وقال ابن مردويه: حدثنا دعلج بن أحمد، حدثنا محمد بن علي بن زيد، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا سفيان عن عمران بن ظبيان، عن عدي بن ثابت أن رجلا أهتم فمه رجل على عهد معاوية ، فأعطي دية، فأبى إلا أن يقتص، فأعطي ديتين فأبى، فأعطي ثلاثا فأبى، فحدث رجل من أصحاب رسول الله ﷺ أن رسول الله ﷺ قال: من تصدق بدم فما دونه، فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا هشيم عن المغيرة، عن الشعبي عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من رجل يجرح من جسده جراحة فيتصدق بها، إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به ورواه النسائي عن علي بن حجر، عن جرير بن عبد الحميد، ورواه ابن جرير عن محمود بن خداش، عن هشيم، كلاهما عن المغيرة به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن مجالد، عن عامر، عن المحرر بن أبي هريرة، عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال: من أصيب بشيء من جسده فتركه لله كان كفارة له.الشيخ: وهذا واضح من الآية فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45] واضح بأن العبد إذا عفا وسمح عما أصابه من الجراحة كان ذلك كفارة له، لأن الله قال جل وعلا: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45] هذا فيه حث على الصدقة والعفو والإحسان كما قال : فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40] وقال : وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237] وقال النبي ﷺ: ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزاً فإن طلب الدية فله الدية، وإن طلب القصاص فله القصاص، وإن عفا عنهما أو عن القصاص فله هذا الوعد وهو كفارة له.
وقوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] قد تقدم عن طاوس وعطاء أنهما قالا: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.الشيخ: وهذا مروي معناه عن ابن عباس، وأن الحكم بغير ما أنزل الله على حالين، إحداهما أن يكون كفرًا أكبر وظلمًا أكبر وفسقًا أكبر، وهو ردة عن الإسلام نعوذ بالله من ذلك، وهذا فيمن استحله، إذا استحل الحكم بغير ما أنزل الله، أو رأى أن الحكم بما أنزل الله أولى، وأن القوانين الوضعية أولى للناس، وأرفق بالناس، وأولى من الشرع، أو أنها مساوية للشرع؛ فهذا كفر أكبر، وظلم أكبر، وفسق أكبر، أما إذا حكم بغير ما أنزل الله لهوى كقرابة أو رشوة أو نحو ذلك وهو يعلم أنه مخطئ وأنه غلطان وأنه عاص لله وأن الحكم بما أنزل الله هو الواجب، ولكنه تابع هواه في ذلك، إما لقرابة أو لرشوة أو لغير ذلك من الأسباب؛ فهذا يكون كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، يعني معصية كبيرة ومن المحرمات الكفرية، ومن أنواع الظلم والفسق، لكن لا يكون ردة عن الإسلام؛ بخلاف من حكم مستحلاً لذلك، سواء اعتقد أن حكم الله أفضل، أو أن حكم القوانين أفضل، أو ساوى بينهما، كل ذلك ردة عن الإسلام، وظلم أكبر، وكفر أكبر، نسأل الله العافية.وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
يقول تعالى: وَقَفَّيْنَا أي أتبعنا عَلَى آثَارِهِمْ يعني أنبياء بني إسرائيل بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ أي مؤمنا بها حاكما بما فيها، وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ أي هدى إلى الحق ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات، وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ أي متبعا لها غير مخالف لما فيها إلا في القليل مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخبارا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50] ولهذا كان المشهور من قولي العلماء أن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة.
وقوله تعالى: وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أي وجعلنا الإنجيل هدى يهتدى به، وموعظة أي زاجرا عن ارتكاب المحارم والمآثم، لِلْمُتَّقِينَ أي لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه.
