من أجل حبِّ الله ورسوله، والرغبة فيما شرع الله من زيارة هذا المكان المبارك، وأداء الأنساك فيه، والله أكبر.

وَهُوَ يَسْتَلِذُّ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَيَسْتَطِيبُهُ، وَيَرَاهُ -لَوْ ظَهَرَ سُلْطَانُ الْمَحَبَّةِ فِي قَلْبِهِ- أَطْيَبَ مِنْ نِعَمِ الْمُتَحَلِّيَةِ وَتَرَفِهِمْ وَلَذَّاتِهِمْ.

الشيخ: لعلها: المتخلية، يعني: الذين تخلوا في البلاد، لم يُسافروا البلد الحرام ..... لعلها: المتخلية.

الطالب: ............الشيخ: تخلَّى عن السَّفر: تجرد عن السفر، وبقي في بلده للتَّنعم والتَّرف، بدلًا من السفر إلى بلد الله الحرام، فهو يرى في مشاقِّه وتعبه في الطريق أنه أفضل وأطيب له من النِّعَم التي تحصل للمُتخلفين والمتخلين عن السفر، والله المستعان.

وَلَيْسَ مُحِبًّا مَنْ يَعُدُّ شَقَاءَهُ عَذَابًا إِذَا مَا كَانَ يَرْضَى حَبِيبُهُ

 

الشيخ: لا يعدُّه عذابًا إذا كان شقاؤه وتعبه يُرضي حبيبَه، وهو الله سبحانه.

وَهَذَا كُلُّهُ سِرُّ إِضَافَتِهِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ [الحج:26]، فَاقْتَضَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ الْخَاصَّةُ مِنْ هَذَا الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْمَحَبَّةِ مَا اقْتَضَتْهُ، كَمَا اقْتَضَتْ إِضَافَتُهُ لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ إِلَى نَفْسِهِ مَا اقْتَضَتْهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِضَافَتُهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ كَسَتْهُمْ مِنَ الْجَلَالِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْوَقَارِ مَا كَسَتْهُمْ.

فَكُلُّ مَا أَضَافَهُ الرَّبُّ تَعَالَى إِلَى نَفْسِهِ فَلَهُ مِنَ الْمَزِيَّةِ وَالِاخْتِصَاصِ عَلَى غَيْرِهِ مَا أَوْجَبَ لَهُ الِاصْطِفَاءَ وَالِاجْتِبَاءَ، ثُمَّ يَكْسُوهُ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ تَفْضِيلًا آخَرَ، وَتَخْصِيصًا وَجَلَالَةً زَائِدًا عَلَى مَا كَانَ لَهُ قَبْلَ الْإِضَافَةِ.

وَلَمْ يُوَفَّقْ لِفَهْمِ هَذَا الْمَعْنَى مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَمَاكِنِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِشَيْءٍ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ.

وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ وَجْهًا قَدْ ذُكِرَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَيَكْفِي تَصَوُّرُ هَذَا الْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ فِي فَسَادِهِ، فَإِنَّ مَذْهَبَنَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ ذَوَاتُ الرُّسُلِ كَذَوَاتِ أَعْدَائِهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا التَّفْضِيلُ بِأَمْرٍ لَا يَرْجِعُ إِلَى اخْتِصَاصِ الذَّوَاتِ بِصِفَاتٍ وَمَزَايَا لَا تَكُونُ لِغَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ نَفْسُ الْبِقَاعِ وَاحِدَةٌ بِالذَّاتِ، لَيْسَ لِبُقْعَةٍ عَلَى بُقْعَةٍ مَزِيَّةٌ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا هُوَ لِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَلَا مَزِيَّةَ لِبُقْعَةِ الْبَيْتِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمِنًى، وَعَرَفَةَ، وَالْمَشَاعِرِ عَلَى أَيِّ بُقْعَةٍ سَمَّيْتهَا مِنَ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا التَّفْضِيلُ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنِ الْبُقْعَةِ لَا يَعُودُ إِلَيْهَا، وَلَا إِلَى وَصْفٍ قَائِمٍ بِهَا.

وَاللَّهُ قَدْ رَدَّ هَذَا الْقَوْلَ الْبَاطِلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124] أَيْ: لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَهْلًا وَلَا صَالِحًا لِتَحَمُّلِ رِسَالَتِهِ، بَلْ لَهَا مَحَالُّ مَخْصُوصَةٌ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِهَا، وَلَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهَذِهِ الْمَحَالِّ مِنْكُمْ، وَلَوْ كَانَتِ الذَّوَاتُ مُتَسَاوِيَةً كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53] أَيْ: هُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يَشْكُرُهُ عَلَى نِعْمَتِهِ، فَيَخْتَصُّهُ بِفَضْلِهِ، وَيَمُنُّ عَلَيْهِ، مِمَّنْ لَا يَشْكُرُهُ، فَلَيْسَ كُلُّ مَحَلٍّ يَصْلُحُ لِشُكْرِهِ، وَاحْتِمَالِ مِنَّتِهِ، وَالتَّخْصِيصِ بِكَرَامَتِهِ.

فَذَوَاتُ مَا اخْتَارَهُ وَاصْطَفَاهُ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَمَاكِنِ وَالْأَشْخَاصِ وَغَيْرِهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى صِفَاتٍ وَأُمُورٍ قَائِمَةٍ بِهَا لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا، وَلِأَجْلِهَا اصْطَفَاهَا اللَّهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي فَضَّلَهَا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَخَصَّهَا بِالِاخْتِيَارِ، فَهَذَا خَلْقُهُ، وَهَذَا اخْتِيَارُهُ: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68].

وَمَا أَبْيَنَ بُطْلَانِ رَأْيٍ يَقْضِي بِأَنَّ مَكَانَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ مُسَاوٍ لِسَائِرِ الْأَمْكِنَةِ، وَذَاتَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مُسَاوِيَةٌ لِسَائِرِ حِجَارَةِ الْأَرْضِ، وَذَاتَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُسَاوِيَةٌ لِذَاتِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا التَّفْضِيلُ فِي ذَلِكَ بِأُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهَا.

وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ وَأَمْثَالُهَا مِنَ الْجِنَايَاتِ الَّتِي جَنَاهَا الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَنَسَبُوهَا إِلَيْهَا، وَهِيَ بَرِيئَةٌ مِنْهَا، وَلَيْسَ مَعَهُمْ أَكْثَرُ مِن اشْتِرَاكِ الذَّوَاتِ فِي أَمْرٍ عَامٍّ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَسَاوِيهَا فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَلِفَاتِ قَدْ تَشْتَرِكُ فِي أَمْرٍ عَامٍّ مَعَ اخْتِلَافِهَا فِي صِفَاتِهَا النَّفْسِيَّةِ، وَمَا سَوَّى اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ ذَاتِ الْمِسْكِ وَذَاتِ الْبَوْلِ أَبَدًا، وَلَا بَيْنَ ذَاتِ الْمَاءِ وَذَاتِ النَّارِ أَبَدًا.

وَالتَّفَاوُتُ الْبَيِّنُ بَيْنَ الْأَمْكِنَةِ الشَّرِيفَةِ وَأَضْدَادِهَا، وَالذَّوَاتِ الْفَاضِلَةِ وَأَضْدَادِهَا أَعْظَمُ مِنْ هَذَا التَّفَاوُتِ بِكَثِيرٍ، فَبَيْنَ ذَاتِ مُوسَى وَذَاتِ فرعون مِنَ التَّفَاوُتِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الْمِسْكِ وَالرَّجِيعِ، وَكَذَلِكَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ نَفْسِ الْكَعْبَةِ وَبَيْنَ بَيْتِ السُّلْطَانِ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا التَّفَاوُتِ أَيْضًا بِكَثِيرٍ، فَكَيْفَ تُجْعَلُ الْبُقْعَتَانِ سَوَاءً فِي الْحَقِيقَةِ، وَالتَّفْضِيلُ بِاعْتِبَارِ مَا يَقَعُ هُنَاكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ؟!

