يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:153-154].
قال محمد بن كعب القرظي والسّدي وقتادة: سأل اليهودُ رسول الله ﷺ أن يُنزل عليهم كتابًا من السَّماء كما نزلت التوراةُ على موسى مكتوبةً.
قال ابنُ جريج: سألوه أن ينزل عليهم صحفًا من الله مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان بتصديقه فيما جاءهم به.
وهذا إنما قالوه على سبيل التَّعنت والعناد والكفر والإلحاد، كما سأل كفارُ قريش قبلهم نظير ذلك، كما هو مذكور في سورة سبحان: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا [الإسراء:90]؛ ولهذا قال تعالى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ أي: بطغيانهم وبغيهم وعتوهم وعنادهم، وهذا مُفسّر في سورة البقرة، حيث يقول تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:55-56].
وقوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ أي: من بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والأدلة القاهرة على يد موسى في بلاد مصر، وما كان من إهلاك عدوهم فرعون وجميع جنوده في اليم، فما جاوزوه إلا يسيرًا حتى أتوا على قومٍ يعكفون على أصنامٍ لهم، فقالوا لموسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138].
ثم ذكر تعالى قصة اتّخاذهم العجل مبسوطةً في سورة الأعراف، وفي سورة طه، بعد ذهاب موسى إلى مُناجاة الله ، ثم لما رجع وكان ما كان جعل الله توبتهم من الذي صنعوه وابتدعوه أن يقتل مَن لم يعبد العجل منهم مَن عبده، فجعل يقتل بعضُهم بعضًا، ثم أحياهم الله ، وقال الله تعالى: فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا.
ثم قال: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة، وظهر منهم إباء عمَّا جاءهم به موسى ، ورفع الله على رؤوسهم جبلًا، ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا، وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم؛ خشية أن يسقط عليهم، كما قال تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [الأعراف:171].
الشيخ: هذا كلّه يدلّنا على تعنّت اليهود وعنادهم وتكبّرهم ومُخالفتهم للأنبياء، والله يقصّ علينا أخبارهم حتى نلتزم بما جاء به نبينا -عليه الصلاة والسلام-، وحتى لا نتشبّه بهم في العناد والمخالفة، بل يجب على كل مؤمنٍ وعلى كل مُكلَّفٍ أن ينقاد للحقِّ بعد ظهور الدليل، وأن يدع التَّعنت والمخالفة والتَّحيل والتَّكبر، متى جاء الحقُّ وجب الخضوع له والالتزام به؛ ولهذا قال -جلَّ وعلا: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:63]، وقال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا [المائدة:92].
فالواجب على أهل الإيمان أن يُطيعوا الله ورسوله، وأن يحذروا غضبه وعقابه، وأن يحذروا التَّشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم ممن عاند الحقَّ وتكبّر عنه، أو أعرض وغفل، بل يجب الالتزام بالحقِّ، والإقبال عليه، والتَّدبر، والتَّعقل، والاستفادة من النصوص حتى تؤدي الواجب كما شرع الله لك، وحتى تحذر المنهي كما نهى الله عنه، فأنت عبدٌ مأمورٌ، فعليك أن تخضع للأوامر، وربّك حكيمٌ، عليمٌ، جعل جنَّته ونعيمه وفضله ورضاه لمن قبل الحقّ وخضع للحقِّ واستقام عليه، وجعل غضبه وعذابه لمن عاند الحقَّ واستكبر وخالف واتَّبع الهوى.
وفي قصّتهم وما جرى عليهم عِظات وذكرى، فعلينا أن نحذر أخلاقهم وصفاتهم الذَّميمة، وعلينا أن نأخذ بالحقِّ، ونلتزم به، وأن نحذر اتِّباع الهوى والمعاندة، فإنَّ في ذلك الهلاك السّرمدي والعذاب الأبدي، نسأل الله العافية.
وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا أي: فخالفوا ما أُمروا به من القول والفعل، فإنَّهم أُمروا أن يدخلوا باب بيت القدس سجدًا وهم يقولون: حطة، أي: اللهم حطّ عنا ذنوبنا في تركنا الجهاد ونكولنا عنه حتى تُهنا في التيه أربعين سنةً. فدخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون: حنطة في شعرة.
وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ أي: وصيناهم بحفظ السبت، والتزام ما حرَّم الله عليهم ما دام مشروعًا لهم.
وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا أي: شديدًا، فخالفوا وعصوا وتحيّلوا على ارتكاب ما حرَّم الله كما هو مبسوطٌ في سورة الأعراف عند قوله: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ [الأعراف:163]، وسيأتي حديثُ صفوان بن عسال في سورة سبحان عند قوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [الإسراء:101]، وفيه: وعليكم خاصّة يهود أن لا تعدوا في السّبت.
س: حطّة في شعرة؟
ج: في الرِّواية الأخرى: "حبّة في شعيرة" يعني: غيّروا المطلوب منهم، أن يقولوا: "حطة" يعني: حطّ عنا ذنوبنا، واغفر لنا. فعاندوا، فقالوا: حنطة في شعيرة، أو حنطة في شعرة. ليس له تعلّق بما قال الله، بل هو بعيدٌ ومُخالفة وتلاعب، نسأل الله العافية.
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:155-159].
وهذه من الذنوب التي ارتكبوها، مما أوجب لعنتهم وطردهم وإبعادهم عن الهدى، وهو نقضهم المواثيق والعهود التي أُخذت عليهم.
وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ أي: حُججه وبراهينه، والمعجزات التي شاهدوها على يد الأنبياء -عليهم السلام-.
قوله: وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وذلك لكثرة إجرامهم واجترائهم على أنبياء الله، فإنهم قتلوا جمعًا غفيرًا من الأنبياء -عليهم السلام-.
وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ قال ابنُ عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسّدي وقتادة وغير واحدٍ: أي: في غطاء، وهذا كقول المشركين: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ [فصلت:5].
وقيل: معناه أنهم ادعوا أنَّ قلوبهم غلف للعلم، أي: أوعية للعلم، قد حوته وحصّلته. رواه الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباسٍ، وقد تقدّم نظيره في سورة البقرة.
الشيخ: والسياق يقتضي خلاف ذلك، وأنهم لا يفهمون، ولا يعقلون، ما فهموا، ولا عقلوا، وقد كذبوا، ولكنَّه العناد والكذب: قُلُوبُنَا غُلْفٌ يعني: ما نفهم، ما فهمنا المراد، ولا عقلنا المراد، ولكنه العناد والتَّكبر والمخالفة واتِّباع الهوى -نسأل الله العافية-؛ لهذا لعنهم الله، وجرى عليهم ما جرى من النَّكال، نعم.
س: قتلوا جمعًا غفيرًا من الأنبياء؟
ج: نعم، نسأل الله العافية، كما في الآية الأخرى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:21]، وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:181]، والله المستعان.
قال الله تعالى: غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا فعلى القول الأول كأنَّهم يعتذرون إليه بأنَّ قلوبهم لا تعي ما يقول؛ لأنها في غلفٍ وفي أكنَّةٍ، قال الله: بل هي مطبوعٌ عليها بكفرهم.
وعلى القول الثاني: عكس عليهم ما ادّعوه من كل وجهٍ.
وقد تقدّم الكلام على مثل هذا في سورة البقرة.
فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي: تمرنت قلوبهم على الكفر والطُّغيان وقِلّة الإيمان.
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا قال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ: يعني: أنهم رموها بالزنا.
وكذلك قال السّدي وجُويبر ومحمد بن إسحاق وغير واحدٍ، وهو ظاهر من الآية: أنهم رموها وابنها بالعظائم، فجعلوها زانيةً، وقد حملت بولدها من ذلك، زاد بعضهم: وهي حائض، فعليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ أي: هذا الذي يدّعي لنفسه هذا المنصب قتلناه. وهذا منهم من باب التَّهكم والاستهزاء، كقول المشركين: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6].
وكان من خبر اليهود -عليهم لعائن الله وسخطه وغضبه وعقابه- أنَّه لما بعث اللهُ عيسى ابن مريم بالبينات والهدى حسدوه على ما آتاه الله تعالى من النبوة والمعجزات الباهرات التي كان يُبرئ بها الأكمه والأبرص، ويُحيي الموتى بإذن الله، ويُصوّر من الطين طائرًا، ثم ينفخ فيه، فيكون طائرًا يُشاهد طيرانه بإذن الله ، إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها، وأجراها على يديه، ومع هذا كذَّبوه وخالفوه وسعوا في أذاه بكلِّ ما أمكنهم، حتى جعل نبيُّ الله عيسى لا يُساكنهم في بلدةٍ، بل يُكثر السياحة هو وأمّه -عليهما السلام-، ثم لم يقنعهم ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان -وكان رجلًا مُشركًا من عبدة الكواكب، وكان يُقال لأهل مِلّته: اليونان- وأنهوا إليه أنَّ في بيت المقدس رجلًا يفتن الناس ويضلّهم، ويُفسد على الملك رعاياه؛ فغضب الملك من هذا، وكتب إلى نائبه بالمقدس أن يحتاط على هذا المذكور، وأن يصلبه ويضع الشَّوك على رأسه، ويكفّ أذاه عن الناس، فلما وصل الكتابُ امتثل والي بيت المقدس ذلك، وذهب هو وطائفةٌ من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى ، وهو في جماعةٍ من أصحابه: اثني عشر، أو ثلاثة عشر، وقيل: سبعة عشر نفرًا، وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت، فحصروه هنالك.
