وقد جاء في مدح التَّقلل من الذهب والفضة، وذمّ التَّكثر منهما أحاديث كثيرة، ولنُورد منها هنا طرفًا يدلّ على الباقي:
قال عبدُالرزاق: أخبرنا الثوري: أخبرني أبو حصين، عن أبي الضُّحى، عن جعدة بن هبيرة، عن عليٍّ في قوله: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الآية [التوبة:34]، قال النبي: تَبًّا للذهب، تَبًّا للفضّة، يقولها ثلاثًا، قال: فشقَّ ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ، وقالوا: فأيّ مالٍ نتّخذ؟! فقال عمر : أنا أعلم لكم ذلك، فقال: يا رسول الله، إنَّ أصحابك قد شقَّ عليهم، وقالوا: فأيّ المال نتّخذ؟! قال: لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وزُوجةً تُعين أحدكم على دينه.
الشيخ: المقصود أنَّ الذهب والفضّة تَبًّا لهما إذا شغلتا عن الخير، وصدّتا عن سبيل الله، أمَّا إذا استعان بهما صاحبُهما على الخير، مثلما قال ﷺ: نِعم المال الصَّالح للرجل الصَّالح، مثل: الذي يُنفق منه في وجوه البرِّ، وإذا اتّخذ لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، ويسّر اللهُ له زوجةً صالحةً تُعينه على الحقِّ، فهذه من نِعم الله، كون العبد يُوفّق للسانٍ ذاكرٍ كثير الذكر .....، كثير الشكر لله -جلَّ وعلا-، ويُرزق زوجةً صالحةً تُعينه على طاعة الله، وعلى مُواساة الفقير والمسكين، وعلى برِّ الوالدين، وصِلة الرحم، إلى غير هذا، فهذا من نِعم الله، مثلما في الحديث: خير متاعها الزَّوجة الصالحة، وفي الحديث الآخر: فاظفر بذات الدِّين تربت يداك، نعم.
انظر: جعدة بن هبيرة في "التقريب".
مُداخلة: في حاشيةٍ يا شيخ يقول: ..... ذكره الزيلعي في "تخريج الكشاف" وعزاه لعبدالرزاق في "تفسيره" بعد أن ذكره من حديث ثوبان وعمر، ثم قال: الحاصل أنَّه حديثٌ ضعيفٌ؛ لما فيه من الاضطراب.
الشيخ: نعم.
الطالب: جعدة بن هبيرة ابن أبي وهب، المخزومي، صحابي صغير، له رؤية، وهو ابن أم هانئ بنت أبي طالب، وقال العجلي: تابعي، ثقة. (النَّسائي في "المناقب").
الشيخ: المعنى صحيح: "تَبًّا لها" يعني: لمن شغلته عن طاعة الله، لمن شغلته عن الحقِّ.
س: هذا السَّند ضعيف؟
ج: هذا سند جيد، لا بأس به، أبو حصين وشيخ المؤلف جيد، وجعدة صحابي صغير، أو تابعي ثقة، وهما سواء.
س: نِعم المال الصَّالح للرجل الصالح حديث؟
ج: نعم، في الصَّحيح.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالله بن عمرو بن مرّة، عن أبي محمد جعفر: حدثنا شعبة: حدثني سالم بن عبدالله: أخبرنا عبدالله ابن أبي الهذيل: حدثني صاحبٌ لي: أنَّ رسول الله ﷺ قال: تبًّا للذهب والفضّة.
قال: وحدثني صاحبي: أنَّه انطلق مع عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، قولك: تبًّا للذهب والفضّة، ماذا ندَّخر؟ قال رسولُ الله ﷺ: لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وزوجةً تُعين على الآخرة.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع: حدثنا عبدالله بن عمرو بن مرّة، عن أبيه، عن سالم ابن أبي الجعد، عن ثوبان قال: لما نزل في الذَّهب والفضّة ما نزل قالوا: فأيّ المال نتّخذ؟! قال عمر: فأنا أعلم لكم ذلك. فأوضع على بعيرٍ.
الشيخ: فأوضع يعني: أسرع.
فأدركه، وأنا في أثره، فقال: يا رسول الله، أيّ المال نتّخذ؟ قال: قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وزوجةً تُعين أحدكم على أمر الآخرة.