وَلَمْ نَقْصِدِ اسْتِيفَاءَ الرَّدِّ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ الْمَرْدُودِ الْمَرْذُولِ، وَإِنَّمَا قَصَدْنَا تَصْوِيرَهُ، وَإِلَى اللَّبِيبِ الْعَادِلِ الْعَاقِلِ التَّحَاكُمُ، وَلَا يَعْبَأُ اللَّهُ وَعِبَادُهُ بِغَيْرِهِ شَيْئًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُخَصِّصُ شَيْئًا وَلَا يُفَضِّلُهُ وَيُرَجِّحُهُ إِلَّا لِمَعْنًى يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ وَتَفْضِيلَهُ، نَعَمْ هُوَ مُعْطِي ذَلِكَ الْمُرَجِّحَ وَوَاهِبُهُ، فَهُوَ الَّذِي خَلَقَهُ، ثُمَّ اخْتَارَهُ بَعْدَ خَلْقِهِ: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68].

وَمِنْ هَذَا تَفْضِيلُهُ بَعْضَ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ عَلَى بَعْضٍ.

الطالب: قال ابنُ الأثير في "النهاية": وَمِنْهُ حَدِيثُ عَبْدِاللَّهِ ابْنِ الحَمْراء: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ وَاقِفٌ بالحَزْوَرَةِ مِنْ مَكَّةَ. هُوَ مَوْضِعٌ بِهَا عنْدَ بَابِ الحنَّاطِين، وَهُوَ بِوَزْنِ قَسْوَرَة.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: النَّاسُ يُشَدِّدُون: الحَزْوَرَةَ والحُدَيْبِيَة، وَهُمَا مُخَفَّفتان.

قال ياقوت في "معجم البلدان": حَزْوَرَةُ بالفتح ثم السكون، وفتح الواو، وراء، وهاء، وهو في اللغة: الرابية الصغيرة، وجمعها: حزاور.

وقال الدَّارقطني: كذا صوابه، والمحدِّثون يفتحون الزاي ويُشددون الواو، وهو تصحيف، وكانت الحزورة سوق مكة، وقد دخلت في المسجد لما زِيد فيه، وفي الحديث: وقف النبي ﷺ بالحزورة، فقال: يا بطحاء مكة، ما أطيبك من بلدةٍ، وأحبّك إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنتُ غيرك.

الشيخ: كلام الدَّارقطني يقتضي ..... بالتشديد .....، وقد يكون ..... المحدِّثون أعلم من أئمة اللغة؛ لأنَّ المحدِّثين رووا عن شيوخهم إلى النبي ﷺ، الصحابة الذين خرجوا من مكة .........

وَمِنْ هَذَا تَفْضِيلُهُ بَعْضَ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ عَلَى بَعْضٍ، فَخَيْرُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَهُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، كَمَا فِي "السُّنَنِ" عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ.

الشيخ: أيش قال عليه المحشي؟

الطالب: كما في "السنن" ..... و"مسند أحمد"، وهو .....، ويوم القرّ هو الغد من يوم النحر، وهو الحادي عشر لذي الحجة؛ لأنَّ الناس يقرون فيه بمنى؛ وذلك لأنهم قد برزوا من طواف الإفاضة والنَّحر، واستراحوا وقروا.

والحديث أخرجه أبو داود في "الحج" باب ..... قبل أن يبلغ، وأحمد من حديث عبدالله بن .....، وسنده صحيح، وصححه الحاكمُ، ووافقه الذَّهبي.

الشيخ: نعم، أيش عندكم: أفضل الأيام؟

كَمَا فِي "السُّنَنِ" عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ.

وَقِيلَ: يَوْمُ عَرَفَةَ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، قَالُوا: لِأَنَّهُ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَصِيَامُهُ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ، وَمَا مِنْ يَوْمٍ يُعْتِقُ اللَّهُ فِيهِ الرِّقَابَ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ؛ وَلِأَنَّهُ يَدْنُو فِيهِ مِنْ عِبَادِهِ، ثُمَّ يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ بِأَهْلِ الْمَوْقِفِ.

وَالصَّوَابُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الدَّالَّ عَلَى ذَلِكَ لَا يُعَارِضُهُ شَيْءٌ يُقَاوِمُهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ [التوبة:3].

وَثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَنَّ أبا بكر وعليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَذَّنَا بِذَلِكَ يَوْمَ النَّحْرِ، لَا يَوْمَ عَرَفَةَ.

وَفِي "سُنَنِ أبي داود" بِأَصَحِّ إِسْنَادٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ مُقَدِّمَةٌ لِيَوْمِ النَّحْرِ بَيْنَ يَدَيْهِ.

س: أيش معنى قوله: في أصح إسنادٍ؟

ج: في رواية أبي داود إسنادها من أصحِّ الأسانيد يعني، علَّق على قوله "في أصح إسنادٍ" وإلا ما تعرض له؟

الطالب: قال: رواه أبو داود في "الحج": باب يوم الحج الأكبر، وابن ماجه في "المناسك": باب الخطبة يوم عرفة، من حديث ابن عمر، وسنده صحيح، وعلَّقه البخاري في "صحيحه".

الشيخ: نعم.

وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.

وَيَوْمُ عَرَفَةَ مُقَدِّمَةٌ لِيَوْمِ النَّحْرِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنَّ فِيهِ يَكُونُ الْوُقُوفُ وَالتَّضَرُّعُ وَالتَّوْبَةُ وَالِابْتِهَالُ وَالِاسْتِقَالَةُ.

ثُمَّ يَوْمُ النَّحْرِ تَكُونُ الْوِفَادَةُ وَالزِّيَارَةُ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ طَوَافُهُ: طَوَافَ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ طَهُرُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ يَوْمَ عَرَفَةَ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ رَبُّهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ فِي زِيَارَتِهِ وَالدُّخُولِ عَلَيْهِ إِلَى بَيْتِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ فِيهِ ذَبْحُ الْقَرَابِين، وَحَلْقُ الرُّؤُوسِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَمُعْظَمُ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَعَمَلُ يَوْمِ عَرَفَةَ -كَالطُّهُورِ وَالِاغْتِسَالِ- بَيْنَ يَدَيْ هَذَا الْيَوْمِ.

وَكَذَلِكَ تَفْضِيلُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ، فَإِنَّ أَيَّامَهُ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، وَهِيَ الْأَيَّامُ الْعَشْرُ الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: وَالْفَجْرِ ۝ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1- 2].

الشيخ: وهذه الأيام فيها من الخير العظيم والفضل الكبير ما لا يخفى، فإنَّ الله جعلها أيامًا عظيمةً: أيام تكبير، وأيام ذكر، وأيام عبادة، وأيام حضور لأداء الحجِّ، فالحجاج يقدمون فيها، ينتظرون تقدمهم إلى يوم عرفة، وإلى يوم النحر بالقربات والأعمال الصَّالحات؛ ولهذا ثبت عنه ﷺ أنه قال: ما من أيامٍ العمل الصَّالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام يعني: العشر، وعاشرها هو يوم النحر، قالوا للنبي ﷺ: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيءٍ.

فجعل هذه الأيام أفضل الأيام، وعاشرها هو يوم النحر، وهو النهاية، وفيه تكون القربات العظيمة: من الطواف، ونحر الهدايا، ورمي الجمار، وحلق الرؤوس؛ ولهذا جاء في هذا الحديث: ..... يوم الحجّ الأكبر.

فهذان اليومان يومان عظيمان، ثم يوم القَرّ، وهو الحادي عشر، اليوم الذي يقرّ الناسُ فيه في منى، فهي أيام عظيمة، عاشرها يوم النحر، وهو الذي أمر الله فيه بالأذان بين الناس أنَّ الله ورسوله بريء من المشركين: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:3].

فهذا يوم الحج الأكبر، وهو اليوم الأفضل، كما سُمي يوم الحج الأكبر، ويوم عرفة له فضل عظيم: ففيه يقف الناسُ بين يدي الله، وقد وعد الله فيه بحطِّ الخطايا، وعتق الرقاب من النار، فهذا له فضله، وهذا له فضله؛ ولهذا اختلف الناسُ في أيِّهما أفضل؟ فقال قومٌ: يوم عرفة أفضل؛ لأنَّ فيه الوقوف، وهو أعظم الأركان، وفيه العتق من النار، وقد صحَّ عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: ما من يومٍ أكثر عتيقًا من النار من يوم عرفة، وإنه سبحانه ليُباهي بعباده الملائكة يقول: ما أراد هؤلاء؟ ليس هناك يوم في الدنيا أكثر عُتقاء من النار من يوم عرفة؛ فلهذا قال جمعٌ من أهل العلم: إنه الأفضل.

وقال آخرون: إنه يوم النحر.

