وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [التوبة:75-78].
يقول تعالى: ومن المنافقين مَن أعطى الله عهدَه وميثاقَه لئن أغناه من فضله ليصدقنَّ من ماله، وليكوننَّ من الصَّالحين، فما وفَّى بما قال، ولا صدق فيما ادَّعى، فأعقبهم هذا الصَّنيع نفاقًا سكن في قلوبهم إلى يوم يلقون الله يوم القيامة، عياذًا بالله من ذلك.
وقد ذكر كثيرٌ من المفسرين -منهم: ابن عباس، والحسن البصري- أنَّ سبب نزول هذه الآية الكريمة في ثعلبة بن حاطب الأنصاري.
وقد ورد فيه حديثٌ رواه ابنُ جرير هاهنا وابنُ أبي حاتم، من حديث معان بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن أبي عبدالرحمن القاسم بن عبدالرحمن مولى عبدالرحمن بن يزيد بن معاوية، عن أبي أمامة الباهلي، عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري: أنَّه قال لرسول الله ﷺ: ادعُ الله أن يرزقني مالًا. قال: فقال رسولُ الله ﷺ: ويحك يا ثعلبة! قليلٌ تُؤدِّي شُكره خيرٌ من كثيرٍ لا تُطيقه.
قال: ثم قال مرةً أخرى، فقال: أما ترضى أن تكون مثل نبي الله؟ فوالذي نفسي بيده، لو شئتُ أن تسير الجبال معي ذهبًا وفضَّةً لسارت، قال: والذي بعثك بالحقِّ، لئن دعوتَ الله فرزقني مالًا لأُعطينَّ كلّ ذي حقٍّ حقَّه. فقال رسولُ الله ﷺ: اللهم ارزق ثعلبة مالًا.
قال: فاتّخذ غنمًا، فنمت كما ينمو الدّود، فضاقت عليه المدينة، فتنحَّى عنها، فنزل واديًا من أوديتها، حتى جعل يُصلي الظهر والعصر في جماعةٍ، ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت، فتنحَّى حتى ترك الصَّلوات إلا الجمعة، وهي تنمو كما ينمو الدود، حتى ترك الجمعة، فطفق يتلقّى الركبان يوم الجمعة ليسألهم عن الأخبار.
فقال رسولُ الله ﷺ: ما فعل ثعلبة؟ فقالوا: يا رسول الله، اتخذ غنمًا فضاقت عليه المدينة. فأخبروه بأمره، فقال: يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة!.
وأنزل الله جلَّ ثناؤه: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً الآية [التوبة:103]، ونزلت فرائض الصَّدقة، فبعث رسولُ الله ﷺ رجلين على الصَّدقة من المسلمين: رجلًا من جُهينة، ورجلًا من سليم، وكتب لهما كيف يأخذان الصَّدقة من المسلمين، وقال لهما: مُرَّا بثعلبة وبفلان -رجل من بني سليم- فخُذَا صدقاتهما، فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصَّدقة، وأقرآه كتاب رسول الله ﷺ، فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، ما أدري ما هذا؟! انطلقا حتى تفرغا، ثم عودا إليَّ. فانطلقا.
وسمع بهما السّلمي، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصَّدقة، ثم استقبلهما بها، فلمَّا رأوها قالوا: ما يجب عليك هذا، وما نُريد أن نأخذ هذا منك. فقال: بلى، فخذوها، فإنَّ نفسي بذلك طيبة، وإنما هي لله. فأخذاها منه، ومرَّا على الناس، فأخذا الصَّدقات، ثم رجعا إلى ثعلبة، فقال: أروني كتابكما. فقرأه، فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، انطلقا حتى أرى رأيي.
فانطلقا حتى أتيا النبي ﷺ، فلمَّا رآهما قال: يا ويح ثعلبة! قبل أن يُكلّمهما، ودعا للسّلمي بالبركة، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة، والذي صنع السّلمي، فأنزل الله : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ الآية.
قال: وعند رسول الله ﷺ رجلٌ من أقارب ثعلبة، فسمع ذلك، فخرج حتى أتاه فقال: ويحك يا ثعلبة! قد أنزل اللهُ فيك كذا وكذا. فخرج ثعلبةُ حتى أتى النبي ﷺ، فسأله أن يقبل منه صدقته، فقال: ويحك! إنَّ الله منعني أن أقبل منك صدقتك، فجعل يحثو على رأسه التراب، فقال له رسولُ الله ﷺ: هذا عملك، قد أمرتُكَ فلم تُطعني.
