يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:23-24].
أمر تعالى بمُباينة الكفَّار به، وإن كانوا آباء أو أبناء، ونهى عن مُوالاتهم: إِنِ اسْتَحَبُّوا أي: اختاروا الكفر على الإيمان، وتوعد على ذلك، كقوله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الآية [المجادلة:22].
وروى الحافظ البيهقي من حديث عبدالله بن شوذب قال: جعل أبو أبي عبيدة ابن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلمَّا أكثر الجراح قصده ابنُه أبو عبيدة فقتله، فأنزل اللهُ فيه هذه الآية: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية.
ثم أمر تعالى رسولَه أن يتوعد مَن آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله ورسوله وجهادٍ في سبيله، فقال: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا أي: اكتسبتُموها وحصلتُموها، وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أي: تُحبونها؛ لطيبها وحُسنها، أي: إن كانت هذه الأشياء أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا أي: فانتظروا ماذا يحلّ بكم من عقابه ونكاله بكم؟ ولهذا قال: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد: حدثنا ابنُ لهيعة، عن زهرة بن معبد، عن جدِّه قال: كنا مع رسول الله ﷺ وهو آخذٌ بيد عمر بن الخطاب، فقال: والله يا رسول الله، لأنت أحبّ إليَّ من كل شيءٍ إلا من نفسي. فقال رسولُ الله ﷺ: لا يُؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه، فقال عمر: فأنت الآن والله أحبّ إليَّ من نفسي. فقال رسول الله ﷺ: الآن يا عمر.
انفرد بإخراجه البخاري، فرواه عن يحيى بن سليمان، عن ابن وهب، عن حيوة بن شريح، عن أبي عقيل زهرة بن معبد.
الطالب: أبي عَقيل، أو عُقيل؟
الشيخ: محتمل، وروى أيش؟
الشيخ: انظر "التقريب".
الطالب: ما ضبطه: زهرة -بضم أوله- بن معبد بن عبدالله بن هشام، القرشي، التيمي، أبو عقيل، المدني.
الشيخ: ما دام ما ضبطه فهو بالفتح، والأصل: عَقيل.
أنَّه سمع جدَّه عبدالله بن هشام، عن النبي ﷺ بهذا.
وقد ثبت في الصحيح عنه ﷺ أنَّه قال: والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين.
وروى الإمامُ أحمد وأبو داود -واللَّفظ له- من حديث أبي عبدالرحمن الخراساني، عن عطاء الخراساني، عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلّط اللهُ عليكم ذُلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم.
وروى الإمام أحمد أيضًا عن يزيد بن هارون، عن أبي جناب، عن شهر بن حوشب: أنَّه سمع عبدالله بن عمرو، عن رسول الله ﷺ بنحو ذلك. وهذا شاهدٌ للذي قبله، والله أعلم.
الشيخ: "التهذيب" حاضر؟
الطالب: إيه، موجود الأخ.
الشيخ: انظر: أبا جناب في "الكنى" في "التهذيب".
المقصود أنَّ هاتين الآيتين فيهما التَّحذير من مُوالاة أعداء الله ..... والحذر من مُوالاتهم، يقول جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ، لا يكونوا أصحابًا لكم، ولا أحبابًا لكم إن استحبوا الكفر على الإيمان، بل أبغضوهم في الله، وعادوهم في الله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ وينصرهم ويُواليهم، ويكون مُواليًا لهم: فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
وفي الآية الأخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].
وهنا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا [التوبة:23-24].
فهذا فيه أنَّ المؤمن يُؤثر طاعة الله ورسوله والقيام بحقِّه على هذه الأشياء، وإن كانوا من أقرب الناس إليه؛ ولهذا قال في الآية الأخرى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22].
وسمعتم قصة أبي عبيدة مع والده الجراح في يوم بدر، لما عرض له ولده ..... قتله ؛ لأنه على الكفر والضلال يدعو إليه، فقتله ابنه أبو عبيدة، هذا من أعظم الموالاة لله، والمحبّة لله، والمعاملة لله، ويقول ﷺ: لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.
وقال عمر : لأنت أحبّ إليّ من كل شيءٍ إلا من نفسي. قال: لا يا عمر، حتى أكون أحبّ إليك من نفسك، فقال: الآن أنت أحبّ إليّ من كل شيءٍ حتى من نفسي.