قال المؤلف: وهذا الأصح للأسباب التي ذكرها، وفي الحديث: أفضل الأيام يوم النحر، ثم يوم القرّ، فهذا يُبين لنا عظم شأن هذه الأيام، وأنها أيام عظيمة، وأيام فاضلة، وأيام مباركة، والتسع التي هي تسع ذي الحجة فيها شرعية أعمال كثيرة من الذكر والدعاء والصيام والإعداد للحج، فهي أيام فاضلة عظيمة.

وفي حديث ابن عمر: "ما من أيامٍ أعظم عند الله ولا أحبّ العمل فيهنَّ من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيها من التهليل والتَّحميد والتَّكبير"، فكان ابنُ عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان في أيام العشر إلى السوق، يجولان في الأسواق ويُكبران، ويُكبر الناسُ بتكبيرهما.

لكن يُشكل على هذا قوله: ثم يوم القرّ، فهذا هو محل الإشكال في غرابة متن الحديث؛ فإنَّ المتبادر أن يوم النَّحر هو الأفضل، ثم يليه يوم عرفة لفضله، وهنا ذكر ..... يوم القرّ، فهو يحتاج إلى مزيدٍ من التَّحقيق في هذا الحديث.

وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا الْإِكْثَارُ مِنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ، وَنِسْبَتُهَا إِلَى الْأَيَّامِ كَنِسْبَةِ مَوَاضِعِ الْمَنَاسِكِ فِي سَائِرِ الْبِقَاعِ.

وَمِنْ ذَلِكَ تَفْضِيلُ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى سَائِرِ الشُّهُورِ، وَتَفْضِيلُ عَشْرِهِ الْأَخِيرِ عَلَى سَائِرِ اللَّيَالِي، وَتَفْضِيلُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى أَلْفِ شَهْرٍ.

فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ الْعَشْرَيْنِ أَفْضَلُ: عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ، أَوِ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْ رَمَضَانَ؟ وَأَيُّ اللَّيْلَتَيْنِ أَفْضَلُ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ، أَوْ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ؟

قُلْتُ: أَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ فَالصَّوَابُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ لَيَالِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَيَّامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ رَمَضَانَ، وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ لَيَالِيَ الْعَشْرِ مِنْ رَمَضَانَ إِنَّمَا فُضِّلَتْ بِاعْتِبَارِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَهِيَ مِنَ اللَّيَالِي، وَعَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ إِنَّمَا فُضِّلَ بِاعْتِبَارِ أَيَّامِهِ، إِذْ فِيهِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ.

الشيخ: وهذا هو الأرجح: أيام عشر ذي الحجة أفضل بفضلها وما فيها من الخير العظيم، هي أفضل: تاسعها وعاشرها هما أفضل العشر، وأيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام رمضان، وليالي العشر الأخيرة من رمضان أفضل الليالي؛ لأنَّ فيها ليلة القدر، وهي خيرٌ من ألف شهرٍ.

س: ..............؟

ج: الإقسام بالليل، ما هو بالنهار، هي أفضل الليالي؛ لما فيها من ليلة القدر، والقسم لا يلزم منه التَّفضيل، إنما التَّفضيل لأجل ما فيها من ليلة القدر، وما فيها من الخير العظيم، والعتق من النار، والقسم ما يدل على فضلٍ خاصٍّ، قد أقسم بالشمس، وأقسم بالقمر، وأقسم بالتين والزيتون، وإنما الكلام من أدلةٍ أخرى غير القسم.

وهذا يدل على أنَّ المقسم من الآيات الدالة على قُدرة الله واستحقاقه العبادة .

وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَقَدْ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَقَالَ آخَرُ: بَلْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَفْضَلُ. فَأَيُّهُمَا الْمُصِيبُ؟

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا الْقَائِلُ بِأَنَّ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ تَكُونَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ فِيهَا بِالنَّبِيِّ ﷺ وَنَظَائِرُهَا مِنْ كُلِّ عَامٍ أَفْضَلَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ قِيَامُهَا وَالدُّعَاءُ فِيهَا أَفْضَلَ مِنْهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَهَذَا بَاطِلٌ، لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاطِّرَادِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ.

.............

الشيخ: يعني: شيء يضطر العقول ويضطر الأفهام إلى التسليم له والإيمان به؛ لما جاء في ليلة القدر من الفضل العظيم بنصِّ القرآن، ونصِّ السنة، أما جنس الليلة التي أُسري فيها فلم يأتِ فيها شيء، فهي لا تفضل، وإنما فضلها لكون الرسول ﷺ أُسري به إلى المسجد الحرام، ثم عرج به إلى السَّماء، فلها فضلٌ خاصٌّ به عليه الصلاة والسلام، وليس للأمة في شيءٍ يخصُّهم، بل أعطاه الله هذا الفضل، وجعلها ليلةً بالنسبة إليه مباركة، وبالنسبة للأمة البركة بما أعطاه الله من الوحي والإنزال.

وأما ليلة القدر فجعلها للأمَّة: فيها تتعبد، وفيها يعتقون من النار، خصَّها بفضلٍ عظيمٍ للأمة كلها .....، أما ليلة الإسراء فشيء خصَّ اللهُ به نبيَّه ﷺ دون بقية الأنبياء، وأسرى به في تلك الليلة، ثم عرج به إلى السَّماء، فليست مما جعل للأمة التَّعبد فيها، ولم يشرع لهم التَّعبد فيها، بل تخصيصها بعبادةٍ بدعة، لا دليلَ عليه.

هَذَا إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ تُعْرَفُ عَيْنُهَا، فَكَيْفَ وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ مَعْلُومٌ لَا عَلَى شَهْرِهَا، وَلَا عَلَى عَشْرِهَا، وَلَا عَلَى عَيْنِهَا، بَلِ النُّقُولُ فِي ذَلِكَ مُنْقَطِعَةٌ مُخْتَلِفَةٌ، لَيْسَ فِيهَا مَا يُقْطَعُ بِهِ، وَلَا شُرِعَ لِلْمُسْلِمِينَ تَخْصِيصُ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّهَا لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ بِقِيَامٍ وَلَا غَيْرِهِ، بِخِلَافِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَأَنَّهُ أَنْزَلَ فِيهَا الْقُرْآنَ.

وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُعَيَّنَةَ الَّتِي أُسْرِيَ فِيهَا بِالنَّبِيِّ ﷺ وَحَصَلَ لَهُ فِيهَا مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فِي غَيْرِهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْرَعَ تَخْصِيصُهَا بِقِيَامٍ وَلَا عِبَادَةٍ، فَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَيْسَ إِذَا أَعْطَى اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ فَضِيلَةً فِي مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ أَفْضَلَ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ.

هَذَا إِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِنْعَامَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَغَيْر ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهَا.

وَالْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا يَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَمَقَادِيرِ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِوَحْيٍ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيهَا بِلَا عِلْمٍ، وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ جَعَلَ لِلَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ فَضِيلَةً عَلَى غَيْرِهَا، لَا سِيَّمَا عَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَلَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ يَقْصِدُونَ تَخْصِيصَ لَيْلَة الْإِسْرَاءِ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ.

..........

وَلَا يَذْكُرُونَهَا؛ وَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ أَيَّ لَيْلَةٍ كَانَتْ، وَإِنْ كَانَ الْإِسْرَاءُ مِنْ أَعْظَمِ فَضَائِلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُشْرَعْ تَخْصِيصُ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَلَا ذَلِكَ الْمَكَانِ بِعِبَادَةٍ شَرْعِيَّةٍ، بَلْ غَارُ حِرَاءٍ الَّذِي ابْتُدِئَ فِيهِ بِنُزُولِ الْوَحْيِ -وَكَانَ يَتَحَرَّاهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ- لَمْ يَقْصِدْهُ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مُدَّةَ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ، وَلَا خُصَّ الْيَوْمُ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْوَحْيُ بِعِبَادَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَلَا خُصَّ الْمَكَانُ الَّذِي ابْتُدِئَ فِيهِ بِالْوَحْيِ وَلَا الزَّمَانُ بِشَيْءٍ.

وَمَنْ خَصَّ الْأَمْكِنَةَ وَالْأَزْمِنَةَ مِنْ عِنْدِهِ بِعِبَادَاتٍ لِأَجْلِ هَذَا وَأَمْثَالِهِ كَانَ مِنْ جِنْسِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ جَعَلُوا زَمَانَ أَحْوَالِ الْمَسِيحِ مَوَاسِمَ وَعِبَادَاتٍ: كَيَوْمِ الْمِيلَادِ، وَيَوْمِ التَّعْمِيدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِ.

