وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ [يونس:20] أي: ويقول هؤلاء الكفرة المكذِّبون المعاندون: لولا أُنزل على محمدٍ آيةٌ من ربِّه. يعنون كما أعطى الله ثمود النَّاقة، أو أن يُحوّل لهم الصَّفا ذهبًا، أو يُزيح عنهم جبال مكَّة ويجعل مكانها بساتين وأنهارًا، أو نحو ذلك مما الله عليه قادر، ولكنَّه حكيمٌ في أفعاله وأقواله، كما قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [الفرقان:10-11]، وكقوله: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ الآية [الإسراء:59].
يقول تعالى: إنَّ سُنَّتي في خلقي أني إذا آتيتهم ما سألوا، فإن آمنوا وإلا عاجلتهم بالعقوبة؛ ولهذا لما خُيّر رسولُ الله ﷺ بين إعطائهم ما سألوا، فإن آمنوا وإلا عُذِّبوا، وبين إنظارهم، اختار إنظارهم، كما حلم عنهم غير مرةٍ رسولُ الله ﷺ؛ ولهذا قال تعالى إرشادًا لنبيه ﷺ إلى الجواب عمَّا سألوا: فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ أي: الأمر كلّه لله، وهو يعلم العواقب في الأمور.
فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ أي: إن كنتم لا تُؤمنون حتى تُشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكمَ الله فيَّ وفيكم.
هذا مع أنَّهم قد شاهدوا من آياته ﷺ أعظم مما سألوا حين أشار بحضرتهم إلى القمر ليلة إبداره فانشقَّ اثنتين: فرقة من وراء الجبل، وفرقة من دونه. وهذا أعظم من سائر الآيات الأرضية مما سألوا وما لم يسألوا، ولو علم اللهُ منهم أنَّهم سألوا ذلك استرشادًا وتثبيتًا لأجابهم، ولكن علم أنَّهم إنما يسألون عنادًا وتعنتًا، فتركهم فيما رابهم، وعلم أنَّهم لا يؤمن منهم أحدٌ، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ الآية [يونس:96-97]، وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ الآية [الأنعام:111]، ولما فيهم من المكابرة، كقوله تعالى: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ الآية [الحجر:14]، وقوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا الآية [الطور:44]، وقال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام:7].
فمثل هؤلاء أقلّ من أن يُجابوا إلى ما سألوه؛ لأنَّه لا فائدةَ في جوابهم؛ لأنَّه دائرٌ على تعنتهم وعنادهم؛ لكثرة فجورهم وفسادهم؛ ولهذا قال: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ.
الشيخ: وهذا من لطف الله جلَّ وعلا، وعدم تعجيل العقوبة، لو عجّلت لهم العقوبة لهلكوا عن آخرهم؛ ولهذا قال ﷺ: بل أستأني بهم لما خُيّر أن يطبق عليهم جبلي مكّة أو يستأني بهم، قال: بل أستأني بهم لعلَّ الله يُخرج من أصلابهم مَن يعبده ولا يُشرك به شيئًا، .....، ثم فتح الله عليه مكّة، ويسّر الله لهم الدُّخول في الإسلام، فكانت هذه نعمةً عظيمةً وخيرًا كثيرًا، لو عُوجلوا بالعقاب لهلكوا، ولكن الله أنظرهم وأمهلهم حتى يسّر جلَّ وعلا نصر نبيِّه عليهم، وفتح مكّة عليهم حتى دخلوا في دين الله أفواجًا.
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [يونس:21-23].
يُخبر تعالى أنَّه إذا أذاق الناس رحمةً من بعد ضرَّاء مستهم: كالرَّخاء بعد الشّدة، والخصب بعد الجدب، والمطر بعد القحط، ونحو ذلك: إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قال مجاهد: استهزاء وتكذيب. كقوله: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا الآية [يونس:12].
وفي الصحيح: أنَّ رسول الله ﷺ صلَّى بهم الصبح على أثر سماءٍ كانت من الليل –أي: مطر- ثم قال: هل تدرون ماذا قال ربُّكم الليلة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافر؛ فأمَّا مَن قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذاك مؤمنٌ بي، كافرٌ بالكوكب، وأمَّا مَن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافرٌ بي، مؤمنٌ بالكوكب.
وقوله: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا أي: أشدّ استدراجًا وإمهالًا، حتى يظنّ الظانُّ من المجرمين أنَّه ليس بمُعذَّبٍ، وإنما هو في مهلةٍ، ثم يُؤخذ على غِرَّةٍ منه، والكاتبون الكرام يكتبون عليه جميع ما يفعله، ويُحصونه عليه، ثم يعرضونه على عالم الغيب والشَّهادة، فيُجازيه على الجليل والحقير، والنَّقير والقطمير.
ثم أخبر تعالى أنَّه هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي: يحفظكم ويكلؤكم بحراسته، حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا أي: بسرعة سيرهم رافقين، فبينما هم كذلك إذ جَاءَتْهَا أي: تلك السفن رِيحٌ عَاصِفٌ أي: شديدة، وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ أي: اغتلم البحرُ عليهم، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي: هلكوا، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: لا يدعون معه صنمًا ولا وثنًا، بل يُفردونه بالدُّعاء والابتهال، كقوله تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء:67].
وقال هاهنا: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ أي: هذه الحال لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي: لا نُشرك بك أحدًا، ولنفردنَّك بالعبادة هناك كما أفردناك بالدُّعاء هاهنا.
قال الله تعالى: فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ أي: من تلك الورطة إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي: كأن لم يكن من ذلك شيء: كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس:12].
ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أي: إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم، ولا تضرّون به أحدًا غيركم، كما جاء في الحديث: ما من ذنبٍ أجدر أن يُعجّل اللهُ عقوبته في الدنيا، مع ما يدّخر اللهُ لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرَّحم.
وقوله: مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أي: إنما لكم متاع في الحياة الدنيا الدَّنيئة الحقيرة، ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ أي: مصيركم ومآلكم، فَنُنَبِّئُكُمْ أي: فنُخبركم بجميع أعمالكم ونوفيكم إياها، فمَن وجد خيرًا فليحمد الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسه.