قال البخاري في كتاب "المغازي": باب قول الله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:9-13].
حدثنا أبو نعيم: حدثنا إسرائيل، عن مخارق، عن طارق بن شهاب قال: سمعتُ ابن مسعودٍ يقول: شهدتُ من المقداد بن الأسود مشهدًا لأن أكون صاحبه أحبّ إليَّ مما عدل به: أتى النبيّ ﷺ وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قومُ موسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا [المائدة:24]، ولكنا نُقاتل عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك، وخلفك. فرأيتُ النبي ﷺ أشرق وجهه وسرّه –يعني: قوله.
حدَّثني محمد بن عبدالله بن حوشب: حدثنا عبدالوهاب: حدثنا خالد الحذَّاء، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ قال: قال النبي ﷺ يوم بدر: اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئتَ لم تُعبد، فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك. فخرج وهو يقول: سيُهزم الجمعُ ويُولون الدُّبر.
ورواه النَّسائي، عن بندار، عن عبدالوهاب بن عبدالمجيد الثَّقفي.
الشيخ: وهذا من النبي ﷺ يدلّ على أنَّ المسلمين عند لقاء العدو ينبغي لهم الإلحاح في الدُّعاء، والانكسار بين يدي الله، والضَّراعة إليه في طلب النَّصر والتَّأييد؛ ولهذا قال -جلَّ وعلا-: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، والنبي ﷺ قال: اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك يعني: وعدك لأوليائك بالنَّصر، وعدك بهذا.
فهكذا ينبغي للمُسلمين، ولا سيما عند الشَّدائد: الإلحاح في الدعاء، والضَّراعة إلى الله، والانكسار بين يديه، فإنَّه سبحانه يُحبّ أن يُسأل، يقول -جلَّ وعلا-: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، ولما كان يوم بدر، يوم خرج النبي ﷺ في بدر، خرج لقصد العير، ولم يخرج للقتال، فلمَّا بلغه توجّه أهل مكّة إلى بدرٍ لأجل إنقاذ عيرهم استشار الناس: هل يذهب إلى بدرٍ ويُقابل العدو، أم يرجع، أم ماذا يفعل؟ فأشار عليه الصحابةُ بأن يمضي لأمر الله، وهم تابعون له، وماضون معه لما يمضي فيه، فلم يزل ينشدهم ويقول: ما ترون؟ فقال المقداد بن الأسود : لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربُّك فقاتلا، إنا معكما مُقاتلون، لنُقاتلنَّ عن يمينك، وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك.
وهكذا قال الأنصارُ: سعد بن معاذ، وبقية الأنصار ، فسُرَّ النبي بهذا، وانشرح صدره لهذا، وبشَّرهم بالنصر وقال لهم: كأني أنظر إلى موضع فلان وفلان، مصرع فلان، ومصرع فلان، ومصرع فلان، بشَّرهم بأنَّ الله سينصرهم، وأنَّ أولئك الكفرة سوف يُقتلون ويُقضى عليهم، فوقع كما أخبر -عليه الصلاة والسلام-، نصره الله وأيَّده، وأراهم مصارع القوم: أبي جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وغيرهم من صناديدهم ورؤسائهم، نعم.
وقوله تعالى: بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9] أي: يردف بعضُهم بعضًا، كما قال هارونُ بن عنترة، عن ابن عباسٍ: مُرْدِفِينَ مُتتابعين.
ويحتمل أنَّ المراد: مُردفين لكم، أي: نجدة لكم. كما قال العوفي، عن ابن عباسٍ: مُرْدِفِينَ يقول: المدد، كما تقول: ائتِ للرجل، زده كذا وكذا.
وهكذا قال مجاهد وابن كثير القارئ وابن زيد: مُرْدِفِينَ ممدين.
الشيخ: يعني: جماعة بعد جماعة.
ويحتمل أنَّ معنى مُرْدِفِينَ يعني: أنَّ كل ملكٍ معه ملك خلفه، يعني: ملك معه رديف، يعني: الألف يكونون ألفين بالردف.
والحاصل أنَّ الله -جلَّ وعلا- وعد نبيَّه بالملائكة الذين ينصرونه على أعداء الله مردفين، يعني: جماعة تتبعهم جماعة، أو جماعة معهم جماعة ردفًا لهم، فينصرون نبيّ الله -عليه الصلاة والسلام.
وقال أبو كدينة: عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباسٍ: يمدّكم ربُّكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ قال: وراء كل ملكٍ ملكٌ.
وفي روايةٍ بهذا الإسناد: مُرْدِفِينَ قال: بعضُهم على أثر بعضٍ. وكذا قال أبو ظبيان والضَّحاك وقتادة.
