الشيخ: وهذا يُوجب الحذر، هذا من أحاديث الوعيد، إذا كان هذا أقلّهم عذابًا، فكيف بأغلظهم عذابًا؟! مَن كان أخفّهم عذابًا مَن له نعلان من نارٍ يغلي منهما دماغه، فكيف بحال غيره؟! نسأل الله العافية، هذا يُوجب الحذر من أسباب عذاب النار، وذلك بالحذر من الكفر بالله، ومن سائر المعاصي.
ومن هذا الصنف: أبو طالب، فإنَّه كان في غمرات النار، فشفع فيه، وقد صار في ضحضاحٍ من النار يغلي منها دماغه، نسأل الله العافية، ولا حول ولا قوة إلا بالله، شفع فيه النبي ﷺ شفاعةً خاصَّةً.
مُداخلة: أحسن الله إليك، في نسخةٍ: يحيى ابن أبي بكير.
الشيخ: حدثنا أيش؟
الشيخ: لا، أبو بكير، ابن أبي بكير، بالباء والكاف.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن ابن عجلان: سمعتُ أبي، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: إنَّ أدنى أهل النار عذابًا رجلٌ يُجعل له نعلان يغلي منهما دماغه. وهذا إسنادٌ جيدٌ قويٌّ، رجاله على شرط مسلم، والله أعلم.
والأحاديث والآثار النبوية في هذا كثيرة.
وقال الله تعالى في كتابه العزيز: كَلَّا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى [المعارج:15-16]، وقال تعالى: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:19-22]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81] أي: لو أنهم يفقهون ويفهمون لنفروا مع الرسول في سبيل الله في الحرِّ؛ ليتَّقوا به من حرِّ جهنم الذي هو أضعاف أضعاف هذا، ولكنَّهم كما قال الآخر:
كالمستجير من الرَّمضاء بالنَّار
وقال الآخر:
عمرك بالحمية أفنيته | خوفًا من البارد والحار |
وكان أولى لك أن تتقي | من المعاصي حذر النار |
الشيخ: والمقصود من هذا أنَّ الواجب على المؤمن أن يحذر ما هو أشدّ، فإذا كان يشقّ عليه الحار والبارد وأشباه ذلك، فينبغي له أن يتذكر حرَّ النار وزمهريرها، يتقي بما أباح الله وما شرع الله حرَّها وشرّ زمهريرها جميعًا، فالبارد جدًّا يُذكر بالزمهرير، والحار جدًّا يُذكر بالنار، والعاقل يحذر هذا وهذا، يحذر أسباب النار جميعًا، سواء كان ما يُوافق هواه، أو يُخالف هواه، يجب أن يحذر، وأن تكون النارُ الدنيوية والمشاقّ الدنيوية مُذكرةً له بحرِّ جهنم ومشقّتها وما فيها من البلاء، حتى يحذر أسبابها، نسأل الله العافية.
ثم قال تعالى جلَّ جلاله مُتوعدًا هؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا الآية [التوبة:82]، قال ابنُ أبي طلحة: عن ابن عباسٍ: الدنيا قليل، فليضحكوا فيها ما شاءوا، فإذا انقطعت الدنيا وصاروا إلى الله استأنفوا بكاء لا ينقطع أبدًا.
وكذا قال أبو رزين، والحسن، وقتادة، والربيع بن خثيم، وعون العقيلي، وزيد بن أسلم.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عبدالله بن عبدالصمد ابن أبي خداش: حدثنا محمد بن جبير.
الشيخ: أيش عندكم؟
الطالب: حميد.
الشيخ: حدثنا محمد بن حميد.
مُداخلة: في نسخة "الشعب": حدثنا محمد بن جبر. وفي حاشيةٍ قال: كذا في المخطوطة، ولا ندري مَن محمد بن جبر هذا.
الشيخ: وقال مَن؟
الشيخ: حطّ نسخة: ابن حميد. حتى يُراجع "المسند".
الطالب: في "المسند": حميد.
الشيخ: معك "المسند"؟
الطالب: راجعته بالأمس: حميد.
الشيخ: نعم، ابن حميد، نعم.
عن ابن المبارك، عن عمران بن زيد: حدثنا يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: يا أيها الناس، ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فإنَّ أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول، حتى تنقطع الدموع، فتسيل الدماء، فتقرح العيون، فلو أنَّ سفنًا أزجيت فيها لجرت.
ورواه ابنُ ماجه من حديث الأعمش، عن يزيد الرّقاشي، به.
الشيخ: وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ يزيد الرّقاشي ضعيف، لكن عذابها أشدّ وأعظم، نسأل الله العافية.
الشيخ: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50]، نسأل الله العافية، نعم.
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ [التوبة:83].
يقول تعالى آمرًا لرسوله عليه الصلاة والسلام: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ أي: ردَّك الله من غزوتك هذه إلى طائفةٍ منهم.
قال قتادة: ذُكر لنا أنَّهم كانوا اثني عشر رجلًا.
فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ أي: معك إلى غزوةٍ أخرى.
فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا أي: تعزيرًا لهم وعقوبة.
ثم علل ذلك بقوله: إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وهذا كقوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ الآية [الأنعام:110]، فإنَّ جزاء السيئة السيئة بعدها، كما أنَّ ثواب الحسنة الحسنة بعدها، كقوله في عُمرة الحديبية: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا الآية [الفتح:15].
وقوله تعالى: فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ قال ابنُ عباس: أي: الرجال الذين تخلّفوا عن الغزاة.
وقال قتادة: فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ أي: مع النساء.
قال ابنُ جرير: وهذا لا يستقيم؛ لأنَّ جمع النِّساء لا يكون بالياء والنون، ولو أُريد النِّساء لقال: فاقعدوا مع الخوالف، أو الخالفات. ورجح قول ابن عباسٍ رضي الله عنهما.
الشيخ: "ورجح" يعني: ابن جرير "قول ابن عباس" مع المتخلّفين عن الغزو، نسأل الله العافية.
الشيخ: قف على هذا، بركة.