الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وسلم على رسول الله.
في هذا الحديث الدلالة على فضل الاستعفاف وعدم التطلع لما عند الناس، وأن العفاف فيه خيرٌ عظيمٌ؛ ولهذا ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: قد أفلح مَن أسلم ورُزق كفافًا وقنَّعه الله بما آتاه خرَّجه مسلمٌ.
فهذه نعمةٌ عظيمةٌ، إذا رزق الله العبد العفاف والقناعة والاستغناء عمَّا في أيدي الناس، فهي من نِعم الله العظيمة: قد أفلح مَن أسلم ورُزق كفافًا وقنَّعه الله بما آتاه.
فحكيم بن حزام سأل النبي ﷺ، ثم سأله فأعطاه، ثم أعطاه، ثم قال: يا حكيم، إن هذا المال خضرةٌ حلوةٌ، محبوبٌ للنفوس، مُشتهًى، فمَن أخذه بسخاوة نفسٍ بُورك له فيه يعني: بقناعةٍ وعدم جشعٍ، ومَن أخذه بإشراف نفسٍ لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، فلما سمع هذه المقالة من النبي ﷺ قال حكيمٌ: والذي بعثك بالحق، لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا. يعني: لا أنقص أحدًا من بعدك شيئًا، لا أطلب شيئًا، ولا آخذ شيئًا من الناس؛ لأنه تأثر بهذه الكلمة العظيمة.
وكان الصديق يعرض عليه نصيبه من بيت المال، وهكذا عمر، فلا يقبل، وكان الصديق قد رتَّب للناس من بيت المال من الفيء كل سنةٍ شيئًا معلومًا؛ مُساعدةً للناس، ثم عمر كذلك، وكان حكيمٌ لا يقبل، قد وقع في قلبه ما أرشده إليه النبي ﷺ من القناعة والاستعفاف.
وفي روايةٍ أخرى من حديث حكيم: ومَن يستعفف يُعفه الله، ومَن يستغنِ يُغنه الله، وفي اللفظ الآخر: ومَن يتصبر يُصبره الله، وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر.
س: قول عمر : يا معشر المسلمين ..... من قبيل الإنكار؟
ج: لا، يعني: يُعلمهم أنه ما ترك حقَّه.
الشيخ: كذا عندكم؟
الطلاب: نعم.
الشيخ: تكلم على: "عن نافعٍ: أن عمر"؟ تكلم عليه الشارح؟
الطالب: قال بعده: وزاد جرير بن حازم: عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: من الخمس.
الشيخ: إيه، كمل، كمل: عن نافع.
القارئ: عن نافعٍ: أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله، إنه كان عليَّ اعتكاف يومٍ في الجاهلية؟ فأمره أن يفي به، قال: وأصاب عمرُ جاريتين من سبي حنين، فوضعهما في بعض بيوت مكة، قال: فمَنَّ رسول الله ﷺ على سبي حنين، فجعلوا يسعون في السكك، فقال عمر: يا عبدالله، انظر ما هذا؟ فقال: مَنَّ رسول الله ﷺ على السبي. قال: اذهب فأرسل الجاريتين.
قال نافعٌ: ولم يعتمر رسول الله ﷺ من الجعرانة، ولو اعتمر لم يخفَ على عبدالله.
وزاد جرير بن حازم: عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: من الخمس.
ورواه معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر في النذر، ولم يقل: يوم.
الشيخ: تكلم على الجعرانة: ولم يعتمر من الجعرانة؟ تكلم الشارح على قول نافع: ولم يعتمر من الجعرانة؟
القارئ: قوله: "قال نافع: ولم يعتمر رسولُ الله ﷺ من الجعرانة، ولو اعتمر لم يخفَ على عبدالله" هكذا رواه أبو النعمان شيخ البخاري مرسلًا، ووصله مسلمٌ وابن خزيمة جميعًا، عن أحمد بن عبدة، عن حماد بن زيد، فقال في روايته عن نافع: ذُكر عند ابن عمر عُمرة رسول الله ﷺ من الجعرانة، فقال: لم يعتمر منها.
