إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7-8].
يقول تعالى مُخبرًا عن حال الأشقياء الذين كفروا بلقاء الله يوم القيامة، ولا يرجون في لقائه شيئًا، ورضوا بهذه الحياة الدنيا، واطمأنت إليها نفوسهم.
قال الحسن: والله ما زيّنوها، ولا رفعوها حتى رضوا بها، وهم غافلون عن آيات الله الكونية، فلا يتفكّرون فيها، والشَّرعية فلا يأتمرون بها، فإنَّ مأواهم يوم معادهم النار؛ جزاءً على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا والإجرام، مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:9-10].
هذا إخبارٌ عن حال السُّعداء الذين آمنوا بالله، وصدّقوا المرسلين، وامتثلوا ما أمروا به، فعملوا الصَّالحات بأنَّه سيهديهم بإيمانهم.
يحتمل أن تكون الباءُ هاهنا سببيةً، فتقديره: بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم اللهُ يوم القيامة على الصراط المستقيم حتى يجوزوه ويخلصوا إلى الجنة.
ويحتمل أن تكون للاستعانة، كما قال مجاهد في قوله: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ قال: يكون لهم نورًا يمشون به.
وقال ابنُ جريج في الآية: يمثل له عمله في صورةٍ حسنةٍ وريحٍ طيبةٍ إذا قام من قبره، يعارض صاحبه ويُبشّره بكل خيرٍ، فيقول له: مَن أنت؟ فيقول: أنا عملك. فيُجعل له نورًا من بين يديه حتى يُدخله الجنة، فذلك قوله تعالى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ، والكافر يمثل له عمله في صورةٍ سيئةٍ وريحٍ مُنتنةٍ، فيلزم صاحبه ويُلازمه حتى يقذفه في النار. ورُوي نحوه عن قتادة مرسلًا، فالله أعلم.
الشيخ: وفي هذه الآيات الحثّ على لقاء الله، والعناية بالإعداد لذلك، والحذر من الخضوع للدنيا، والرضا بها، والاطمئنان إليها، ونسيان الآخرة: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ، أعرضوا عن الآخرة، فصارت الدنيا أكبر همّهم، ورضوا بها، واطمأنوا إليها، وأهملوا عمل الآخرة، ولم يعدّوا لها العدّة، ولم يرجوها بسبب إعراضهم عنها، وإقبالهم على الدنيا، بخلاف الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات: يهديهم ربهم بإيمانهم، لما آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصَّالحات هداهم الله بسبب إيمانهم إلى الجنة والسَّعادة.
هؤلاء نسوا الله فنسيهم، وهؤلاء أطاعوا الله وعظَّموه وسلكوا الطريق القويم، فهداهم وأيّدهم ونصرهم، الجزاء من جنس العمل، نعم.
وقوله: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أي: هذا حال أهل الجنة.
قال ابنُ جريج: أخبرت بأنَّ قوله: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ قال: إذا مرّ بهم الطيرُ يشتهونه قالوا: سبحانك اللهم، وذلك دعواهم، فيأتيهم الملكُ بما يشتهونه، فيُسلّم عليهم، فيردّون عليه، فذلك قوله: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ قال: فإذا أكلوا حمدوا الله، فذلك قوله: وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وقال مقاتل بن حيان: إذا أراد أهلُ الجنة أن يدعوا بالطعام قال أحدُهم: سبحانك اللهم. قال: فيقوم على أحدهم عشرة آلاف خادم، مع كل خادمٍ صحفة من ذهبٍ فيها طعام ليس في الأخرى، قال: فيأكل منهن كلهن.
وقال سفيان الثوري: إذا أراد أحدُهم أن يدعو بشيءٍ قال: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، وهذه الآية فيها شبهٌ من قوله: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ الآية [الأحزاب:44]، وقوله: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا [الواقعة:25-26]، وقوله: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، وقوله: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ الآية [الرعد:23-24].
وقوله: وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هذا فيه دلالة على أنَّه تعالى هو المحمود أبدًا، المعبود على طول المدى؛ ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره، وفي ابتداء كتابه، وعند ابتداء تنزيله، حيث يقول تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف:1]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام:1]، إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها، وأنَّه المحمود في الأولى والآخرة: في الحياة الدنيا، وفي الآخرة، وفي جميع الأحوال؛ ولهذا جاء في الحديث: إنَّ أهل الجنة يُلهمون التَّسبيح والتَّحميد كما يُلهمون النفس، وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تزايد نِعَم الله عليهم، فتكرر وتُعاد وتزداد، فليس لها انقضاء، ولا أمد، فلا إله إلا هو، ولا ربّ سواه.
