فَصْلٌ
وَمِنْهَا: أَنَّ هلال بن أمية ومرارة قَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا، وَكَانَا يُصَلِّيَانِ فِي بُيُوتِهِمَا، وَلَا يَحْضُرَانِ الْجَمَاعَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هِجْرَانَ الْمُسْلِمِينَ لِلرَّجُلِ عُذْرٌ يُبِيحُ لَهُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ، أَوْ يُقَالُ: مِنْ تَمَامِ هِجْرَانِهِ أَنْ لَا يَحْضُرَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ يُقَالُ: فكعب كَانَ يَحْضُرُ الْجَمَاعَةَ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَلَا عَتَبَ عَلَيْهِمَا عَلَى التَّخَلُّفِ، وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ: لَمَّا أُمِرَ الْمُسْلِمُونَ بِهَجْرِهِمْ تُرِكُوا: لَمْ يُؤْمَرُوا، وَلَمْ يُنْهَوْا، وَلَمْ يُكَلَّمُوا، فَكَانَ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمُ الْجَمَاعَةَ لَمْ يُمْنَعْ، وَمَنْ تَرَكَهَا لَمْ يُكَلَّمْ.
الشيخ: هذا هو الصواب: هجران المسلمين لهم، ولا يُكلمهم أحدٌ، هذا عذرٌ لهم في التَّخلف؛ لأنَّ الرسول ﷺ لم يُنكر على هلال ومرارة جلوسهما في بيتهما من أجل هذه المصيبة العظيمة التي هي أنَّ المسلمين قد هجروهم: لا يُسلَّم عليهم، ولا يُردُّ عليهم السلام، فهي مصيبة عظيمة، أعظم من المرض، لكن كعبًا كان أشبَّ الثلاثة وأقواهم على الخروج، فكان يخرج ويُصلي مع الناس، ولا يُسلِّم عليه أحدٌ، ولا يردّ عليه السلامَ أحدٌ.
س: .............؟
ج: مثله لو قدر ما هو متيسر هذا وقت الابتلاء العظيم، أما الآن يهجرهم واحد، ويُرضيهم مئة.
أَوْ يُقَالُ: لَعَلَّهُمَا ضَعُفَا وَعَجَزَا عَنِ الْخُرُوجِ؛ وَلِهَذَا قَالَ كعب: وَكُنْتُ أَنَا أَجْلَدَ الْقَوْمِ وَأَشَبَّهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأَقُولُ: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيَّ أَمْ لَا؟ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْهَجْرَ غَيْرُ وَاجِبٍ، إِذْ لَوْ وَجَبَ الرَّدُّ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِسْمَاعِهِ.
الشيخ: وفيه من الفوائد: أنه إذا سلّم على الإمام، إذا مرَّ عليه وسلّم عليه مَن حوله فلا بأس؛ لأنه كان يُسلم عليه عليه الصلاة والسلام فيقول: هل حرَّك شفتيه يردّ السلام أم لا؟ وهو في مصلاه، في محلِّ الصلاة إمامًا للمسلمين عليه الصلاة والسلام.
وَقَوْلُهُ: حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيَّ تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أبي قتادة. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى دُخُولِ الْإِنْسَانِ دَارَ صَاحِبِهِ وَجَارِهِ إِذَا عَلِمَ رِضَاهُ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ.
وَفِي قَوْلِ أبي قتادة لَهُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِخِطَابٍ وَلَا كَلَامٍ لَهُ، فَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ، فَقَالَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ جَوَابًا لَهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَنْوِ بِهِ مُكَالَمَتَهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ أبي قتادة.
وَفِي إِشَارَةِ النَّاسِ إِلَى النَّبَطِيِّ الَّذِي كَانَ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ دُونَ نُطْقِهِمْ لَهُ تَحْقِيقٌ لِمَقْصُودِ الْهَجْرِ، وَإِلَّا فَلَوْ قَالُوا لَهُ صَرِيحًا: ذَاكَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَلَامًا لَهُ، فَلَا يَكُونُونَ بِهِ مُخَالِفِينَ لِلنَّهْيِ.
الشيخ: ولكن من كمال سمعهم وطاعتهم لأمره ﷺ جعلوا يُشيرون أنَّ هذا كعب، ولم يتكلموا؛ كراهة أن يتكلموا بشيءٍ يخشون أن يدخل في النَّهي رضي الله عنهم وأرضاهم.
وَلَكِنْ لِفَرْطِ تَحَرِّيهِمْ وَتَمَسُّكِهِمْ بِالْأَمْرِ لَمْ يَذْكُرُوهُ لَهُ بِصَرِيحِ اسْمِهِ.
وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ نَوْعَ مُكَالَمَةٍ لَهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا جَعَلَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى الْمَقْصُودِ بِكَلَامِهِ، وَهِيَ ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ، فَالْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ مَنْعِ الْحِيَلِ وَسَدِّ الذَّرَائِعِ، وَهَذَا أَفْقَهُ وَأَحْسَنُ.
الشيخ: المعنى الأول أولى، وأنَّ المراد من تحريهم ، ومن حرصهم على السمع والطاعة، وإلا لو قالوا: هذا كعب، لم يكونوا مخالفين، ولم يكونوا مخلّين للهجر بلا شكٍّ.
الشيخ: ولا شكَّ أنه ابتلاء وامتحان، كون ملك غسان يدعوه -كافر يدعوه- لا شكَّ أنها بلية عظيمة، قد يميل إليها الإنسانُ المهجور، ولكن من رحمة الله بكعبٍ، ومما وقر فيه من الإيمان لم يستجب لهذه الدَّعوة، فصانه الله وحماه، حتى مَنَّ اللهُ عليه بقبول التَّوبة، وعلى صاحبيه، فالرسول قال: حتى يقضي الله، فالأمر مُؤقت.
الشيخ: كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، وقال: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]، اختبار وامتحان.
فَهُوَ كَالْكِيرِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ.
وَقَوْلُهُ: فَتَيَمَّمْتُ بِالصَّحِيفَةِ التَّنُّورَ، فِيهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى إِتْلَافِ مَا يُخْشَى مِنْهُ الْفَسَادُ وَالْمَضَرَّةُ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ الْحَازِمَ لَا يَنْتَظِرُ بِهِ وَلَا يُؤَخِّرُهُ.
الشيخ: وهذا من كمال الإيمان، وكمال التَّقوى: البدار بإتلاف ما يُخشى منه؛ لأنه لو بقي في جيبه لربما مالت إليه نفسُه بعد حينٍ، فمن كمال الإيمان: البدار بإتلافه، هكذا كتب الشَّر وكتب الفساد من كمال الإيمان ومن كمال النصر لدين الله: إحراقها وإتلافها حالا، متى وُجدت.
فِيهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى إِتْلَافِ مَا يُخْشَى مِنْهُ الْفَسَادُ وَالْمَضَرَّةُ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ الْحَازِمَ لَا يَنْتَظِرُ بِهِ وَلَا يُؤَخِّرُهُ.
وَهَذَا كَالْعَصِيرِ إِذَا تَخَمَّرَ، وَكَالْكِتَابِ الَّذِي يُخْشَى مِنْهُ الضَّرَرُ وَالشَّرُّ، فَالْحَزْمُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى إِتْلَافِهِ وَإِعْدَامِهِ.
وَكَانَتْ غَسَّانُ إِذْ ذَاكَ -وَهُمْ مُلُوكُ عَرَبِ الشَّامِ- حَرْبًا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكَانُوا يُنْعِلُونَ خُيُولَهُمْ لِمُحَارَبَتِهِ، وَكَانَ هَذَا لَمَّا بَعَثَ شجاع بن وهب الأسدي إِلَى مَلِكِهِمُ الحارث بن أبي شمر الغسَّاني يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَيْهِ، قَالَ شجاع: فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي غَوْطَةِ دِمَشْقَ، وَهُوَ مَشْغُولٌ بِتَهْيِئَةِ الْأَنْزَالِ وَالْأَلْطَافِ لقيصر، وَهُوَ جَاءٍ مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ، فَأَقَمْتُ عَلَى بَابِهِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَقُلْتُ لِحَاجِبِهِ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَيْهِ، فَقَالَ: لَا تَصِلُ إِلَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، وَجَعَلَ حَاجِبُهُ -وَكَانَ رُومِيًّا اسْمُهُ مري- يَسْأَلُنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكُنْتُ أُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، فَيَرِقُّ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَيْهِ الْبُكَاءُ، وَيَقُولُ: إِنِّي قَرَأْتُ الْإِنْجِيلَ، فَأَجِدُ صِفَةَ هَذَا النَّبِيِّ بِعَيْنِهِ، فَأَنَا أُؤْمِنُ بِهِ وَأُصَدِّقُهُ، فَأَخَافُ مِنَ الحارث أَنْ يَقْتُلَنِي، وَكَانَ يُكْرِمُنِي وَيُحْسِنُ ضِيَافَتِي.