ورواه الترمذي وابنُ ماجه من غير وجهٍ، عن سالم ابن أبي الجعد، وقال الترمذي: حسن. وحُكي عن البخاري: أنَّ سالـمًا لم يسمعه من ثوبان. قلتُ: ولهذا رواه بعضُهم عنه مُرسلًا، والله أعلم.
حديثٌ آخر: قال ابنُ أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا حميد بن مالك: حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي: حدثنا أبي: حدثنا غيلان بن جامع المحاربي، عن عثمان ابن أبي اليقظان، عن جعفر ابن أبي إياس، عن مجاهد، عن ابن عباسٍ قال: لما نزلت هذه الآية: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الآية، كبر ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيع أحدٌ منا أن يترك لولده مالًا يبقى بعده! فقال عمر: أنا أفرج عنكم. فانطلق عمرُ، واتَّبعه ثوبان، فأتى النبي ﷺ فقال: يا نبيّ الله، إنَّه قد كبر على أصحابك هذه الآية. فقال رسولُ الله ﷺ: إنَّ الله لم يفرض الزكاةَ إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم، قال: فكبّر عمر، ثم قال له النبيُّ ﷺ: ألا أُخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصَّالحة التي إذا نظر إليها سرّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته.
ورواه أبو داود، والحاكم في "مستدركه"، وابن مردويه من حديث يحيى بن يعلى، به، وقال الحاكم: صحيحٌ على شرطهما، ولم يُخرجاه.
مُداخلة: أحسن الله إليك، جعفر بن إياس، وليس جعفر ابن أبي إياس.
الشيخ: الظاهر أنَّه ابن إياس، انظر "التقريب"، ابن أبي وحشية جعفر بن إياس.
وبكل حالٍ مثلما تقدّم: الله -جلَّ وعلا- إنما قال: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، أمَّا مَن أنفق وأدَّى الزكاة فالحمد لله، فالمؤمن كالصَّحابة منهم كثير المال، ومنهم التّجار والأخيار؛ ولهذا قال في حديث أمِّ سلمة، وفي هذا الحديث أيضًا: إنَّ الله لم يفرض الزكاةَ إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، فإذا أخرج الإنسانُ الواجبَ طاب له ما بقي من ذهبٍ، أو فضَّةٍ، أو حبوبٍ، أو ملابس، أو دواب، أو غير ذلك، المهم أن يُؤدِّي الواجب، فإذا أدَّى الواجب فالمال بعده طيب، نعم، ذهب، أو فضّة، أو غير ذلك.
الطالب: جعفر بن إياس، أبو بشر، ابن أبي وحشية: بفتح الواو، وسكون المهملة، وكسر المعجمة، وتثقيل التَّحتانية.
الشيخ: هذا هو المعروف: جعفر بن إياس.
طالب: الذي قبله فيه اختلاف.
الشيخ: أيش عندكم؟
الشيخ: عن عثمان أبي اليقظان، ما عندكم: ابن؟
أحد الطلاب: لا، ما عندنا: عثمان أبي اليقظان.
الشيخ: راجع "التقريب": عثمان أبي اليقظان، نعم.
الشيخ: عندكم عليه حاشية؟
الطالب: لا.
الشيخ: انظر: حسان بن عطية، وشداد بن أوس.
الطالب: أبو اليقظان عثمان بن عمير –بالتَّصغير-، ويُقال: ابن قيس، والصواب أنَّ قيسًا جدّ أبيه، وهو عثمان ابن أبي حميد أيضًا، البجلي، أبو اليقظان، الكوفي، الأعمى.
الشيخ: عثمان أبو اليقظان، الذي عنده "ابن" يمحوه، هو عثمان، وكنيته: أبو اليقظان.
الطالب: حسان بن عطية، المحاربي مولاهم، أبو بكر، الدّمشقي، ثقة، فقيه، عابد، من الرابعة، مات بعد العشرين ومئة. (الجماعة).
الشيخ: انظر: شدادًا ووفاته، هذا شداد بن أوس ابن أخي حسان .
الطالب: شداد بن أوس بن ثابت، الأنصاري، أبو يعلى، صحابي، مات بالشام قبل الستين، أو بعدها، وهو ابن أخي حسان بن ثابت. (الجماعة).