وَقَدْ رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ جَمَاعَةً يَتَبَادَرُونَ مَكَانًا يُصَلُّونَ فِيهِ، فَقَالَ: "مَا هَذَا؟" قَالُوا: مَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: "أَتُرِيدُونَ أَنْ تَتَّخِذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِكُمْ مَسَاجِدَ؟! إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا، فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَإِلَّا فَلْيَمْضِ".

الشيخ: وهذا هو الحقُّ، ما فعله بعضُ الناس في الأردن أو في غيرها من تعظيم ..... من رجب، ويُعلنون أنها ليلة الإسراء والمعراج، وتخصيص ذلك .....، أو بصيام نهارها، أو بقيام ليلها، أو ..... فيها الولائم، كله باطل لا أصلَ له .....، ولم يحفظها المسلمون، فإنَّ الله أنساه إياها لحكمةٍ بالغةٍ ، وما ورد ..... لا يصحّ عن أهل العلم ..... لم تعلم، بل أُنسيها الناس، ولم يخصّها النبيُّ ﷺ بشيءٍ: لا بعبادةٍ، ولا بغير عبادةٍ، وهكذا الصحابة لم ..... يخصُّوها بشيءٍ، فدلَّ ذلك على أنَّ مَن خصَّ ليلة الإسراء بشيءٍ أو يومها بشيءٍ فقد ابتدع.

..........

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ ﷺ أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُمَّةِ أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، فَهَذِهِ اللَّيْلَةُ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ أَفْضَلُ لَهُمْ، وَلَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ فِي حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَفْضَلُ لَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، أَوْ يَوْمُ عَرَفَةَ؟

فَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي "صَحِيحِهِ" مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ وَلَا تَغْرُبُ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.

وَفِيهِ أَيْضًا حَدِيثُ أوس بن أوس: خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ.

قِيلَ: قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى تَفْضِيلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، مُحْتَجًّا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَحَكَى الْقَاضِي أبو يعلى رِوَايَةً عَنْ أحمد: أَنَّ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ.

وَالصَّوَابُ أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ النَّحْرِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ، وَكَذَلِكَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَلَيْلَةُ الْجُمُعَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ لِوَقْفَةِ الْجُمُعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ مَزِيَّةٌ عَلَى سَائِرِ الْأَيَّامِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ.

الشيخ: ..... يعني: ليلة الجمعة أفضل ليالي الأسبوع، وليلة عرفة أفضل ليالي السنة، هذا فيه نظر .....

وَالصَّوَابُ أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ النَّحْرِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ، وَكَذَلِكَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَلَيْلَةُ الْجُمُعَةِ.

الشيخ: وهذا وجيه؛ فإنَّ يوم عرفة ويوم النحر ويوم القرّ هي أفضل أيام العام؛ لهذا خصَّها الله بأشياء من المزايا: يوم عرفة فيه أعظم أركان الحجِّ، وهو الوقوف بعرفة، ويوم النحر فيه أعمال الحجِّ، ويوم القرّ فيه بقية أعمال الحجِّ، كما جاء في الحديث الثاني ..... يوم النحر، ثم يوم القرّ .....، ذكر المؤلفُ هنا لكن تقدم.

أما أفضل الليالي على الإطلاق فهي ليلة القدر، هي خيرٌ من ألف شهرٍ، هي أفضل الليالي، وأما كون ليلة الجمعة أفضل ليالي الأسبوع فهذا محل نظرٍ، ومحتمل؛ لأنه لم يرد فيها فيما نعلم شيء خاصٌّ يدل على هذا المعنى، إلا أن يُقال ..... أيام الأسبوع كانت هي أفضل ليالي الأسبوع من جهة أنَّ الرسول نهى أن تخصَّ بشيءٍ لبيان فضلها وعظمتها، فهذا وجيه كما قال المؤلفُ هنا، ليس هناك نصٌّ فيما نعلم يدل على أنها أفضل الليالي ..... الأسبوع، وأما ليلة القدر فالنص فيها واضح، فهي أفضل الليالي على الإطلاق؛ لأنَّ الله جعلها خيرًا من ألف شهر، فعُلم بذلك أنها أفضلُ الليالي.

س: بعضهم يقول أنَّ ليلة المولد أفضل من ليلة القدر؟

ج: هذا منكر من القول، كلام قبيح.

وَلِهَذَا كَانَ لِوَقْفَةِ الْجُمُعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ مَزِيَّةٌ عَلَى سَائِرِ الْأَيَّامِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ:

أَحَدُهَا: اجْتِمَاعُ الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَيَّامِ.

الثَّانِي: أَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي فِيهِ سَاعَةٌ مُحَقَّقَةُ الْإِجَابَةِ، وَأَكْثَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا آخِرُ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَأَهْلُ الْمَوْقِفِ كُلُّهُمْ إِذْ ذَاكَ وَاقِفُونَ لِلدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ.

الثَّالِثُ: مُوَافَقَتُهُ لِيَوْمِ وَقْفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

الرَّابِعُ: أَنَّ فِيهِ اجْتِمَاعَ الْخَلَائِقِ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ لِلْخُطْبَةِ وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَيُوَافِقُ ذَلِكَ اجْتِمَاعَ أَهْلِ عَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ، فَيَحْصُلُ مِنَ اجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَوْقِفِهِمْ مِنَ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ مَا لَا يَحْصُلُ فِي يَوْمٍ سِوَاهُ.

الْخَامِسُ: أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمُ عِيدٍ لِأَهْلِ عَرَفَةَ؛ وَلِذَلِكَ كُرِهَ لِمَنْ بِعَرَفَةَ صَوْمُهُ، وَفِي النَّسَائِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ"، وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ مهدي بن حرب العبدي لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، وَمَدَارُهُ عَلَيْهِ.

وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أم الفضل: أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ فَشَرِبَهُ.

الشيخ: أيش قال المحشي على حديث النَّهي عن صوم يوم عرفة؟

الطالب: رواه أبو داود في "الصيام": باب في صوم عرفة، وابن ماجه في "الصيام": باب الصيام يوم عرفة، وأحمد، وسنده ضعيف؛ لجهالة مهدي بن حرب العبدي كما ذكر المصنِّفُ.

الشيخ: ليس بجيدٍ، المعروف أنه لا بأس بإسناده، وقد استنكره ابنُ القيم، ولكن لا بأس بإسناده ..... في هذا فيما أعلم لا بأس به، المعروف أنه لا بأس بإسناده، وهو حُجَّة على كراهة صوم عرفة بعرفة، أو تحريمه بالنسبة إلى الحجاج، أما غير الحجاج فيُسنُّ لهم صيام يوم عرفة، وصيام يوم عرفة في غير الحجِّ سنة وقُربة، كما ذكر: يُكفِّر السنةَ التي قبله والتي بعده، أما في الحجِّ فلا ينبغي للحجاج أن يصوموا؛ لأنهم ..... الله جلَّ وعلا، وبين يديه، وإفطارهم يُعينهم على الدعاء والذكر والضَّراعة إلى الله ؛ فلهذا نُهوا عن صيام يوم عرفة بعرفة؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم وقف مُفطرًا بعرفات، وشرب اللبن والناس ينظرون؛ ليعلموا أنه مُفطر عليه الصلاة والسلام، فأقلّ أحواله الكراهة، نعم.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حِكْمَةِ اسْتِحْبَابِ فِطْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لِيَتَقَوَّى عَلَى الدُّعَاءِ. وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الخرقي وَغَيْرِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ -مِنْهُمْ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية- الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ عِيدٌ لِأَهْلِ عَرَفَةَ، فَلَا يُسْتَحَبُّ صَوْمُهُ لَهُمْ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي "السُّنَنِ" عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ مِنًى، عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ.

قَالَ شَيْخُنَا: وَإِنَّمَا يَكُونُ يَوْمُ عَرَفَةَ عِيدًا فِي حَقِّ أَهْلِ عَرَفَةَ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَجْتَمِعُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَكَانَ هُوَ الْعِيدَ فِي حَقِّهِمْ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ إِذَا اتَّفَقَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ جُمُعَةٍ فَقَدِ اتَّفَقَ عِيدَانِ مَعًا.