وقد ذكرت في أبواب العمرة الأحاديث الواردة في اعتماره من الجعرانة، وتقدم في أواخر الجهاد في باب "من قسم الغنيمة في غزوه" أيضًا حديث أنسٍ في ذلك.
وذكرت في أبواب العمرة سبب خفاء عمرة النبي ﷺ من الجعرانة على كثيرٍ من أصحابه، فليُراجع منه، ومَن حفظ حُجَّة على مَن لم يحفظ.
قال ابن التين: ليس كل ما علمه ابن عمر حدَّث به نافعًا، ولا كل ما حدَّث به نافعًا حفظه.
قلت: وهذا يرده رواية مسلم التي ذكرتها، فإن حاصله أن ابن عمر كان يعرفها ولم يُحدث بها نافعًا، ودلَّت رواية مسلم على أن ابن عمر كان ينفيها.
قال: وليس كل ما علمه ابن عمر لم يدخل عليه فيه نسيانٌ. انتهى.
الشيخ: نعم، المقصود أن ابن عمر خفي عليه اعتمار النبي ﷺ من الجعرانة، واعتمار النبي ﷺ من الجعرانة ثابتٌ من طرقٍ كثيرةٍ، لما فرغ من قسم غنائم حنين اعتمر من الجعرانة عليه الصلاة والسلام، وكان ما جاء لحجٍّ ولا عمرةٍ، وإنما جاء لفتح مكة، لغزو قريش، فلما مَنَّ الله عليه بالفتح، ثم مَنَّ الله عليه بهزيمة هوازن، وانتهى من قسم غنائمهم، كان من شُكر الله أن دخل مكة مُعتمرًا من الجعرانة.
س: أحسن الله إليك، هذا ما يدل على جواز استرقاق العرب؟
ج: نعم، لا شك، النبي ﷺ استرقهم، نعم، والصحابة كذلك في غنائم بني حنيفة.
س: معنى: فلم يرزأ حكيم؟
ج: يرزأ: ينقصه، ما طلب من الناس شيئًا، استغنى عن الناس، يرزأ: ينقص، نعم.
3145- حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا جرير بن حازم: حدثنا الحسن، قال: حدثني عمرو بن تغلب ، قال: أعطى رسول الله ﷺ قومًا ومنع آخرين، فكأنهم عتبوا عليه، فقال: إني أُعطي قومًا أخاف ظلعهم وجزعهم، وأَكِلُ أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى، منهم عمرو بن تغلب، فقال عمرو بن تغلب: ما أُحب أن لي بكلمة رسول الله ﷺ حمر النعم.
وزاد أبو عاصم، عن جريرٍ قال: سمعت الحسن يقول: حدثنا عمرو بن تغلب: أن رسول الله ﷺ أُتي بمالٍ أو بسبيٍ فقسمه بهذا.
الشيخ: وهذا فيه دلالةٌ على أن ولي الأمر ينظر في الناس، ويُعطي مَن يرى إعطاءه، ويترك مَن يرى تركه، من باب تأليف الناس على الخير والإيمان والهدى، وحمايتهم من الجزع والردة؛ ولهذا جعل الله سبحانه للمُؤلفة قلوبهم حقًّا في الزكاة وفي بيت المال؛ ليقوى إيمانهم، وليدعوا بذلك إلى الدخول في الإسلام؛ ولهذا كان النبي ﷺ يتخول بالعطاء، وينظر غير العطاء الراتب السنوي الذي كان يُوزِّعه على الصحابة، هذه أشياء يخص بها بعض الناس للتأليف والدعوة وتقوية الإيمان، ويدع آخرين ممن عرف فيهم الغنى والخير، وعدم الحاجة، وعدم التأثر، منهم عمرو بن تغلب.
الشيخ: ومن هذا الباب قصة صفوان بن أمية، فإنه تأخَّر إسلامه يوم الفتح، وحضر هوازن وهو كافرٌ، قال : فلم يزل النبي يُعطيني حتى أدخل الله عليَّ الإسلام، وما كان وجهٌ أبغض إليَّ من رسول الله ﷺ، فما زال يُعطيني حتى صار أحبَّ الناس إليَّ عليه الصلاة والسلام.
المقصود أن المال والإحسان يُغير القلوب كثيرًا، ويجعل القلب بعد الوحشة فيه أُلفة، وبعد البغضاء فيه محبَّة، وهذا أمرٌ معلومٌ، نعم.
الشيخ: الله المستعان، نعم.
س: قوله: فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله ﷺ على الحوض؟
ج: وفي اللفظ الآخر: حتى تلقوني على الحوض، ومعناه: أنهم إذا لقوا الرسول ﷺ على الحوض فقد لقوا الله؛ لأن الله جلَّ وعلا قد يجتمع بهم يوم القيامة فيجزيهم بأعمالهم، ويُريهم وجهه الكريم .
الشيخ: وفي هذا حلمه ﷺ وصبره، كما قال الله له: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127]، ضحك ولم يقل له شيئًا، وفي اللفظ الآخر: قال: فإنك لا تُعطيني من مالك، ولا من مال أبيك! فأمر له بعطاءٍ، وحلم عليه، ولم يزجره، ولم يضربه، وهذا فيه الحث لولاة الأمور على الصبر والتَّحمل من الرعية، ومن الأعراب بالأخص؛ لأن الأعراب يغلب عليهم الجفاء في الفعل والقول، والواجب التحمل والصبر والحلم، وإعطاؤهم ما تُؤلف به قلوبهم، وتوجيههم إلى الخير، وتعليمهم، هكذا كان النبي ﷺ: يُعلم الأعراب، ويحلم، ويصبر.
وفيه من الفوائد: فائدة جواز لبس الثياب الواردة من بلاد الكفرة؛ لأن نجران كانت في يد النصارى ذاك الوقت، وهذا بُردٌ نجراني من بلادهم، وهكذا الجُبَّة الشامية التي كانت عليه حين غزوة تبوك، كل هذا يدل على جواز لبس ما يرد من الملابس من بلاد الكفرة، إلا إذا علم شيئًا من النجاسة فتُغسل.
س: أحسن الله إليك، موقف الأنصار في حديث أنسٍ بإعطاء الرسول ﷺ يُعتبر اعتراضهم على تصرف الرسول ﷺ؟
ج: أرادوا أن يستفسروا، تعجبوا، قالوا: يغفر الله لرسول الله! تعجبوا، يعني: ما هو السبب؟ نحن نقاتل، ويفتح الله لنا البلاد، ثم يُعطى هؤلاء ونُترك! ولهذا تعجبوا، فبين لهم في بعض الروايات أنه قال: ألم أجدكم ضُلَّالًا فهداكم الله بي؟ وعالةً فأغناكم الله بي؟ ومُتفرقين فجمعكم الله بي؟ كل مرةٍ يقولون: الله ورسوله أَمَنُّ.
وفي هذا يقول أنهم يرجعون بالمال، وترجعون برسول الله ﷺ إلى رحالكم، ما ترجعون به خيرٌ مما يرجعون به. وطيَّب نفوسهم، وبيَّن لهم الأسباب: أنه يتألفهم على الإسلام؛ لأنهم حُدثاء عهدٍ بالكفر، يخشى عليهم الردة، نعم.
س: يُؤخذ منه مشروعية مناقشة ولي الأمر؟
ج: نعم، ما في شيء، سؤاله إذا أشكل شيءٌ، سؤاله لإذهاب ما في النفوس طيبٌ.
الشيخ: الأقرع بن حابس من رؤساء تميم، وعيينة بن حصن رئيس فزارة، رؤساء في قومهم.
الشيخ: عمَّن؟
القارئ: عن عبدالله.
الشيخ: ابن مسعود، نعم، قبل عبدالله مَن؟
القارئ: حدثنا عثمان بن أبي شيبة: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبدالله .
الشيخ: يعني: عبدالله بن مسعود، نعم.