س: أحسن الله إليكم، هل يُقال لأحدٍ من الخلق: هو مُستحقٌّ للحمد، أو يُحمد على الشيء، أو الحمد خاصٌّ بالله تعالى؟
ج: مَن لا يشكر الناس لا يشكر الله، حمد الإنسان إذا فعل ما يقتضي حمده هذا .....، هذا من الجزاء العاجل إذا فعل ما يستحقّ.
والحمد معناه: الثناء.
س: إذا قيل عن فلان: يستاهل الحمد؟
ج: إذا كانت له الخصال الحميدة والأعمال الطّيبة التي يستحقّ الحمد عليها، أي: الثناء عليها.
س: يُقال: الحمد في حقِّ .....؟
ج: محل نظرٍ، لكن فيما يظهر لي لا ..... عن ذلك بالنظر إلى ما يتخلق به من الأخلاق الحميدة والصِّفات الحميدة، وهو يُراد به الثناء الذي يليق به، يستحقّ الثناء، يستحقّ الحمد على عمله، وما أشبه ذلك من أعماله الطّيبة، يستحقّ الشكر، يستحقّ المكافأة.
س: .............؟
ج: الذي يظهر لي أنَّ الأمر في هذا واسع .....
س: ...............؟
ج: أولًا وآخرًا محمود على بدء خلقه ونهايته: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الروم:18]، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ [القصص:70]، له الحمد في أول خلقه وفي آخره.
س: كون الرجل يقول للرجل: أحمدك على .....؟
ج: والله ما أعلم فيه ..... أحمدك وأُثني عليك وأشكرك، لكن استعمال الشُّكر أولى، استعمال الشُّكر هو الذي جاء في الأحاديث: «لا يشكر الله مَن لا يشكر الناس»، يشكره على عمله الطّيب، هذا خيرٌ في الأدب وأحسن.
س: قوله تعالى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ؟
ج: يعني: بسبب إيمانهم وتقواهم، بسبب إيمانهم الصَّادق يهديهم اللهُ به.
س: ..............؟
ج: يعني: يُعينه الله على الخير بسبب إيمانه على القول الثاني، يكون إيمانهم عونًا لهم على طاعة الله، ما عندهم من التَّصديق وقوة الإيمان بالله واليوم الآخر يكون عونًا لهم، أعمالهم الطّيبة.
س: التَّسمية بأحمد ومحمد ما تدلّ على جواز تحميد الشَّخص؟
ج: هذه معانٍ جامدة، يُسمّى بها الطيب والخبيث، نعم.
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [يونس:11].
يُخبر تعالى عن حلمه ولُطفه بعباده أنَّه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم، أو أموالهم، أو أولادهم في حال ضجرهم وغضبهم، وأنَّه يعلم منهم عدم القصد بالشَّر إلى إرادة ذلك؛ فلهذا لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفًا ورحمةً، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم، أو لأموالهم، أو لأولادهم بالخير والبركة والنَّماء؛ ولهذا قال: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ الآية، أي: لو استجاب لهم كلّ ما دعوه به في ذلك لأهلكهم، ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك، كما جاء في الحديث الذي رواه الحافظُ أبو بكر البزار في "مسنده": حدثنا محمد بن معمر: حدثنا يعقوب بن محمد: حدثنا حاتم بن إسماعيل: حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو جزرة.
مُداخلة: عندنا: أبو حزرة.
الشيخ: انظر: "التقريب".
الطالب: هذا "التقريب" يا شيخ، يقول: يعقوب بن مجاهد، القاص، يكنى: أبا حزرة -بفتح المهملة وسكون الزاي- وهو بها أشهر، صدوق، من السادسة، مات سنة تسعٍ وأربعين، أو بعدها. (البخاري في "الأدب"، ومسلم، والأربعة).
الشيخ: حزرة بالحاء.
حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو حزرة، عن عبادة بن الوليد: حدثنا جابر قال: قال رسولُ الله ﷺ: لا تدعوا على أنفسكم، لا تدعوا على أولادكم، لا تدعوا على أموالكم، لا تُوافقون من الله ساعةً فيها إجابة فيستجيب لكم.
ورواه أبو داود من حديث حاتم بن إسماعيل، به.
وقال البزار: وتفرد به عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري، لم يُشاركه أحدٌ فيه. وهذا كقوله تعالى: وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ الآية [الإسراء:11].
وقال مجاهد في تفسير هذه الآية: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ الآية، هو قول الإنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه: اللهم لا تُبارك فيه، والعنه. فلو يُعجّل لهم بالاستجابة في ذلك ما يُستجاب لهم في الخير لأهلكهم.
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يونس:12].
الشيخ: بركة، سمِّ.