فالإيمان تمامه أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه من كل شيءٍ، فعليه أن يحبّ في الله، ويبغض في الله، ويُوالي في الله، ويُعادي في الله، يرجو ثواب الله، ويخشى عقاب الله.
ومَن يتولّى الكفَّار وينصرهم ويحميهم ضدّ المؤمنين فهذا من أعظم الناس ردةً، نسأل الله العافية.
س: ...............؟
ج: مشهور أنَّ أبا عبيدة قتل أباه يوم بدر، عندك البيهقي أيش يقول؟
الطالب: البيهقي يقول: مُنقطع.
الشيخ: سنده، أيش يقول؟
الطالب: يقول: رواه البيهقي في "السنن الكبرى" من طريق الربيع بن سليمان، عن أسد بن موسى، عن ضمرة بن ربيعة، عن عبدالله بن شوذب. وقال البيهقي: هذا مُنقطع.
الشيخ: عبدالله بن شوذب إن كان ما روى عن أبي عبيدة فهو منقطع، أيش بعد عن ابن شوذب؟ عمَّن؟
الطالب: عن عبدالله بن شوذب، وقال البيهقي: هذا منقطع.
الشيخ: هو مشهور، السياق مشهور: أنَّ أبا عبيدة قتل أباه.
س: ..............؟
ج: يعني: يعظم هذا، يقول له: إنها تفعل، وإنها تفعل، يُرغّبه بالرجوع عن دينه.
س: المحبّة الطبيعية داخلة في البراء؟
ج: محبة الأقارب الطبيعية التي ما تحمل على معصيةٍ، ولا ترك واجبٍ ما تضرّ، مثلما يحب الأكل والشرب ونحو ذلك محبة طبيعية، ما لها دخلٌ في الدين.
س: يُحبّ أباه وأمه؟
ج: محبة طبيعية، لكن لا يحبهم في الله، ولا يُواليهم على كفرهم وضلالهم، لا يُحبهم على كفرهم وضلالهم، إنما محبة طبيعية: محبة أن الله يهديه، محبة أنه يسلم من كذا وكذا.
س: ..............؟
ج: لا، هذه ما تجوز، لا بدَّ من بغضهم في الله، أما كونه يشتري منهم كذا، يبيع منهم كذا، ما يضرّ، قد اشترى النبي من اليهود، واشترى من المشركين، لكن لا يُحبّهم.
س: ..............؟
ج: ما يلزم منها المحبة، ولو قدّموا إليه مكافأة ما يلزم منها المحبة، أو يحسن إليهم، أو يهدي له هديةً، لعلّ الله يهديه، أو لقرابته، مثلما أهدى عمرُ لقرابته في مكة وهم على دين الكفار، ومثلما أمر النبي ﷺ أسماء بنت أبي بكر أن تُحسن إلى أمِّها وتصلها وهي على الكفر، نعم.
الطالب: يحيى ابن أبي حية -بمهملة وتحتانية- الكلبي، أبو جناب -بجيم ونون خفيفتين وآخرهم موحدة-، مشهور بها، ضعَّفوه لكثرة تدليسه، من السادسة، مات سنة خمسين أو قبلها. (أبو داود، والترمذي، وابن ماجه).
الشيخ: الظاهر أنه هذا، هل هناك أحدٌ ثانٍ؟
الطالب: لا، ما في إلا هو.
الشيخ: هو هذا، نعم.
س: الوعيد هذا في الجهاد المتعين، أم عموم الجهاد؟
ج: ما أدري، هو سنده جيد، لكن معناه صحيح.
س: مَن أحسن إليه أحدٌ من الكفَّار؟
ج: يُكافئه، إذا أحسن إليه يُكافئه.
س: هل يجوز أن يقول لوالديه: إنَّه يُحبّهما إذا كانا كافرين؟
ج: المحبة الطبيعية ما تضرّ، إذا كانت المحبةُ لا تقتضي معصيةً، أو مُوالاةً، أو نصرةً، أو تشجيعًا على الباطل؛ لأنَّ المحبة الطبيعية مثل: محبة الطعام والشَّراب .....
س: لا بأس بقوله؟
ج: المحبة الطبيعية التي ما لها تعلّق بالموالاة والنُّصرة، ولا تُؤيد الكفر والضَّلال .....
