قال ابنُ القيم رحمه الله تعالى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَقَيُّومُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، وَمَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ الَّذِي لَا فَوْزَ إِلَّا فِي طَاعَتِهِ، وَلَا عِزَّ إِلَّا فِي التَّذَلُّلِ لِعَظَمَتِهِ، وَلَا غِنًى إِلَّا فِي الِافْتِقَارِ إِلَى رَحْمَتِهِ، وَلَا هُدًى إِلَّا فِي الِاسْتِهْدَاءِ بِنُورِهِ، وَلَا حَيَاةَ إِلَّا فِي رِضَاهُ، وَلَا نَعِيمَ إِلَّا فِي قُرْبِهِ، وَلَا صَلَاحَ لِلْقَلْبِ وَلَا فَلَاحَ إِلَّا فِي الْإِخْلَاصِ لَهُ وَتَوْحِيدِ حُبِّهِ، الَّذِي إِذَا أُطِيعَ شَكَرَ، وَإِذَا عُصِيَ تَابَ وَغَفَرَ، وَإِذَا دُعِيَ أَجَابَ، وَإِذَا عُومِلَ أَثَابَ.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي شَهِدَتْ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ جَمِيعُ مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَقَرَّتْ لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ جَمِيعُ مَصْنُوعَاتِهِ.
الشيخ: وكل مَن تأمل شيئًا وجد فيه الدلالة على أنَّ الله ربك وإلهك وخالقك، وأنه سبحانه مُستحق العبادة والثناء، فهو جلَّ وعلا كل شيءٍ يشهد له بالوحدانية والعظمة، وأنه الخلَّاق الرزاق، حتى نفسك أيها الإنسان: لسانك وسمعك وبصرك وجوارحك وكل حركاتك وسكناتك، كلها شاهدة لله بالوحدانية: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، ثم هذه الأرض وما يكون فيها كله شاهد لله بما فيها من جبالٍ وأنهارٍ، والبحار والأشجار والمعادن والحيوانات كلها من الدلائل العظيمة على قُدرة بارئها وخالقها، وأنه الخلَّاق العليم: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ [الذاريات:20]، والله المستعان، فكل مصنوعاته ومخلوقاته كلها دلائل على عظمته وكبريائه، وأنه الخلاق العليم، وأنه الرب العظيم، وأنه المستحق للعبادة، وأنه لا إله يستحقّها سواه جلَّ وعلا.
الشيخ: كما قال سبحانه: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44] ﷺ.
وَالْآكَامُ وَالرِّمَالُ، وَكُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَكُلُّ حَيٍّ وَمَيِّتٍ: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَلِمَةٌ قَامَتْ بِهَا الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ، وَخُلِقَتْ لِأَجْلِهَا جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَبِهَا أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ، وَشَرَعَ شَرَائِعَهُ، وَلِأَجْلِهَا نُصِبَتِ الْمَوَازِينُ، وَوُضِعَتِ الدَّوَاوِينُ، وَقَامَ سُوقُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَبِهَا انْقَسَمَتِ الْخَلِيقَةُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، فَهِيَ مَنْشَأُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَهِيَ الْحَقُّ الَّذِي خُلِقَتْ لَهُ الْخَلِيقَةُ، وَعَنْهَا وَعَنْ حُقُوقِهَا السُّؤَالُ وَالْحِسَابُ، وَعَلَيْهَا يَقَعُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ.
الشيخ: يعني: لا إله إلا الله، هذه الشهادة، مع شهادة أنَّ محمدًا رسول الله، هاتان الشَّهادتان هما أصل الدِّين، وأساس الملة، ولكن شهادة أن لا إله إلا الله الأساس الأول، وعليها مدار كل شيءٍ، وعليها الثواب والعقاب، وعليها مدار الأعمال ..... الثواب والعقاب، وهي الشهادة العظمى التي من أجلها خلق الله الخلق، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل من أولهم إلى آخرهم، كل رسولٍ يدعو الناسَ إلى هذه الكلمة، ويُسأل عن تبليغها للناس من أولهم إلى آخرهم، مع الشهادة للرسول بالرسالة، مع هذه الكلمة: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].
وَعَلَيْهَا نُصِبَتِ الْقِبْلَةُ، وَعَلَيْهَا أُسِّسَتِ الْمِلَّةُ، وَلِأَجْلِهَا جُرِّدَتْ سُيُوفُ الْجِهَادِ، وَهِيَ حَقُّ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ، فَهِيَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَمِفْتَاحُ دَارِ السَّلَامِ، وَعَنْهَا يُسْأَلُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، فَلَا تَزُولُ قَدَمَا الْعَبْدِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ مَسْأَلَتَيْنِ: مَاذَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ وَمَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟
فَجَوَابُ الْأُولَى بِتَحْقِيقِ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " مَعْرِفَةً، وَإِقْرَارًا، وَعَمَلًا.
وَجَوَابُ الثَّانِيَةِ بِتَحْقِيقِ "أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ".
الشيخ: وهذا في حقِّ هذه الأمة، هذه الأمة أمة محمدٍ، وفي حقِّ مَن قبلنا تحقيق "لا إله إلا الله"، وتحقيق الرسالة التي جاء بها نبيُّهم، فأمة موسى في تحقيق "لا إله إلا الله" وما جاء به موسى ..... عليهم الصلاة والسلام، وكون عيسى كذلك: ماذا فعلوا مع لا إله إلا الله؟ وهل عبدوا الله أو كفروا به؟ وماذا موقفهم مع عيسى عليه الصلاة والسلام؟ وهكذا مَن قبلهم: مع إبراهيم، ومع إسماعيل، ومع إسحاق، ومع يعقوب، ومع هود، ومع صالح، ومع بقية الأنبياء، كل أمةٍ مسؤولون عن هذه الكلمة "لا إله إلا الله"، وعن ..... نبيها.
وهذه الأمة -أمة محمدٍ عليه الصلاة والسلام- مسؤولة عن هذه الكلمة: ماذا فعلت؟ هل عبدت الله وحده؟ هل تركت الإشراك بالله؟ هل استقامت على توحيده وإخلاصه له وأداء حقِّه؟ هي مسؤولة عن هذا النبي العظيم محمد: هل أجابته؟ هل أطاعته؟ هل اتَّبعت شريعته أو حادت عن ذلك؟
وَجَوَابُ الثَّانِيَةِ بِتَحْقِيقِ "أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ" مَعْرِفَةً، وَإِقْرَارًا، وَانْقِيَادًا، وَطَاعَةً.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَسَفِيرُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ، الْمَبْعُوثُ بِالدِّينِ الْقَوِيمِ، وَالْمَنْهَجِ الْمُسْتَقِيمِ، أَرْسَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَإِمَامًا لِلْمُتَّقِينَ، وَحُجَّةً عَلَى الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ.
أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، فَهَدَى بِهِ إِلَى أَقْوَمِ الطُّرُقِ، وَأَوْضَحِ السُّبُلِ، وَافْتَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ طَاعَتَهُ، وَتَعْزِيرَهُ، وَتَوْقِيرَهُ، وَمَحَبَّتَهُ، وَالْقِيَامَ بِحُقُوقِهِ.
الشيخ: جميع العباد، جميع المكلَّفين من جنٍّ وإنسٍ ..... عليهم أن يُعزوره، ويُوقروه، ويُعظِّموه التَّعظيم الشَّرعي اللائق، الذي يتضمن اتِّباعه، وطاعة أوامره، وتعظيم سنته وتقديمها على الآراء والأوضاع والقوانين وسوالف الآباء والأجداد، كل هذا من تعظيم هذا الرجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، فالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157]، لا بدَّ من هذا مع هذا النبي عليه الصلاة والسلام.
