كتاب الشركة

47- كتاب الشركة

باب الشركة في الطعام والنهد والعروض

وكيف قسمة ما يُكال ويُوزن مجازفةً، أو قبضةً قبضةً؟ لما لم يرَ المسلمون في النهد بأسًا أن يأكل هذا بعضًا، وهذا بعضًا، وكذلك مُجازفة الذهب والفضة والقران في التمر.

2483- حدثنا عبدالله بن يوسف: أخبرنا مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنه قال: بعث رسولُ الله ﷺ بعثًا قِبَل الساحل، فأمَّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم ثلاثمئةٍ، وأنا فيهم، فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع ذلك كله، فكان مزودي تمر، فكان يقوتنا كل يومٍ قليلًا قليلًا حتى فني، فلم يكن يُصيبنا إلا تمرة تمرة، فقلت: وما تُغني تمرةٌ؟! فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت. قال: ثم انتهينا إلى البحر، فإذا حوتٌ مثل الظّرب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلةً، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنُصبا، ثم أمر براحلةٍ فرحلت، ثم مرَّت تحتهما فلم تُصبهما.

الشيخ: المقصود من هذا بيان توزيع ما تدعو الحاجة إلى توزيعه بين الجماعة من أهل البيت، أو السرية، أو الجيش، أو غير ذلك حسب الطاقة والإمكان، ولو قليلًا قليلًا، وأنه لا حرج في ذلك، وبيان ما يُسهله الله للمُجاهدين من الأرزاق التي يُعينهم بها على طاعته، ويمنحهم بها الأدلة على أنه سبحانه معهم بعونه وتوفيقه وتصبيره ونصره وإعانته، فهذه السرية خرجت من المدينة وليس معهم إلا زادٌ قليلٌ، وكانوا أُرسلوا إلى الساحل: إما ليترصَّدوا عيرًا لقريشٍ، وإما لأسبابٍ أخرى، فقلَّ زادهم، فجمع أبو عبيدة ما عندهم، وكان يُوزعه بينهم قليلًا قليلًا حتى لم يصل كل واحدٍ إلا تمرة تمرة، فقيل لجابرٍ: ما كانت تُغني عنكم التمرة؟! قال: لقد وجدنا فقدها. كانوا يمصونها ويشربون عليها الماء، حتى أتوا ساحل البحر فإذا هم بحوتٍ عظيمٍ كالجبل، فأكلوا منه مدة إقامتهم ثمانية عشر يومًا، وفي بعض الروايات: شهرًا، وهم ثلاثمئةٍ، حتى سمنوا على هذا اللحم، ونصب أبو عبيدة ضلعين من أضلاع الحوت، فمرت من بينهما مطيةٌ ..... فلم تُصب شيئًا منهما من طول الضّلعين، وجمع ثلاثة عشر شخصًا في قحف عينه، اتسع قحفُ عينه لثلاثة عشر رجلًا، وهذا يدل على أن الله جلَّ وعلا خلق في هذا البحر أشياء عظيمةً، وأنواعًا من الحوت عظيمةً.

وفيه من الفوائد: أن المجاهدين يصبرون ويتحملون في سبيل الله، ويرزقهم الله ويُعينهم: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، وهكذا يقول سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4].

مَن كان يظن أنهم يُحصِّلون هذا الحوت العظيم؟! ومَن يخطر في باله هذا الحوت العظيم مرفوعًا على البحر كالجبل؟! وحملوا معهم بعضه إلى المدينة فأكل منه النبي عليه الصلاة والسلام.

وفيه أن ولي الأمر ينظر في مصلحة الرعية والسرية والجيش في كل ما يهمهم من توزيع الطعام، ومن السعي فيما يُعينهم على مُهمتهم كما فعل أبو عبيدة.

وفيه أن الصبر مفتاح الفرج، الصبر الذي أمر الله به مفتاح الفرج، صبروا فجاء الفرج: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5، 6]، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، نعم، أيش قال الشارح عليه؟ كمل الباقي.

2484- حدثنا بشر بن مرحوم: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة قال: خفَّت أزواد القوم وأملقوا، فأتوا النبي ﷺ في نحر إبلهم، فأذن لهم، فلقيهم عمر، فأخبروه، فقال: ما بقاؤكم بعد إبلكم؟! فدخل على النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، ما بقاؤهم بعد إبلهم؟! فقال رسول الله ﷺ: نادِ في الناس، فيأتون بفضل أزوادهم، فبُسِطَ لذلك نِطْعٌ، وجعلوه على النِّطْع، فقام رسول الله ﷺ فدعا وبرَّك عليه، ثم دعاهم بأوعيتهم، فاحتثى الناس حتى فرغوا، ثم قال رسول الله ﷺ: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله.