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:25-27].
قال ابنُ جريج: عن مجاهد: هذه أول آيةٍ نزلت من براءة، يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله، وأنَّ ذلك من عنده تعالى، وبتأييده وتقديره، لا بعَدَدِهم، ولا بعُدَدِهم، ونبَّههم على أنَّ النصر من عنده، سواء قلَّ الجمع أو كثر، فإنَّ يوم حنين أعجبتهم كثرتهم، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئًا، فولّوا مُدبرين، إلا القليل منهم مع رسول الله ﷺ، ثم أنزل نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه، كما سنُبينه -إن شاء الله تعالى- مُفصلًا؛ ليعلمهم أنَّ النصر من عنده تعالى وحده، وبإمداده، وإن قلَّ الجمع، فـكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وهب بن جرير: حدثنا أبي: سمعتُ يونس يُحدِّث عن الزهري، عن عبيدالله، عن ابن عباسٍ قال: قال رسولُ الله ﷺ: خير الصحابة أربعة، وخير السَّرايا أربعمئة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن تغلب اثنا عشر ألفًا من قِلَّةٍ.
وهكذا رواه أبو داود، والترمذي، ثم قال: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ جدًّا، لا يُسنده أحدٌ غير جرير بن حازم، وإنما رُوي عن الزهري، عن النبي ﷺ مُرسلًا.
وقد رواه ابنُ ماجه والبيهقي وغيره عن أكثم بن الجون، عن رسول الله ﷺ بنحوه، والله أعلم.
وقد كانت وقعةُ حنين بعد فتح مكة في شوال سنة ثمانٍ من الهجرة، وذلك لما فرغ ﷺ من فتح مكة، وتمهدت أمورها، وأسلم عامّة أهلها، وأطلقهم رسولُ الله ﷺ، فبلغه أنَّ هوازن جمعوا له ليُقاتلوه، وأنَّ أميرهم مالك بن عوف بن النَّضر، ومعه ثقيف بكمالها، وبنو جشم، وبنو سعد بن بكر، وأوزاع من بني هلال، وهم قليل، وناس من بني عمرو بن عامر، وعون بن عامر.
مُداخلة: عوف بن عامر.
الشيخ: حطّ نسخة: عوف.
وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشَّاء والنّعم، وجاءوا بقضِّهم وقضيضهم، فخرج إليهم رسولُ الله ﷺ في جيشه الذي جاء معه من الفتح، وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، ومعه الذين أسلموا من أهل مكّة -وهم الطلقاء- في ألفين، فسار بهم إلى العدو.
فالتقوا بوادٍ بين مكّة والطائف يُقال له: حنين، فكانت فيه الوقعةُ في أول النَّهار في غلس الصّبح، انحدروا في الوادي، وقد كمنت فيه هوازن، فلمَّا تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد ثاوروهم، ورشقوا بالنّبال، وأصلتوا السيوف، وحملوا حملة رجلٍ واحدٍ كما أمرهم ملكهم، فعند ذلك ولَّى المسلمون مُدبرين كما قال الله ، وثبت رسولُ الله ﷺ، وهو راكبٌ يومئذٍ بغلته الشَّهباء يسوقها إلى نحو العدو، والعباس عمه آخذٌ بركابها الأيمن، وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب آخذٌ بركابها الأيسر، يُثقلانها لئلا تُسرع السير، وهو يُنوه باسمه عليه الصلاة والسلام، ويدعو المسلمين إلى الرجعة، ويقول: إليَّ عباد الله، إليَّ أنا رسول الله، ويقول في تلك الحال:
أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبدالمطلب
وثبت معه من أصحابه قريبٌ من مئة، ومنهم مَن قال: ثمانون. فمنهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، والعباس وعلي والفضل بن عباس وأبو سفيان بن الحارث وأيمن ابن أم أيمن وأسامة بن زيد وغيرهم .
ثم أمر ﷺ عمَّه العباس -وكان جهير الصوت- أن يُنادي بأعلى صوته: "يا أصحاب الشَّجرة" يعني: شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها على أن لا يفرّوا عنه، فجعل يُنادي بهم: "يا أصحاب السّمرة"، ويقول تارةً: "يا أصحاب سورة البقرة"، فجعلوا يقولون: يا لبيك، يا لبيك، وانعطف الناسُ فتراجعوا إلى رسول الله ﷺ، حتى إنَّ الرجل منهم إذا لم يُطاوعه بعيره على الرجوع لبس درعه، ثم انحدر عنه وأرسله، ورجع بنفسه إلى رسول الله ﷺ.