وَخَرَجَ الحارثُ يَوْمًا فَجَلَسَ، فَوَضَعَ التَّاجَ عَلَى رَأْسِهِ، فَأَذِنَ لِي عَلَيْهِ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَرَأَهُ ثُمَّ رَمَى بِهِ، قَالَ: مَنْ يَنْتَزِعُ مِنِّي مُلْكِي؟! وَقَالَ: أَنَا سَائِرٌ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ بِالْيَمَنِ جِئْتُهُ، عَلَيَّ بِالنَّاسِ. فَلَمْ تَزَلْ تُعْرَضُ حَتَّى قَامَ، وَأَمَرَ بِالْخُيُولِ تُنْعَلُ، ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرْ صَاحِبَكَ بِمَا تَرَى. وَكَتَبَ إِلَى قيصر يُخْبِرُهُ خَبَرِي وَمَا عَزَمَ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ قيصر: أَنْ لَا تَسِرْ، وَلَا تَعْبُرْ إِلَيْهِ، وَالْهُ عَنْهُ، وَوَافِنِي بِإِيلِيَاءَ، فَلَمَّا جَاءَهُ جَوَابُ كِتَابِهِ دَعَانِي فَقَالَ: مَتَى تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى صَاحِبِكَ؟ فَقُلْتُ: غَدًا، فَأَمَرَ لِي بِمِئَةِ مِثْقَالٍ ذَهَبًا، وَوَصَلَنِي حَاجِبُهُ بِنَفَقَةٍ وَكُسْوَةٍ، وَقَالَ: اقْرَأْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنِّي السَّلَامَ. فَقَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «بَادَ مُلْكُهُ»، وَأَقْرَأْتُهُ مِنْ حَاجِبِهِ السَّلَامَ، وَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: صَدَقَ، وَمَاتَ الحارثُ بن أبي شمر عَامَ الْفَتْحِ، فَفِي هَذِهِ الْمُدَّةِ أَرْسَلَ مَلِكُ غَسَّانَ يَدْعُو كعبًا إِلَى اللِّحَاقِ بِهِ، فَأَبَتْ لَهُ سَابِقَةُ الْحُسْنَى أَنْ يَرْغَبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَدِينِهِ.
الشيخ: كيف يستقيم هذا: أنه مات عام الفتح، وغزوة تبوك والتَّخلف بعد ذلك سنة تسعٍ؟! إن كان ملكًا ثانيًا غير الحارث.
س: لكن أحسن الله إليك، كونه مات عام ..؟
ج: هو كتب لكعبٍ وقت هجر النبي والصحابة، والهجران كان في سنة تسعٍ لما قدم النبيُّ من غزوة تبوك سنة تسعٍ.
س: ..............؟
ج: يمكن ملك بعده، لكن ظاهر السياق أنه في الحارث نفسه، لعله مات بعد ذلك، لعله مات سنة حجة الوداع أو شيء، ولعلها غلط .....
وفيه من الآيات العظيمات: أفلح الحاجب، وهلك المحجوب، الحاجب الضَّعيف هداه الله، والمحجوب المسكين غرَّه ملكه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
.............
س: شخصٌ له حقوق مالية، ووكل محامٍ لتحصيلها، وبعض هذه الأموال فوائد ربوية، فهل يجوز إعطاء المحامي أجرته من هذه الفوائد الربوية؟ وهل يجوز تسديد ديون المعسرين من هذه الفوائد؟
ج: ليس له أن يُعطي المحامي أجرةً من هذه الأموال الربوية، يُعطيه من ماله، لا يُعطيه من الأموال الربوية، يجعلها وقايةً لماله، وليس له أن ينتفع بها، بل يصرفها في وجوه الخير: الصدقة على الفقراء، إصلاح الطرقات، إصلاح الحمامات، وأشباه ذلك، أما أن يفي دينًا عليه ويُعطيها أجورًا للعمال، لا، هذا انتفاعٌ بها، أما إعطاؤها الفقراء لا بأس به، الصواب أن يُعطيها الفقراء، أو يصرفها في وجوهٍ تنفع المسلمين: كإصلاح الحمامات، وإصلاح الطرقات، وطباعة كتب تنفع المسلمين للتَّخلص.
...........
الشيخ: المقصود أنه لو حصَّلها له تُصرف في وجوهٍ طيبةٍ، ما ينتفع بها هو؛ لأنها كالأموال الضَّائعة التي لا تُتلف، لا تُلقى في البحر، ولا تُتلف، تُصرف في عملٍ طيبٍ.
س: وإن كان أمكن تركها يتركها؟
ج: لا يأخذها؛ لأنَّ أخذها من البنوك وسيلة للانتفاع بها، بل يجب الحذر منها والمعاملة بها، لكن متى دخلت عليه صرفها.
س: .............؟
ج: لا يُخبره، لا يُخبر الفقير.
س: .............؟
ج: النَّصيحة والتَّوجيه للخير، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وإذا أعلن المعاصي ولم يقبل استحقَّ الهجر.
س: .............؟
ج: ما في تفريق، الربا مُحرَّم مع الكافر والمسلم.