الشيخ: وهذا أيضًا من آيات الله، ومن مُعجزات رسوله ﷺ، فإنهم في بعض الغزوات اشتدَّ بهم الأمر والجوع والحاجة حتى استأذنوا في نحر بعض رواحلهم، فأذن لهم، ثم أشار عمرُ بترك ذلك، وأن يدعو الله لهم فيه بالبركة، فأمرهم أن يجمعوا ما عندهم من فضل أزوادهم، فصار الرجل يأتي بقبضةٍ من التمر، والآخر يأتي بكسرةٍ من الخبز، حتى جمعوا بعض الشيء، فدعا النبي فيه بالبركة عليه الصلاة والسلام، فأنزل الله فيه البركة، وأمرهم أن يأخذوا في أوعيتهم، فكلٌّ أخذ في أوعيته، وملأوا أوعيتهم، وبقي ما بقي من الفضل.

فلما رأى النبي ﷺ ما وقع من هذه المعجزة العظيمة والبركة العظيمة قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وفي اللفظ الآخر: لا يلقى الله بهما أحدٌ وهو صادقٌ إلا دخل الجنة، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

المقصود أن هذه من آيات الله الدالة على قُدرته العظيمة، وعلى صدق رسول الله عليه الصلاة والسلام.

الدالة على قُدرته؛ فإنه يقول للشيء: كن، فيكون.

قبضةٌ من الطعام قليلةٌ مُجتمعةٌ على نطعٍ واحدٍ تكفي الجيش العظيم، وتوجد فيها البركة، ويحملون في أوعيتهم، هذه من آيات الله العظيمة الدالة على معنى قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، ومُفسرة لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20]، وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45].

والدالة على صدق رسوله ﷺ، وأنه رسول الله حقًّا، فقد أجاب الله دعوته، وأنزل البركة، ولو كان كذَّابًا ما جرى له ذلك، لو كان كذَّابًا لم ..... بهذا، بل ظهرت دلائل كذبه وباطله، كما جرى للمُختار وغيره من الكذَّابين الذين ظهرت دلائل بطلان ما ادَّعوه: كالأسود، ومُسيلمة، والمختار، وغيرهم من الكذبة، نعم.

وفيه من الفوائد: أن مَن له رأيٌ يُشير برأيه، يُدلي برأيه، إذا رأى أنه رأيٌ مفيدٌ يُدلي به، لا يقل: أنا لا يحسن بي أن أتكلم مع الكبار، أو مع الرئيس الكبير، أو مع العالم العظيم. لا، ليس هناك أحدٌ فوق رسول الله ﷺ، فهو أفضل الناس، وأعلم الناس عليه الصلاة والسلام، ومع هذا لم يُنكر على عمر ولا على غيره ممن يبذل المشورة، بل تقبل المشورة وعمل بها عليه الصلاة والسلام في هذا، وفي قصة بدر، وفي مواضع كثيرةٍ، والله يقول سبحانه: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159]، ويقول في وصف المؤمنين الصالحين: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]، نعم.

2485- حدثنا محمد بن يوسف: حدثنا الأوزاعي: حدثنا أبو النجاشي، قال: سمعتُ رافع بن خديج قال: كنا نُصلي مع النبي ﷺ العصر، فننحر جزورًا، فتُقسم عشر قسمٍ، فنأكل لحمًا نَضيجًا قبل أن تغرب الشمس.

الشيخ: وهذا فيه شاهدٌ لما قال المؤلف: أن القسم قسمان: قسمة اللحوم والأزواد والتمور، وغير ذلك، ما في بأس، وكون الجماعة يذبحون شاةً ويقسمونها، أو يذبحون بقرةً ويقسمونها، أو ينحرون بعيرًا ويقسمونه فيما بينهم أجزاء، لا مُشاحة في ذلك، هذا إليهم، فإذا اصطلحوا قسموه بالوزن، أو بالقطع، بما يتراضون عليه، لا بأس، والأمر بينهم في ذلك واسعٌ.

وفي هذا التَّبكير بالعصر، السنة التَّبكير بالعصر.

2486- حدثنا محمد بن العلاء: حدثنا حماد بن أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: قال النبي ﷺ: إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة؛ جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحدٍ، ثم اقتسموه بينهم في إناءٍ واحدٍ بالسوية، فهم مني، وأنا منهم.

الشيخ: وهذا فيه التَّشجيع، هذا الخبر فيه التشجيع على الرحمة والمواساة والإحسان والإيثار حين يذكر قصة الأشعريين، وهم جماعة أبي موسى، المقصود من قصتهم حثُّ غيرهم على أن يكونوا مثلهم؛ ولهذا قال: هم مني، وأنا منهم.