وقال ابنُ جرير: حدَّثني المثنى: حدثنا إسحاق: حدثنا يعقوب بن محمد الزهري: حدثني عبدالعزيز بن عمران، عن الزمعي، عن أبي الحويرث، عن محمد بن جبير، عن عليٍّ قال: نزل جبريلُ في ألفٍ من الملائكة عن ميمنة النبي ﷺ وفيها أبو بكر، ونزل ميكائيلُ في ألفٍ من الملائكة عن ميسرة النبي ﷺ وأنا في الميسرة.
وهذا يقتضي إن صحَّ إسناده أنَّ الألف مُردفة بمثلها؛ ولهذا قرأ بعضُهم مُرْدَفِين بفتح الدَّال، والله أعلم.
والمشهور ما رواه علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباسٍ قال: وأمدّ اللهُ نبيَّه ﷺ والمؤمنين بألفٍ من الملائكة، فكان جبريلُ في خمسمئة من الملائكة مجنبة، وميكائيل في خمسمئة مجنبة.
الشيخ: مجنبة عن يمينٍ وشمالٍ.
الشيخ: "خطم" يعني: ضُرب وجهه.
الشيخ: وهذه من آيات الله، فإنَّهم كانوا نحو ألف مقاتل، ومعهم السلاح العظيم والخيل، والمسلمون كانوا ثلاثمئة وبضعة عشر، نحو الثلث، وجاء أولئك الكفَّار بخُيلائهم وتكبّرهم وعجبهم، فأحبط الله -جلَّ وعلا- عملهم، وأبطل كيدهم، وسلّط عليهم عدوهم المؤمنين والملائكة جميعًا، الملائكة مع المؤمنين، حتى حُطِّموا، وقُتِلَ أشرافُهم، وأُسِرَ أيضًا كذلك جماعةٌ من أشرافهم، ورجعوا خائبين: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال:10]، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].
س: هل كان الصحابةُ يرون الملائكة؟
ج: قد يرون بعضهم كما في هذا الأثر.
س: صدقت أو صدقت؟
ج: صدقت، أخبره أنَّه رآه، أنَّك صادق.
وقال البخاري: باب شهود الملائكة بدرًا.
حدثنا إسحاق بن إبراهيم: حدثنا جرير، عن يحيى بن سعيد، عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي، عن أبيه -وكان أبوه من أهل بدر- قال: جاء جبريلُ إلى النبي ﷺ فقال: ما تعدّون أهل بدرٍ فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين، أو كلمة نحوها، قال: وكذلك مَن شهد بدرًا من الملائكة. انفرد بإخراجه البخاري.
الشيخ: مَن شهد بدرًا من الملائكة يُعتبرون من أفضل الملائكة، كما أنَّ مَن شهدها من أهل بدرٍ من المسلمين يُعدّون من أفضل المسلمين، وفي الحديث الصحيح: اعملوا ما شئتُم فقد غفرتُ لكم، إنَّ الله اطَّلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتُم فقد غفرتُ لكم، منقبة عظيمة.
س: في حديث ابن عباسٍ السابق ما في صراحة على أنَّهم رأوا الملائكة؟
ج: نعم.
وقد رواه الطَّبراني في "المعجم الكبير" من حديث رافع بن خديج، وهو خطأ، والصواب رواية البخاري، والله أعلم.
وفي "الصحيحين": أنَّ رسول الله ﷺ قال لعمر لما شاوره في قتل حاطب بن أبي بلتعة: إنَّه قد شهد بدرًا، وما يُدريك، لعلَّ الله قد اطَّلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتُم فقد غفرتُ لكم.
س: قوله: "لعل" تكون للتَّرجي أو تحقيقية: لعلَّ الله اطَّلع على أهل بدرٍ؟
ج: الظاهر -والله أعلم- أنها تحقيقية؛ لأنَّ في الرواية الأخرى الجزم بذلك: إنَّ الله اطَّلع على أهل بدرٍ، نعم.
الشيخ: والمعنى: أنَّ إرسال الملائكة للتَّبشير والتَّطمين، وإلا فهو سبحانه قادرٌ أن ينصر أولياءه بغير بعث الملائكة، ومن غير جنده، يُنزل عليهم آفةً من السماء فيهلكون، كما أنزل على قوم نوحٍ، وعلى قوم هود، وعلى قوم صالح، وعلى قوم لوط، وعلى قوم شعيب، فهلكوا من دون قوةٍ، ولا سلاحٍ، والله على كل شيء قدير، ولكن يبتلي عبادَه الأخيار بالأشرار، ويُظهر أسباب النَّصر وأسباب التَّأييد لأوليائه؛ لتطمئنّ قلوبهم، وتنشرح صدورهم، ويعلموا أنَّ الله معهم، وأنَّه وليّهم وناصرهم ، ولو شاء لأهلك العدو بغير ذلك، نعم.
