59 من قوله: (وقد كان رهط من المنافقين، منهم وديعة بن ثابت..)

وَقَدْ كَانَ رَهْطٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، مِنْهُمْ وديعة بن ثابت، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَمِنْهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ حَلِيفٌ لِبَنِي سَلَمَةَ يُقَالُ لَهُ: مخشي بن حمير، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ جِلَادَ بَنِي الْأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ؟! وَاللَّهِ لَكَأَنَّا بِكُمْ غَدًا مُقَرَّنِينَ فِي الْحِبَالِ -إِرْجَافًا وَتَرْهِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ- فَقَالَ مخشي بن حمير: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقَاضَى عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلٌّ مِنَّا مِئَةَ جَلْدَةٍ، وَإِنَّا نَنْفَلِتُ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا قُرْآنٌ؛ لِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ.

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: أَدْرِكِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدِ احْتَرَقُوا، فَسَلْهُمْ عَمَّا قَالُوا، فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ: بَلْ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ عمَّار، فَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، فَقَالَ وديعة بن ثابت: كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التوبة:65]، فَقَالَ مخشي بن حمير: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَعَدَ بِيَ اسْمِي وَاسْمُ أَبِي. فَكَانَ الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَسَمَّى: عبدالرحمن، وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُقْتَلَ شَهِيدًا لَا يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ، فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ.

س: قوله: "قعد بي اسمي واسم أبي" كناية عن أيش؟

ج: مخشي بن حمير يعني.

س: ................؟

ج: ..... لا، وقع في هذه الكلمة التي قالها وديعة بن ثابت، وندم وتاب الله عليه.

س: ................؟

ج: باب التوبة مفتوح.

س: ................؟

ج: يتوبون بعدها، يتوبون بعد الكفر.

س: الآية تدل على أنَّ منهم مَن لم يتب؟

ج: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ عفا الله عنهم نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:66] يعني: ما تابوا توبةً صادقةً.

س: ................؟

ج: نعم، ما في شكّ.

وَذَكَرَ ابنُ عائذ فِي "مَغَازِيهِ" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَزَلَ تَبُوكَ فِي زَمَانٍ قَلَّ مَاؤُهَا فِيهِ، فَاغْتَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ غَرْفَةً بِيَدِهِ مِنْ مَاءٍ، فَمَضْمَضَ بِهَا فَاهُ، ثُمَّ بَصَقَهُ فِيهَا، فَفَارَتْ عَيْنُهَا حَتَّى امْتَلَأَتْ، فَهِيَ كَذَلِكَ حَتَّى السَّاعَةِ.

قُلْتُ: فِي "صَحِيحِ مسلم" أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهَا: إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَيْنَ تَبُوكَ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِيَ النَّهَارُ، فَمَنْ جَاءَهَا فَلَا يَمَسَّنَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ، قَالَ: فَجِئْنَاهَا، وَقَدْ سَبَقَ إِلَيْهَا رَجُلَانِ، وَالْعَيْنُ مِثْلَ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هَلْ مَسِسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟ قَالَا: نَعَمْ، فَسَبَّهُمَا النَّبِيُّ ﷺ، وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ غَرَفُوا مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا، حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شَيْءٍ، وَغَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيهِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا، فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ.

الشيخ: هذا من آيات الله، ومن مُعجزات نبيه عليه الصلاة والسلام، مثلما جاء في بئر الحُديبية لما غسل وجهَه ويديه وألقى الماءَ فيها ثارت بالماء، ومثلما نبع من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام، كل هذا من آيات الله التي أجراها لنبيه ﷺ؛ إقامةً للحُجَّة، وقطعًا للمعذرة، فهي من المعجزات.

س: قوله: فسبَّهما؟

ج: لعصيانهما، دلَّ على أنهما سمعا الخبرَ؛ لأنه قال: مَن سبق إليه فلا يمسّه.

س: ..............؟

ج: ظاهره السَّب المعروف، دعا عليهما، أو غير ذلك.

فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ حَتَّى اسْتَقَى النَّاسُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يُوشِكُ يَا معاذ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَاهُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا.

الشيخ: قد وقع ذلك، إلى الآن فيها البساتين والمزارع العظيمة.

فَصْلٌ

وَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى تَبُوكَ أَتَاهُ صَاحِبُ أَيْلَةَ، فَصَالَحَهُ وَأَعْطَاهُ الْجِزْيَةَ، وَأَتَاهُ أَهْلُ جَرْبَا وَأَذْرُحَ فَأَعْطَوْهُ الْجِزْيَةَ، وَكَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كِتَابًا، فَهُوَ عِنْدَهُمْ، وَكَتَبَ لِصَاحِبِ أَيْلَةَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا أَمَنَةٌ مِنَ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ ليحنة بن رؤبة وَأَهْلِ أَيْلَةَ، سُفُنِهِمْ وَسَيَّارَتِهِمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، لَهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ الْيَمَنِ وَأَهْلِ الْبَحْرِ، فَمَنْ أَحْدَثَ مِنْهُمْ حَدَثًا فَإِنَّهُ لَا يَحُولُ مَالُهُ دُونَ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يَمْنَعُوا مَاءً يَرِدُونَهُ، وَلَا طَرِيقًا يَرِدُونَهُ مِنْ بَحْرٍ أَوْ بَرٍّ.