السَّادِسُ: أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِيَوْمِ إِكْمَالِ اللَّهِ تَعَالَى دِينَهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِتْمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ، كَمَا ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: جَاءَ يَهُودِيٌّ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ تَقْرَؤُونَهَا فِي كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ وَنَعْلَمُ ذَلِكَ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ لَاتَّخَذْنَاهُ عِيدًا. قَالَ: "أَيُّ آيَةٍ؟" قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3]. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَنَحْنُ وَاقِفُونَ مَعَهُ بِعَرَفَةَ".

الشيخ: .........

السَّابِعُ: أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِيَوْمِ الْجَمْعِ الْأَكْبَرِ، وَالْمَوْقِفِ الْأَعْظَمِ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ الْقِيَامَةَ تَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ؛ وَلِهَذَا شَرَعَ اللَّهُ لِعِبَادِهِ يَوْمًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، فَيَذْكُرُونَ الْمَبْدَأَ وَالْمَعَادَ، وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَادَّخَرَ اللَّهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ فِيهِ كَانَ الْمَبْدَأُ، وَفِيهِ الْمَعَادُ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي فَجْرِهِ سُورَتَيِ "السَّجْدَةِ" وهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ لِاشْتِمَالِهِمَا عَلَى مَا كَانَ، وَمَا يَكُونُ فِي هَذَا الْيَوْمِ: مِنْ خَلْقِ آدَمَ، وَذِكْرِ الْمَبْدَأ وَالْمَعَادِ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَكَانَ يُذَكِّرُ الْأُمَّةَ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِمَا كَانَ فِيهِ وَمَا يَكُونُ، فَهَكَذَا يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ بِأَعْظَمِ مَوَاقِفِ الدُّنْيَا -وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ- الْمَوْقِفَ الْأَعْظَمَ.

الشيخ: ..... أعظم مواقف الدنيا يوم الجمعة، وأعظم مواقف الآخرة موقف يوم القيامة .....

بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ، وَلَا يَتَنَصَّفُ حَتَّى يَسْتَقِرَّ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي مَنَازِلِهِمْ.

الشيخ: كما قال سبحانه: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24]، الله أكبر، والمقصود أنَّ في وقوف يوم الجمعة تذكيرَ الناس بيوم القيامة، فإنَّ الساعة تقوم يوم القيامة، فالساعة تقوم في يوم الجمعة، يقول ﷺ في يوم الجمعة: فيه خُلق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، وفيه تقوم الساعةُ.

فيتذكر الإنسانُ بموقف عرفة وباجتماع الناس يوم الجمعة يتذكر الموقف يوم القيامة بين يدي الله سبحانه، فيكون ذلك من أسباب الإعداد لهذا اليوم، ومن أسباب الاستقامة، والبُعد عن محارم الله، والتوبة مما يُغضبه .

وفي هذا الاجتماع في يوم الجمعة ويوم عرفة، في هذين الاجتماعين اجتماع كامل لأهل الدنيا في طاعة الله وعبادته، فهؤلاء في بلدانهم وقُراهم يجتمعون لصلاة الجمعة، والحجاج يجتمعون في الموقف يدعون ربَّهم ويتضرعون إليه بعد الزوال، فصار بهذا الاجتماع خيرٌ آخر لما يحصل للمؤمنين في هذه الدَّار.

وفي قراءة السُّورتين تذكير بهذا المبدأ والمعاد: سورة "السجدة"، وسورة هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ، وفيه الرد على مَن زعم أنَّ القراءة بالسَّجدة لأجل السجدة، لا، ما هو لأجل السَّجدة، السجدة موجودة في سور كثيرةٍ، لكن المقصود أن قراءة ألم تنزيل السجدة، وهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ يذكر المبدأ والمعاد: مبدأ خلق آدم، وأنه خُلق من التراب، ويذكر بالجنة والنار والمصير إليهما يوم القيامة .....، فيكون هذا من أسباب نشاط العبد في طاعة الله، وقيامه بأمر الله، وإعداده ليوم القيامة.

س: ............؟

ج: خلاف السنة، .....، لكنه خالف السنة، السنة أن يقرأ بألم السجدة في الأولى، وهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ في الثانية .....، نعم.

الثَّامِنُ: أَنَّ الطَّاعَةَ الْوَاقِعَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، حَتَّى إِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْفُجُورِ يَحْتَرِمُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتَهُ، وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ تَجَرَّأَ فِيهِ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ عَجَّلَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ وَلَمْ يُمْهِلْهُ، وَهَذَا أَمْرٌ قَدِ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُمْ وَعَلِمُوهُ بِالتَّجَارِبِ؛ وَذَلِكَ لِعِظَمِ الْيَوْمِ وَشَرَفِهِ عِنْدَ اللَّهِ، وَاخْتِيَارِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلْوَقْفَةِ فِيهِ مَزِيَّةً عَلَى غَيْرِهِ.

س: ..............؟

ج: تغيرت الأحوال ..... فرصة للفساد والخلوة بما حرَّم الله، نسأل الله العافية، لما تطورت الأحوالُ وصارت الأيامُ أيام عملٍ ..... في هذه البلاد وأيام عمل أيضًا في بلدانٍ أخرى .....

..........

التَّاسِعُ: أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِيَوْمِ الْمَزِيدِ فِي الْجَنَّةِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي وَادٍ أَفْيَحَ، وَيُنْصَبُ لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ لُؤْلُؤٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ زَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ، فَيَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَيَتَجَلَّى لَهُمْ فَيَرَوْنَهُ عِيَانًا، وَيَكُونُ أَسْرَعُهُمْ مُوَافَاةً أَعْجَلَهُمْ رَوَاحًا إِلَى الْمَسْجِدِ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنْهُ أَقْرَبَهُمْ مِنَ الْإِمَامِ، فَأَهْلُ الْجَنَّةِ مُشْتَاقُونَ إِلَى يَوْمِ الْمَزِيدِ فِيهَا؛ لِمَا يَنَالُونَ فِيهِ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَهُوَ يَوْمُ جُمُعَةٍ، فَإِذَا وَافَقَ يَوْمَ عَرَفَةَ كَانَ لَهُ زِيَادَةُ مَزِيَّةٍ وَاخْتِصَاصٍ وَفَضْلٍ لَيْسَ لِغَيْرِهِ.

الشيخ: وهذا يدل على أنواعٍ من المزايا ليوم الجمعة، إذا وافق الحجُّ يومَ الجمعة اجتمع عيدان، يوم المزيد اليوم الذي يجتمع فيه المؤمنون إلى ربهم في الجنة في كل أسبوعٍ بمقدار يوم الجمعة، وليس هناك ليلٌ ولا نهارٌ، وكله يوم مطرد، ولكن لهم موعد مع ربهم في مقدار الأسبوع يجتمع فيه أهلُ الجنة إليه، إلى ربهم، ويتكلم معهم، وينظرون إلى وجهه الكريم، ويُحييهم، ويحصل لهم من الفضل العظيم والخير الكثير ما لا يُحصيه إلا الله ، وهم على منازل وعلى مراتب في دنوهم من ربهم، ومجالسهم من ربهم جلَّ وعلا، وكراسيهم التي يجلسون عليها أنواع معينة من الذهب والفضَّة والزَّبرجد وغير ذلك، وهذا يوم عظيم عند الله ، والله المستعان.

س: ............؟

ج: ورد فيه بعضُ الأحاديث، نعم.

الْعَاشِرُ: أَنَّهُ يَدْنُو الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَوْقِفِ، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، وَتَحْصُلُ مَعَ دُنُوِّهِ مِنْهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَاعَةُ الْإِجَابَةِ الَّتِي لَا يَرُدُّ فِيهَا سَائِلًا يَسْأَلُ خَيْرًا، فَيَقْرُبُونَ مِنْهُ بِدُعَائِهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُمْ تَعَالَى نَوْعَيْنِ مِنَ الْقُرْبِ:

أَحَدُهُمَا: قُرْبُ الْإِجَابَةِ الْمُحَقَّقَةِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ.

وَالثَّانِي: قُرْبُهُ الْخَاصُّ مِنْ أَهْلِ عَرَفَةَ، وَمُبَاهَاتُهُ بِهِمْ مَلَائِكَتَهُ، فَتَسْتَشْعِرُ قُلُوبُ أَهْلِ الْإِيمَانِ هَذِهِ الْأُمُورَ فَتَزْدَادُ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِهَا، وَفَرَحًا وَسُرُورًا وَابْتِهَاجًا، وَرَجَاءً لِفَضْلِ رَبِّهَا وَكَرَمِهِ.

فَبِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَغَيْرِهَا فُضِّلَتْ وَقْفَةُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى غَيْرِهَا.

