وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا طالوت بن عباد: حدثنا أبو عوانة، عن عمر ابن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: تصدّقوا، فإني أريد أن أبعث بعثًا. قال: فجاء عبدالرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله، عندي أربعة آلاف، ألفين أقرضهما ربي، وألفين لعيالي. فقال رسولُ الله ﷺ: بارك الله لك فيما أعطيت، وبارك لك فيما أمسكت، وبات رجلٌ من الأنصار فأصاب صاعين من تمرٍ، فقال: يا رسول الله، أصبتُ صاعين من تمرٍ: صاع أقرضه لربي، وصاع لعيالي. قال: فلمزه المنافقون وقالوا: ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياءً. وقالوا: ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟! فأنزل الله: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ [التوبة:79] الآية.
ثم رواه عن أبي كامل، عن أبي عوانة، عن عمر ابن أبي سلمة، عن أبيه مرسلًا، قال: ولم يُسنده أحدٌ إلا طالوت.
الشيخ: "التقريب" موجود؟
الطالب: نعم يا شيخ.
الشيخ: انظر: طالوت بن عباد، طالوت شيخ البزار.
الطالب: "ميزان الاعتدال": طالوت بن عباد، الصيرفي، صاحب تلك النسخة العالية، شيخ معمر، ليس به بأس، قال أبو حاتم: صدوق. وأما ابن جوزي فقال من غير تثبتٍ: ضعّفه علماء النَّقل. قلت: إلى الساعة أفتش، فما وقفت لأحدٍ ضعفه، وقد وقع لي حديثٌ بعلو في "المنتقى" من حديثه المخلص، ومات سنة ثمانٍ وثلاثين ومئتين، وله أكثر من تسعين سنةً.
الشيخ: نعم، ما عندك أحد غيره؟
الطالب: ما في غيره، بارك الله فيك.
الشيخ: في "التقريب" موجود؟
الطالب: غير موجود.
الشيخ: المقصود من هذا وأشباهه هو التَّحذير من صفات المنافقين، فالمنافقون شرّهم واسع، إن أحسن المحسنون قالوا: مُراؤون. وإن جاء الفقيرُ بطاقته وما عنده قالوا: هذا ليس لله حاجةٌ في صدقته؛ لقلّتها؛ ولهذا ذمَّهم الله وعابهم فقال: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وعيدٌ عظيمٌ.
فالمؤمن يتصدّق بما يتيسر، ولو بالقليل، وينبغي أن يشكر على هذا، يقول النبي ﷺ: ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلّمه ربّه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار، فاتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ، فمَن لم يجد فبكلمةٍ طيبةٍ، هذا توجيهه عليه الصلاة والسلام، رواه الشيخان في "الصحيحين".
وفي "صحيح البخاري" عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: جاءت إليَّ امرأة ومعها ابنتان تشحذ –تسأل- فلم أجد في البيت إلا ثلاث تمرات، فأعطيتها إياها، فأعطت كلّ واحدةٍ من ابنتيها تمرةً، ثم رفعت الثالثة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها التَّمرة الثالثة، فشقّتها بينهما نصفين، ولم تأكل شيئًا، قالت: فأعجبني شأنها، فلمَّا جاء النبي أخبرته، فقال: إنَّ الله أوجب لها بها الجنة، تمرة واحدة شقّتها بين ابنتيها.
المقصود أنَّ المؤمن يتصدّق ولو بالقليل، ولا يستقلّ، يتصدق بما يسّر الله له: اتَّقوا النار ولو بشقّ تمرةٍ، وله عند الله الأجر العظيم، مع صلاح النية، ومع الإخلاص، فهو على خيرٍ عظيمٍ.
المصيبة في البخل: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد:38]، والله يقول: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]، والرسول يقول ﷺ: الصدقة تُطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماءُ النار، نعم.
وقال الإمام أبو جعفر ابن جرير: حدثنا ابنُ وكيع: حدثنا زيد بن الحباب، عن موسى بن عبيدة: حدثني خالد بن يسار، عن ابن أبي عقيل، عن أبيه قال: بتّ أجر الجرير على ظهري على صاعين من تمرٍ، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلّغون به، وجئتُ بالآخر أتقرّب إلى رسول الله ﷺ، فأتيتُه، فأخبرته، فقال: انثره في الصَّدقة، قال: فسخر القومُ وقالوا: لقد كان الله غنيًّا عن صدقة هذا المسكين. فأنزل الله: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ الآيتين.
وكذا رواه الطبراني من حديث زيد بن حباب، به، وقال: اسم أبي عقيل حباب، ويقال: عبدالرحمن بن عبدالله بن ثعلبة.