الشيخ: المعنى: ما له طريق يُوصل إلى الجنة إلا من هذا الطريق، لو سلك الناسُ جميعَ الطرق التي جاءت بها الأنبياء الماضون، أو غيرهم من الفلاسفة، أو من الحكماء، أو غيرهم من الناس، كل طريقٍ مسدودٍ، لا يُوصل إلى الجنة، ولا إلى النَّجاة، إلا طريق محمدٍ عليه الصلاة والسلام بعدما بعثه الله، هو الطريق الذي يُوصل إلى الله، ويهدي إليه، ويُسبب رضاه وجنَّته وكراماته ، ولا يسع الناسَ أيُّ طريقٍ غير هذا الطريق، فلو ذهبوا كلَّ مذهبٍ لكانوا إلى النار حتى يسلكوا هذا الطريق الذي بعث اللهُ به رسولَه محمدًا عليه الصلاة والسلام: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56]، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، فلا هدايةَ إلى الله إلا من طريقه، اللهم ﷺ.
الشيخ: علَّق عليه: ابن عمر أو ابن عمرو؟
الطالب: ابن عمر.
الشيخ: علَّق عليه المحشي؟
الطالب: أخرجه الإمامُ أحمد في "المسند"، وسنده حسن، وبوَّب إسناده ابن تيمية في "الاقتضاء"، وصححه الحافظ العراقي في "الإحياء"، وحسَّنه الحافظ في "الفتح"، وأخرجه ..... منهم أبو داود، وعلَّق طرفًا منه البخاري في "صحيحه"، وله شاهد مُرسل بسندٍ حسنٍ أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي، عن سعيد بن جبلة، عن النبي ﷺ.
الشيخ: نعم.
بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ.
وَكَمَا أَنَّ الذِّلَّةَ مَضْرُوبَةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ، فَالْعِزَّةُ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، وَقَالَ تَعَالَى: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ [محمد:35]، وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64] أَيِ: اللَّهُ وَحْدَهُ كَافِيكَ، وَكَافِي أَتْبَاعَكَ، فَلَا تَحْتَاجُونَ مَعَهُ إِلَى أَحَدٍ.
وَهُنَا تَقْدِيرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً لِـ"مَنْ" عَلَى الْكَافِ الْمَجْرُورَةِ، وَيَجُوزُ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ، وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ، وَشُبَهُ الْمَنْعِ مِنْهُ وَاهِيَةٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ "مَعَ"، وَتَكُونَ "مَنْ" فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى الْمَوْضِعِ، فَإِنَّ "حَسْبَكَ" فِي مَعْنَى "كَافِيكَ" أَيِ: اللَّهُ يَكْفِيكَ وَيَكْفِي مَنِ اتَّبَعَكَ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: حَسْبُكَ وَزَيْدًا دِرْهَمٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا كَانَتِ الْهَيْجَاءُ وَانْشَقَّتِ الْعَصَا | فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ |
وَهَذَا أَصَحُّ التَّقْدِيرَيْنِ.
وَفِيهَا تَقْدِيرٌ ثَالِثٌ: أَنْ تَكُونَ "مَنْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، أَيْ: وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَحَسْبُهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا تَقْدِيرٌ رَابِعٌ، وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ "مَنْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ، وَيَكُونَ الْمَعْنَى: حَسْبُكَ اللَّهُ وَأَتْبَاعُكَ، وَهَذَا وَإِنْ قَالَهُ بَعْضُ النَّاسِ فَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ "الْحَسْبَ" وَ"الْكِفَايَةَ" لِلَّهِ وَحْدَهُ: كَالتَّوَكُّلِ وَالتَّقْوَى وَالْعِبَادَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:62]، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْحَسْبِ وَالتَّأْيِيدِ، فَجَعَلَ الْحَسْبَ لَهُ وَحْدَهُ، وَجَعَلَ التَّأْيِيدَ لَهُ بِنَصْرِهِ وَبِعِبَادِهِ، وَأَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ مِنْ عِبَادِهِ حَيْثُ أَفْرَدُوهُ بِالْحَسْبِ، فَقَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، وَلَمْ يَقُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
الشيخ: وهو حسبهم الله وحده، أي: كافيهم الذي يكفي عبده: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ [التوبة:59]، وهو الحسب جلَّ وعلا، وهو الكافي لعباده، ولكنه يُؤيد أولياءه بنصره وبأوليائه المؤمنين، ودعاء عباده الصَّالحين، وهو الكافي لعباده جلَّ وعلا بما يجعل اللهُ من أسباب السَّلامة وأسباب السَّعادة، ويُهيئهم لأسباب الخير والعافية، فهو الكافي لعباده جلَّ وعلا؛ ولهذا الصَّواب ما ذكره المؤلفُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64] يعني: حسب مَن اتَّبعك، هو حسبك وحسب مَن اتَّبعك.
فَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُمْ، وَمَدَحَ الرَّبُّ تَعَالَى لَهُمْ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ يَقُولُ لِرَسُولِهِ: اللَّهُ وَأَتْبَاعُكَ حَسْبُكَ؟! وَأَتْبَاعُهُ قَدْ أَفْرَدُوا الرَّبَّ تَعَالَى بِالْحَسْبِ، وَلَمْ يُشْرِكُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِهِ فِيهِ، فَكَيْفَ يُشْرِكُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فِي حَسْبِ رَسُولِهِ؟! هَذَا مِنْ أَمْحَلِ الْمُحَالِ، وَأَبْطَلِ الْبَاطِلِ.
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة:59]، فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]، وَجَعَلَ الْحَسْبَ لَهُ وَحْدَهُ، فَلَمْ يَقُلْ: وَقَالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ. بَلْ جَعَلَهُ خَالِصَ حَقِّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة:59]، وَلَمْ يَقُلْ: وَإِلَى رَسُولِهِ. بَلْ جَعَلَ الرَّغْبَةَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7- 8].
فَالرَّغْبَةُ وَالتَّوَكُّلُ وَالْإِنَابَةُ وَالْحَسْبُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا أَنَّ الْعِبَادَةَ وَالتَّقْوَى وَالسُّجُودَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالنَّذْرُ وَالْحَلِفُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ .
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، فَالْحَسْبُ: هُوَ الْكَافِي، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ وَحْدَهُ كَافٍ عَبْدَهُ، فَكَيْفَ يَجْعَلُ أَتْبَاعَهُ مَعَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْكِفَايَةِ؟!
وَالْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ هَاهُنَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ بِحَسَبِ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ تَكُونُ الْعِزَّةُ وَالْكِفَايَةُ وَالنُّصْرَةُ، كَمَا أَنَّ بِحَسَبِ مُتَابَعَتِهِ تَكُونُ الْهِدَايَةُ وَالْفَلَاحُ وَالنَّجَاةُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَّقَ سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ بِمُتَابَعَتِهِ، وَجَعَلَ شَقَاوَةَ الدَّارَيْنِ فِي مُخَالَفَتِهِ، فَلِأَتْبَاعِهِ الْهُدَى وَالْأَمْنُ وَالْفَلَاحُ وَالْعِزَّةُ وَالْكِفَايَةُ وَالنُّصْرَةُ وَالْوِلَايَةُ وَالتَّأْيِيدُ وَطِيبُ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِمُخَالِفِيهِ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ وَالْخَوْفُ وَالضَّلَالُ وَالْخِذْلَانُ وَالشَّقَاءُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَدْ أَقْسَمَ ﷺ بِأَنْ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هُوَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَأَقْسَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ لَا يُؤْمِنَ مَنْ لَا يُحَكِّمهُ فِي كُلِّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ يَرْضَى بِحُكْمِهِ، وَلَا يَجِد فِي نَفْسِهِ حَرَجًا مِمَّا حَكَمَ بِهِ، ثُمَّ يُسَلِّم لَهُ تَسْلِيمًا، وَيَنْقَاد لَهُ انْقِيَادًا.
وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، فَقَطَعَ التَّخْيِيرَ بَعْدَ أَمْرِهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ، فَلَيْسَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَخْتَارَ شَيْئًا بَعْدَ أَمْرِهِ ﷺ، بَلْ إِذَا أَمَرَ فَأَمْرُهُ حَتْمٌ، وَإِنَّمَا الْخِيَرَةُ فِي قَوْلِ غَيْرِهِ إِذَا خَفِيَ أَمْرُهُ.
الشيخ: وهذا هو الواجب على الأمة: إذا قضى اللهُ ورسوله أمرًا فليس لهم الخيار، وليس لهم إلا الطاعة والامتثال؛ ولهذا قال : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [الأحزاب:36]، فالخيرة عند خفاء أمره واشتباه الأمور، ينظر ويتأمل ويختار ما هو الأقرب إلى شرعه ..... والحق، أما إذا وضح الأمرُ، وكان الأمرُ واضحًا من رسوله ﷺ، فليس لأحدٍ أن يختار خلافَ ذلك، بل يلزمه أن يُذعن للحقِّ، وأن يلتزم بالحقِّ، وأنه عبدٌ مأمورٌ فعليه الامتثال: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، هذا هو الواجب على أهل الإيمان: الإذعان والخضوع لله ولرسوله، وعدم التَّخلف عن ذلك.
س: ...............؟
ج: كمال الإيمان، نعم، مثلما تقدم في الدرس السابق: حبّ الرسول، وتحكيم الشريعة أمرٌ لازمٌ، لكن كونه أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين، وكونه يحكم الشَّريعة، هذا هو من واجب الإيمان، ومن مُقتضى الإيمان، ولازم الإيمان، ولكن قد يقع من الإنسان خطأ أو خللٌ في بعض المعاصي والسَّيئات، فينقص إيمانه، ويضعف إيمانه، ولا يزول إيمانه إلا إذا زالت الأصولُ التي بها يكفر الإنسان ويخرج من الإسلام، فالمعصية تُضعف الإيمان، وكل ناقضٍ من نواقض الإسلام يُزيل الإيمان، إن كان الحادثُ ناقضًا زال الإيمانُ: كالردة، كسبِّ الله ورسوله، أو اعتقاد أنَّ تحكيم الشَّريعة ليس بواجبٍ، أو أنه يجوز تحكيم القوانين والآراء البشرية، خلاف شرع الله، أو أنها أحسن من حكم الله، أو ما أشبه ذلك مما يُزيل الأصول، فهذا ناقضٌ للإسلام، وردة عن الإسلام، نسأل الله العافية.
أما إذا كانت المعصيةُ في الفروع: كالزنا، والسرقة، وهو يعلم أنَّ الزنا حرام، وأنَّ السرقة حرام، ولكن أطاع هواه، لم يستحلّ ما حرَّم الله، ما قال: إنَّ الزنا حلال، ولا قال: إنَّ السرقة حلال، لا، ولكن أطاع هواه، فأخذ المالَ بغير حقٍّ، أو زنا، أو عقَّ والديه، أو قطع الرحم، أو ما أشبه ذلك مما يُخالف شرعَ الله وتحكيم شريعته، فهذا خللٌ في الفروع من غير إخلالٍ بالأصول، وهو يكون نقصًا في الإيمان، وضعفًا في الإيمان، ولا يكون ردةً عن الإسلام، فالسارق ليس بكافرٍ، والزاني ليس بكافرٍ، والعاق لوالديه ليس بكافرٍ، لكنه عاصٍ ناقص الإيمان، قد تعرَّض لغضب الله بهذه المعاصي التي أحدثها، إلا أن يستحلَّ هذا، فمَن استحلَّ هذا فهذا يكون قد أخلَّ بالأصول.
وَإِنَّمَا الْخِيَرَةُ فِي قَوْلِ غَيْرِهِ إِذَا خَفِيَ أَمْرُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ وَبِسُنَّتِهِ، فَبِهَذِهِ الشُّرُوطِ يَكُونُ قَوْلُ غَيْرِهِ سَائِغَ الِاتِّبَاعِ، لَا وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ اتِّبَاعُ قَوْلِ أَحَدٍ سِوَاهُ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ يَسُوغُ لَهُ اتِّبَاعُهُ، وَلَوْ تَرَكَ الْأَخْذَ بِقَوْلِ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ.
فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ اتِّبَاعُهُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مُخَالَفَتُهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ تَرْكُ كُلِّ قَوْلٍ لِقَوْلِهِ، فَلَا حُكْمَ لِأَحَدٍ مَعَهُ، وَلَا قَوْلَ لِأَحَدٍ مَعَهُ، كَمَا لَا تَشْرِيعَ لِأَحَدٍ مَعَهُ؟ وَكُلُّ مَنْ سِوَاهُ فَإِنَّمَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ عَلَى قَوْلِهِ إِذَا أَمَرَ بِمَا أَمَرَ بِهِ، وَنَهَى عَمَّا نَهَى عَنْهُ.
الشيخ: ..... أمر به الرسول، أو نهى عنه، أما قوله المجرد فليس بشرعٍ يُؤخذ به ..... الإنسان المعين الأمير أو العالم ليس قولُه واجبَ الاتباع إلا إذا كان قولُه مُوافقًا لشرع الله، وأمر بما أمر الله به ورسوله، أو نهى عمَّا نهى الله عنه ورسوله، وجب الأخذ به، لا لأنه قول فلان، بل لأنه وافق شرع الله، ووافق أمر الله ورسوله.
فَكَانَ مُبَلِّغًا مَحْضًا، وَمُخْبِرًا، لَا مُنْشِئًا وَمُؤَسِّسًا، فَمَنْ أَنْشَأَ أَقْوَالًا وَأَسَّسَ قَوَاعِدَ بِحَسَبِ فَهْمِهِ وَتَأْوِيلِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأُمَّةِ اتِّبَاعُهَا، وَلَا التَّحَاكُمُ إِلَيْهَا حَتَّى تُعْرَضَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، فَإِنْ طَابَقَتْهُ وَوَافَقَتْهُ وَشُهِدَ لَهَا بِالصِّحَّةِ قُبِلَتْ حِينَئِذٍ، وَإِنْ خَالَفَتْهُ وَجَبَ رَدُّهَا وَاطِّرَاحُهَا، فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ جُعِلَتْ مَوْقُوفَةً، وَكَانَ أَحْسَنُ أَحْوَالِهَا أَنْ يَجُوزَ الْحُكْمُ وَالْإِفْتَاءُ بِهَا وَتَرْكُهُ، وَأَمَّا أَنَّهُ يَجِبُ وَيَتَعَيَّنُ فَكَلَّا وَلَمَّا.
وَبَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالِاخْتِيَارِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68]، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هَاهُنَا بِالِاخْتِيَارِ الْإِرَادَةَ الَّتِي يُشِيرُ إِلَيْهَا الْمُتَكَلِّمُونَ بِأَنَّهُ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالِاخْتِيَارِ هَاهُنَا هَذَا الْمَعْنَى، وَهَذَا الِاخْتِيَارُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُقُ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ، وَدَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَشَاءُ، فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ هِيَ الِاخْتِيَارُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالِاخْتِيَارِ هَاهُنَا: الِاجْتِبَاءُ وَالِاصْطِفَاءُ، فَهُوَ اخْتِيَارٌ بَعْدَ الْخَلْقِ، وَالِاخْتِيَارُ الْعَامُّ اخْتِيَارٌ قَبْلَ الْخَلْقِ، فَهُوَ أَعَمُّ وَأَسْبَقُ، وَهَذَا أَخَصُّ، وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ، فَهُوَ اخْتِيَارٌ مِنَ الْخَلْقِ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارٌ لِلْخَلْقِ.
وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْوَقْفَ التَّامَّ عَلَى قَوْلِهِ: وَيَخْتَارُ، وَيَكُونُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ نَفْيًا، أَيْ: لَيْسَ هَذَا الِاخْتِيَارُ إِلَيْهِمْ، بَلْ هُوَ إِلَى الْخَالِقِ وَحْدَهُ، فَكَمَا أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ، فَهُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالِاخْتِيَارِ مِنْهُ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْلُقَ، وَلَا أَنْ يَخْتَارَ سِوَاهُ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَوَاقِعِ اخْتِيَارِهِ، وَمَحَالِّ رِضَاهُ، وَمَا يَصْلُحُ لِلِاخْتِيَارِ مِمَّا لَا يَصْلُحُ لَهُ، وَغَيْرُهُ لَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ بِوَجْهٍ.
الشيخ: والمعنى في هذا أنَّ الاختيار هنا اختيار أخصّ، بعد المشيئة العامَّة يكون الاختيار، أما ما يقوله أهلُ الكلام فذاك اختيار بمعنى الإرادة، وبمعنى المشيئة، هو الفاعل المختار ..... ، بل يفعل باختياره ومشيئته جلَّ وعلا: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107]، وهو سبحانه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ليس هناك مَن يجبره ويُلجئه إلى هذا الشيء .....، وأما ما هنا فهو اختيارٌ خاصٌّ بمعنى الاصطفاء والاجتباء من المخلوقات، كما اصطفى سبحانه رسلًا، واصطفى من ذلك جبرائيل وميكائيل وإسرافيل من الملائكة، واصطفى من الرسل البشريين جماعةً، وجعل بعضَهم فوق بعضٍ، ومحمد ﷺ وإبراهيم وموسى وعيسى وآخرين، وقد فضَّل بعض النَّبيين على بعضٍ، وهكذا البقاع فضَّل بعضَها على بعضٍ، وجعل مكةَ من أفضل البقاع، وجعل بعدها المدينة، وخصَّ بعض الشهور .....، وجعل رمضان أفضل الشهور، وجعل أشهر ذي الحجة أفضل من غيرها، وجعل يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، وهكذا، هذا اختيار بعد الخلق والمشيئة العامَّة ..... اختيار قبل الخلق، وهو يخلق ما يشاء، لا أحدَ يقهره ولا يُذله بشيءٍ، فهو يخلق ما يشاء: من إنسانٍ، من بشرٍ، من جنٍّ، من ملائكةٍ، من جمادٍ، من غير هذا، ويختار من ذلك ما يشاء ليصطفيه ويجتبيه ويخصّه بمزايا وفضائل ليست لغيره.
س: ..............؟
ج: للفائدة، لمزيد الفائدة.
وَذَهَبَ بَعْضُ مَنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ وَلَا تَحْصِيلَ إِلَى أَنَّ "مَا" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص:68] مَوْصُولَةٌ، وَهِيَ مَفْعُولٌ، "وَيَخْتَارُ" أَيْ: وَيَخْتَارُ الَّذِي لَهُمُ الْخِيَرَةُ، وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الصِّلَةَ حِينَئِذٍ تَخْلُو مِنَ الْعَائِدِ؛ لِأَنَّ "الْخِيرَةَ" مَرْفُوعٌ بِأَنَّهُ اسْمُ "كَانَ"، وَالْخَبَرُ "لَهُمْ"، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: وَيَخْتَارُ الْأَمْرَ الَّذِي كَانَ الْخِيَرَةَ لَهُمْ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ مُحَالٌ مِنَ الْقَوْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِأَنْ يَكُونَ الْعَائِدُ مَحْذُوفًا، وَيَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَيَخْتَارُ الَّذِي كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ فِيهِ، أَيْ: وَيَخْتَارُ الْأَمْرَ الَّذِي كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ فِي اخْتِيَارِهِ.
قِيلَ: هَذَا يَفْسُدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا حَذْفُ الْعَائِدِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُحْذَفُ مَجْرُورًا إِذَا جُرَّ بِحَرْفٍ جُرَّ الْمَوْصُولُ بِمِثْلِهِ، مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [المؤمنون:33]، وَنَظَائِرِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: جَاءَنِي الَّذِي مَرَرْتُ، وَرَأَيْتُ الَّذِي رَغِبْتُ، وَنَحْوُهُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَنَصَبَ "الْخِيَرَةَ"، وَشُغِلَ فِعْلُ الصِّلَةِ بِضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى الْمَوْصُولِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةَ، أَيِ: الَّذِي كَانَ هُوَ عَيْنَ الْخِيَرَةِ لَهُمْ، وَهَذَا لَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ الْبَتَّةَ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ وَجْهُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَحْكِي عَنِ الْكُفَّارِ اقْتِرَاحَهُمْ فِي الِاخْتِيَارِ وَإِرَادَتَهُمْ أَنْ تَكُونَ الْخِيَرَةُ لَهُمْ، ثُمَّ يَنْفِي هَذَا سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ، وَيُبَيِّنُ تَفَرُّدَهُ هُوَ بِالِاخْتِيَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:31- 32]، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ تَخَيُّرَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إِلَيْهِمْ، بَلْ إِلَى الَّذِي قَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمُ الْمُتَضَمِّنَةَ لِأَرْزَاقِهِمْ وَمُدَدِ آجَالِهِمْ.
وَكَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَقْسِمُ فَضْلَهُ بَيْنَ أَهْلِ الْفَضْلِ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِمَوَاقِعِ الِاخْتِيَارِ، وَمَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِمَّنْ لَا يَصْلُحُ، وَهُوَ الَّذِي رَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، وَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ وَدَرَجَاتِ التَّفْضِيلِ، فَهُوَ الْقَاسِمُ ذَلِكَ وَحْدَهُ لَا غَيْرُهُ.
وَهَكَذَا هَذِهِ الْآيَةُ بَيَّنَ فِيهَا انْفِرَادَهُ بِالْخَلْقِ وَالِاخْتِيَارِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَوَاقِعِ اخْتِيَارِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، أَيِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يَصْلُحُ لِاصْطِفَائِهِ وَكَرَامَتِهِ وَتَخْصِيصِهِ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ دُونَ غَيْرِهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ نَزَّهَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ عَمَّا اقْتَضَاهُ شِرْكُهُمْ مِن اقْتِرَاحِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ فَقَالَ: مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68]، وَلَمْ يَكُنْ شِرْكُهُمْ مُقْتَضِيًا لِإِثْبَاتِ خَالِقٍ سِوَاهُ حَتَّى نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ فِي غَايَةِ اللُّطْفِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ هَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى في: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:73- 74]، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [الحج:75- 76]، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي: وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ [القصص:69]، وَنَظِيرُ قَوْلِهِ فِي: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، فَأَخْبَرَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَنْ عِلْمِهِ الْمُتَضَمِّنِ لِتَخْصِيصِهِ مَحَالَّ اخْتِيَارِهِ بِمَا خَصَّصَهَا بِهِ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهَا تَصْلُحُ لَهُ دُونَ غَيْرِهَا، فَتَدَبَّرِ السِّيَاقَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَجِدْهُ مُتَضَمِّنًا لِهَذَا الْمَعْنَى، زَائِدًا عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الشيخ: دالًّا عليه، حطّ عليه إشارة.