وقوله تعالى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ [المائدة:47] قرئ وليحكم أهل الإنجيل بالنصب على أن اللام لام كي، أي وآتيناه الإنجيل ليحكم أهل ملته به في زمانهم، وقرئ وليحكم بالجزم على أن اللام لام الأمر، أي ليؤمنوا بجميع ما فيه، وليقيموا ما أمروا به فيه، ومما فيه البشارة ببعثة محمد والأمر باتباعه وتصديقه إذا وجد، كما قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ الآية [المائدة:68]، وقال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157]. ولهذا قال هاهنا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] أي الخارجون عن طاعة ربهم، المائلون إلى الباطل، التاركون للحق، وقد تقدم أن هذه الآية نزلت في النصارى، وهو ظاهر من السياق.الشيخ: وهذا يبين لنا أمر الإنجيل وأنه كتاب عظيم فيه هدى ونور، وفيه هدى وموعظة، وفيه بيان بعض ما اختلفوا فيه، وحل بعض ما حرم عليهم في التوراة، فإن الله جل وعلا خفف عنهم ببعث عيسى عليه الصلاة والسلام، خفف عنهم بعض الشيء، وضع به عنهم بعض الآصار والأغلال، ولكنهم أبوا إلا الكفر به وعدم تصديقه، وقالوا فيه: إنه ولد بغي، وسعوا في قتله وصلبه إلى أن خلصه الله منهم فرفعه جل وعلا عن أولئك الضالين من اليهود، وهكذا الرسل كلهم الآخر يصدق الأول ويؤيد ما جاء به الأول ويبين صحة ما جاء به وأنه رسول الله حقًا، وهكذا نبينا محمد عليه الصلاة والسلام بين الله به صدق الأولين من الرسل، وأتى بما يبين أنهم قد بلغوا وصدقوا وأدوا ما عليهم عليهم الصلاة والسلام.وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه، ومدحها وأثنى عليها وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع وذكر الإنجيل ومدحه وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه، كما تقدم بيانه، شرع في ذكر القرآن العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم، فقال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [المائدة:48] أي بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله مصدقا لما بين يديه من الكتاب أي من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره ومدحه، وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد ﷺ، فكان نزوله كما أخبرت به، مما زادها صدقا عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله، واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا [الإسراء:107، 108] أي إن كان ما وعدنا الله على ألسنة رسله المتقدمة من مجيء محمد لمفعولا، أي لكائنا لا محالة ولا بد.
وقوله تعالى: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة:48] قال سفيان الثوري وغيره، عن أبي إسحاق، عن التميمي.الشيخ: التميمي أو التيمي؟
الطالب: في كلام عليه، رواه ابن جرير من عشرة طرق عن التميمي، وفي بعضها قال: عن رجل من تميم، وهو أربدة ويقال: أربد التميمي المفسر، صدوق من الثالثة أخرج له أبو داود، هذا قول الحافظ، قال العجلي: تابعي كوفي ثقة، وقال ابن حبان في الثقات: أصله من البصرة كان يجالس البراء بن عازب وقال ابن البرقي: مجهول، وذكره البارذيجي في أفراد الأسماء، وذكره أبو العرب الصقلي حافظ القيروان في الضعفاء. انتهى من التهذيب.
الشيخ: نعم.
عن ابن عباس: أي مؤتمنا عليه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: المهيمن الأمين، قال: القرآن أمين على كل كتاب قبله. وروي عن عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحمد بن كعب وعطية والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي وابن زيد نحو ذلك، وقال ابن جريج: القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل، وعن الوالبي عن ابن عباس ومهيمنا أي شهيدا، وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي.
وقال العوفي عن ابن عباس ومهيمنا أي حاكما على ما قبله من الكتب، وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات، ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
الشيخ: وهذا واضح في فضل هذا الكتاب العظيم وأن الله جعله مصدقًا لما قبله من الكتب وشاهدًا لها وأمينًا عليها وحاكمًا عليها، ودالاً على صحة ما جاءت به الرسل، وأنهم أدوا الرسالة وبلغوها وحكموا بما أمرهم الله به جل وعلا وهذا الكتاب أكمله، وقص فيه سبحانه قصص الماضين وأخبار الماضين وأتى فيه من الشرائع والأحكام ما هو أكمل وأعظم وأيسر وأسمح مما قبله، فوضع به آصارًا وأغلالاً عن العباد والمكلفين، وضمنه شريعة سمحة ليس فيها آصار ولا أغلال، وجعله بلسان عربي مبين يقرأه المؤمن ويتدبره ويتعقله بلغته التي جاء بها رسوله عليه الصلاة والسلام.