فلمَّا أحسَّ بهم، وأنَّه لا محالةَ من دخولهم عليه، أو خروجه إليهم، قال لأصحابه: "أيّكم يُلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة؟" فانتدب لذلك شابٌّ منهم، فكأنَّه استصغره عن ذلك، فأعادها ثانيةً وثالثةً، وكلّ ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشَّاب، فقال: "أنت هو"، وألقى الله عليه شبه عيسى حتى كأنَّه هو، وفُتحت روزنة من سقف البيت، وأخذت عيسى سنةٌ من النوم، فرُفع إلى السَّماء وهو كذلك، كما قال الله تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55].
فلمَّا رُفع خرج أولئك النَّفر، فلمّا رأى أولئك ذلك الشَّاب ظنّوا أنه عيسى، فأخذوه في الليل وصلبوه، ووضعوا الشَّوك على رأسه، وأظهر اليهود أنَّهم سعوا في صلبه، وتبجَّحوا بذلك، وسلَّم لهم طوائفُ من النصارى ذلك؛ لجهلهم وقِلّة عقلهم، ما عدا مَن كان في البيت مع المسيح، فإنَّهم شاهدوا رفعه، وأمَّا الباقون فإنَّهم ظنّوا كما ظنَّ اليهود: أنَّ المصلوب هو المسيح ابن مريم، حتى ذكروا أنَّ مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت، ويُقال: إنه خاطبها، والله أعلم، وهذا كلّه من امتحان الله عباده؛ لما له في ذلك من الحكمة البالغة.
وقد أوضح اللهُ الأمر وجلَّاه وبيَّنه وأظهره في القرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم، المؤيد بالمعجزات والبينات والدلائل الواضحات، فقال تعالى، وهو أصدق القائلين، وربّ العالمين، المطّلع على السّرائر والضَّمائر، الذي يعلم السّر في السماوات والأرض، العالم بما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ أي: رأوا شبهه فظنّوه إياه؛ ولهذا قال: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ يعني بذلك مَن ادّعى أنه قتله من اليهود، ومَن سلّمه إليهم من جهّال النَّصارى، كلّهم في شكٍّ من ذلك وحيرة وضلال وسعر؛ ولهذا قال: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا أي: وما قتلوه مُتيقّنين أنَّه هو، بل شاكّين مُتوهمين: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا أي: منيع الجناب، لا يُرام جنابه، ولا يضام مَن لاذ ببابه، حَكِيمًا أي: في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها، وله الحكمة البالغة، والحجّة الدَّامغة، والسّلطان العظيم، والأمر القديم.
قال ابنُ أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ قال: لما أراد اللهُ أن يرفع عيسى إلى السَّماء خرج على أصحابه، وفي البيت اثنا عشر رجلًا من الحواريين، يعني: فخرج عليهم من عينٍ في البيت، ورأسه يقطر ماءً، فقال: "إنَّ منكم مَن يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي".
قال: ثم قال: "أيّكم يُلقى عليه شبهي فيُقتل مكاني، ويكون معي في درجتي؟" فقام شابٌّ من أحدثهم سنًّا، فقال له: "اجلس"، ثم أعاد عليهم، فقام ذلك الشَّاب، فقال: "اجلس"، ثم أعاد عليهم، فقام الشَّاب، فقال: أنا، فقال: "هو أنت ذاك"، فأُلقي عليه شبه عيسى، ورُفع عيسى من روزنةٍ في البيت إلى السَّماء.
قال: وجاء الطلبُ من اليهود، فأخذوا الشَّبه فقتلوه، ثم صلبوه، فكفر به بعضُهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرقٍ:
فقالت فرقة: كان الله فينا ما شاء، ثم صعد إلى السماء. وهؤلاء اليعقوبية.