الشيخ: يحتمل أنَّه سمع منه حسان؛ بين وفاتهما ستون سنةً.
مُداخلة: في "الخلاصة": حسان بن عطية، المحاربي مولاهم، أبو بكر، الدّمشقي، فقيه، عن أبي أمامة -ولم يسمع منه- وابن المسيب، وعنه الأوزاعي.
الشيخ: أبو أمامة وفاته تأخّرت.
الطالب: وابن المسيب، وعنه: الأوزاعي، وأبو غسان محمد بن عمر، وثَّقه أحمدُ وابنُ معين، قال الذَّهبي: بقي إلى قريب الثلاثين ومئة.
الشيخ: المقصود أنَّه يحتمل أنَّ فيه انقطاعًا؛ لأنَّ بين وفاتيهما مدّة، لكنَّه حديثٌ عظيمٌ، فيه الدُّعاء العظيم: اللهم إني أسألك الثَّبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، هذا حديثٌ عظيمٌ، دعاءٌ جديرٌ بالعناية والحفظ .....، نعم.
مُداخلة: الحديث رواه البخاري في "الأدب المفرد" أيضًا.
الشيخ: عندك سنده؟
الطالب: أنا أحفظه في "الأدب المفرد".
الشيخ: يُراجع سنده عند البخاري، تُراجعه في "الأدب المفرد".
مُداخلة: شداد بن أوس في "الخلاصة": شداد بن أوس بن ثابت، المنذري، ابن حرام، الأنصاري، النَّجار .....، المدني، ابن أخي حسان بن ثابت، له خمسون حديثًا، انفرد له البخاري بحديثٍ، ومسلم بآخر، وعنه ابنه يعلى ومحمود بن الربيع، قال عُبادة بن الصَّامت: شداد من الذين أوتوا العلم والحلم. مات سنة ثمانٍ وخمسين في بيت المقدس.
الشيخ: الظاهر أنَّه لم يسمع منه، فيه انقطاع.
مُداخلة: هناك رسالة لابن رجب في شرح الحديث وتخريجه.
الشيخ: أيش فيها؟
الطالب: على هذا الحديث، وتكلّم وشرح، رسالة شرح حديث شداد هذا.
الشيخ: جديرٌ بذلك، تلتمسه، وتأتي بسنده، جزاك الله خيرًا.
س: ..............؟
ج: نعم، قال: مَن سلم من الشِّرك وغيره، من الشِّرك وسائر المعاصي، "ولسانًا صادقًا"، الله أكبر.
س: ما حال الحديث الذي قبله؟
ج: ما هو؟
س: المرأة الصَّالحة إذا نظر إليها سرَّته.
ج: هذا صحيحٌ، حديثٌ صحيحٌ: خير متاع الدنيا الزَّوجة الصَّالحة، صحيحٌ، نعم.
س: أليس الصَّواب بالسين: "السّفرة"، بدل "الشّفرة"؟
ج: محتمل، "السفرة" محلّ الطعام، لكن الأقرب أنها "الشّفرة"؛ لأنَّ السّفرة لا يُلعب بها، أما الشّفرة فيُعبث بها.
مُداخلة: حاشية هنا على نسخة (الشعب) قال: الشّفرة، والشّفيرة: التي تقنع من النِّكاح بأيسره، وهي نقيض القعيرة. انظر "اللسان".
الشيخ: لا، المراد غير هذا.
وقوله تعالى: يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:35] أي: يُقال لهم هذا الكلام تبكيتًا وتقريعًا وتهكُّمًا، كما في قوله: ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:48-49] أي: هذا بذاك، وهذا الذي كنتم تكنزون لأنفسكم؛ ولهذا يُقال: مَن أحبَّ شيئًا وقدَّمه على طاعة الله عُذِّب به.
وهؤلاء لما كان جمعُ هذه الأموال آثر عندهم من رضا الله عنهم عُذِّبوا بها، كما كان أبو لهب -لعنه الله- جاهدًا في عداوة رسول الله ﷺ، وامرأته تُعينه في ذلك؛ كانت يوم القيامة عونًا على عذابه أيضًا: فِي جِيدِهَا أي: عُنقها حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ [المسد:5] أي: تجمع من الحطب في النار وتُلقي عليه؛ ليكون ذلك أبلغ في عذابه ممن هو أشفق عليه في الدنيا، كما أنَّ هذه الأموال كما كانت أعزَّ الأشياء على أربابها، كانت أضرَّ الأشياء عليهم في الدار الآخرة.