فلمَّا أبى رسولُ الله ﷺ أن يقبل صدقته رجع إلى منزله، فقُبِضَ رسولُ الله ﷺ ولم يقبل منه شيئًا، ثم أتى أبا بكر حين استخلف، فقال: قد علمتَ منزلتي من رسول الله ﷺ، وموضعي من الأنصار، فاقبل صدقتي. فقال أبو بكر: لم يقبلها منك رسولُ الله ﷺ. وأبى أن يقبلها، فقُبِضَ أبو بكر ولم يقبلها.
فلمَّا ولي عمر أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، اقبل صدقتي. فقال: لم يقبلها رسولُ الله ﷺ، ولا أبو بكر، وأنا أقبلها منك؟! فقُبِضَ ولم يقبلها.
فلمَّا ولي عثمان أتاه فقال: اقبل صدقتي. فقال: لم يقبلها رسولُ الله ﷺ، ولا أبو بكر، ولا عمر، وأنا أقبلها منك؟! فلم يقبلها منه، فهلك ثعلبةُ في خلافة عثمان.
الشيخ: هذا الخبر ضعيفٌ، سنده ضعيفٌ، والأصل فيمَن تاب أنَّ الله يتوب عليه، مَن تاب وأناب تاب اللهُ عليه، ومَن تاب من نفاقه ورجع وصدق تاب اللهُ عليه، وهو جلَّ وعلا القائل: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ [الشورى:25]، وهو القائل جلَّ وعلا في كتابه الكريم: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وهو القائل سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8]، وهو القائل : أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:74].
فمَن تاب من نفاقه، ومن بخله، ومن سائر معاصيه، ومن كفره وشركه؛ تاب اللهُ عليه، سواء بخل بالصّدقة، ثم هداه الله، أو لم يصم، ثم هداه الله، أو لم يحج عن استطاعةٍ، ثم هداه الله، أو لم يُجاهد، ثم هداه الله، مَن تاب تاب اللهُ عليه، هذا هو الحقّ الذي لا ريبَ فيه.
س: ما سبب ضعف الحديث؟
ج: سنده فيه علي بن يزيد، سنده عندك؟
الشيخ: علي بن يزيد هذا ضعيفٌ.
س: الألهاني؟
ج: الألهاني، نعم.
وقوله تعالى: بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ الآية، أي: أعقبهم النِّفاق في قلوبهم بسبب إخلافهم الوعد وكذبهم، كما في "الصحيحين" عن رسول الله ﷺ أنَّه قال: آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وله شواهد كثيرة، والله أعلم.
وقوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ الآية، يُخبر تعالى أنَّه يعلم السّر وأخفى، وأنَّه أعلم بضمائرهم، وإن أظهروا أنَّه إن حصل لهم أموال تصدَّقوا منها، وشكروا عليها، فإنَّ الله أعلم بهم من أنفسهم؛ لأنَّه تعالى علَّام الغيوب، أي: يعلم كلّ غيبٍ وشهادةٍ، وكلّ سرٍّ ونجوى، ويعلم ما ظهر وما بطن.
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79].
وهذا أيضًا من صفات المنافقين: لا يسلم أحدٌ من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال، حتى ولا المتصدِّقون يسلمون منهم، إن جاء أحدٌ منهم بمالٍ جزيلٍ قالوا: هذا مُرَاءٍ! وإن جاء بشيءٍ يسيرٍ قالوا: إنَّ الله لغنيٌّ عن صدقة هذا! كما روى البخاري: حدثنا عبيدالله بن سعيد: حدثنا أبو النُّعمان البصري: حدثنا شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعودٍ.
الشيخ: عن ابن مسعودٍ.
مُداخلة: عن أبي مسعودٍ.
الشيخ: لعله في الأخير: عن أبي مسعودٍ، وإن كان أبو وائل من أصحاب عبدالله بن مسعود، مشهور عن أبي مسعود، الحديث هذا عن أبي مسعود الأنصاري، نعم.
فنزلت: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ الآية.
وقد رواه مسلمٌ أيضًا في "صحيحه" من حديث شعبة، به.
وقال الإمامُ أحمد: حدثنا يزيد: حدثنا الجريري، عن أبي السَّليل قال: وقف علينا رجلٌ في مجلسنا بالبقيع، فقال: حدثني أبي -أو عمِّي-: أنَّه رأى رسول الله ﷺ بالبقيع وهو يقول: مَن يتصدّق بصدقةٍ أشهد له بها يوم القيامة، قال: فحللتُ من عمامتي لوثًا أو لوثين، وأنا أُريد أن أتصدّق بهما، فأدركني ما يُدرك ابن آدم، فعقدتُ على عمامتي، فجاء رجلٌ -لم أرَ بالبقيع رجلًا أشدّ منه سوادًا، ولا أصغر منه، ولا أدم- ببعيرٍ ساقه -لم أرَ بالبقيع ناقةً أحسن منها- فقال: يا رسول الله، أصدقة؟ قال: نعم، قال: دونك هذه الناقة. قال: فلمزه رجلٌ فقال: هذا يتصدق بهذه! فوالله لهي خيرٌ منه! قال: فسمعها رسولُ الله ﷺ، فقال: كذبتَ، بل هو خيرٌ منك ومنها ثلاث مرات، ثم قال: ويلٌ لأصحاب المئين من الإبل ثلاثًا، قالوا: إلا مَن يا رسول الله؟ قال: إلا مَن قال بالمال هكذا وهكذا، وجمع بين كفَّيه عن يمينه وعن شماله، ثم قال: قد أفلح المزهد المجهد ثلاثًا. المزهد في العيش، المجهد في العبادة.