فَصْلٌ

فِي بَعْثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أكيدر دومة

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أكيدر دومة، وَهُوَ أكيدر بن عبدالملك، رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ.

الشيخ: دومة هي المعروفة الآن بالجوف.

وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، وَكَانَ مَلِكًا عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لخالد: إِنَّكَ سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ، فَخَرَجَ خالدٌ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ حِصْنِهِ بِمَنْظَرِ الْعَيْنِ، وَفِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ صَافِيَةٍ، وَهُوَ عَلَى سَطْحٍ لَهُ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ، فَبَاتَتِ الْبَقَرُ تَحُكُّ بِقُرُونِهَا بَابَ الْقَصْرِ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: هَلْ رَأَيْتَ مِثْلَ هَذَا قَطُّ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، قَالَتْ: فَمَنْ يَتْرُكُ هَذِهِ؟ قَالَ: لَا أَحَدَ، فَنَزَلَ فَأَمَرَ بِفَرَسِهِ فَأُسْرِجَ لَهُ.

الشيخ: يعني بقر الوحش، وهي صيد.

وَرَكِبَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فِيهِمْ أَخٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ: حسان، فَرَكِبَ وَخَرَجُوا مَعَهُ بِمَطَارِدِهِمْ، فَلَمَّا خَرَجُوا تَلَقَّتْهُمْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَخَذَتْهُ، وَقَتَلُوا أَخَاهُ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ قِبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُخَوَّصٍ بِالذَّهَبِ، فَاسْتَلَبَهُ خالدٌ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ قُدُومِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ خالدًا قَدِمَ بأكيدر عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَحَقَنَ لَهُ دَمَهُ، وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ فَرَجَعَ إِلَى قَرْيَتِهِ».

وَقَالَ ابنُ سعدٍ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خالدًا فِي أَرْبَعِمِئَةٍ وَعِشْرِينَ فَارِسًا. فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، قَالَ: وَأَجَارَ خالدٌ أكيدرًا مِنَ الْقَتْلِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، عَلَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ، فَفَعَلَ، وَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفَيْ بَعِيرٍ، وَثَمَانِمِئَةِ رَأْسٍ، وَأَرْبَعِمِئَةِ دِرْعٍ، وَأَرْبَعِمِئَةِ رُمْحٍ، فَعَزَلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ صَفِيَّهُ خَالِصًا، ثُمَّ قَسَّمَ الْغَنِيمَةَ فَأَخْرَجَ الْخُمُسَ، فَكَانَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ قَسَّمَ مَا بَقِيَ فِي أَصْحَابِهِ، فَصَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسُ فَرَائِضَ.

وَذَكَرَ ابنُ عائذٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ أكيدرًا قَالَ عَنِ الْبَقَرِ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهَا قَطُّ أَتَتْنَا إِلَّا الْبَارِحَةَ، وَلَقَدْ كُنْتُ أُضْمِرُ لَهَا الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، وَلَكِنْ قَدَّرَ اللَّهُ.

الشيخ: أضمر: يُضمر الخيل، يعني من تضمير الخيل للمُطالبة، لمطالبتها.

قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَاجْتَمَعَ أكيدر ويحنة عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَدَعَاهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَبَيَا.

الشيخ: يحنة صاحب أيلة، على جانب البحر.

وَأَقَرَّا بِالْجِزْيَةِ، فَقَاضَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى قَضِيَّةِ دومة، وَعَلَى تَبُوكَ، وَعَلَى أَيْلَةَ، وَعَلَى تَيْمَاءَ، وَكَتَبَ لَهُمَا كِتَابًا.