وَأَمَّا مَا اسْتَفَاضَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَوَامِّ بِأَنَّهَا تَعْدِلُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ حَجَّةً، فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشيخ: وهذا بعض العامَّة يظن أن وقت الجمعة يُعادل كذا وكذا من الحجَّات، وهذا شيء لا أصلَ له، لا تعدل حجَّة ولا غيرها، وإنما ذلك يوم مبارك وافق يومًا مباركًا، فيوم عرفة يوم عظيم، ويوم الجمعة يوم عظيم، فإذا وافق يومُ الجمعة يومَ عرفة اجتمع عيدان، واجتمع اجتماعان عظيمان، وحصلت في ذلك اليوم ساعة لا يرد فيها السَّائل، آخر النهار، ويلحق بهذا من الخير العظيم والفضل الكبير ما يُرجا به للحجاج عظيم المثوبة، وتكفير السَّيئات، ورفع الدَّرجات، والفوز بالجنَّات.

فَصْلٌ

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ اخْتَارَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ أَطْيَبَهُ، وَاخْتَصَّهُ لِنَفْسِهِ وَارْتَضَاهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يُحِبُّ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَلَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ وَالْكَلَامِ وَالصَّدَقَةِ إِلَّا الطَّيِّبَ، فَالطَّيِّبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ مُخْتَارُهُ تَعَالَى.

وَأَمَّا خَلْقُهُ تَعَالَى فَعَامٌّ لِلنَّوْعَيْنِ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ عُنْوَانُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ وَشَقَاوَتِهِ.

الشيخ: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68] ، خلق الجميع لحكمةٍ عظيمةٍ، واختار منهم ما يشاء : فاختار الأنبياء، واختار الرسل، واختار عباده المؤمنين من سائر الناس، وأضلَّ غيرَهم لحكمةٍ بالغةٍ، واختار من البقاع مكةَ، والحرم الشريف، وحرَّم المدينة، واختار من الشهور: شهر رمضان، وشهر ذي الحجة، وشهر محرم، واختار من أيام الأسبوع: يوم الجمعة، وجعله أفضل أيام الأسبوع، ثم يوم الخميس ويوم الاثنين، وجعلهما يومان تُرفع فيهما الأعمال إلى الله ، وهو يخلق ما يشاء ويختار جلَّ وعلا، وله الحكمة البالغة .

فَإِنَّ الطَّيِّبَ لَا يُنَاسِبُهُ إِلَّا الطَّيِّبُ، وَلَا يَرْضَى إِلَّا بِهِ، وَلَا يَسْكُنُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا يَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ إِلَّا بِهِ، فَلَهُ مِنَ الْكَلَامِ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ الَّذِي لَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا هُوَ، وَهُوَ أَشَدُّ شَيْءٍ نُفْرَةً عَنِ الْفُحْشِ فِي الْمَقَالِ، وَالتَّفَحُّشِ فِي اللِّسَانِ وَالْبَذَاءِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْبُهْتِ وَقَوْلِ الزُّورِ، وَكُلِّ كَلَامٍ خَبِيثٍ.

وَكَذَلِكَ لَا يَأْلَفُ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا أَطْيَبَهَا، وَهِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي اجْتَمَعَتْ عَلَى حُسْنِهَا الْفِطَرُ السَّلِيمَةُ مَعَ الشَّرَائِعِ النَّبَوِيَّةِ، وَزَكَّتْهَا الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ، فَاتَّفَقَ عَلَى حُسْنِهَا الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ وَالْفِطْرَةُ، مِثْلَ: أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَيُؤْثِرَ مَرْضَاتَهُ عَلَى هَوَاهُ، وَيَتَحَبَّبَ إِلَيْهِ جهْدَهُ وَطَاقَتَهُ، وَيُحْسِنَ إِلَى خَلْقِهِ مَا اسْتَطَاعَ، فَيَفْعَلَ بِهِمْ مَا يُحِبُّ أَنْ يَفْعَلُوا بِهِ وَيُعَامِلُوهُ بِهِ، وَيَدَعَهُمْ مِمَّا يُحِبُّ أَنْ يَدَعُوهُ مِنْهُ، وَيَنْصَحَهُمْ بِمَا يَنْصَحُ بِهِ نَفْسَهُ، وَيَحْكُمَ لَهُمْ بِمَا يُحِبُّ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِهِ.

الشيخ: وهذا معنى الحديث الصحيح: يقول النبيُّ ﷺ: لا يؤمن أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه، هكذا المؤمن يُحبُّ لإخوانه الخير، ويكره لهم الشَّر، يُحب لهم ما فيه سعادتهم، ويكره لهم ما فيه شقاؤهم.

وَيَحْمِلَ أَذَاهُمْ، وَلَا يُحَمِّلَهُمْ أَذَاهُ، وَيَكُفَّ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ، وَلَا يُقَابِلَهُمْ بِمَا نَالُوا مِنْ عِرْضِهِ، وَإِذَا رَأَى لَهُمْ حَسَنًا أَذَاعَهُ، وَإِذَا رَأَى لَهُمْ سَيِّئًا كَتَمَهُ، وَيُقِيمَ أَعْذَارَهُمْ مَا اسْتَطَاعَ فِيمَا لَا يُبْطِلُ شَرِيعَةً، وَلَا يُنَاقِضُ لِلَّهِ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا.

وَلَهُ أَيْضًا مِنَ الْأَخْلَاقِ أَطْيَبُهَا وَأَزْكَاهَا: كَالْحِلْمِ، وَالْوَقَارِ، وَالسَّكِينَةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالصَّبْرِ، وَالْوَفَاءِ، وَسُهُولَةِ الْجَانِبِ، وَلِينِ الْعَرِيكَةِ، وَالصِّدْقِ، وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ مِنَ الْغِلِّ وَالْغِشِّ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، وَالتَّوَاضُعِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَالْعِزَّةِ وَالْغِلْظَةِ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَصِيَانَةِ الْوَجْهِ عَنْ بَذْلِهِ وَتَذَلُّـلِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَالْعِفَّةِ، وَالشَّجَاعَةِ، وَالسَّخَاءِ، وَالْمُرُوءَةِ، وَكُلِّ خُلُقٍ اتَّفَقَتْ عَلَى حُسْنِهِ الشَّرَائِعُ وَالْفِطَرُ وَالْعُقُولُ.

وَكَذَلِكَ لَا يَخْتَارُ مِنَ الْمَطَاعِمِ إِلَّا أَطْيَبَهَا، وَهُوَ الْحَلَالُ الْهَنِيءُ الْمَرِيءُ الَّذِي يُغَذِّي الْبَدَنَ وَالرُّوحَ أَحْسَنَ تَغْذِيَةٍ، مَعَ سَلَامَةِ الْعَبْدِ مِنْ تَبِعَتِهِ.

وَكَذَلِكَ لَا يَخْتَارُ مِنَ الْمَنَاكِحِ إِلَّا أَطْيَبَهَا وَأَزْكَاهَا، وَمِنَ الرَّائِحَةِ إِلَّا أَطْيَبَهَا وَأَزْكَاهَا، وَمِنَ الْأَصْحَابِ وَالْعُشَرَاءِ إِلَّا الطَّيِّبِينَ مِنْهُمْ، فَرُوحُهُ طَيِّبٌ، وَبَدَنُهُ طَيِّبٌ، وَخُلُقُهُ طَيِّبٌ، وَعَمَلُهُ طَيِّبٌ، وَكَلَامُهُ طَيِّبٌ، وَمَطْعَمُهُ طَيِّبٌ، وَمَشْرَبُهُ طَيِّبٌ، وَمَلْبَسُهُ طَيِّبٌ، وَمَنْكَحُهُ طَيِّبٌ، وَمَدْخَلُهُ طَيِّبٌ، وَمَخْرَجُهُ طَيِّبٌ، وَمُنْقَلَبُهُ طَيِّبٌ، وَمَثْوَاهُ كُلُّهُ طَيِّبٌ.

فَهَذَا مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32]، وَمِنَ الَّذِينَ يَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:72]، وَهَذِهِ الْفَاءُ تَقْتَضِي السَّبَبِيَّةَ، أَيْ: بِسَبَبِ طِيبِكُمُ ادْخُلُوهَا.

وَقَالَ تَعَالَى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور:26]، وَقَدْ فُسِّرَتِ الْآيَةُ بِأَنَّ الْكَلِمَاتِ الْخَبِيثَاتِ لِلْخَبِيثِينَ، وَالْكَلِمَاتِ الطَّيِّبَاتِ لِلطَّيِّبِينَ.

