وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ [الأنعام:100].
هذا ردٌّ على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره، وأشركوا به في عبادته: أن عبدوا الجنَّ، فجعلوهم شُركاء له في العبادة، تعالى الله عن شركهم وكفرهم.
فإن قيل: فكيف عُبدت الجنّ مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟
فالجواب: أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجنِّ وأمرهم إياهم بذلك، كقوله: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء:117-120].
الشيخ: والمعنى: أنَّ الجنَّ زيّنت لهم عبادة الأصنام والأوثان وغرّتهم، وربما كلّمتهم حتى ظنّوا أنَّ الأصنام تكلّمت، كما كان يقع ذلك من العزى واللَّات ومناة؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ، فالجنّ هي التي زيّنت لهم الشِّرك، وزيّنت لهم الباطل، ودعتهم إليه، فهم في الحقيقة عبدوهم من دون الله، وإلا فالأصنام جماد، والأشجار والنجوم وأشباهها جماد، ليس في أيديها شيء: لا حلّ، ولا عقد، ولا كلام، ولكن الشياطين تكلّمهم، وتُزين لهم، وتدعوهم، فنسبت العبادة إليهم، نسأل الله العافية، وهذا هو الواقع ..... في المشركين؛ ولهذا لما هدم خالد العزى يوم الفتح أمره الرسول أن يرجع، قال: حتى الآن ما قتلتها، فرجع، فإذا جنية نافشة شعرها، فعمّها بالسيف فقتلها.
المقصود أنَّ الشياطين زيّنت لهم الباطل، ودعتهم إلى الشِّرك مع اللات والعزى، ومع غيرهما من الأصنام.
وكقوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي الآية [الكهف:50].
وقال إبراهيم لأبيه: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [مريم:44]، وكقوله: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:60-61].
وتقول الملائكةُ يوم القيامة: سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:41]؛ ولهذا قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ أي: وخلقهم، فهو الخالق وحده لا شريكَ له، فكيف يُعبد معه غيره؟
كقول إبراهيم: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:95-96]، ومعنى الآية: أنَّه هو المستقلّ بالخلق وحده؛ فلهذا يجب أن يُفرد بالعبادة وحده لا شريكَ له.
وقوله تعالى: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ يُنَبّه به تعالى عن ضلال مَن ضلَّ في وصفه تعالى بأنَّ له ولدًا، كما يزعم مَن قاله من اليهود في عُزير، ومَن قال من النَّصارى في عيسى، ومَن قال من مُشركي العرب في الملائكة: إنها بنات الله، تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
ومعنى: وَخَرَقُوا أي: اختلقوا وائتفكوا وتخرَّصوا وكذبوا، كما قاله علماء السَّلف: قال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ: وَخَرَقُوا يعني: تخرّصوا.
وقال العوفي عنه: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ قال: كذبوا. وكذا قال الحسن.
وقال الضَّحاك: وضعوا.
وقال السدي: قطعوا.
قال ابنُ جرير: وتأويله إذًا: وجعلوا لله الجنّ شركاء في عبادتهم إياهم، وهو المنفرد بخلقهم بغير شريكٍ ولا مُعينٍ ولا ظهيرٍ.
وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ يقول: وتخرَّصوا لله كذبًا، فافتعلوا له بنين وبنات بغير علمٍ منهم بحقيقة ما يقولون، ولكن جهلًا بالله وبعظمته، فإنَّه لا ينبغي لمن كان إلهًا أن يكون له بنون وبنات، ولا صاحبة، ولا أن يشركه في خلقه شريكٌ.
ولهذا قال: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ أي: تقدّس وتنزه وتعاظم عمَّا يصفه هؤلاء الجهلة الضَّالون من الأولاد والأنداد والنُّظراء والشُّركاء.
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنعام:101].