رَجَعْنَا إِلَى قِصَّةِ تَبُوكَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِتَبُوكَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَمْ يُجَاوِزْهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ قَافِلًا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ فِي الطَّرِيقِ مَاءٌ يَخْرُجُ مِنْ وَشَلٍ يَرْوِي الرَّاكِبَ وَالرَّاكِبَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ: وَادِي الْمُشَقَّقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ سَبَقَنَا إِلَى ذَلِكَ الْمَاءِ فَلَا يَسْتَقِيَنَّ مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَهُ، قَالَ: فَسَبَقَهُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَاسْتَقَوْا، فَلَمْ يَرَ فِيهِ شَيْئًا، فَقَالَ: مَنْ سَبَقَنَا إِلَى هَذَا الْمَاءِ؟ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَقَالَ: أَوَلَمْ أَنْهَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى آتِيَهُ؟! ثُمَّ لَعَنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَدَعَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ نَزَلَ فَوَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ الْوَشَلِ، فَجَعَلَ يَصُبُّ فِي يَدِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَصُبَّ، ثُمَّ نَضَحَهُ بِهِ وَمَسَحَهُ بِيَدِهِ، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ، فَانْخَرَقَ مِنَ الْمَاءِ -كَمَا يَقُولُ مَنْ سَمِعَهُ- مَا إِنَّ لَهُ حِسًّا كَحِسِّ الصَّوَاعِقِ، فَشَرِبَ النَّاسُ وَاسْتَقَوْا حَاجَتَهُمْ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَئِنْ بَقِيتُمْ، أَوْ مَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ لَيَسْمَعَنَّ بِهَذَا الْوَادِي وَهُوَ أَخْصَبُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا خَلْفَهُ.

قُلْتُ: ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مسلم": أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَيْنَ تَبُوكَ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِيَ النَّهَارُ، فَمَنْ جَاءَهَا فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.

فَإِنْ كَانَتِ الْقِصَّةُ وَاحِدَةً فَالْمَحْفُوظُ حَدِيثُ مسلمٍ، وَإِنْ كَانَتْ قِصَّتَيْنِ فَهُوَ مُمْكِنٌ.

قَالَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ: أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُحَدِّثُ، قَالَ: قُمْتُ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَرَأَيْتُ شُعْلَةً مِنْ نَارٍ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ، فَاتَّبَعْتُهَا أَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأبو بكر وعمر، وَإِذَا عبدالله ذو البجادين المزني قَدْ مَاتَ، وَإِذَا هُمْ قَدْ حَفَرُوا لَهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي حُفْرَتِهِ، وأبو بكر وعمر يُدْلِيَانِهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَدْنِيَا إِلَيَّ أَخَاكُمَا، فَدَلَّيَاهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا هَيَّأَهُ لِشِقِّهِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ أَمْسَيْتُ رَاضِيًا عَنْهُ، فَارْضَ عَنْهُ، قَالَ: يَقُولُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ صَاحِبَ الْحُفْرَةِ.

الشيخ: علَّق عليه؟

الطالب: ابن هشام، عن ابن إسحاق، ورجاله ثقات، إلا أنَّ محمد بن إبراهيم لم يسمع من ابن مسعودٍ، ونسبه الحافظ في "الإصابة" إلى البغوي، وأعلَّه بالانقطاع، وقال: أخرجه ابن منده من طريق سعيد بن الصَّلت، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعودٍ . ومن طريق كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، نحوه.

الشيخ: كلا السَّندين ضعيف؛ لأنَّ من طريق محمد بن إبراهيم، عن ابن مسعودٍ منقطع؛ محمد ما أدركه، وكثير بن عبدالله بن عمرو هذا ضعيف أيضًا.

قال ابنُ هشام: إنما سُمي: ذا البجادين؛ لأنه كان يُنازع إلى الإسلام فيمنعه قومه من ذلك، ويُضيقون عليه، حتى تركوه في بجادٍ ليس عليه غيره، والبجاد: الكساء الغليظ الجافي، فهرب منهم إلى رسول الله ﷺ، فلما كان قريبًا منه شقَّ بجاده باثنين، فاتَّزر بواحدٍ، واشتمل بالآخر، ثم أتى رسول الله ﷺ فقيل له: ذو البجادين لذلك.

..............

س: تأخير دفن الميت؟

ج: إذا دعت المصلحةُ لا بأس، أقول: إذا أخَّر لمصلحةٍ لا بأس.

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَرْجِعَهُ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ: إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَأَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ.

الشيخ: وهذا من فضل الله جلَّ وعلا: أن الإنسان الذي له النية الصَّالحة، ويحبسه العذر، له أجر العاملين، فالذي يمنعه من صلاة الجماعة العذرُ له أجر الجماعة، والذي يمنعه من الحجِّ العذرُ له أجر الحجِّ، والذي يمنعه من الجهاد العذرُ له أجر الجهاد.

وهكذا قال للصحابة لما أتوا تبوك: إنَّ بالمدينة لأقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا وهم معكم، وفي اللفظ الآخر: إلا شركوكم في الأجر، قالوا: يا رسول الله، وهم في المدينة؟ قال: وهم في المدينة، حبسهم العذرُ يعني: المرض أو العجز وعدم النَّفقة. وفي الحديث الآخر يقول ﷺ: إذا مرض العبدُ أو سافر كتب اللهُ له ما كان يعمل وهو صحيح مُقيم.