الشيخ: لما بخلوا بها ولم يُؤدُّوا حقَّها عُذِّبوا بها، وهكذا الإبل والبقر والغنم إذا لم يُؤدُّوا حقَّها يُعذَّبون بها يوم القيامة: يبطح لها بقاع قرقر، تطأه الإبل بأخفافها، وتعضّه بأفواهها، وتطأه البقر والغنم بأظلافها، وتنطحه بقرونها، كلما مرَّت عليهم أُخراها، عادت عليهم أُولاها، في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، كما يأتي، نسأل الله العافية.
س: قول المؤلف: "ولهذا يُقال: مَن أحبَّ شيئًا وقدَّمه على طاعة الله عُذِّب به" هل هو على إطلاقه؟
ج: فيه تفصيلٌ: إذا قدَّمه على ما أوجب الله عليه .....، نعم.
فـيُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وناهيك بحرِّها: فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ.
قال سفيان: عن الأعمش، عن عبدالله بن عمرو بن مرّة، عن مسروق، عن عبدالله بن مسعود: والذي لا إله غيره، لا يُكوى عبدٌ يكنز فيمسّ دينارٌ دينارًا، ولا درهمٌ درهمًا، ولكن يُوسّع جلده، فيُوضع كلُّ دينارٍ ودرهم على حدته.
وقد رواه ابنُ مردويه عن أبي هريرة مرفوعًا، ولا يصحّ رفعه، والله أعلم.
الشيخ: يكفي كونه يُعذَّب به، نسأل الله العافية، سواء كانت بعضُها فوق بعضٍ، أو كلّ واحدٍ مُستقلّ، لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، نسأل الله العافية.
الشيخ: شجاعًا أقرع.
يتبع صاحبه، وهو يفرّ منه، ويقول: أنا كنزك. لا يُدرك منه شيئًا إلا أخذه.
وقال الإمام أبو جعفر ابن جرير: حدثنا بشر: حدثنا يزيد: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سالم ابن أبي الجعد، عن معدان ابن أبي طلحة، عن ثوبان: أنَّ رسول الله ﷺ كان يقول: مَن ترك بعده كنزًا مثّل له يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان، يتبعه ويقول: ويلك! ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك. ولا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها، ثم يتبعها سائر جسده.
مُداخلة: عندنا: فيُقصقصها.
الشيخ: لا، "فيقضمها" كما جاء في الحديث الصَّحيح على قوله تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:180]، نعم.
س: كيف يجمع بين هذا الحديث وقول النبي ﷺ: إنَّك أن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس؟
ج: ليس هناك مُنافاة، ترك للورثة، ولكن يُؤدِّي الحقَّ، ولو خلَّف من غير الذَّهب والفضّة إذا أدَّى الحقَّ ما عليه شيء، ما بينهما تخالُف.
المهم أنَّ الوعيد على مَن لم يُؤدِّ حقَّها، فإذا أدَّى حقَّها سلم من شرِّها، نعم.
ورواه ابنُ حبان في "صحيحه" من حديث يزيد، عن سعيد، به.
وأصل هذا الحديث في "الصحيحين" من رواية أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة .
وفي "صحيح مسلم" من حديث سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله ﷺ قال: ما من رجلٍ لا يُؤدِّي زكاةَ ماله إلا جُعل له يوم القيامة صفائح من نارٍ، فيُكوى بها جنبه وجبهته وظهره، في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد، ثم يرى سبيله: إمَّا إلى الجنة، وإمَّا إلى النار. وذكر تمام الحديث.
وقال البخاري في تفسير هذه الآية: حدثنا قتيبة بن سعيد: حدثنا جرير، عن حصين، عن زيد بن وهب قال: مررتُ على أبي ذرّ بالرّبذة، فقلتُ: ما أنزلك بهذه الأرض؟ قال: كنا بالشَّام فقرأتُ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34]، فقال معاوية: ما هذه فينا، ما هذه إلا في أهل الكتاب. قال: قلتُ: إنها لفينا وفيهم.
ورواه ابنُ جرير من حديث عبيد بن القاسم.