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي: مُبدعهما، وخالقهما، ومُنشئهما، ومُحدثهما على غير مثالٍ سبق، كما قال مجاهد والسدي، ومنه سُميت البدعة: بدعةً؛ لأنَّه لا نظيرَ لها فيما سلف.
أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ أي: كيف يكون ولد وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ أي: والولد إنما يكون مُتولدًا بين شيئين مُتناسبين؟! والله تعالى لا يُناسبه ولا يُشابهه شيء من خلقه؛ لأنَّه خالق كل شيءٍ، فلا صاحبةَ له ولا ولد، كما قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا إلى قوله: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:88-95].
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فبين تعالى أنَّه الذي خلق كل شيءٍ، وأنه بكل شيءٍ عليم، فكيف تكون له صاحبة من خلقه تُناسبه، وهو الذي لا نظيرَ له؟! فأنى يكون له ولد؟! تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:102-103].
يقول تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي: الذي خلق كل شيءٍ، ولا ولدَ له ولا صاحبة.
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ أي: فاعبدوه وحده لا شريكَ له، وأقرّوا له بالوحدانية، وأنَّه لا إله إلا هو، وأنَّه لا ولدَ له، ولا والدَ، ولا صاحبةَ له، ولا نظيرَ، ولا عديلَ.
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي: حفيظ ورقيب، يُدبر كلّ ما سواه، ويرزقهم، ويكلؤهم بالليل والنَّهار.
وقوله: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فيه أقوال للأئمة من السَّلف:
أحدها: لا تُدركه في الدنيا، وإن كانت تراه في الآخرة كما تواترت به الأخبار عن رسول الله ﷺ من غير ما طريقٍ ثابتٍ في الصّحاح والمسانيد والسنن، كما قال مسروق، عن عائشةَ أنها قالت: "مَن زعم أنَّ محمدًا أبصر ربَّه فقد كذب -وفي روايةٍ: على الله-، فإنَّ الله تعالى قال: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَار". رواه ابنُ أبي حاتم من حديث أبي بكر ابن عياش، عن عاصم ابن أبي النّجود، عن أبي الضُّحى، عن مسروق. ورواه غير واحدٍ عن مسروق، وثبت في الصحيح وغيره عن عائشةَ من غير وجهٍ، وخالفها ابنُ عباسٍ، فعنه: إطلاق الرؤية، وعنه: أنَّه رآه بفؤاده مرتين، والمسألة تُذكر في أول سورة النجم، إن شاء الله.
الشيخ: والصواب أنَّه لم يره أحدٌ في الدنيا، وإنما رأى النبيُّ ﷺ نورًا، قال: رأيتُ نورًا، أنَّى أراه؟ وقال عليه الصلاة والسلام: واعلموا أنَّه لن يرى منكم أحدٌ ربَّه حتى يموت، ولما طلب موسى الرؤية قال الله له: انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143].
المقصود أنَّه سبحانه لا يُرى في الدنيا، ولكن يُرى في الآخرة، يراه المؤمنون في الآخرة يوم القيامة، وفي الجنة، أما هذه الدار فهي دار العمل، دار الابتلاء والامتحان، وليست دار النَّعيم، فالرؤية من النَّعيم، ولا يُرى إلا في الآخرة؛ ولهذا قال: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أي: لا تُحيط به، وإن رأته في الآخرة فهي تراه من غير إحاطةٍ، يرونه من غير أن يُحيطوا به جلَّ وعلا، وأما في الدنيا فلا يُرى بالكلية، وفي الآخرة يُرى ولكن من دون إحاطةٍ.
س: قول النبي عليه الصلاة والسلام: رأيتُ ربي في أحسن صورةٍ؟
ج: يعني: رؤية المنام.
وقال ابنُ أبي حاتم: ذكر محمدُ بن مسلم: حدثنا أحمد بن إبراهيم الدّورقي: حدثنا يحيى بن معين، قال: سمعتُ إسماعيل ابن عُلية يقول في قول الله تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ قال: هذا في الدنيا. وذكر أبي عن هشام بن عبدالله أنَّه قال نحو ذلك.