فأما ما حكاه ابن أبي حاتم عن عكرمة وسعيد بن جبير وعطاء الخراساني وابن أبي نجيح عن مجاهد، أنهم قالوا في قوله وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ يعني محمدا ﷺ أمين على القرآن فإنه صحيح في المعنى، ولكن في تفسير هذا بهذا نظر، وفي تنزيله عليه من حيث العربية أيضا نظر، وبالجملة فالصحيح الأول.
وقال أبو جعفر بن جرير بعد حكايته له عن مجاهد: وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب، بل هو خطأ، وذلك أن المهيمن عطف على المصدق، فلا يكون إلا صفة لما كان المصدق صفة له، قال: ولو كان الأمر كما قال مجاهد لقيل: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، يعني من غير عطف.
وقوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة:48] أي فاحكم يا محمد بين الناس، عربهم وعجمهم، أميهم وكتابيهم، بما أنزل الله إليك في هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك، هكذا وجهه ابن جرير بمعناه، قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: كان النبي ﷺ مخيرا إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أحكامهم، فنزلت وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49] فأمر رسول الله ﷺ أن يحكم بينهم بما في كتابنا.
وقوله وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49] أي آراءهم التي اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله، ولهذا قال تعالى: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [المائدة:48] أي لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء الجهلة الأشقياء.
وقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48] قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر عن يوسف بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق عن أبيه، عن التميمي، عن ابن عباس لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً [المائدة:48] قال: سبيلا. وحدثنا أبو سعيد، حدثنا وكيع عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس وَمِنْهَاجًا قال: وسنة، كذا روى العوفي عن ابن عباس شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا سبيلا وسنة، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وقتادة والضحاك والسدي وأبي إسحاق السبيعي، أنهم قالوا في قوله شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أي سبيلا وسنة، وعن ابن عباس أيضا ومجاهد، أي وعطاء الخراساني عكسه شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أي سنة وسبيلا، والأول أنسب، فإن الشرعة وهي الشريعة أيضا هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء، ومنه يقال: شرع في كذا، أي ابتدأ فيه، وكذا الشريعة وهي ما يشرع فيها إلى الماء. أما المنهاج فهو الطريق الواضح السهل، والسنن الطرائق.
فتفسير قوله: شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس، والله أعلم.الشيخ: والمعنى في هذا أن الله سبحانه شرع للرسل عليهم الصلاة والسلام طرقًا يسلكون فيها حياة الأمم ونجاة الأمم وسعادة الأمم، ومنهاجًا واضحًا ليس فيه اعوجاج، يستقيمون عليه ويدعون إليه الناس، وسمى ما شرعه لعباده شرعة؛ لأنه يرسلهم إلى السعادة والحياة الطيبة، فالشرائع هي ما رسمه الله لعباده وأمرهم به من فعل الأوامر وترك النواهي، فهذه الشريعة والشرعة ترسل من استقام عليها إلى النجاة والسعادة؛ كما أن الشرائع التي في الدنيا طرق توصل إلى الماء، فالشرعة هي الطريق الموصل إلى الماء إلى النهر، فالنهر تحصل به الحياة والطريق إليه هو الشريعة، والشرعة الطرق الموصل إلى السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة؛ كما أن الطرق التي تعين للمياه وتعبد للمياه توصل إلى الحياة الدنيوية لبني آدم ودوابهم، ثم هذه الشرعة التي هي الطريقة إلى الحياة ترسلهم إلى منهاج واضح وسنة واضحة؛ فقد رسمها الله لعباده وهي الصراط المستقيم صراط واضح، من استقام عليه وصل إلى الله وإلى دار الكرامة، ومن حاد عنه إلى هواه صار إلى دار الهوان والشقاء، نسأل الله السلامة.
ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان، باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله، كما قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ الآية [النحل:36]الشيخ: فالرسل كلهم على دين واحد، وسبيل واحد وهو توحيد الله والإخلاص له والإيمان بما أخبرت به الرسل جميعًا من البعث والنشور والجزاء والحساب والجنة والنار وأسماء الله وصفاته؛ هذا شيء اتفقت عليه الرسل عليهم الصلاة السلام في الإخبار عن الله بما شرع لعباده من أسباب النجاة التي منها توحيده والإخلاص له والإيمان به وبرسله الماضين، والإيمان بما أعد لأوليائه في دار الكرامة وما أعد لأعدائه في دار الهوان، وما كان وما يكون من أخبار الغيب، هذه أشياء اتفقت عليها الرسل، ثم جعل الله لكل رسول شريعة خاصة وأحكامًا خاصة قد يباح في هذه الشريعة ما لا يباح في هذه الشريعة ويحرم في هذه الشريعة ما لا يحرم في هذه الشريعة من الأحكام، فالشرائع والفروع متنوعة والأصل واحد وهو توحيد الله والإخلاص له والإيمان به وبرسله والإيمان بأنه رب العالمين وإله حق، والإيمان بما أخبر به عن الآخرة والجزاء والحساب، ولهذا قال ﷺ: نحن معاشر الأنبياء ديننا واحد وهو توحيد الله والإخلاص له والإيمان برسله وما أخبر به عما سيكون يوم القيامة وعبر عن الشرائع بقوله أولاد لعلات كنى عن الشرائع بالعلات وهن الضرائر، فالأب واحد وهو دين الله الذي اجتمعت عليه الرسل، والشرائع التي تشبه العلات متنوعة.
وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما، ثم يحل في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وخفيفا فيزاد في الشدة في هذه دون هذه، وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.
قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: قوله لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً [المائدة:48] يقول: سبيلا وسنة، والسنن مختلفة، هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله غيره، التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وقيل: المخاطب بهذه الآية هذه الأمة ومعناه لكل جعلنا القرآن منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجا، أي هو لكم كلكم تقتدون به، وحذف الضمير المنصوب في قوله لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ أي جعلناه، يعني القرآن، شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أي سبيلا إلى المقاصد الصحيحة، وسنة أي طريقا ومسلكا واضحا بينا، هذا مضمون ما حكاه ابن جرير عن مجاهد رحمه الله.
والصحيح القول الأول، ويدل على ذلك قوله تعالى بعده وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [المائدة:48] فلو كان هذا خطابا لهذه الأمة، لما صح أن يقول وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وهم أمة واحدة، ولكن هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة، التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد، وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حدة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده، حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدا ﷺ، الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم، ولهذا قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ أي أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ليختبر عباده فيما شرع لهم ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله. وقال عبد الله بن كثير في ما آتاكم يعني من الكتاب.
ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها، فقال فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [المائدة:48] وهي طاعة الله واتباع شرعه الذي جعله ناسخا لما قبله، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله.الشيخ: وهذا حث من الله جل وعلا لعباده على أن يستبقوا الخيرات، وأن يسارعوا إلى الطاعات، كما بين أنه سبحانه جعل لكل شريعة ومنهاجًا تسير عليه أمته على حسب حكمته في تفصيل الشرائع والواجبات والمحرمات لكل رسول، ولكل أمة بين الحكمة في ذلك لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ليختبركم فيما آتاكم من الشرائع، وليظهر من عباده من يسابق ويسارع إلى الطاعات ومن يتأخر عن ذلك؛ فيجازى كل عامل بما يستحق من الخيرات أو ضدها، فالعبد يختبر، وهو مبتلى كما قال جل وعلا: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7] فالواجب على المؤمن أن يحذر التساهل والإعراض واتباع الهوى وأن يري الله من نفسه خيرًا بطاعته ومسارعته إلى ما يرضيه وابتعاده عن مناهيه حتى يحصل له ما وعد الله المتقين والمسارعين إلى الخيرات من عظيم الثواب ورفيع الدرجات.