وهو يدور على المعنى هذا لتعلموا أحوال عباده، ويعلم مظانّ الاصطفاء والاجتباء من غيره، يعلم أحوالهم وصفاتهم وما يقتضي الاختيار والاصطفاء، بخلاف خلقه فإنهم .....
س: الأقرب التَّضمن أو الدّلالة؟
ج: .....؛ لأنها زيادة لا محلَّ لها؛ لأنَّ المقصود يدور على أمرين: العلم بأحوالهم والصِّفات التي تقتضي الاختيار، وتنويه هذا على هذا، والله أعلم.
السَّادِسُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ عُقَيْبَ قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:65- 68]، فَكَمَا خَلَقَهُمْ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ، اخْتَارَ مِنْهُمْ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، فَكَانُوا صَفْوَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ، وَخِيرَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَكَانَ هَذَا الِاخْتِيَارُ رَاجِعًا إِلَى حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ لِمَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ، لَا إِلَى اخْتِيَارِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَاقْتِرَاحِهِمْ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
فَصْلٌ
وَإِذَا تَأَمَّلْتَ أَحْوَالَ هَذَا الْخَلْقِ، رَأَيْتَ هَذَا الِاخْتِيَارَ وَالتَّخْصِيصَ فِيهِ دَالًّا عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَكَمَالِ حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَأَنَّهُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَلَا شَرِيكَ لَهُ يَخْلُقُ كَخَلْقِهِ، وَيَخْتَارُ كَاخْتِيَارِهِ، وَيُدَبِّرُ كَتَدْبِيرِهِ، فَهَذَا الِاخْتِيَارُ وَالتَّدْبِيرُ وَالتَّخْصِيصُ الْمَشْهُودُ أَثَرُهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَأَكْبَرِ شَوَاهِدِ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَصِفَاتِ كَمَالِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ، فَنُشِيرُ مِنْهُ إِلَى يَسِيرٍ يَكُونُ مُنَبِّهًا عَلَى مَا وَرَاءَهُ، دَالًّا عَلَى مَا سِوَاهُ:
فَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ سَبْعًا، فَاخْتَارَ الْعُلْيَا مِنْهَا فَجَعَلَهَا مُسْتَقَرَّ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ، وَاخْتَصَّهَا بِالْقُرْبِ مِنْ كُرْسِيِّهِ وَمِنْ عَرْشِهِ، وَأَسْكَنَهَا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، فَلَهَا مَزِيَّةٌ وَفَضْلٌ عَلَى سَائِرِ السَّمَاوَاتِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا قُرْبُهَا مِنْهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
الشيخ: وجعل فيها البيتَ المعمور، وهو بمثابة الكعبة في الأرض، وجعل فيها خليله إبراهيم، رفعه إلى هناك، وجعل فيها سدرة المنتهى ..... ما يصعد من الأرض، وينتهي إليها ما ينزل من فوقها، وغير هذا، والله أكبر.
الشيخ: وهذا يدل على أنه خلَّاق، له إرادة، وله علم، وله اختيار فيما يشاء ، فبقُدرته خلق هذه الأشياء، وبعلمه بكمال قُدرته وكمال حكمته خصَّ ما شاء بما شاء، خصَّ ما شاء من السَّماوات ومن غير السَّماوات، ومن بني آدم، ومن غيرهم، خصَّهم بما يشاء؛ لأنه المالك، الخالق، الرازق، الذي له الحقُّ، المستحق أن يُعبد، وأن يُعظم، وله التصرف الكامل في الدنيا والآخرة، فمن كمال قُدرته وكمال حكمته أن فاوت بين عباده وبين خلقه، وجعلهم أقسامًا وأنواعًا وصنوفًا في خلقهم، وفي علمهم، وفي جمالهم، وفي غير ذلك من شؤونهم؛ ليعلم الناظرُ في هذا الأمر أنه الخلَّاق العليم الحكيم، وأنه على كل شيءٍ قدير، وأنه المستحق أن يُعبد؛ لكمال قُدرته، وكمال علمه، وكمال حكمته، وكمال إرادته، ونفوذ مشيئته .
وَمِنْ هَذَا تَفْضِيلُهُ سُبْحَانَهُ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ عَلَى سَائِرِ الْجِنَانِ، وَتَخْصِيصُهَا بِأَنْ جَعَلَ عَرْشَهُ سَقْفَهَا، وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: "إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ غَرَسَهَا بِيَدِهِ، وَاخْتَارَهَا لِخِيرَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ".
وَمِنْ هَذَا اخْتِيَارُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُصْطَفَيْنَ مِنْهُمْ عَلَى سَائِرِهِمْ: كَجِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
فَذَكَرَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِكَمَالِ اخْتِصَاصِهِمْ، وَاصْطِفَائِهِمْ، وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ، وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ غَيْرِهِمْ فِي السَّمَاوَاتِ، فَلَمْ يُسَمِّ إِلَّا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ.
الشيخ: لأنَّ هناك ملائكةً أخرى سمّوا في غير هذا الدعاء يعني، ومنها هذا قول أهل النار: يا مالك، نعم.
فَجِبْرِيلُ: صَاحِبُ الْوَحْيِ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ.
وَمِيكَائِيلُ: صَاحِبُ الْقَطْرِ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْأَرْضِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ.
وَإِسْرَافِيلُ: صَاحِبُ الصُّورِ الَّذِي إِذَا نَفَخَ فِيهِ أَحْيَتْ نَفْخَتُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ الْأَمْوَاتَ، وَأَخْرَجَتْهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ.
وَكَذَلِكَ اخْتِيَارُهُ سُبْحَانَهُ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ وَلَدِ آدَمَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُمْ مِئَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا.
الشيخ: يعني الأنبياء، كما جاء في حديث أبي ذرٍّ، وفيه بعض الضَّعف.
الشيخ: علَّق عليه؟
الطالب: نعم، أخرجه أحمد في "المسند"، وفي سنده ثلاثة ضُعفاء، وأخرجه ابنُ حبان مُطولًا، وفي سنده إبراهيم بن هشام الغساني، قال أبو حاتم وغيره: كذَّاب. وأخرجه أحمد من حديث أبي أمامة، وفي سنده ثلاثة ضُعفاء أيضًا.
وأخرج الحاكمُ في "المستدرك" من حديث أبي أمامة: أن رجلًا قال: يا رسول الله، أنبيٌّ كان آدم؟ قال: نعم، معلم، مُكلَّم، قال: كم بينه وبين نوحٍ؟ قال: عشرة قرونٍ، قال: كم كان بين نوحٍ وإبراهيم؟ قال: عشرة قرون، قالوا: يا رسول الله، كم كانت الرسلُ؟ قال: ثلاثمئة وخمسة عشر، جمًّا غفيرًا. سنده صحيح على شرط مسلم، كما قال الحاكم، ووافقه الذَّهبي.
الشيخ: تُراجعونه .....