مُداخلة: أحسن الله إليك، عندنا اسمه: حبحاب، وذكر تعليقًا يقول: في المخطوطة: حباب، وينظر: ترجمة حبحاب في "أسد الغابة".
الشيخ: نعم، حطّ نسخة: حبحاب.
وقوله: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ هذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين؛ لأنَّ الجزاء من جنس العمل، فعاملهم معاملة مَن سخر منهم؛ انتصارًا للمؤمنين في الدنيا، وأعدّ للمُنافقين في الآخرة عذابًا أليمًا؛ لأنَّ الجزاء من جنس العمل.
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:80].
يُخبر تعالى نبيَّه ﷺ بأنَّ هؤلاء المنافقين ليسوا أهلًا للاستغفار، وأنَّه لو استغفر لهم سبعين مرةً فلن يغفر اللهُ لهم.
وقد قيل: إنَّ السبعين إنما ذُكرت حسمًا لمادة الاستغفار لهم؛ لأنَّ العرب في أساليب كلامها تذكر السَّبعين في مُبالغة كلامها، ولا تُريد التَّحديد بها، ولا أن يكون ما زاد عليها بخلافها.
وقيل: بل لها مفهوم، كما روى العوفي، عن ابن عباسٍ: أنَّ رسول الله ﷺ قال لما نزلت هذه الآية: أسمع ربي قد رخّص لي فيهم، فوالله لأستغفرنَّ لهم أكثر من سبعين مرةً، لعلَّ الله أن يغفر لهم، فقال الله من شدّة غضبه عليهم: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية [المنافقون:6].
وقال الشَّعبي: لما ثقل عبدالله بن أبي انطلق ابنُه إلى النبي ﷺ فقال: إنَّ أبي قد احتضر، فأُحبّ أن تشهده وتُصلي عليه. فقال له النبي ﷺ: ما اسمك؟ قال: الحباب بن عبدالله. قال: بل أنت عبدالله بن عبدالله، إنَّ الحباب اسم شيطان.
الشيخ: هذا أثرٌ غير صحيحٍ؛ لأنَّ الشعبي لم يُدرك النبي ﷺ، والحباب اسم معروف في الصحابة: الحباب بن المنذر، وعبدالله بن عبدالله بن أبي أمره معروفٌ عند النبي ﷺ، صحابي جليل معروف عند النبي ﷺ، فهذا الأثر ليس بشيءٍ، بل هو أثرٌ باطلٌ.
فانطلق معه حتى شهده، وألبسه قميصه، وهو عرق، وصلَّى عليه، فقيل له: أتُصلي عليه وهو مُنافق؟! فقال: إنَّ الله قال: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً، ولأستغفرنَّ لهم سبعين وسبعين وسبعين.
وكذا رُوي عن عروة بن الزبير، ومجاهد بن جبير، وقتادة بن دعامة. ورواه ابنُ جرير بأسانيده.
الشيخ: أصل الحديث صحيحٌ في قصّة عبدالله وطلبه من النبي ﷺ أن يُلبسه قميصه، هذا ثابتٌ عن النبي ﷺ، لكن الغلط في إنكار اسم حباب، وسؤاله عن عبدالله، وهو معروفٌ عنده عليه الصلاة والسلام، هذا هو محل إنكار الأثر، أما أصل الحديث فمعروف.
س: يكون "حباب" لا شيء فيه، التَّسمية؟
ج: نعم، لا حرجَ فيه.
س: ..... أطلق على شيطان؟
ج: ليس بشيءٍ، هذا الأثر ليس بشيءٍ.
س: الاستغفار والتَّرحم لأهل البدع؟
ج: مَن عُرف بالإسلام يستغفر له، ويُدعا للكافر بالهداية، النبي ﷺ قال: اللهم اهدِ دوسًا وائتِ بهم.
س: الذي قد مات من أهل البدع؟
ج: إذا كان مسلمًا يُدعا له، إذا كانت بدعته ما أخرجته من الكفر يُدعا له.
مُداخلة: عندي زيادة في الحاشية: ..... الحباب -بضم الحاء-: الحية. قال ابنُ الأثير: ويقع على الحية أيضًا، كما يُقال لها: شيطان، فهما مُشتركان فيه.
الشيخ: المقصود أن الأثر هذا ما هو بصحيح، أثر الشَّعبي هذا ما هو بصحيح.
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة:81-82].
يقول تعالى ذامًّا للمُنافقين المتخلّفين عن صحابة رسول الله ﷺ في غزوة تبوك، وفرحوا بقعودهم بعد خروجه، وكرهوا أن يُجاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وَقَالُوا أي: بعضهم لبعضٍ لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، وذلك أنَّ الخروج في غزوة تبوك كان في شدّة الحرِّ عند طيب الظِّلال والثِّمار؛ فلهذا قالوا: لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، قال الله تعالى لرسوله ﷺ: قل لهم: نار جهنم التي تصيرون إليها بمُخالفتكم أشدّ حرًّا مما فررتم منه من الحرِّ، بل أشدّ حرًّا من النار.