وقال آخرون: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أي: جميعها. وهذا مُخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الآخرة.
وقال آخرون من المعتزلة بمُقتضى ما فهموه من هذه الآية: إنَّه لا يُرى في الدنيا، ولا في الآخرة. فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك، مع ما ارتكبوه من الجهل بما دلَّ عليه كتابُ الله وسنة رسوله.
أما الكتاب: فقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وقال تعالى عن الكافرين: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، قال الإمامُ الشَّافعي: فدلَّ هذا على أنَّ المؤمنين لا يُحجبون عنه تبارك وتعالى.
أما السنة: فقد تواترت الأخبارُ عن أبي سعيدٍ، وأبي هريرة، وأنس، وجُريج، وصُهيب، وبلال، وغير واحدٍ من الصحابة، عن النبي ﷺ: أنَّ المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة: في العرصات، وفي روضات الجنات، جعلنا الله تعالى منهم بمنِّه وكرمه، آمين.
الشيخ: وهذا محل إجماعٍ، أجمع أهلُ السنة والجماعة على أنَّه يُرى سبحانه في الجنة، وفي الموقف، يراه المؤمنون، ولا يراه الكافرون: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}، خلافًا للمُعتزلة والجهمية ومَن سلك سبيلهم، قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون.
س: العرصات .....؟
ج: عرصات القيامة، يعني: قبل الصِّراط.
س: إنكار الرؤية كفر؟
ج: نعم، تكذيبٌ لله ولرسوله.
الشيخ: والصواب أنَّهما قولان:
أحدهما: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أي: لا تُحيط به، وإن رأته في الآخرة، لكن لا تُحيط به، هو أجلّ وأعظم من أن تُحيط به أبصار خلقه.
والقول الثاني: أنَّ معنى: لَا تُدْرِكُهُ لا تراه، يعني: في الدنيا خاصّة، وأما في الآخرة فيراه المؤمنون. هذا هو قول أهل السنة والجماعة: أنَّ الآية تُفسّر بأنَّه لا يُرى في الدنيا، وأنَّه يُرى في الآخرة، ولكن من دون إحاطةٍ، بل يرون وجهه الكريم، ولكن لا يُحيطون به رؤية، كما لا يُحيطون به علمًا ، نعم.
س: والأقرب في القولين؟
ج: كلاهما صحيح، كلا القولين صحيحٌ.
الشيخ: ولهذا قال جلَّ وعلا: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، فالترائي شيء، والإدراك شيء: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61-62]، فالإدراك: الإحاطة، غير مجرد الرؤية، قد يرى الشّيء من بعيدٍ، ولكن لا يُدركه على التَّمام حتى يقرب، نعم.
ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ما هو؟
فقيل: معرفة الحقيقة، فإنَّ هذا لا يعلمه إلا هو، وإن رآه المؤمنون، كما أنَّ مَن رأى القمر فإنَّه لا يُدرك حقيقته وكُنهه وماهيّته، فالعظيم أولى بذلك، وله المثل الأعلى. قال ابنُ علية في الآية: هذا في الدنيا. رواه ابنُ أبي حاتم.
وقال آخرون: الإدراك أخصّ من الرؤية، وهو الإحاطة، ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم، قال تعالى: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، وفي "صحيح مسلم": لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك، ولا يلزم منه عدم الثَّناء، فكذلك هذا.
قال العوفي: عن ابن عباسٍ في قوله تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ قال: لا يُحيط بصرُ أحدٍ بالملك.
س: ..............؟
ج: كلاهما صحيح، لا تُحيط به في الدنيا، ولا في الآخرة، ولكنَّها تراه في الآخرة، رؤية الآخرة، والإحاطة لا تكون في الدنيا، ولا في الآخرة، هو أجلّ وأعظم من أن تُحيط به أبصار خلقه .