وَاخْتِيَارُهُ أُولِي الْعَزْمِ مِنْهُمْ، وَهُمْ خَمْسَةٌ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ "الْأَحْزَابِ" و"الشُّورَى" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7]، وَقَالَ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، وَاخْتَارَ مِنْهُمُ الْخَلِيلَيْنِ: إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَآلِهِمَا وَسَلَّمَ.
وَمِنْ هَذَا اخْتِيَارُهُ سُبْحَانَهُ وَلَدَ إِسْمَاعِيلَ مِنْ أَجْنَاسِ بَنِي آدَمَ، ثُمَّ اخْتَارَ مِنْهُمْ بَنِي كِنَانَةَ مِنْ خُزَيْمَةَ، ثُمَّ اخْتَارَ مِنْ وَلَدِ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، ثُمَّ اخْتَارَ مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، ثُمَّ اخْتَارَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ مُحَمَّدًا ﷺ.
وَكَذَلِكَ اخْتَارَ أَصْحَابَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِينَ، وَاخْتَارَ مِنْهُمُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَاخْتَارَ مِنْهُمْ أَهْلَ بَدْرٍ، وَأَهْلَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وَاخْتَارَ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ أَكْمَلَهُ، وَمِنَ الشَّرَائِعِ أَفْضَلَهَا، وَمِنَ الْأَخْلَاقِ أَزْكَاهَا وَأَطْيَبَهَا وَأَطْهَرَهَا.
وَاخْتَارَ أُمَّتَهُ ﷺ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، كَمَا فِي "مُسْنَدِ الْإِمَامِ أحمد" وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَنْتُمْ مُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وأحمد: حَدِيثُ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ صَحِيحٌ.
الشيخ: أيش قال عليه؟
الطالب: رواه أحمد في "المسند" بلفظ: إنكم وفيتم سبعين أمة .. الحديث، وكذا ابنُ ماجه في "سننه" في "الزهد" باب صفة أمة محمدٍ صلى الله عليه وآله سلم، ورواه الترمذي في "سننه" في تفسير سورة آل عمران بلفظ: إنكم تتمون سبعين أمة .. الحديث، وسنده حسن، وقال الترمذي: هذا حسن. وصحَّحه الحاكم، ووافقه الذَّهبي.
الشيخ: والآية نصٌّ في هذا، الآية نصٌّ في أفضليتها: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، فكونها تُوفي سبعين أمة هو الذي ..... أنتم خيرها وأكرمها على الله، فإنَّ الحديث صريح بأنَّ الأمم سبعون، آخرها أمة محمدٍ عليه الصلاة والسلام، فلقد بعث الله لكل أمةٍ رسولًا .....، وقد تكون في الأمة الواحدة عدَّة رسلٍ، كما في قصة موسى وهارون وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل.
وَظَهَرَ أَثَرُ هَذَا الِاخْتِيَارِ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَأَخْلَاقِهِمْ، وَتَوْحِيدِهِمْ، وَمَنَازِلِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، وَمَقَامَاتِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ، فَإِنَّهُمْ أَعْلَى مِنَ النَّاسِ عَلَى تَلٍّ فَوْقَهُمْ يُشْرِفُونَ عَلَيْهِمْ.
وَفِي التِّرمذي مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِئَةُ صَفٍّ، ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ. قَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
الشيخ: والمعنى أنها ثلثا الأمم، وفي اللَّفظ الآخر: أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، قال: فكبرنا، قال: أتُحبون أن تكونوا ثلثَ أهل الجنة؟ قال: فكبَّرنا، قال: فإني أرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، وفي هذا ما هو أفضل ..... أيش قال المحشي عليه؟
الطالب: أخرجه الترمذي في "سننه" في صفة الجنة، باب ما جاء في كم صفٍّ أهل الجنة، وحسَّنه أحمد في "المسند"، وابن ماجه في "الزهد"، باب صفة أمة محمدٍ ﷺ، من طرقٍ، وسنده صحيح، وصحَّحه ابنُ حبان والحاكم، وفي الباب عن ابن عباسٍ وابن مسعودٍ وأبي موسى عند الطبراني.
الشيخ: وهذا يدل على فضل هذه الأمة بما خصَّها الله من علمٍ، وعملٍ صالحٍ، وتقوى لله، وتعليم الناس الخير، فأهل الجنة مئة وعشرون صفًّا، ثمانون صفًّا منها لهذه الأمة، ولا شكَّ أنَّ هذا فضلٌ عظيمٌ بسبب أعمالهم العظيمة، وتعليمهم للأمة، وإرشادهم لها، وجهادهم في سبيل الله، وصبرهم على ذلك، وطول مدَّتهم.
الشيخ: يعني: زادهم الله خيرًا.
الطالب: علَّق عليه: قال الحافظُ في "الفتح": فكأنه ﷺ لما رجا رحمةَ ربه أن تكون أمتُه نصفَ أهل الجنة أعطاه ما ارتجاه وزاده.
الشيخ: ..... الخير والفضل لا نهايةَ له، وهو ذو الفضل والإحسان.
س: ............؟
ج: كل هذه خرافات لا دليلَ عليها ..... بغير علمٍ، الذين تكلَّموا في هذا أو يستنبطون هذا من ..... كله باطل، لا يعلم هذا إلا هو ..... الغيب لم يثبت، عدد السنين التي بين آدم وبين محمدٍ الله أعلم بها جلَّ وعلا، وكانت التَّواريخ الأولى غير مضبوطةٍ ..... بني إسرائيل ومَن قبلهم ومَن بعدهم كلها غير مضبوطةٍ، ليس عندهم ..... كما عند هذه الأمة، ليس لهم أسانيد، ولا ضبط لأحوالهم وأخبارهم وما مضى عليهم من السنين، وأخبار أممهم، وأخبار حروبهم ليس عليها ضبط كما يسَّر اللهُ لهذه الأمة، فالدَّعوى بأنه مضى على الأمة كذا وكذا من السنين هذه دعوى بلا حُجَّة .....، لا وجهَ له، ولا دليل عليه، وليس هناك ما يُرشد إليه، والذي يظهر من حال الأمة وحال مَن يرى أنَّ الشيء أقلّ من هذا بكثيرٍ، وأنَّ المدة قليلة قريبة، هذه مدائن صالح معروفة وموجودة، وهم في الأمم الأولى، ما بعد نوح إلا هود ثم صالح، كما ذكر الله في القرآن الكريم، فالمدة ليست بهذه المثابة، ولا .....
س: ............؟
ج: بين آدم ونوح عشرة قرون كما جاء عن ابن عباسٍ.
س: .............؟
ج: الله أعلم، إذا قلنا: مئة سنة، فالمعنى ألف سنة، الله أعلم.
الشيخ: علَّق عليه؟
الطالب: ورواه أحمد أيضًأ في "المسند" من حديث أبي الدَّرداء ، وإسناده حسن، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" وقال: رواه أحمد، والبزار، والطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، ورجال أحمد رجال الصحيح غير الحسن بن سوار ..... ويزيد بن ميسرة، وهما ثقتان.
الشيخ: نعم.
الطالب: ..........
الشيخ: يُراجع السند عند أحمد رحمه الله في "مسند أبي الدَّرداء".
وَمِنْ هَذَا اخْتِيَارُهُ مِنَ الْأَمَاكِنِ وَالْبِلَادِ خَيْرَهَا وَأَشْرَفَهَا، وَهِيَ الْبَلَدُ الْحَرَامُ، فَإِنَّهُ اخْتَارَهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ، وَجَعَلَهُ مَنَاسِكَ لِعِبَادِهِ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْإِتْيَانَ إِلَيْهِ مِنَ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، فَلَا يَدْخُلُونَهُ إِلَّا مُتَوَاضِعِينَ، مُتَخَشِّعِينَ، مُتَذَلِّلِينَ، كَاشِفِي رُؤُوسِهِمْ، مُتَجَرِّدِينَ عَنْ لِبَاسِ أَهْلِ الدُّنْيَا.