ثم قال تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ [المائدة:48] أي معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق، فيجزي الصادقين بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان، بل هم معاندون للبراهين القاطعة، والحجج البالغة والأدلة الدامغة.
وقال الضحاك: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ يعني أمة محمد ﷺ، والأول أظهر.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا هشيم عن المغيرة، عن الشعبي عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من رجل يجرح من جسده جراحة فيتصدق بها، إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به ورواه النسائي عن علي بن حجر، عن جرير بن عبد الحميد، ورواه ابن جرير عن محمود بن خداش، عن هشيم، كلاهما عن المغيرة به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن مجالد، عن عامر، عن المحرر بن أبي هريرة، عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال: من أصيب بشيء من جسده فتركه لله كان كفارة له.الشيخ: وهذا واضح من الآية فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45] واضح بأن العبد إذا عفا وسمح عما أصابه من الجراحة كان ذلك كفارة له، لأن الله قال جل وعلا: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45] هذا فيه حث على الصدقة والعفو والإحسان كما قال : فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40] وقال : وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237] وقال النبي ﷺ: ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزاً فإن طلب الدية فله الدية، وإن طلب القصاص فله القصاص، وإن عفا عنهما أو عن القصاص فله هذا الوعد وهو كفارة له.
وقوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] قد تقدم عن طاوس وعطاء أنهما قالا: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.الشيخ: وهذا مروي معناه عن ابن عباس، وأن الحكم بغير ما أنزل الله على حالين، إحداهما أن يكون كفرًا أكبر وظلمًا أكبر وفسقًا أكبر، وهو ردة عن الإسلام نعوذ بالله من ذلك، وهذا فيمن استحله، إذا استحل الحكم بغير ما أنزل الله، أو رأى أن الحكم بما أنزل الله أولى، وأن القوانين الوضعية أولى للناس، وأرفق بالناس، وأولى من الشرع، أو أنها مساوية للشرع؛ فهذا كفر أكبر، وظلم أكبر، وفسق أكبر، أما إذا حكم بغير ما أنزل الله لهوى كقرابة أو رشوة أو نحو ذلك وهو يعلم أنه مخطئ وأنه غلطان وأنه عاص لله وأن الحكم بما أنزل الله هو الواجب، ولكنه تابع هواه في ذلك، إما لقرابة أو لرشوة أو لغير ذلك من الأسباب؛ فهذا يكون كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، يعني معصية كبيرة ومن المحرمات الكفرية، ومن أنواع الظلم والفسق، لكن لا يكون ردة عن الإسلام؛ بخلاف من حكم مستحلاً لذلك، سواء اعتقد أن حكم الله أفضل، أو أن حكم القوانين أفضل، أو ساوى بينهما، كل ذلك ردة عن الإسلام، وظلم أكبر، وكفر أكبر، نسأل الله العافية.وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
يقول تعالى: وَقَفَّيْنَا أي أتبعنا عَلَى آثَارِهِمْ يعني أنبياء بني إسرائيل بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ أي مؤمنا بها حاكما بما فيها، وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ أي هدى إلى الحق ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات، وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ أي متبعا لها غير مخالف لما فيها إلا في القليل مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخبارا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50] ولهذا كان المشهور من قولي العلماء أن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة.
وقوله تعالى: وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أي وجعلنا الإنجيل هدى يهتدى به، وموعظة أي زاجرا عن ارتكاب المحارم والمآثم، لِلْمُتَّقِينَ أي لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه.
