باب قسم الصَّدقات
- عن أبي سعيدٍ الخدري قال: قال رسولُ الله ﷺ: لا تحلّ الصدقةُ لغنيٍّ إلا لخمسة: لعاملٍ عليها، أو رجلٍ اشتراها بماله، أو غارمٍ، أو غازٍ في سبيل الله، أو مسكينٍ تُصُدِّق عليه منها فأهدى منها لغنيٍّ.
رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وصحَّحه الحاكم، وأُعِلَّ بالإرسال.
- وعن عبيدالله بن عدي بن الخيار : أن رجلين حدَّثاه أنهما أتيا رسول الله ﷺ يسألانه من الصَّدقة، فقلَّب فيهما النظر، فرآهما جلدين، فقال: إن شئتُما أعطيتُكما، ولا حظَّ فيها لغنيٍّ ولا لقويٍّ مُكتَسِبٍ.
رواه أحمد، وقوَّاه أبو داود، والنَّسائي.
- وعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: قال رسولُ الله ﷺ: إنَّ المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثةٍ: رجل تحمَّل حمالةً، فحلَّت له المسألة حتى يُصيبها، ثم يُمْسِك، ورجل أصابته جائحةٌ اجتاحت مالَه، فحلَّت له المسألةُ حتى يُصيب قِوَامًا من عيشٍ، ورجل أصابته فاقةٌ حتى يقوم ثلاثةٌ من ذوي الحِجَى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ، فحلَّت له المسألة حتى يُصيب قِوَامًا من عيشٍ، فما سواهنَّ من المسألة يا قبيصة سُحْتٌ، يأكله صاحبُه سحتًا.
رواه مسلم، وأبو داود، وابن خزيمة، وابن حبَّان.
الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فهذه الأحاديث فيما يتعلق بقسم الصَّدقات، يعني: الزَّكوات، وقد تقدَّمت الأحاديث في صدقة التَّطوع، وهذا الباب فيما يتعلق بقسم صدقات الفريضة -الزكاة.
الحديث الأول: يقول ﷺ: إنَّ الصدقة يعني: الزكاة لا تحل لغنيٍّ إلا لخمسة: رجل اشتراها بماله، ولو أنه غنيٌّ، إذا اشتراها من الفقير فهي حلالٌ له، مثل: إنسان غني عنده غنمٌ أو ناقةٌ وفقير جاءته زكاةٌ من تمرٍ أو غيره وباعها، لا بأس أن يشتريها الغني بماله من الفقير، أو لعامل عليها، فالعُمَّال يُعطون من الزكاة على تعبهم، كما قال جلَّ وعلا: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا [التوبة:60]، أو غازٍ في سبيل الله كقوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، فالغُزاة يُعطون من الزكاة ليتقوا بذلك على الجهاد، أو غارم مدين؛ لقوله تعالى: وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ، فالمدين العاجز يُعطى من الزكاة، سواء كانت غرامته لإصلاح ذات البين أو لحاجات نفسه وحاجات عياله، إذا كان فقيرًا ما يستطيع يُعْطَى من الزكاة ما يسدُّ به دَينه.
الخامس: مسكينٌ تُصُدِّق عليه منها: فقير أُعطي من الزكاة، فأهدى منها لغنيٍّ، فمثلًا: زيد فقير، وأعطى أقاربه منها، وهم أغنياء، أو عزمهم يأكلوا عنده؛ فلا بأس إذا بلغت محلها، فإذا جاءه ضيوفٌ وأكلوا منها فلا بأس، ولو كانوا أغنياء، حتى صاحب الزكاة لو جاءه وزاره وقدَّم له جزءًا من تمره فلا بأس؛ لأنها بلغت محلها وصارت من ماله.
فالمسكين إذا أخذ الزكاة صارت من ماله، فلو زاره صاحبُ الزكاة وأكل من تمره أو من غيره من الزكاة لا بأس، أو أهدى منها لأقاربه الأغنياء أو جيرانه فلا بأس؛ لأنها بلغت محلها.
الثاني: حديث عبيدالله بن عدي بن الخيار، وهو ثقة: أن رجلين أتيا النبيَّ ﷺ يسألان من الصدقة -يشحذان من الصدقة- فقلَّب فيهما النظر، يعني: قلَّب بصره فيهما، فرآهما جَلْدَين، رآهما قويين يستطيعان العمل، فقال لهما: إن شئتُما أعطيتُكما، ولا حظَّ فيها لغنيٍّ ولا لقويٍّ مُكتَسِبٍ، إذا كنتم فقراء وليس لكما كسبٌ أعطيتُكما، يعني: وكل الأمرُ إليهما؛ لأنه يجهل حالهما، فإذا جاء إنسانٌ ظاهره القوة يُقال له: الصدقة ما تحلّ إذا كنتَ تستطيع الكسب، أو عندك كسب، أو عندك مال فلا تُعْطَى منها، فإذا قال: لا، أنا ما عندي شيءٌ، أو ما وجدتُ كسبًا، ما حصلت عملًا، وأنا فقيرٌ؛ يُعْطَى على ذمته.
المقصود أنه إذا كان الإنسانُ مجهولًا ويقول: ما عندي شيءٌ، ولو أني قوي لكني ما حصلت على عملٍ، أو ما عندي عمل، أو ما أجد شيئًا؛ يُعطى ويُوكَل إلى دينه وذمته، ولهذا قال ﷺ: إن شئتُما أعطيتُكما، ولا حظَّ يعني: مع العلم أنه لا حظَّ فيها لغنيٍّ إن كنتما أغنياء، ولا لقويٍّ مُكتسبٍ، أما قوي وما عنده كسبٌ فإنه يُعْطَى؛ لأنَّ بعض الناس يكون قويًّا لكن ما يجد عملًا، فيبقى مدةً ما يحصل على عملٍ، وهو محتاجٌ؛ فيُعطى من الصدقة.