وَجَعَلَهُ حَرَمًا آمِنًا لَا يُسْفَكُ فِيهِ دَمٌ، وَلَا تُعْضَدُ بِهِ شَجَرَةٌ، وَلَا يُنَفَّرُ لَهُ صَيْدٌ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ لِلتَّمْلِيكِ، بَلْ لِلتَّعْرِيفِ لَيْسَ إِلَّا.
الشيخ: يعني: للتَّملك، نعم.
الشيخ: علَّق عليه بشيءٍ؟
الطالب: رواه البخاري في "الحج": باب فضل الحجِّ المبرور، وباب قول الله : فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، ومسلم في "الحج": باب فضل الحجِّ والعمرة ويوم عرفة، واللفظ لمسلمٍ.
الشيخ: وقد جاء بهذا اللَّفظ، وجاء بلفظ: مَن حجَّ ولم يرفث، ومَن أتى هذا البيت أعمّ، يعمّ الحجَّ والعمرة.
الشيخ: رواه مَن؟
الطالب: أخرجه الترمذي في "الحج": باب ما جاء في ثواب الحجِّ والعمرة، والنَّسائي في "الحج": باب المتابعة بين الحجِّ والعمرة، وأحمد في "المسند"، وسنده حسن، وله شاهد من حديث عمر عند أحمد وابن ماجه، وآخر من حديث ابن عباسٍ عند النَّسائي، وبهما يصحُّ الحديث.
الشيخ: ..... ما ذكر سند ابن ماجه؟
........
وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّة.
فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْبَلَدُ الْأَمِينُ خَيْرَ بِلَادِهِ، وَأَحَبَّهَا إِلَيْهِ، وَمُخْتَارَهُ مِنَ الْبِلَادِ؛ لَمَا جَعَلَ عَرَصَاتِهَا مَنَاسِكَ لِعِبَادِهِ، فَرَضَ عَلَيْهِمْ قَصْدَهَا، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ آكَدِ فُرُوضِ الْإِسْلَامِ، وَأَقْسَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ، فَقَالَ تَعَالَى: وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين:3]، وَقَالَ تَعَالَى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1]، وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بُقْعَةٌ يَجِبُ عَلَى كُلِّ قَادِرٍ السَّعْيُ إِلَيْهَا وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ الَّذِي فِيهَا غَيْرَهَا، وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَوْضِعٌ يُشْرَعُ تَقْبِيلُهُ.
الشيخ: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68].
وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَوْضِعٌ يُشْرَعُ تَقْبِيلُهُ وَاسْتِلَامُهُ، وَتُحَطُّ الْخَطَايَا وَالْأَوْزَارُ فِيهِ غَيْرَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ.
وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِئَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ: فَفِي "سُنَنِ النَّسَائِيِّ" وَ"الْمُسْنَدِ" بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عبدالله بن الزبير، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِئَةِ صَلَاةٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي "صَحِيحِهِ"، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَفْضَلُ بِقَاعِ الْأَرْضِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
الشيخ: وفيه صراحة أنَّ الصلاة فيه أفضل من مئة ألفٍ، فصلاةٌ أفضل من مئة ألف صلاةٍ فيما سواه؛ لأنه قال: صلاةٌ في مسجدي هذا أفضل -وفي لفظٍ: خيرٌ- من ألف صلاةٍ فيما سواه، إلا المسجد الحرام، ثم قال: والصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجدي هذا بمئة صلاةٍ، فتكون ..... بمئة ألف صلاةٍ، والله أكبر ......
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَفْضَلُ بِقَاعِ الْأَرْضِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ شَدُّ الرِّحَالِ إِلَيْهِ فَرْضًا، وَلِغَيْرِهِ مِمَّا يُسْتَحَبُّ وَلَا يَجِبُ.
وَفِي "الْمُسْنَدِ" وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ: عَنْ عبدالله بن عدي ابن الحمراء: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْحَزْوَرَةِ مِنْ مَكَّةَ يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
الشيخ: أيش قال عليه؟
الطالب: رواه أحمد والترمذي في "المناقب": باب فضل مكة، وابن ماجه في "المناسك": باب فضل مكة، وإسناده صحيح، وصحَّحه ابن حبان ......
الشيخ: تُراجع النهاية، أنا أحفظها: "حزورة" بالتَّشديد، هذا الذي أحفظه عن قريبٍ ..... نعم تُراجع.
بَلْ وَمِنْ خَصَائِصِهَا: كَوْنُهَا قِبْلَةً لِأَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ، فَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ قِبْلَةٌ غَيْرُهَا.
وَمِنْ خَوَاصِّهَا أَيْضًا: أَنَّهُ يَحْرُمُ اسْتِقْبَالُهَا وَاسْتِدْبَارُهَا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ دُونَ سَائِرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ.
وَأَصَحُّ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفَضَاءِ وَالْبُنْيَانِ لِبِضْعَةَ عَشَرَ دَلِيلًا قَدْ ذُكِرَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَيْسَ مَعَ الْمُفَرِّقِ مَا يُقَاوِمُهَا الْبَتَّةَ، مَعَ تَنَاقُضِهِمْ فِي مِقْدَارِ الْفَضَاءِ وَالْبُنْيَانِ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِيفَاءِ الْحِجَاجِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
وَمِنْ خَوَاصِّهَا أَيْضًا: أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ، كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ أبي ذرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ عَامًا.
وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْمُرَادَ بِهِ فَقَالَ: مَعْلُومٌ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ هُوَ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ عَامٍ.
وَهَذَا مِنْ جَهْلِ هَذَا الْقَائِلِ؛ فَإِنَّ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا كَانَ لَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى تَجْدِيدُهُ، لَا تَأْسِيسُهُ، وَالَّذِي أَسَّسَهُ هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَآلِهِمَا وَسَلَّمَ بَعْدَ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ الْكَعْبَةَ بِهَذَا الْمِقْدَارِ.
الشيخ: يعقوب حفيد إبراهيم، أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فإبراهيم بنى الكعبة، ويعقوب بنى المسجد الأقصى، ثم عمره وجدده سليمان بعد ذلك في زمانه المتأخر، في آخر أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسَّلام.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهَا أُمُّ الْقُرَى، فَالْقُرَى كُلُّهَا تَبَعٌ لَهَا، وَفَرْعٌ عَلَيْهَا، وَهِيَ أَصْلُ الْقُرَى، فَيَجِبُ أَلَّا يَكُونَ لَهَا فِي الْقُرَى عَدِيلٌ، فَهِيَ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ "الْفَاتِحَةِ" أَنَّهَا أُمُّ الْقُرْآنِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ عَدِيلٌ.
وَمِنْ خَصَائِصِهَا: أَنَّهَا لَا يَجُوزُ دُخُولُهَا لِغَيْرِ أَصْحَابِ الْحَوَائِجِ الْمُتَكَرِّرَةِ إِلَّا بِإِحْرَامٍ.
.........
الشيخ: ..... القرون جمع قرن، والقاعدة في اللغة العربية: أنَّ الأعداد لا تُذكر .....
الطالب: قال: كم بين نوحٍ وإبراهيم؟ قال: عشر قرون، قالوا: يا رسول الله، كم كانت الرسل؟ قال: ثلاثمئة وخمسة عشر، جمًّا غفيرًا، هذا حديث صحيح على شرط مسلمٍ ولم يُخرجاه.