وقوله تعالى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ [المائدة:47] قرئ وليحكم أهل الإنجيل بالنصب على أن اللام لام كي، أي وآتيناه الإنجيل ليحكم أهل ملته به في زمانهم، وقرئ وليحكم بالجزم على أن اللام لام الأمر، أي ليؤمنوا بجميع ما فيه، وليقيموا ما أمروا به فيه، ومما فيه البشارة ببعثة محمد والأمر باتباعه وتصديقه إذا وجد، كما قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ الآية [المائدة:68]، وقال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157]. ولهذا قال هاهنا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] أي الخارجون عن طاعة ربهم، المائلون إلى الباطل، التاركون للحق، وقد تقدم أن هذه الآية نزلت في النصارى، وهو ظاهر من السياق.الشيخ: وهذا يبين لنا أمر الإنجيل وأنه كتاب عظيم فيه هدى ونور، وفيه هدى وموعظة، وفيه بيان بعض ما اختلفوا فيه، وحل بعض ما حرم عليهم في التوراة، فإن الله جل وعلا خفف عنهم ببعث عيسى عليه الصلاة والسلام، خفف عنهم بعض الشيء، وضع به عنهم بعض الآصار والأغلال، ولكنهم أبوا إلا الكفر به وعدم تصديقه، وقالوا فيه: إنه ولد بغي، وسعوا في قتله وصلبه إلى أن خلصه الله منهم فرفعه جل وعلا عن أولئك الضالين من اليهود، وهكذا الرسل كلهم الآخر يصدق الأول ويؤيد ما جاء به الأول ويبين صحة ما جاء به وأنه رسول الله حقًا، وهكذا نبينا محمد عليه الصلاة والسلام بين الله به صدق الأولين من الرسل، وأتى بما يبين أنهم قد بلغوا وصدقوا وأدوا ما عليهم عليهم الصلاة والسلام.وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه، ومدحها وأثنى عليها وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع وذكر الإنجيل ومدحه وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه، كما تقدم بيانه، شرع في ذكر القرآن العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم، فقال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [المائدة:48] أي بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله مصدقا لما بين يديه من الكتاب أي من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره ومدحه، وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد ﷺ، فكان نزوله كما أخبرت به، مما زادها صدقا عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله، واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا [الإسراء:107، 108] أي إن كان ما وعدنا الله على ألسنة رسله المتقدمة من مجيء محمد لمفعولا، أي لكائنا لا محالة ولا بد.
وقوله تعالى: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة:48] قال سفيان الثوري وغيره، عن أبي إسحاق، عن التميمي.الشيخ: التميمي أو التيمي؟
الطالب: في كلام عليه، رواه ابن جرير من عشرة طرق عن التميمي، وفي بعضها قال: عن رجل من تميم، وهو أربدة ويقال: أربد التميمي المفسر، صدوق من الثالثة أخرج له أبو داود، هذا قول الحافظ، قال العجلي: تابعي كوفي ثقة، وقال ابن حبان في الثقات: أصله من البصرة كان يجالس البراء بن عازب وقال ابن البرقي: مجهول، وذكره البارذيجي في أفراد الأسماء، وذكره أبو العرب الصقلي حافظ القيروان في الضعفاء. انتهى من التهذيب.
الشيخ: نعم.
عن ابن عباس: أي مؤتمنا عليه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: المهيمن الأمين، قال: القرآن أمين على كل كتاب قبله. وروي عن عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحمد بن كعب وعطية والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي وابن زيد نحو ذلك، وقال ابن جريج: القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل، وعن الوالبي عن ابن عباس ومهيمنا أي شهيدا، وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي.
وقال العوفي عن ابن عباس ومهيمنا أي حاكما على ما قبله من الكتب، وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات، ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
الشيخ: وهذا واضح في فضل هذا الكتاب العظيم وأن الله جعله مصدقًا لما قبله من الكتب وشاهدًا لها وأمينًا عليها وحاكمًا عليها، ودالاً على صحة ما جاءت به الرسل، وأنهم أدوا الرسالة وبلغوها وحكموا بما أمرهم الله به جل وعلا وهذا الكتاب أكمله، وقص فيه سبحانه قصص الماضين وأخبار الماضين وأتى فيه من الشرائع والأحكام ما هو أكمل وأعظم وأيسر وأسمح مما قبله، فوضع به آصارًا وأغلالاً عن العباد والمكلفين، وضمنه شريعة سمحة ليس فيها آصار ولا أغلال، وجعله بلسان عربي مبين يقرأه المؤمن ويتدبره ويتعقله بلغته التي جاء بها رسوله عليه الصلاة والسلام.
