تفسير قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ..}

وقوله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمدٍ ﷺ لم يبقَ لهم إيمانٌ صحيحٌ بأحدٍ من الرسل، ولا بما جاءوا به، وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه، لا لأنَّه شرع الله ودينه؛ لأنَّهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانًا صحيحًا لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمدٍ ﷺ؛ لأنَّ جميع الأنبياء بشَّروا به، وأمروا باتِّباعه، فلمَّا جاء وكفروا به وهو أشرف الرسل عُلم أنَّهم ليسوا مُتمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنَّه من عند الله، بل لحظوظهم وأهوائهم؛ فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم؛ ولهذا قال: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وهذه الآية الكريمة أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعدما تمهدت أمور المشركين.

الشيخ: لعله يعني: بعدما بانت أمورهم، يعني: أهل الكتاب تُؤخذ منهم الجزية، والباقون يُقاتلون، ويُناسب المقام: أمور المسلمين، لكن ..... بعض المعنى: تمهدت أمور المشركين، يعني: اتَّضحت أمور المشركين، وبيَّن اللهُ حكمَهم.

والخلاصة أنَّ الله -جلَّ وعلا- أمر بقتال أهل الكتاب إلا إذا بذلوا الجزية؛ لكفرهم بالله، وعدم إيمانهم بنبيه محمدٍ ﷺ، فعدم إيمانهم بمحمدٍ ﷺ جعلهم غير مؤمنين وغير دائنين بدين الحقِّ، مَن كفر بواحدٍ من الأنبياء فقد كفر بالجميع؛ ولهذا قال: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ صار إيمانهم السَّابق باطلًا؛ لأنَّه لو كان إيمانًا صحيحًا صادقين فيه لتابعوا محمدًا ﷺ الذي جاء بتأييد الرسل، وجاء بالحقِّ الذي جاءوا به، وقد بشَّروا به وبيَّنوه، ومن جُملتهم عيسى بشَّر به، فلمَّا تعاندوا وكفروا وحسدوا أمر اللهُ بقتالهم حتى يُسلموا، أو يُؤدّوا الجزية، إن أسلموا فهذا هو المطلوب، وإن لم يُسلموا فعليهم الصَّغار، وعليهم أداء الجزية، وهي مالٌ يُؤخذ منهم كل سنةٍ، يُؤخذ من رجالهم كل سنة الذين يستطيعون؛ صغارًا لهم، وإذلالًا لهم، لعلهم ينقادوا للحقِّ، حتى ينقادوا للحقِّ؛ ولهذا قال: عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، فهذا الذل والهوان يدعوهم -إذا كان عندهم أدنى بصيرةٍ- إلى الإسلام، وأن يُتابعوا ما جاء به أنبياؤهم، وأن يسلموا من هذا الخزي والذل.

وقد أخذ النبي ﷺ الجزية أيضًا من مجوس هجر، وسنَّ فيهم سنة اليهود والنَّصارى، فالجزية تُؤخذ من هؤلاء الأصناف الثلاثة: اليهود، والنصارى، والمجوس، إذا لم يُسلموا تُؤخذ منهم الجزية، أما البقية -بقية الكفَّار- فالواجب قتالهم مطلقًا حتى يُسلموا إذا استطاعت القوة الإسلامية، إذا استطاع وليُّ أمر المسلمين أن يُقاتل وجب أن يُقاتل الجميع: شيوعي، وثني، لا ديني، إلى غير ذلك، يجب أن يُقاتلوا حتى يُسلموا، ولا تُقبل منهم الجزية، لكن يجب أن يُقاتلوا حتى يُسلموا، وإذا لم يستطع وليُّ الأمر ذلك صالحهم، كما صالح النبي ﷺ كفَّار قريش يوم الحُديبية حتى يُسلموا، أو يقوى على جهادهم وقتالهم، نعم.

س: .............؟

ج: المتبادر أنها أمور المسلمين، لكن لعله ما دامت النُّسخ متَّفقةً لعلَّ لها وجهًا.

ودخل الناسُ في دين الله أفواجًا، واستقامت جزيرةُ العرب، أمر اللهُ ورسولُه بقتال أهل الكتابين: اليهود والنصارى، وكان ذلك في سنة تسعٍ؛ ولهذا تجهز رسولُ الله ﷺ لقتال الروم، ودعا الناس إلى ذلك، وأظهره لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم، فأوعبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفًا، وتخلَّف بعضُ الناس من أهل المدينة ومَن حولها من المنافقين وغيرهم، وكان ذلك في عام جدبٍ، ووقت قيظٍ وحرٍّ.

وخرج رسولُ الله ﷺ يريد الشام لقتال الروم، فبلغ تبوك، فنزل بها، وأقام بها قريبًا من عشرين يومًا، ثم استخار الله في الرجوع، فرجع عامه ذلك؛ لضيق الحال، وضعف الناس، كما سيأتي بيانُه بعد -إن شاء الله تعالى.

الشيخ: وكان ذلك سنة تسعٍ من الهجرة، نعم.

وقد استدلّ بهذه الآية الكريمة مَن يرى أنَّه لا تُؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، أو مَن أشبههم كالمجوس، كما صحَّ فيهم الحديث: أنَّ رسول الله ﷺ أخذها من مجوس هجر، وهذا مذهب الشَّافعي وأحمد في المشهور عنه، وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: بل تُؤخذ من جميع الأعاجم، سواء كانوا من أهل الكتاب، أو من المشركين، ولا تُؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب.