وقالت فرقة: كان فينا ابنُ الله ما شاء، ثم رفعه الله إليه. وهؤلاء النّسطورية.
وقالت فرقة: كان فينا عبدُالله ورسوله ما شاء الله، ثم رفعه الله إليه. وهؤلاء المسلمون.
فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلامُ طامسًا حتى بعث الله محمدًا ﷺ.
وهذا إسنادٌ صحيحٌ إلى ابن عباس، ورواه النَّسائي عن أبي كريب، عن أبي معاوية بنحوه. وكذا ذكره غير واحدٍ من السلف، أنه قال لهم: "أيّكم يُلقى عليه شبهي فيُقتل مكاني، وهو رفيقي في الجنّة؟".
الشيخ: ونصّ القرآن في هذا واضح: وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، فالله أنجاه من شرِّهم، وألقى الشَّبه على غيره، وتمَّ أمر الله فيما أراد وقدّر؛ ابتلاءً وامتحانًا لهؤلاء، وإقامة الحجّة على عنادهم وكفرهم وضلالهم، وهو سبحانه الحكيم العليم، يبتلي عباده بالسّراء والضَّراء، والشّدة والرَّخاء، ويبتلي الأنبياء بأعدائهم، ثم تكون العاقبةُ لمن نصر الحقَّ وتابع الحقَّ والهدى، كما جرى لنبينا محمدٍ ﷺ في مكة، وكما جرى له في المدينة، وكما جرى يوم أحد، ويوم بدر، ويوم الأحزاب، كلّ ذلك من آيات الله، وهو سبحانه يبتلي أولياءه، وتكون العاقبةُ لأهل التَّقوى.
س: قول الله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ما معناه؟
ج: يعني: قابضك، توفيت المال: قبضته. وقال آخرون: معناه: وفاة النوم، مُتوفيه بالنوم، ألقى عليه السنة –النوم- ورفعه وهو في النوم، ما هو بموت، لم يمت؛ ولهذا قال: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159]، الموت بعد ذلك في آخر الزمان، سوف ينزل ويموت الموتة التي كتبها الله عليه، سوف ينزل بعد خروج الدَّجال، نعم.
س: ألا يكون هذا الأثر له حكم الرفع؟
ج: محتمل، ابن عباس يروي عن بني إسرائيل، ولكن نصّ القرآن كافٍ: وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، أمَّا كونهم اثني عشر وهم على الصِّفة هذه فهذا مما ذكره ابن عباس، والله أعلم؛ لأنَّ ابن عباس ليس ممن يتباعد عن النَّقل عن أهل الكتاب؛ ولهذا ما يرويه لا يكون له حكم الرفع، بل يحتمل؛ لأنه يروي عن بني إسرائيل كثيرًا.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد: حدثنا يعقوب القمي، عن هارون بن عنترة، عن وهب بن منبه، قال: أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيتٍ، فأحاطوا بهم، فلمَّا دخلوا عليه صوَّرهم الله كلّهم على صورة عيسى، فقالوا لهم: سحرتمونا، ليبرزنَّ لنا عيسى، أو لنقتلنَّكم جميعًا. فقال عيسى لأصحابه: "مَن يشري نفسَه منكم اليوم بالجنة؟" فقال رجلٌ منهم: أنا، فخرج إليهم وقال: أنا عيسى. وقد صوّره الله على صورة عيسى، فأخذوه فقتلوه وصلبوه، فمن ثم شُبّه لهم، فظنّوا أنَّهم قد قتلوا عيسى، وظنّت النصارى مثل ذلك أنَّه عيسى، ورفع الله عيسى من يومه ذلك. وهذا سياقٌ غريبٌ جدًّا.