وَفُسِّرَتْ بِأَنَّ النِّسَاءَ الطَّيِّبَاتِ لِلرِّجَالِ الطَّيِّبِينَ، وَالنِّسَاءَ الْخَبِيثَاتِ لِلرِّجَالِ الْخَبِيثِينَ، وَهِيَ تَعُمُّ ذَلِكَ وَغَيْرَهُ، فَالْكَلِمَاتُ وَالْأَعْمَالُ وَالنِّسَاءُ الطَّيِّبَاتُ لِمُنَاسِبِهَا مِنَ الطَّيِّبِينَ، وَالْكَلِمَاتُ وَالْأَعْمَالُ وَالنِّسَاءُ الْخَبِيثَةُ لِمُنَاسِبِهَا مِنَ الْخَبِيثِينَ، فَاللَّهُ جَعَلَ الطَّيِّبَ بِحَذَافِيرِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَجَعَلَ الْخَبِيثَ بِحَذَافِيرِهِ فِي النَّارِ، فَجَعَلَ الدُّورَ ثَلَاثَةً:

دَارًا أُخْلِصَتْ للطَّيِّبِينَ، وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى غَيْرِ الطَّيِّبِينَ، وَقَدْ جَمَعَتْ كُلَّ طَيِّبٍ، وَهِيَ الْجَنَّةُ.

وَدَارًا أُخْلِصَتْ لِلْخَبِيثِ وَالْخَبَائِثِ، وَلَا يَدْخُلُهَا إِلَّا الْخَبِيثُونَ، وَهِيَ النَّارُ.

وَدَارًا امْتَزَجَ فِيهَا الطَّيِّبُ وَالْخَبِيثُ، وَخُلِطَ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ هَذِهِ الدَّارُ.

الشيخ: يعني: دار الدنيا، الدنيا اجتمع فيها الخبيثُ والطيبُ، والصالحُ والطالحُ، والمؤمنُ والكافرُ والمنافقُ وغيرهم، ولكن في الآخرة يتميَّزون، فالجنَّة للطيبين، والنار للخبيثين، نسأل الله العافية.

وَلِهَذَا وَقَعَ الِابْتِلَاءُ وَالْمِحْنَةُ بِسَبَبِ هَذَا الِامْتِزَاجِ وَالِاخْتِلَاطِ، وَذَلِكَ بِمُوجَبِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ مَعَادِ الْخَلِيقَةِ مَيَّزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، فَجَعَلَ الطَّيِّبَ وَأَهْلَهُ فِي دَارٍ عَلَى حِدَةٍ لَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ، وَجَعَلَ الْخَبِيثَ وَأَهْلَهُ فِي دَارٍ عَلَى حِدَةٍ لَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ.

الشيخ: ..... الطيب في الإيمان وما يتعلق به، وأهله المؤمنون، والخبث: الكفر والنِّفاق وما يتعلق به.

فَجَعَلَ الطَّيِّبَ وَأَهْلَهُ فِي دَارٍ عَلَى حِدَةٍ، لَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ، وَجَعَلَ الْخَبِيثَ وَأَهْلَهُ فِي دَارٍ عَلَى حِدَة،ٍ لَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ، فَعَادَ الْأَمْرُ إِلَى دَارَيْنِ فَقَطْ: الْجَنَّةِ، وَهِيَ دَارُ الطَّيِّبِينَ. وَالنَّارِ، وَهِيَ دَارُ الْخَبِيثِينَ.

وَأَنْشَأَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَعْمَالِ الْفَرِيقَيْنِ ثَوَابَهُمْ وَعِقَابَهُمْ، فَجَعَلَ طَيِّبَاتِ أَقْوَالِ هَؤُلَاءِ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ هِيَ عَيْنَ نَعِيمِهِمْ وَلَذَّاتِهِمْ، أَنْشَأَ لَهُمْ مِنْهَا أَكْمَلَ أَسْبَابِ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ، وَجَعَلَ خَبِيثَاتِ أَقْوَالِ الْآخَرِينَ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ هِيَ عَيْنَ عَذَابِهِمْ وَآلَامِهِمْ، فَأَنْشَأَ لَهُمْ مِنْهَا أَعْظَمَ أَسْبَابِ الْعِقَابِ وَالْآلَامِ؛ حِكْمَةً بَالِغَةً، وَعِزَّةً بَاهِرَةً قَاهِرَةً؛ لِيُرِيَ عِبَادَهُ كَمَالَ رُبُوبِيَّتِهِ، وَكَمَالَ حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ؛ وَلِيَعْلَمَ أَعْدَاؤُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا هُمُ الْمُفْتَرِينَ الْكَذَّابِينَ، لَا رُسُلُهُ الْبَرَرَةُ الصَّادِقُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ۝ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ [النحل:38- 39].

الشيخ: .........

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ عُنْوَانًا يُعْرَفَانِ بِهِ: فَالسَّعِيدُ الطَّيِّبُ لَا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا طَيِّبٌ، وَلَا يَأْتِي إِلَّا طَيِّبًا، وَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ إِلَّا طَيِّبٌ، وَلَا يُلَابِسُ إِلَّا طَيِّبًا. وَالشَّقِيُّ الْخَبِيثُ لَا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا الْخَبِيثُ، وَلَا يَأْتِي إِلَّا خَبِيثًا، وَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ إِلَّا الْخَبِيثُ، فَالْخَبِيثُ يَتَفَجَّرُ مِنْ قَلْبِهِ الْخُبْثُ عَلَى لِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ، وَالطَّيِّبُ يَتَفَجَّرُ مِنْ قَلْبِهِ الطِّيبُ عَلَى لِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ.

وَقَدْ يَكُونُ فِي الشَّخْصِ مَادَّتَانِ، فَأَيُّهُمَا غَلَبَ عَلَيْهِ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا.

الشيخ: وهذا واقعٌ على الناس؛ فإنَّ المؤمن الصَّادق لا يصدر منه إلا الخير: بقوله وأفعاله، هو نافع للناس بأقواله وأفعاله، ولا يصدر منه إلا الطيب والخير والنَّفع العامّ والخاصّ، والكافر بضدِّ ذلك، نعوذ بالله: شرٌّ وبلاء، وإن صدر منه خيرٌ لبعض الناس من مساعدةٍ أو غير ذلك من وجوه النَّفع الدنيوي فهو مغمورٌ بالشَّر الآخر والبلاء الآخر ..... في دينه وفي أخلاقه.

وقد يكون في الإنسان مادَّتان: مادة إيمانٍ وتقوى، يصدر منها الخيرُ في بعض الأحيان، وقد تكون فيه مادَّة الفجور والمعاصي، فيصدر منه بعض الأحيان شرٌّ وبلاءٌ على الناس بسبب المادة الخبيثة التي فيه، وهذا هو العاصي المبعض الذي فيه إيمانٌ وفيه معاصٍ، فتارةً تغلب عليه مادَّة الخير وينفع ويتكلم بالحقِّ، وتارةً تغلب عليه المادَّة الأخرى الخبيثة فيضرّ ويتكلم بالشَّرِّ.

وَقَدْ يَكُونُ فِي الشَّخْصِ مَادَّتَانِ، فَأَيُّهُمَا غَلَبَ عَلَيْهِ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا، فَإِنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا طَهَّرَهُ مِنَ الْمَادَّةِ الْخَبِيثَةِ قَبْلَ الْمُوَافَاةِ، فَيُوَافِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُطَهَّرًا، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَطْهِيرِهِ بِالنَّارِ، فَيُطَهِّرُهُ مِنْهَا بِمَا يُوَفِّقُهُ لَهُ مِنَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ، وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ، حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ، وَيُمْسِكُ عَنِ الْآخَرِ مَوَادَّ التَّطْهِيرِ، فَيَلْقَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَادَّةٍ خَبِيثَةٍ، وَمَادَّةٍ طَيِّبَةٍ، وَحِكْمَتُهُ تَعَالَى تَأْبَى أَنْ يُجَاوِرَهُ أَحَدٌ فِي دَارِهِ بِخَبَائِثِهِ، فَيُدْخِلَهُ النَّارَ طُهْرَةً لَهُ، وَتَصْفِيَةً وَسَبْكًا، فَإِذَا خَلُصَتْ سَبِيكَةُ إِيمَانِهِ مِنَ الْخَبَثِ صَلُحَ حِينَئِذٍ لِجِوَارِهِ وَمُسَاكَنَةِ الطَّيِّبِينَ مِنْ عِبَادِهِ.

وَإِقَامَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ النَّاسِ فِي النَّارِ عَلَى حَسَبِ سُرْعَةِ زَوَالِ تِلْكَ الْخَبَائِثِ مِنْهُمْ وَبُطْئِهَا، فَأَسْرَعُهُمْ زَوَالًا وَتَطْهِيرًا أَسْرَعُهُمْ خُرُوجًا، وَأَبْطَؤُهُمْ أَبْطَؤُهُمْ خُرُوجًا: جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ:26]، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].

الشيخ: وهذا من كمال حكمته ، وكمال عدله بعباده، ومن فضله وجوده على الكثير منهم، فإنَّ العبد إذا كانت فيه مادَّتان: مادة الإيمان والتَّقوى: بها يُصلي، وبها يُزكِّي، وبها يحجّ، وبها يصوم، وبها يدعو إلى الله، وبها يفعل الخير. وبه مادَّة أخرى من مواد الفجور: كالزنا، والربا، أو أشياء من المعاصي الأخرى؛ فإنْ أراد اللهُ به خيرًا أدركه بالتَّوبة، ومَنَّ عليه بالتوبة، فيلقى الله وهو طيب سليم، قد أزال اللهُ عنه مادَّةَ الشَّر بالتوبة النَّصوح، وإن خلَّى بينه وبين نفسه ومات على المادة الخبيثة؛ فهو تحت مشيئة الله : إن شاء غفر له بمادة الإيمان التي معه والتَّقوى، وإن شاء عذَّبه في النار حتى يُطهره من هذه المادة الخبيثة بالنار.

وهم في النار على أقسامٍ، وعلى طبقات، على حسب مواد الخبث، فكلما كانت المعاصي أكثر صار مكثُه في النار أكثر، وكلما كانت المعاصي أقلَّ صار صاحبُها أسرعَ خروجًا منها إلى الجنة، جاء في الحديث: منهم مَن تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم مَن تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم مَن تأخذه النار إلى حُجزته، ومنهم مَن تأخذه النار إلى ترقوته. فهم أقسام وطبقات، نسأل الله السَّلامة.

وهم في النار أيضًا على أقسامٍ في المدة: في طولها، وعدم طولها، حتى إنَّ بعضَهم يخلد، يعني: يُقيم إقامةً طويلةً: كالزناة، وقتلة النفس بغير حقٍّ، والقاتلين لأنفسهم ولغيرهم بغير حقٍّ، هؤلاء مخلَّدون خلودًا في النار ليس بمُستمرٍّ، بل يُقيمون فيها إقامةً طويلةً؛ لعظم معاصيهم وكبرها، نسأل الله العافية، كما قال جلَّ وعلا فيهم: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ۝ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68- 69].

ذكر الله لهم الخلود: للمُشرك، وللقاتل، والزاني، خلود المشرك هذا مستمر أبد الآباد، نعوذ بالله، لا ينتهي، أما خلود الزاني الذي لم يستحلّ الزنا، والقاتل الذي لم يستحلّ القتل، بل يعلم أنَّ القتل حرامٌ، والزنا حرامٌ، ولكن غلبه الهوى، فهذا خلود مُؤقَّت.

وهكذا قوله جلَّ وعلا: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، هذا الخلود مُؤقَّت، إلا إذا كان مُستحلًّا للقتل، لا يُبالي بدماء المسلمين، ويرى أنها حلالٌ له، فهذا مثل الذي يستحلّ الزنا والسَّرقة، حكمه حكم الكفرة، نعوذ بالله، يكون خلوده مُستمرًّا فيها، لكن مَن فعل هذه المعاصي وهو يعلم أنها معاصٍ، ولكنه حمله الهوى، فهذا إذا دخل النارَ يُخلد فيها خلودًا مُؤقَّتًا، ليس من جنس خلود الكفَّار، بل هو خلود له نهاية، نسأل الله السَّلامة.

............

وَلَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُ خَبِيثَ الْعُنْصُرِ، خَبِيثَ الذَّاتِ، لَمْ تُطَهِّرِ النَّارُ خُبْثَهُ، بَلْ لَوْ خَرَجَ مِنْهَا لَعَادَ خَبِيثًا كَمَا كَانَ: كَالْكَلْبِ إِذَا دَخَلَ الْبَحْرَ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ؛ فَلِذَلِكَ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُشْرِكِ الْجَنَّةَ.

وَلَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُ الطَّيِّبُ الْمُطَيَّبُ مُبَرَّءًا مِنَ الْخَبَائِثِ كَانَتِ النَّارُ حَرَامًا عَلَيْهِ؛ إِذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي تَطْهِيرَهُ بِهَا.

فَسُبْحَانَ مَنْ بَهَرَتْ حِكْمَتُهُ الْعُقُولَ وَالْأَلْبَابَ! وَشَهِدَتْ فِطَرُ عِبَادِهِ وَعُقُولُهُمْ بِأَنَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، وَرَبُّ الْعَالَمِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.

فَصْلٌ

وَمِنْ هَاهُنَا تَعْلَمُ اضْطِرَارَ الْعِبَادِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ إِلَى مَعْرِفَةِ الرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَتَصْدِيقِهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ، فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى السَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا عَلَى أَيْدِي الرُّسُلِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ الطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ عَلَى التَّفْصِيلِ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِمْ، وَلَا يُنَالُ رِضَا اللَّهِ الْبَتَّةَ إِلَّا عَلَى أَيْدِيهِمْ، فَالطَّيِّبُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَخْلَاقِ لَيْسَ إِلَّا هَدْيَهُمْ وَمَا جَاءُوا بِهِ، فَهُمُ الْمِيزَانُ الرَّاجِحُ الَّذِي عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ تُوزَنُ الْأَقْوَالُ وَالْأَخْلَاقُ وَالْأَعْمَالُ، وَبِمُتَابَعَتِهِمْ يَتَمَيَّزُ أَهْلُ الْهُدَى مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ، فَالضَّرُورَةُ إِلَيْهِمْ أَعْظَمُ مِنْ ضَرُورَةِ الْبَدَنِ إِلَى رُوحِهِ، وَالْعَيْنِ إِلَى نُورِهَا، وَالرُّوحِ إِلَى حَيَاتِهَا، فَأَيُّ ضَرُورَةٍ وَحَاجَةٍ فُرِضَتْ فَضَرُورَةُ الْعَبْدِ وَحَاجَتُهُ إِلَى الرُّسُلِ فَوْقَهَا بِكَثِيرٍ.

الشيخ: لأنَّ ضرورته إلى نفسه أو عينه أو سمعه ضرورة لها دواء، ولها علاج، ونهايتها الموت، والموت لا بدَّ منه، لكن ضرورته إلى اتِّباع الرسل وما جاءوا به فيها الحياة الأبدية، فمَن لم يعرف الرسل، ولم يعرف ما جاءوا به، ولم ينقد لهم، ولم يتبعهم؛ هلك كلَّ الهلاك، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.

وَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ إِذَا غَابَ عَنْكَ هَدْيُهُ وَمَا جَاءَ بِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَسَدَ قَلْبُكَ، وَصَارَ كَالْحُوتِ إِذَا فَارَقَ الْمَاءَ وَوُضِعَ فِي الْمِقْلَاةِ، فَحَالُ الْعَبْدِ عِنْدَ مُفَارَقَةِ قَلْبِهِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ كَهَذِهِ الْحَالِ، بَلْ أَعْظَمُ، وَلَكِنْ لَا يُحِسُّ بِهَذَا إِلَّا قَلْبٌ حَيٌّ: ومَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامُ.

وَإِذَا كَانَتْ سَعَادَةُ الْعَبْدِ فِي الدَّارَيْنِ مُعَلَّقَةً بِهَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ وَأَحَبَّ نَجَاتَهَا وَسَعَادَتَهَا أَنْ يَعْرِفَ مِنْ هَدْيِهِ وَسِيرَتِهِ وَشَأْنِهِ مَا يَخْرُجُ بِهِ عَنِ الْجَاهِلِينَ بِهِ، وَيَدْخُلُ بِهِ فِي عِدَادِ أَتْبَاعِهِ وَشِيعَتِهِ وَحِزْبِهِ، وَالنَّاسُ فِي هَذَا بَيْنَ مُسْتَقِلٍّ وَمُسْتَكْثِرٍ وَمَحْرُومٍ، وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.