الشيخ: شيخ المؤلف مَن هو؟
الطالب: إبراهيم بن إسماعيل القاري.
الشيخ: هذا هو محل النَّظر، يُراجع، لا شكَّ أنَّ ..... يُراجع إبراهيم في "الميزان".
الطالب: ما ذكره في "الميزان"، ولا في .......
الشيخ: معروف، صاحب الرد على بشر ثقة معروف، من تلاميذ ابن معين وأحمد، ثقة، معروف، لكن ما أذكر هل خرج له أحاديث من الستة أم لا ........
الطالب: ...........
الشيخ: ما هو بصحيحٍ، كذلك قول بأنه آدم ما هو بصحيحٍ، الثابت إبراهيم.
س: ..............؟
ج: ما في بلد يُقال لها: أم القرى إلا مكة.
س: ..............؟
ج: لا، غلط، هذا غلط ..... أم الكتاب إلا الفاتحة.
س: مَن قبل إبراهيم من الأنبياء ما لهم قبلة؟
ج: يمكن أنهم يستقبلون محلَّ الكعبة ولو ما بُنيت، يمكن هذا ..... في آخر الزمان عندما يهدمها الحبشةُ، وكما استقبلت لما هدمها ابنُ الزبير .....، المقصود أنَّ المهم فضاؤها وجهتها، نعم.
الله جلَّ وعلا يبتلي عباده بالأشرار؛ ليرفع شأنهم، يُعلي درجاتهم، ويعظم أجورهم، ويُكفر سيئاتهم، هكذا يفعل بعباده حتى يعظم أجرهم، ويرتفع ذكرهم، وهكذا تكون لهم العاقبة، وحتى يتأسَّى بهم مَن بعدهم بالصبر على البلايا والمحن، وهكذا سنته في عباده: يمتحن أولياءه بأعدائه، ثم تكون العاقبةُ لأوليائه، كما جرى يوم أحد، وكما جرى يوم الأحزاب، ثم صارت العاقبةُ للمؤمنين، ولم يغزو جيش المشركين بعد ذلك، بل غزاهم ﷺ بعد ذلك، وفتح الله عليه، وانتهى أمرُهم، والله المستعان.
س: .............؟
ج: ما أدري عنه.
الشيخ: "لا يدخلْ" الأصل النَّهي.
الشيخ: والصواب في هذه المسألة أنه ليس من خصائصها، وأنه يجوز دخولها بغير إحرامٍ لمن لم يُرد الحجَّ ولا العمرة، هذا هو الصواب؛ لأنَّ الرسول عليه السلام قال لما وقَّت المواقيت قال: هنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهنَّ من غير أهلهنَّ ممن أراد الحجَّ والعمرةَ، فلا يجب الإحرامُ إلا على مَن أراد الحجَّ والعمرة، وهذا هو رأي المؤلف أيضًا في كتبه ..... شيخ الإسلام شيخه، وهو الصواب؛ ولهذا دخلها النبيُّ ﷺ يوم الفتح حلالًا غير محرمٍ، وعلى رأسه المغفر، وعليه عمامة سوداء، لم يُحرم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ما جاء حاجًّا ولا مُعتمرًا، إنما جاء غازيًا فاتحًا للقضاء على الشِّرك وعبادة غير الله .
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: النَّفْيُ، وَالْإِثْبَاتُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ هُوَ دَاخِلُ الْمَوَاقِيتِ، وَمَنْ هُوَ قَبْلَهَا، فَمَنْ قَبْلَهَا لَا يُجَاوِزُهَا إِلَّا بِإِحْرَامٍ، وَمَنْ هُوَ دَاخِلُهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ مَكَّةَ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، وَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وأحمد.
وَمِنْ خَوَاصِّهِ: أَنَّهُ يُعَاقَبُ فِيهِ عَلَى الْهَمِّ بِالسَّيِّئَاتِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، فَتَأَمَّلْ كَيْفَ عَدَّى فِعْلَ الْإِرَادَةِ هَاهُنَا بِالْبَاءِ، وَلَا يُقَالُ: أَرَدْتُ بِكَذَا إِلَّا لِمَا ضُمِّنَ مَعْنَى فِعْلِ "هَمَّ"، فَإِنَّهُ يُقَالُ: هَمَمْتُ بِكَذَا، فَتَوَعَّدَ مَنْ هَمَّ بِأَنْ يَظْلِمَ فِيهِ بِأَنْ يُذِيقَهُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.
الشيخ: وهذا لا شكَّ من خصائص مكة؛ تعظيمًا لشأنها، وتحذيرًا من عصيان الله فيها، إذا كان مَن همَّ أن يعصي فيها يُعاقَب، فكيف بمَن عصى فيها؟ ..... المعصية أكبر وأعظم، ومعلوم من السنة أنَّ الهمَّ لا يُؤاخذ صاحبه ما لم يفعل، كما جاء في الحديث الصحيح: مَن همَّ بسيئةٍ فلم يفعلها كتبها الله له حسنةً، وإنما تركها من أجل الله، وفي اللفظ الآخر: مَن همَّ بسيئةٍ ولم يفعلها لم تُكتب عليه يعني: تركها ليس من أجل الله، بل تركها لشُغْلٍ آخر، إلا في مكَّة؛ فمَن همَّ بالسيئة في مكة عُوقِب على همِّه؛ لقوله سبحانه: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، فيه أي: الحرم، يُرد يعني: يهمّ، يعني: ضمنه معنى الإرادة، وضمنه معنى الهم.
وَمِنْ هَذَا تَضَاعُفُ مَقَادِيرِ السَّيِّئَاتِ فِيهِ لَا كَمِّيَّاتِهَا، فَإِنَّ السَّيِّئَةَ جَزَاؤُهَا سَيِّئَةٌ، لَكِنْ سَيِّئَةٌ كَبِيرَةٌ جَزَاؤُهَا مِثْلُهَا، وَصَغِيرَةٌ جَزَاؤُهَا مِثْلُهَا.
فَالسَّيِّئَةُ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَبَلَدِهِ وَعَلَى بِسَاطِهِ آكَدُ وَأَعْظَمُ مِنْهَا فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الْأَرْضِ؛ وَلِهَذَا لَيْسَ مَنْ عَصَى الْمَلِكَ عَلَى بِسَاطِ مُلْكِهِ كَمَنْ عَصَاهُ فِي الْمَوْضِعِ الْبَعِيدِ مِنْ دَارِهِ وَبِسَاطِهِ، فَهَذَا فَصْلُ النِّزَاعِ فِي تَضْعِيفِ السَّيِّئَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الشيخ: والمعنى أنها تُضاعف من جهة الكيفية والمقادير، لا من جهة العدد والكمية، سيئة الحرم أعظم من جهة الجزاء والعقوبة من السيئة خارج الحرم، لكن لا تُضاعف من جهة العدد: سيئة بسيئةٍ، سيئتان بسيئتين، ثلاثٌ بثلاثٍ، أربعٌ بأربعٍ، لكن مقاديرها في العوض والكيفية والشّدة على حسب حال الجريمة، وحسب حال مكانها وزمانها وفاعلها؛ فالسَّيئة في الحرم المدني أو المكي، والسيئة في رمضان، وفي عشر ذي الحجة أعظم من السيئة في غير هذا ... والمكان، فالسيئة من العالم المتبصر غير السيئة من الجاهل.
والحاصل أنَّ السيئة تُضاعف من جهة الكيفية، لا من جهة العدد، أما الحسنات فتُضاعف عددًا وكيفيةً جميعًا، وهذا من فضل الله .