قال ابنُ جرير: وقد رُوِيَ عن وهبٍ نحو هذا القول، وهو ما حدَّثني المثنى: حدثنا إسحاق: حدثنا إسماعيل بن عبدالكريم: حدثني عبدالصمد بن معقل: أنَّه سمع وهبًا يقول: إنَّ عيسى ابن مريم لما أعلمه الله أنَّه خارجٌ من الدنيا جزع من الموت وشقَّ عليه، فدعا الحواريين وصنع لهم طعامًا، فقال: "احضروني الليلة، فإنَّ لي إليكم حاجة"، فلمَّا اجتمعوا إليه من الليل عشَّاهم، وقام يخدمهم، فلمَّا فرغوا من الطَّعام أخذ يغسل أيديهم، ويُوضّئهم بيده، ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك، وتكارهوه، فقال: "ألا مَن ردّ عليَّ الليلة شيئًا مما أصنع فليس مني، ولا أنا منه"، فأقرُّوه، حتى إذا فرغ من ذلك قال: "أمَّا ما صنعتُ بكم الليلة مما خدمتُكم على الطَّعام، وغسلتُ أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنَّكم ترون أني خيركم، فلا يتعاظم بعضُكم على بعضٍ، وليبذل بعضُكم نفسَه لبعضٍ كما بذلتُ نفسي لكم، وأمَّا حاجتي الليلة التي أستعينكم عليها، فتدعون الله لي، وتجتهدون في الدُّعاء أن يُؤخّر أجلي"، فلمَّا نصبوا أنفسهم للدُّعاء، وأرادوا أن يجتهدوا، أخذهم النومُ، حتى لم يستطيعوا دعاء، فجعل يُوقظهم ويقول: "سبحان الله! أما تصبرون لي ليلة واحدة تُعينوني فيها؟!" فقالوا: والله ما ندري ما لنا، لقد كنا نسمر فنُكثر السَّمر، وما نُطيق الليلة سمرًا، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه! فقال: "يذهب الراعي، وتفرق الغنم"، وجعل يأتي بكلامٍ نحو هذا ينعى به نفسه.
ثم قال: "الحق ليكفرنَّ بي أحدُكم قبل أن يصيح الديكُ ثلاث مرات، وليبيعني أحدُكم بدراهم يسيرة، وليأكلنَّ ثمني".
فخرجوا وتفرَّقوا، وكانت اليهودُ تطلبه، وأخذوا شمعون -أحد الحواريين- وقالوا: هذا من أصحابه. فجحد، وقال: ما أنا بصاحبه. فتركوه، ثم أخذه آخرون، فجحد كذلك، ثم سمع صوت ديكٍ فبكى وأحزنه، فلمَّا أصبح أتى أحدُ الحواريين إلى اليهود فقال: ما تجدون لي إن دللتُكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهمًا، فأخذها ودلَّهم عليه، وكان شُبِّه عليهم قبل ذلك، فأخذوه، فاستوثقوا منه، وربطوه بالحبل، وجعلوا يُقيدونه ويقولون له: أنت كنت تُحيي الموتى، وتنهر الشيطان، وتُبرئ المجنون، أفلا تُنجي نفسك من هذا الحبل؟! ويبصقون عليه، ويلقون عليه الشَّوك، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله إليه، وصلبوا ما شُبّه لهم، فمكث سبعًا.
ثم إنَّ أُمَّه والمرأة التي كان يُداويها عيسى فأبرأها الله من الجنون جاءتا تبكيان حيث المصلوب، فجاءهما عيسى فقال: "ما تبكيان؟" فقالتا: عليك، فقال: "إني قد رفعني الله إليه، ولم يُصبني إلا خيرًا، وإنَّ هذا شُبِّه لهم، فَأْمُرَا الحواريين يلقوني إلى مكان كذا وكذا"، فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر، وفقدوا الذي باعه ودلَّ عليه اليهود، فسأل عنه أصحابه، فقالوا: إنَّه ندم على ما صنع فاختنق وقتل نفسه. فقال: "لو تاب لتاب الله عليه"، ثم سألهم عن غلامٍ تبعهم يُقال له: يحيى، فقال: "هو معكم، فانطلقوا، فإنَّه سيُصبح كل إنسانٍ يُحدّث بلغة قومه، فليُنذرهم وليدعهم". سياقٌ غريبٌ جدًّا.
الشيخ: هذه من خُرافات بني إسرائيل وضلالاتهم، والأمر كما قال الله -جلَّ وعلا-: شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، ورُفع المسيح ولم ينزل بعد ذلك، وسوف ينزل في آخر الزمان -عليه الصلاة والسلام- كما جاءت به السنة المتواترة عن النبي ﷺ، ولكن هذه السياقات من اختلاق بني إسرائيل، وضلال الكثير منهم، وغباوة كثير منهم، وكفر كثير منهم، نسأل الله العافية.
الشيخ: طويلٌ الأثر هذا؟
قارئ المتن: إي، نعم.
الشيخ: قف على "ثم قال"، رحمه الله، اللهم اغفر لنا وله.