س: ما حكم مَن قال: إنَّ الصحابة وقعوا في النِّفاق العملي؟ وقع منهم أفرادٌ في النِّفاق العملي!
ج: هذا كلامٌ باطلٌ، عبدالله بن أبي ابن سلول وجماعته ما هم من الصَّحابة، المنافقون كفَّار، ليسوا من الصحابة، مَن وقع منه النِّفاق العملي -وهو الرياء- جماعة معروفون، يُقال لهم: المنافقون، أما الصحابة المؤمنون فليس فيهم نفاقٌ: لا عملي، ولا غير عملي.
س: يقصد قصّة حاطب؟
ج: لا، هذه تأوّل فيها، وبيّن النبيُّ ﷺ عذره، تأوَّل، فإنَّه فعلها ليس عن ردَّةٍ، وكان يظنّ أنَّ هذا جائزٌ له؛ يحمي أهله وماله في مكّة.
ولهذا قال: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كما قال تعالى: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:4-6]، وقال تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141]، فهذه حِكَمٌ شرع اللهُ جهادَ الكفَّار بأيدي المؤمنين لأجلها.
وقد كان تعالى إنما يُعاقب الأمم السَّالفة المكذّبة للأنبياء بالقوارع التي تعمّ تلك الأمم المكذّبة، كما أهلك قوم نوح بالطوفان، وعادًا الأولى بالدّبور، وثمود بالصّيحة، وقوم لوطٍ بالخسف والقلب وحجارة السّجيل، وقوم شعيبٍ بيوم الظُّلة.
فلمَّا بعث اللهُ تعالى موسى وأهلك عدوه فرعون وقومه بالغرق في اليمِّ، ثم أنزل على موسى التوراة، شرع فيها قتال الكفَّار، واستمرّ الحكمُ في بقية الشَّرائع بعده على ذلك، كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ [القصص:43]، وقتل المؤمنين للكافرين أشدّ إهانةً للكافرين، وأشفى لصدور المؤمنين، كما قال تعالى للمؤمنين من هذه الأمّة: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة:14]؛ ولهذا كان قتلُ صناديد قريش بأيدي أعدائهم الذين ينظرون إليهم بأعين ازدرائهم.
الشيخ: يعني: يحتقرونهم، وينظرون إليهم بعين الاحتقار، فأظهرهم الله عليهم، وأيَّدهم عليهم.
أنكى لهم، وأشفى لصدور حزب الإيمان، فقتل أبي جهل في معركة القتال وحومة الوغى أشدّ إهانةً له من موته على فراشه بقارعةٍ، أو صاعقةٍ، أو نحو ذلك، كما مات أبو لهب -لعنه الله- بالعدسة، بحيث لم يقربه أحدٌ من أقاربه، وإنما غسَّلوه بالماء قذفًا من بعيدٍ، ورجموه حتى دفنوه؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ [الأنفال:10] أي: له العزّة ولرسوله وللمؤمنين بهما في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر:51].
حَكِيمٌ [الأنفال:10] فيما شرعه من قتال الكفَّار، مع القُدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوّته .
الشيخ: ولكن مثلما تقدّم: ليشفي صدور المؤمنين، ويُعذّب الكافرين بأيدي المؤمنين الذين احتقروهم، وإلا فهو قادرٌ سبحانه أن يُهلكهم بريحٍ عقيمٍ، وبالزلزلة، وبغير هذا، ولكن الله سلّط المؤمنين عليهم ليشفي صدورهم، ويُعذّب الكافرين بأيديهم، كما عذَّبوهم في مكّة وفي غيرها بأنواع العذاب، والله أظهر المؤمنين عليهم، وشفا صدورهم والحمد لله.
س: ما معنى أنَّ أبا لهب مات بالعدسة؟
ج: مرض يرونه معديًا، ابتعدوا عنه لئلا تُصيبهم عدوى.
س: متى ينطبق على أحدنا: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ؟
ج: إذا أقام اللهُ علمَ الجهاد -يسَّر اللهُ ذلك-، نسأل الله أن يُقيم علم الجهاد، وينفع أيضًا في الدَّعوة إلى الله، والنُّصح لله ولعباده يحصل به خيرٌ للمسلمين، ولكن كون الله -جلَّ وعلا-: يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ من الكافرين بالقتال، هذا عند قيام الجهاد والصبر وإخلاص النية، نعم.