القارئ: قال: لما كان يوم حنين آثر النبي ﷺ أناسًا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مئةً من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسًا من أشراف العرب فآثرهم يومئذٍ في القسمة.
قال رجلٌ: والله إن هذه القسمة ما عُدل فيها، وما أُريد بها وجه الله. فقلت: والله لأُخبرن النبي ﷺ. فأتيته، فأخبرته، فقال: فمَن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟! رحم الله موسى، قد أُوذي بأكثر من هذا فصبر.
3151- حدثنا محمود بن غيلان: حدثنا أبو أسامة: حدثنا هشام، قال: أخبرني أبي، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: كنتُ أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله ﷺ على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ.
وقال أبو ضمرة: عن هشام، عن أبيه: أن النبي ﷺ أقطع الزبير أرضًا من أموال بني النضير.
3152- حدثني أحمد بن المقدام: حدثنا الفضيل بن سليمان: حدثنا موسى بن عقبة، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز، وكان رسول الله ﷺ لما ظهر على أهل خيبر أراد أن يُخرج اليهود منها، وكانت الأرض لما ظهر عليها لليهود وللرسول وللمسلمين، فسأل اليهودُ رسولَ الله ﷺ أن يتركهم على أن يكفوا العمل ولهم نصف الثمر، فقال رسول الله ﷺ: نُقركم على ذلك ما شئنا، فأقروا حتى أجلاهم عمرُ في إمارته إلى تيماء وأريحا.
الشيخ: وهذا فيه دلالةٌ على جواز استعمال الكفرة عند الحاجة في مصالح المسلمين، وإذا أمنوا على ما تحت أيديهم؛ ولهذا استعمل النبي ﷺ الكفار: اليهود على خيبر بالنصف، يقومون على نخيلها وأراضيها بالنصف، فلما كان في إمارة عمر أجلاهم؛ لأن الرسول ﷺ أوصى بإخراجهم من الجزيرة، فالجزيرة لا يجوز أن يُقر بها الكفار، بل يجب إجلاؤهم منها، لكن إذا كان في غير الجزيرة: كأن يُقروا في الشام، أو في مصر، أو في العراق من مصالح المسلمين؛ لا بأس، نعم.
س: قول الرجل: هذه القسمة ما عُدل فيها؟
ج: هذا من المنافقين، هذا نجم نفاقه؛ ولهذا صبر النبي ﷺ، قال: أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر، وفي روايةٍ قال: لا يبلغني أحدٌ منكم عن أصحابي شيئًا؛ فإني أُحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر، لكن في هذا صبر النبي ﷺ، وفي الرواية الأخرى: ويلك! خبت وخسرت إذا لم أعدل، فمَن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟!، تقدمت بعض هذه الروايات.
س: قوله: وكانت الأرض لما ظهر عليها لليهود وللرسول وللمسلمين؟
ج: يعني: بعدما تمَّ الصلح بينه وبينهم في بعضها، لما فتح الله عليه خيبر حصل الصلح في بعضها بينه وبين الكفار، فأراد أن يُجليهم، فقالوا: لو تركتنا نقوم عليها ونكفيكم العمل، ولكم النصف. فأقرَّهم؛ لأن المسلمين مشغولون بالجهاد.
س: يعني: نسبها إليهم؛ لأنهم بقوا فيها؟
ج: لا؛ لأنهم صولحوا على بعض الشيء منها، نعم.
س: قول أنسٍ: فلم نصبر؟
ج: يعني: حصل من طلب الإمارة أن الأنصار طالبوا أمراء من بعد الرسول ﷺ؛ من الصديق، ومن عمر، طلبوا بعض المساعدة.
س: لما أمر رسول الله ﷺ بإخراجهم من الجزيرة، أليست تيماء من الجزيرة؟
ج: كان على ظاهر عمر أنها تبع الشام، كأن عمر رأى أنها تبع الشام، والأظهر والأقرب -والله أعلم- أنها تبع الجزيرة، لكن كأنه رآها تابعةً للشام ذاك الوقت، نعم.