مُداخلة: من حديث عبثر بن القاسم.
الشيخ: الأقرب -والله أعلم- أنَّه عبثر بن القاسم.
مُداخلة: ذكر تعليقًا في الحاشية، قال: وفي "التهذيب": عبثر بن القاسم، الزبيدي، أبو زبيد، الكوفي، روى عن حصين بن عبدالرحمن، وعنه: أحمد بن عبدالله بن يونس، وابنه أبو حصين عبدالله بن أحمد، ونحسب ما في "تفسير الطبري" خطأ.
الشيخ: هذا هو صوابه، نعم.
ورواه ابنُ جرير من حديث عبثر بن القاسم، عن حصين، عن زيد بن وهب، عن أبي ذرٍّ فذكره، وزاد: فارتفع في ذلك بيني وبينه القول، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أُقبل إليه. قال: فأقبلتُ إليه، فلمَّا قدمتُ المدينة ركبني الناسُ كأنَّهم لم يروني قبل يومئذٍ، فشكوتُ ذلك إلى عثمان، فقال لي: تنحّ قريبًا. قلتُ: والله لن أدع ما كنتُ أقول.
قلت: كان من مذهب أبي ذرٍّ تحريم ادِّخار ما زاد على نفقة العيال، وكان يُفتي بذلك، ويحثّهم عليه، ويأمرهم به، ويُغلظ في خلافه.
الشيخ: كان هذا رأيه، كان له هذا الرأي؛ فلهذا رأى عثمانُ اعتزاله في الرّبذة؛ لأنَّه رأي خاطئ، غلط فيه ، والصواب أنَّ المال لا يضرّه إذا أدَّى حقَّه، ولو كان زائدًا على نفقة العيال، هذا هو الحقّ الذي عليه عامَّة المسلمين وأهل العلم قاطبةً، نعم.
فنهاه معاوية، فلم ينتهِ، فخشي أن يضرّ الناس في هذا، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان، وأن يأخذه إليه، فاستقدمه عثمانُ إلى المدينة، وأنزله بالرّبذة وحده، وبها مات في خلافة عثمان.
وقد اختبره معاويةُ وهو عنده: هل يُوافق عملُه قولَه؟ فبعث إليه بألف دينارٍ، ففرَّقها من يومه، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال: إنَّ معاوية إنما بعثني إلى غيرك، فأخطأتُ، فهاتِ الذَّهب. فقال: ويحك! إنَّها خرجت، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به.
وهكذا روى علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباسٍ: أنها عامّة.
وقال السّدي: هي في أهل القبلة.
وقال الأحنف بن قيس: قدمتُ المدينة، فبينا أنا في حلقةٍ فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجلٌ أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم فقال: بشّر الكنَّازين برضفٍ يُحمى عليه في نار جهنم، فيُوضَع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويُوضَع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه، يتزلزل. قال: فوضع القومُ رؤوسهم، فما رأيتُ أحدًا منهم رجع إليه شيئًا. قال: وأدبر، فاتّبعته حتى جلس إلى ساريةٍ، فقلتُ: ما رأيتُ هؤلاء إلا كرهوا ما قلتَ لهم. فقال: إنَّ هؤلاء لا يعلمون شيئًا.
وفي الصحيح: أنَّ رسول الله ﷺ قال لأبي ذرٍّ: ما يسرّني أنَّ عندي مثل أحدٍ ذهبًا يمرّ عليَّ ثلاثة أيامٍ وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدَينٍ، فهذا -والله أعلم- هو الذي حدا بأبي ذرٍّ على القول بهذا.
الشيخ: وهذا الذي يُخبر النبي ﷺ أنَّه يُحبّه: ما يسرّني أنَّ عندي مثل أحدٍ ذهبًا يمرّ عليَّ ثلاثة أيامٍ وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدَينٍ، ولكن أقول به في عباد الله هكذا، وهكذا، وهكذا، هذا معناه الحثّ على الجود والنَّفقة، وليس معناه تحريم الادِّخار، ولكن أبا ذرّ غلط في هذا .
انظر: "فيُوضَع على حلمة ثديه"، أيش متن الحديث؟
قارئ المتن: "فيُوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه".
الشيخ: انظر "القاموس": نغض.
الشيخ: قف، بركة، نسأل الله العافية والسلامة.