والحديث الثالث حديث قبيصة بن مخارق الهلالي: يقول له النبيُّ ﷺ: إنَّ المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثةٍ يعني: جاء قبيصة يسأل، فأخبره النبيُّ ﷺ أنَّ المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثةٍ: رجل تحمَّل حمالةً، فحلَّت له المسألة حتى يُصيبها، ثم يُمسك يعني: للإصلاح بين الناس، كإنسانٍ تحمَّل مئة ألف أو مئتي ألف أو أقل أو أكثر ليُصلح بين الناس: بين قبيلتين، أو أهل بلدين، أو أقارب، أو غيرهم، وأعطاها وفرَّقها بينهم، فيُعطى حتى يُسدد ما عليه؛ لأنَّه مصلحٌ مُحسنٌ يُعطى من الزكاة ليُصلح، فهو داخلٌ في الغارمين؛ لقوله: وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60].
الثاني: إنسانٌ أصابته جائحةٌ، هو غنيٌّ لكن أصابته جائحةٌ فصار فقيرًا: حريق، أو سيل، أو نهب اللصوص ماله، فصار فقيرًا ليس عنده شيء؛ فإنه يُعطى من الزكاة حتى يُصيب قِوَامًا من عيشٍ، أو سدادًا من عيشٍ، يعني: حتى يحصل له ما يسد حاله.
الثالث: رجل أصابته فاقةٌ، كان معروفًا أنه غنيٌّ ومن أهل المال، فشهد شهودٌ أنه أصابته فاقةٌ: ذهب مالُه، أو سُرق، أو احترق، أو ما أشبه ذلك، فإذا شهد ثلاثةٌ من الثِّقات من قومه أنَّ ماله ذهب، وأنه صار فقيرًا؛ يُعطى ما دام أصله أنَّه من الأغنياء، يعني: شهدوا بشيءٍ يدل على صدقه، وما سواهنَّ من المسألة سُحْتٌ حرام، يأكله صاحبُه سُحْتًا.
هذا حديثٌ عظيمٌ، ضبط مَن تحلّ له المسألة ومَن لا تحل له، ففي هذه المسائل الثلاث تحل المسألة، وما عداها يكون السؤال حرامًا، والله يقول: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19]، فالسائل على هذا الوجه من هؤلاء الثلاثة له أن يُعطى، إذا كان من هذه الأصناف الثلاثة.
وفَّق الله الجميع.
الأسئلة:
س: الذي يسأل من بيت المال هل يكون داخلًا في هذا؟
ج: لا، ما هو بداخلٍ، فبيت المال له استثناء؛ لأنه مشتركٌ بين المسلمين، لكن الأولى والأفضل له الورع، مثلما قال النبيُّ ﷺ لحكيم: يا حكيم، إنَّ هذا المال حلوة خضرة، فمَن أخذه بسخاوة نفسٍ بُورك له فيه، ومَن أخذه بإشراف نفسٍ لم يُبارَك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، فقال حكيمٌ: لا أرزأ أحدًا بعدك أبدًا، أي: لا أسأل أحدًا بعدك أبدًا، فما سأل من بيت المال ولا غيره بعد ذلك.
س: ماذا يقصد بقوله: مَن أخذه بسخاوة نفسٍ؟
ج: ليس بجشعٍ، ولا حرصٍ، ولا شُحٍّ، ولكنه بطيب نفسٍ.
س: يقول السائل: ما يُسمَّى بالمناخ، هل في أخذه شيءٌ؟ وكذلك من العادة السَّنوية؟
ج: هذا من بيت المال، لا حرج، المناخ والعادة السنوية من بيت المال فلا حرج؛ لأنَّ بيت المال مشتركٌ، والذي يُغنيه الله تركه أولى له.
س: العادة السنوية ..؟
ج: العادة السنوية مثل المناخ، كلها واحد، تُسمَّى: عادة سنوية، وتُسمَّى ..
س: السُّحْت هل هو أشدُّ من الرِّبا؟
ج: السُّحت: الحرام مطلقًا، والربا من السُّحت، والسرقة من السُّحت، والخيانة من السُّحت، والظلم وقطع الطريق من السُّحت، وهكذا كل أنواع أخذ المال بغير حقِّه.
س: يتفاوتون في الجُرم؟
ج: لا شكَّ.
س: الكفيل الآن إذا كفل واحدًا في سيارةٍ هل يكون متحمِّلًا حمالةً؟
ج: لا، إذا كان فقيرًا يُعطى، وليس هو متحمِّلًا حمالةً، هذا من الغارمين، يدخل في الغارمين؛ لأنه ليس بالإصلاح، هذا يتحمَّل حمالةً في نفسه، أو لمصلحة واحدٍ مُعيَّنٍ.
س: ...............؟
ج: يدخل في الغارمين.
س: رجلٌ يأخذ سيارةً بالتَّقسيط، ثم يأخذ هذا المال ويتمتع به في زواجٍ أو في سفرٍ، وبعد فترةٍ تجتمع عليه الديون: مئتا ألف، أو مئتان وخمسون ألفًا، ثم يسأل الناس ويقول: أنا مديون؟
ج: هذا يدخل في الغارمين، فقوله: "تحمَّل حمالةً" يعمّ إصلاح ذات البين، والغارم.