فأما ما حكاه ابن أبي حاتم عن عكرمة وسعيد بن جبير وعطاء الخراساني وابن أبي نجيح عن مجاهد، أنهم قالوا في قوله وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ يعني محمدا ﷺ أمين على القرآن فإنه صحيح في المعنى، ولكن في تفسير هذا بهذا نظر، وفي تنزيله عليه من حيث العربية أيضا نظر، وبالجملة فالصحيح الأول.
وقال أبو جعفر بن جرير بعد حكايته له عن مجاهد: وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب، بل هو خطأ، وذلك أن المهيمن عطف على المصدق، فلا يكون إلا صفة لما كان المصدق صفة له، قال: ولو كان الأمر كما قال مجاهد لقيل: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، يعني من غير عطف.
وقوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة:48] أي فاحكم يا محمد بين الناس، عربهم وعجمهم، أميهم وكتابيهم، بما أنزل الله إليك في هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك، هكذا وجهه ابن جرير بمعناه، قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: كان النبي ﷺ مخيرا إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أحكامهم، فنزلت وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49] فأمر رسول الله ﷺ أن يحكم بينهم بما في كتابنا.
وقوله وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49] أي آراءهم التي اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله، ولهذا قال تعالى: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [المائدة:48] أي لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء الجهلة الأشقياء.
وقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48] قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر عن يوسف بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق عن أبيه، عن التميمي، عن ابن عباس لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً [المائدة:48] قال: سبيلا. وحدثنا أبو سعيد، حدثنا وكيع عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس وَمِنْهَاجًا قال: وسنة، كذا روى العوفي عن ابن عباس شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا سبيلا وسنة، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وقتادة والضحاك والسدي وأبي إسحاق السبيعي، أنهم قالوا في قوله شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أي سبيلا وسنة، وعن ابن عباس أيضا ومجاهد، أي وعطاء الخراساني عكسه شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أي سنة وسبيلا، والأول أنسب، فإن الشرعة وهي الشريعة أيضا هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء، ومنه يقال: شرع في كذا، أي ابتدأ فيه، وكذا الشريعة وهي ما يشرع فيها إلى الماء. أما المنهاج فهو الطريق الواضح السهل، والسنن الطرائق.
فتفسير قوله: شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس، والله أعلم.الشيخ: والمعنى في هذا أن الله سبحانه شرع للرسل عليهم الصلاة والسلام طرقًا يسلكون فيها حياة الأمم ونجاة الأمم وسعادة الأمم، ومنهاجًا واضحًا ليس فيه اعوجاج، يستقيمون عليه ويدعون إليه الناس، وسمى ما شرعه لعباده شرعة؛ لأنه يرسلهم إلى السعادة والحياة الطيبة، فالشرائع هي ما رسمه الله لعباده وأمرهم به من فعل الأوامر وترك النواهي، فهذه الشريعة والشرعة ترسل من استقام عليها إلى النجاة والسعادة؛ كما أن الشرائع التي في الدنيا طرق توصل إلى الماء، فالشرعة هي الطريق الموصل إلى الماء إلى النهر، فالنهر تحصل به الحياة والطريق إليه هو الشريعة، والشرعة الطرق الموصل إلى السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة؛ كما أن الطرق التي تعين للمياه وتعبد للمياه توصل إلى الحياة الدنيوية لبني آدم ودوابهم، ثم هذه الشرعة التي هي الطريقة إلى الحياة ترسلهم إلى منهاج واضح وسنة واضحة؛ فقد رسمها الله لعباده وهي الصراط المستقيم صراط واضح، من استقام عليه وصل إلى الله وإلى دار الكرامة، ومن حاد عنه إلى هواه صار إلى دار الهوان والشقاء، نسأل الله السلامة.
ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان، باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله، كما قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ الآية [النحل:36]الشيخ: فالرسل كلهم على دين واحد، وسبيل واحد وهو توحيد الله والإخلاص له والإيمان بما أخبرت به الرسل جميعًا من البعث والنشور والجزاء والحساب والجنة والنار وأسماء الله وصفاته؛ هذا شيء اتفقت عليه الرسل عليهم الصلاة السلام في الإخبار عن الله بما شرع لعباده من أسباب النجاة التي منها توحيده والإخلاص له والإيمان به وبرسله الماضين، والإيمان بما أعد لأوليائه في دار الكرامة وما أعد لأعدائه في دار الهوان، وما كان وما يكون من أخبار الغيب، هذه أشياء اتفقت عليها الرسل، ثم جعل الله لكل رسول شريعة خاصة وأحكامًا خاصة قد يباح في هذه الشريعة ما لا يباح في هذه الشريعة ويحرم في هذه الشريعة ما لا يحرم في هذه الشريعة من الأحكام، فالشرائع والفروع متنوعة والأصل واحد وهو توحيد الله والإخلاص له والإيمان به وبرسله والإيمان بأنه رب العالمين وإله حق، والإيمان بما أخبر به عن الآخرة والجزاء والحساب، ولهذا قال ﷺ: نحن معاشر الأنبياء ديننا واحد وهو توحيد الله والإخلاص له والإيمان برسله وما أخبر به عما سيكون يوم القيامة وعبر عن الشرائع بقوله أولاد لعلات كنى عن الشرائع بالعلات وهن الضرائر، فالأب واحد وهو دين الله الذي اجتمعت عليه الرسل، والشرائع التي تشبه العلات متنوعة.
وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما، ثم يحل في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وخفيفا فيزاد في الشدة في هذه دون هذه، وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.
قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: قوله لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً [المائدة:48] يقول: سبيلا وسنة، والسنن مختلفة، هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله غيره، التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وقيل: المخاطب بهذه الآية هذه الأمة ومعناه لكل جعلنا القرآن منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجا، أي هو لكم كلكم تقتدون به، وحذف الضمير المنصوب في قوله لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ أي جعلناه، يعني القرآن، شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أي سبيلا إلى المقاصد الصحيحة، وسنة أي طريقا ومسلكا واضحا بينا، هذا مضمون ما حكاه ابن جرير عن مجاهد رحمه الله.
والصحيح القول الأول، ويدل على ذلك قوله تعالى بعده وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [المائدة:48] فلو كان هذا خطابا لهذه الأمة، لما صح أن يقول وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وهم أمة واحدة، ولكن هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة، التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد، وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حدة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده، حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدا ﷺ، الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم، ولهذا قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ أي أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ليختبر عباده فيما شرع لهم ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله. وقال عبد الله بن كثير في ما آتاكم يعني من الكتاب.
ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها، فقال فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [المائدة:48] وهي طاعة الله واتباع شرعه الذي جعله ناسخا لما قبله، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله.الشيخ: وهذا حث من الله جل وعلا لعباده على أن يستبقوا الخيرات، وأن يسارعوا إلى الطاعات، كما بين أنه سبحانه جعل لكل شريعة ومنهاجًا تسير عليه أمته على حسب حكمته في تفصيل الشرائع والواجبات والمحرمات لكل رسول، ولكل أمة بين الحكمة في ذلك لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ليختبركم فيما آتاكم من الشرائع، وليظهر من عباده من يسابق ويسارع إلى الطاعات ومن يتأخر عن ذلك؛ فيجازى كل عامل بما يستحق من الخيرات أو ضدها، فالعبد يختبر، وهو مبتلى كما قال جل وعلا: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7] فالواجب على المؤمن أن يحذر التساهل والإعراض واتباع الهوى وأن يري الله من نفسه خيرًا بطاعته ومسارعته إلى ما يرضيه وابتعاده عن مناهيه حتى يحصل له ما وعد الله المتقين والمسارعين إلى الخيرات من عظيم الثواب ورفيع الدرجات.
ثم قال تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ [المائدة:48] أي معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق، فيجزي الصادقين بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان، بل هم معاندون للبراهين القاطعة، والحجج البالغة والأدلة الدامغة.
وقال الضحاك: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ يعني أمة محمد ﷺ، والأول أظهر.