كما قال الإمام مالك: عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله ﷺ قال: نار بني آدم التي تُوقدونها جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، فقالوا: يا رسول الله، إن كانت لكافية. فقال: فُضّلت عليها بتسعةٍ وستين جزءًا. أخرجاه في "الصحيحين" من حديث مالك، به.
الشيخ: وهذا يدلّ على أنَّ نار جهنم أشدّ حرًّا سبعين مرةً من هذه النار، نار جهنم أشدّ حرًّا من نارنا هذه بتسعةٍ وستين جزءًا، يعني: فُضّلت عليها بالمزيد: تسعة وستين جزءًا، كلهم مثل حرّها، نسأل الله العافية، نعم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: إنَّ ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، وضربت في البحر مرتين، ولولا ذلك ما جعل اللهُ فيها منفعةً لأحدٍ. وهذا أيضًا إسناده صحيح.
وقد روى الإمامُ أبو عيسى الترمذي، وابن ماجه: عن عباس الدّوري.
الشيخ: عباس الدّوري: عباس بن محمد، نعم.
وعن يحيى ابن أبي بُكير، عن شريك، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: أوقد اللهُ على النار ألف سنة حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودّت، فهي سوداء كالليل المظلم.
ثم قال الترمذي: لا أعلم أحدًا رفعه غير يحيى. كذا قال.
وقد رواه الحافظُ أبو بكر ابن مردويه، عن إبراهيم بن محمد، عن محمد بن الحسين بن مكرم، عن عبيدالله بن سعد، عن عمِّه، عن شريك -وهو ابن عبدالله- النَّخعي، به.
وروى أيضًا ابنُ مردويه، من رواية مبارك بن فضالة، عن ثابت بن أنس قال: تلا رسولُ الله ﷺ: نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، قال: أوقد عليها ألف عامٍ حتى ابيضّت، وألف عام حتى احمرّت، وألف عام حتى اسودّت، فهي سوداء كالليل لا يُضيء لهبها.
وروى الحافظ أبو القاسم الطّبراني من حديث تمام بن نجيح -وقد اختُلف فيه- عن الحسن، عن أنسٍ رفعه: لو أنَّ شرارةً بالمشرق –أي: من نار جهنم- لوجد حرَّها مَن بالمغرب.
وروى الحافظ أبو يعلى، عن إسحاق ابن أبي إسرائيل، عن أبي عبيدة الحداد، عن هشام بن حسان، عن محمد بن شبيب، عن جعفر ابن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: لو كان في هذا المسجد مئة ألفٍ أو يزيدون، وفيهم رجلٌ من أهل النار، فتنفّس، فأصابهم نَفَسُه؛ لاحترق المسجد ومَن فيه. غريب.
س: أحسن الله إليكم، حديث: أوقد على النار ألف سنة هل يصحّ؟
ج: السند الأول جيد، السند الأول أيش؟ حدثنا؟
الشيخ: لا بأسَ به، نعم، شريك فيه ضعف، مدلس، لكن لا بأسَ به، شريك بن عبدالله القاضي، نعم.
مُداخلة: في نسخة: "عن عباس الدّوري، عن يحيى" بدون الواو.
الشيخ: محتمل، يُراجع الترمذي، والأقرب -والله أعلم- أنَّه شيخه، وأنَّه ما أدركه الترمذي: يحيى، راجع الترمذي.
المقصود أنَّ السند فيه بعض اللِّين لأجل تدليس شريك.
وروى الحافظ أبو يعلى، عن إسحاق ابن أبي إسرائيل، عن أبي عبيدة الحداد، عن هشام بن حسان، عن محمد بن شبيب، عن جعفر ابن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: لو كان في هذا المسجد مئة ألفٍ أو يزيدون، وفيهم رجلٌ من أهل النار، فتنفّس، فأصابهم نَفَسُه؛ لاحترق المسجد ومَن فيه. غريب.
وقال الأعمش: عن أبي إسحاق، عن النعمان بن بشير قال: قال رسولُ الله ﷺ: إنَّ أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة لمن له نعلان وشراكان من نار جهنم، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، لا يرى أنَّ أحدًا من أهل النار أشدّ عذابًا منه، وإنَّه أهونهم عذابًا. أخرجاه في "الصحيحين" من حديث الأعمش.
س: هذا الحديث ينطبق على العُصاة من أهل التوحيد؟
ج: الله أعلم، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم في عافيةٍ.