الشيخ: وهذا قولٌ ضعيفٌ، قول أبي حنيفة ومَن معه ضعيفٌ، والصواب أنَّ هذا يختصّ باليهود والنَّصارى والمجوس؛ لأنَّ الله خصصهم، قال: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، والرسول أخذها من مجوس هجر، وألحقهم باليهود والنَّصارى، فلا تُؤخذ من غيرهم؛ لأنَّ الرسول لم يأخذها من غيرهم، بل قاتل المشركين، وقاتل أهل مكّة، وقاتل غيرهم من العرب، ولم يأخذ منهم، وهكذا الصَّحابة قاتلوا مُسيلمة ومَن معه، وقاتلوا الكفَّار من عهد النبي ﷺ، ولم يأخذوا من غير اليهود والنَّصارى والمجوس.

س: .............؟

ج: القول الراجح أنها لا تُؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس، وحديث بُريدة المراد به هؤلاء: إذا حاصرت أهلَ حصنٍ، هم أهل الحصون، هم اليهود والنصارى، نعم.

وقال الإمامُ مالك: بل يجوز أن تُضرب الجزية على جميع الكفَّار من كتابيٍّ ومجوسيٍّ ووثنيٍّ وغير ذلك.

ولمأخذ هذه المذاهب وذكر أدلتها مكانٌ غير هذا، والله أعلم.

س: قول مالك كذلك ضعيف؟

ج: نعم.

س: المجوس لهم كتاب؟

ج: ما لهم كتابٌ على الصَّحيح، وبعض أهل العلم يقولون: لهم شبه كتابٍ، وإلا ما لهم كتاب، ولا لهم نبي، نعم، والمجوس هم عُبَّاد النَّار.

وقوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ أي: إن لم يُسلموا، عَنْ يَدٍ أي: عن قهرٍ لهم وغلبة، وَهُمْ صَاغِرُونَ أي: ذليلون، حقيرون، مُهانون؛ فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذّمة، ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء، صغرة، أشقياء، كما جاء في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة : أنَّ النبي ﷺ قال: لا تبدؤوا اليهود والنَّصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدَهم في طريقٍ فاضطروه إلى أضيقه.

ولهذا اشترط عليهم أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب تلك الشُّروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم، وذلك مما رواه الأئمّة الحفّاظ من رواية عبدالرحمن بن غنم الأشعري، قال: كتبتُ لعمر بن الخطاب حين صالح نصارى من أهل الشام: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ لعبدالله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا: إنَّكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل مِلّتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نُحدِث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرًا ولا كنيسةً ولا قلايةً ولا صومعةَ راهبٍ، ولا نُجدد ما خرب منها، ولا نُحيي منها ما كان خططًا للمسلمين، وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحدٌ من المسلمين في ليلٍ ولا نهارٍ، وأن نُوسّع أبوابها للمارّة وابن السَّبيل، وأن ننزل مَن مرَّ بنا من المسلمين ثلاثة أيام نُطعمهم، ولا نُؤوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسًا، ولا نكتم غشًّا للمسلمين، ولا نُعلّم أولادنا القرآن، ولا نُظهر شركًا، ولا ندعو إليه أحدًا، ولا نمنع أحدًا من ذوي قرابتنا الدُّخول في الإسلام إن أرادوه، وأن نُوقّر المسلمين، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبّه بهم في شيءٍ من ملابسهم: في قلنسوةٍ، ولا عمامةٍ، ولا نعلين، ولا فرق شعرٍ، ولا نتكلّم بكلامهم، ولا نكتني بكُناهم، ولا نركب السُّروج، ولا نتقلّد السيوف، ولا نتّخذ شيئًا من السلاح، ولا نحمله معنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجزّ مقاديم رؤوسنا، وأن نلزم زيّنا حيثما كنا، وأن نشدّ الزنانير على أوساطنا، وأن لا نُظهر الصَّليب على كنائسنا، وأن لا نُظهر صلبنا ولا كُتبنا في شيءٍ من طرق المسلمين، ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربًا خفيفًا، وأن لا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيءٍ من حضرة المسلمين، ولا نخرج شعانين، ولا باعوثًا.

الشيخ: باعوثًا؟!

مداخلة: في الحاشية قال: الباعوث: استسقاء النَّصارى، وهم اسم سرياني. وقيل: هو بالغين المعجمة والتاء المنقوطة فوقها.

الشيخ: المقصود أنَّ هذا هو الصَّغار، هذه الشُّروط في غاية الصَّغار والإذلال، والمقصود من هذا دعوتهم إلى الإسلام، لعلهم لا يتحمّلون هذا الصَّغار فيدخلون في الإسلام، هذا الصَّغار معناه دعوتهم بالعمل إلى الإسلام ليسلموا من هذا الصَّغار ويدخلوا في حزب الإسلام.

ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نُظهر النِّيران معهم في شيءٍ من طرق المسلمين، ولا أسواقهم، ولا نُجاورهم بموتانا، ولا نتّخذ من الرَّقيق ما جرى عليه سهام المسلمين، وأن نُرشد المسلمين، ولا نطلع عليهم في منازلهم.

قال: فلمَّا أتيتُ عمر بالكتاب زاد فيه: ولا نضرب أحدًا من المسلمين، شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل مِلّتنا، وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا في شيءٍ مما شرطناه لكم، ووظفنا على أنفسنا؛ فلا ذمّة لنا، وقد حلَّ لكم منا ما يحلّ من أهل المعاندة والشِّقاق.

وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة:30].

س: هذه الشُّروط كانت ابتداءً منهم أم طلبها عمر؟

ج: عمر طالبهم بهذا، أن يلتزموا بهذا .