وقال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ في هذه الآية، قال: جاء عبدالرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهبٍ إلى رسول الله ﷺ، وجاءه رجلٌ من الأنصار بصاعٍ من طعامٍ، فقال بعضُ المنافقين: والله ما جاء عبدالرحمن بما جاء به إلا رياءً! وقالوا: إنَّ الله ورسوله لغنيان عن هذا الصَّاع!
وقال العوفي: عن ابن عباسٍ: إنَّ رسول الله خرج إلى الناس يومًا فنادى فيهم: أن اجمعوا صدقاتكم. فجمع الناس صدقاتهم، ثم جاء رجلٌ من آخرهم بصاعٍ من تمرٍ، فقال: يا رسول الله، هذا صاعٌ من تمرٍ بتُّ ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمرٍ، فأمسكتُ أحدهما، وأتيتُك بالآخر. فأمره رسولُ الله ﷺ أن ينثره في الصّدقات، فسخر منه رجالٌ وقالوا: إنَّ الله ورسوله لغنيان عن هذا! وما يصنعون بصاعك من شيءٍ؟!
ثم إنَّ عبدالرحمن بن عوف قال لرسول الله ﷺ: هل بقي أحدٌ من أهل الصّدقات؟ فقال رسولُ الله ﷺ: لم يبقَ أحدٌ غيرك، فقال له عبدالرحمن بن عوف: فإنَّ عندي مئة أوقية من ذهبٍ في الصَّدقات. فقال له عمر بن الخطاب : أمجنونٌ أنت؟! قال: ليس بي جنونٌ. قال: أفعلت ما فعلت؟ قال: نعم، مالي ثمانية آلاف، أما أربعة آلاف فأقرضها ربي، وأما أربعة آلاف فلي. فقال له رسولُ الله ﷺ: بارك الله لك فيما أمسكتَ، وفيما أعطيتَ.
ولمزه المنافقون فقالوا: والله ما أعطى عبدالرحمن عطيته إلا رياءً! وهم كاذبون، إنما كان به مُتطوعًا، فأنزل الله عُذرَه وعُذر صاحبه المسكين الذي جاء بالصَّاع من التَّمر، فقال تعالى في كتابه: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ الآية.
س: أحسن الله إليك، قول النبي ﷺ: ويلٌ لأصحاب المئين من الإبل؟
ج: إن صحَّ يعني: إذا بخلوا بالحقِّ هم وغيرهم، نعم.
س: قوله: فأدركني ما يُدرك ابن آدم؟
ج: يعني: من البخل.
وهكذا رُوي عن مجاهد وغير واحدٍ.
وقال ابنُ إسحاق: كان من المطوّعين من المؤمنين في الصّدقات عبدالرحمن بن عوف، تصدّق بأربعة آلاف درهم، وعاصم بن عدي، أخو بني العجلان، وذلك أنَّ رسول الله ﷺ رغَّب في الصَّدقة وحضَّ عليها، فقام عبدالرحمن بن عوف فتصدّق بأربعة آلاف، وقام عاصم بن عدي وتصدّق بمئة وسقٍ من تمرٍ، فلمزوهما، وقالوا: ما هذا إلا رياء! وكان الذي تصدق بجهده: أبو عقيل، أخو بني أنيف الإراشي، حليف بني عمرو بن عوف، أتى بصاعٍ من تمرٍ، فأفرغه في الصَّدقة، فتضاحكوا به وقالوا: إنَّ الله لغنيٌّ عن صاع أبي عقيل.
س: حديث ثعلبة ضعيفٌ من جهة المتن؟
ج: ..... ما هو بصحيحٍ من أجل علي بن يزيد، لا يُحتجّ به.
س: هذا سنده، والمتن كذلك؟
ج: الآية فيها ذمّ مَن يبخل، نسأل الله العافية.
س: .............؟
ج: ما أعلم شيئًا، أقول: النصوص واضحة، نصوص القرآن واضحة، نسأل الله العافية.
س: يكون ضعيفًا من جهتين: من جهة السند، ومن جهة المتن؟
ج: متنه فيه شذوذ ونكارة، لكن العُمدة على ضعف السَّند.