فلمَّا اجتمعت شرذمةٌ منهم عند رسول الله ﷺ أمرهم عليه السلام أن يصدقوا الحملة، وأخذ قبضةً من ترابٍ بعدما دعا ربَّه واستنصره، وقال: اللهم أنجز لي ما وعدتني، ثم رمى القوم بها، فما بقي إنسانٌ منهم إلا أصابه منها في عينه وفمه ما يشغله عن القتال، ثم انهزموا، فاتّبع المسلمون أقفاءهم: يقتلون ويأسرون، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مُجندلة بين يدي رسول الله ﷺ.
الشيخ: وأنزل الله جندًا من السماء، أيَّدهم الله أيضًا بجندٍ من السماء، عطف المسلمون وحملوا وصدقوا الحمل، وأنزل الله جندًا من السماء: الملائكة مُؤيدة لعباده، كما أيّدهم يوم بدر، نعم، الله المستعان.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان: حدثنا حماد بن سلمة: أخبرنا يعلى بن عطاء، عن عبدالله بن يسار، عن أبي همام، عن أبي عبدالرحمن الفهري، واسمه: يزيد بن أسيد، ويقال: يزيد بن أنيس، ويقال: كرز، قال: كنتُ مع رسول الله ﷺ في غزوة حنين، فسرنا في يومٍ قائظٍ شديد الحرِّ، فنزلنا تحت ظلال الشَّجر، فلمَّا زالت الشمسُ لبست لأمتي، وركبتُ فرسي، فانطلقت إلى رسول الله ﷺ وهو في فُسطاطه، فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، حان الرَّواح؟ فقال: أجل، فقال: يا بلال، فثار من تحت سمرةٍ كأنَّ ظلَّها ظلُّ طائرٍ، فقال: لبيك وسعديك وأنا فداؤك. فقال: أسرج لي فرسي، فأخرج سرجًا دفتاه من ليفٍ، ليس فيهما أشر ولا بطر.
قال: فأسرج، فركب، وركبنا، فصاففناهم عشيتنا وليلتنا، فتشامت الخيلان، فولى المسلمون مُدبرين، كما قال الله تعالى: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ، فقال رسولُ الله ﷺ: يا عباد الله، أنا عبدالله ورسوله، ثم قال: يا معشر المهاجرين، أنا عبدالله ورسوله، قال: ثم اقتحم عن فرسه فأخذ كفًّا من ترابٍ، فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني أنَّه ضرب به وجوههم، وقال: شاهت الوجوه، فهزمهم الله تعالى.
قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنَّهم قالوا: لم يبقَ منا أحدٌ إلا امتلأت عيناه وفمه ترابًا، وسمعنا صلصلةً بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست الجديد.
وهكذا رواه الحافظ البيهقي في "دلائل النبوة" من حديث أبي داود الطيالسي، عن حماد بن سلمة، به.
س: إسناده أحسن الله إليك؟
ج: إسناده فيه نظر، والصواب أنَّه كان على بغلته الشَّهباء عليه الصلاة والسلام، الله جلَّ وعلا أيَّدهم بعد هذا بجنودٍ من السماء، وتلاحق المسلمون، وهزم اللهُ العدو؛ لهذا قال: وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا، الله نصر أولياءه وعباده المؤمنين، كما نصرهم يوم بدر، وصارت هذه الجنود والنِّساء والأولاد كلّها غنيمةً للمسلمين: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160]، ويقول جلَّ وعلا: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:25-27].
فهذا فيه آية ودليل على أنَّه رسول الله، وأنه عبدالله ورسوله، وأنه الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، أيَّده الله في أوقات الشَّدائد، ونصره على أعدائه، مع كثرتهم، وجعل له العاقبة، ولأوليائه، ولأصفيائه.
وهكذا قال جلَّ وعلا: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173]، ويقول سبحانه: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، ويقول جلَّ وعلا: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ [الحج:41]، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:40-41]، هذه الشُّروط التي بيَّنها لنصره لأوليائه.