كانوا إذا أرملوا في الغزو يعني: إذا افتقروا في الغزو وأصابتهم الشدة، وهكذا في المدن، إذا قلَّ طعامهم في المدن جمعوا ما عندهم، هؤلاء جماعةٌ يجمعون ما عندهم من تمرٍ، من ذرةٍ، من بُرٍّ، من غير ذلك من الطعام، يجمعونه، ثم يقتسمونه فيما بينهم؛ لأنه قد يكون عند هذا شيءٌ، وعند هذا شيءٌ، ولكن هذا ما عنده شيءٌ، وهذا عنده أكثر، فإذا جُمِعَ ووُزِّع حصلت المواساة والتراحم والتعاطف، وطابت النفوس، و..... جاءت الرحمة الواضحة، والعطف الواضح؛ فلهذا قال ﷺ: هم مني، وأنا منهم يعني: هذا العمل الطيب، وهذا يُوافق قوله ﷺ في الحديث الصحيح -حديث النعمان في "الصحيحين"-: مثل المؤمنين في توادهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى، ويُوافق الحديث الآخر: يقول رسول الله ﷺ: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا، وشبَّك بين أصابعه، وقوله ﷺ: المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يكذبه، ولا يخذله ... الحديث.

س: ...............؟

ج: كل ما يحتاجون إليه إذا وزَّعوه بينهم عند الحاجة فهو عملٌ مشكورٌ.

س: ...............؟

ج: التسعير إذا دعت الحاجةُ إليه جاز، لولي الأمر أن يُسعر على الناس إذا بخل الأغنياء وجاءت الضَّرورة لا بد أن ينظر الإمامُ فيه.

س: ...............؟

ج: التسعير لله، لكن إذا دعت الضَّرورة ما يُسمى: تسعيرًا، يُسمى: مُواساةً وردعًا للظلم، نعم.

ولهذا قال النبي ﷺ: مَن أعتق شركًا له في عبدٍ، وكان له ما يبلغ ثمن العبد فعليه خلاصه في ماله، فإن لم يجد قُوِّمَ عليه قيمة عدل، هذا تسعيرٌ: قُوِّمَ عليه قيمة عدلٍ ثم يسلم إليه، فإذا دعت الحاجة إلى التسعير: لظلم الناس، أو لخفاء الأمور وعدم انضباطها، فالقاعدة أنه يُستثنى منها ما دعت الحاجةُ إليه لإقامة العدل، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135]، وفي الآية الأخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا [المائدة:8]، فالقواعد لها استثناءات دلَّ عليها الشرع، نعم.

باب: ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية في الصدقة

2487- حدثنا محمد بن عبدالله بن المثنى، قال: حدثني أبي، قال: حدثني ثمامة بن عبدالله بن أنس: أن أنسًا حدَّثه: أن أبا بكر كتب له فريضة الصدقة التي فرض رسول الله ﷺ، قال: وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية.

الشيخ: وهذا معناه: إذا كان عندهم خمسٌ من الإبل شركةً، وأخرجوا شاةً، أخرجها واحدٌ منهم؛ تُقسم القيمة بينهم، أو عندهم أربعون من الغنم شركةً، فأخرج واحدٌ منهم شاةً؛ تكون القيمة بينهم، فالذي أخرجها يُعطى نصف القيمة من أخيه؛ لأن الشاة بينهما، وهكذا.

باب قسمة الغنم

2488- حدثنا علي بن الحكم الأنصاري: حدثنا أبو عوانة، عن سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، عن جدِّه قال: كنا مع النبي ﷺ بذي الحُليفة، فأصاب الناسَ جوعٌ، فأصابوا إبلًا وغنمًا، قال: وكان النبي ﷺ في أُخريات القوم، فعجلوا، وذبحوا، ونصبوا القدور، فأمر النبي ﷺ بالقدور فأُكفئت، ثم قسم، فعدل عشرةً من الغنم ببعيرٍ، فنَدَّ منها بعيرٌ، فطلبوه، فأعياهم، وكان في القوم خيلٌ يسيرةٌ، فأهوى رجلٌ منهم بسهمٍ، فحبسه الله، ثم قال: إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا، فقال جدي: إنا نرجو -أو نخاف- العدو غدًا، وليست معنا مُدًى، أفنذبح بالقَصَب؟ قال: ما أنهر الدم وذُكِرَ اسم الله عليه فكلوه، ليس السنّ والظفر، وسأُحدثكم عن ذلك: أما السنّ فعظمٌ، وأما الظفر فمدى الحبشة.

الشيخ: أيش قال على الحديث الأخير: حديث رافع؟

القارئ: قوله: "باب قسمة الغنم" أي: بالعدد، أورد فيه حديث رافع بن خديج، وفيه: ثم قسم فعدل عشرةً من الغنم ببعيرٍ. وسيأتي الكلام عليه مُستوفًى في الذبائح، إن شاء الله تعالى.

الشيخ: انظر كلامه على الأول.

القارئ: قوله: "كتاب الشركة" كذا للنسفي وابن شبويه، وللأكثر: "باب"، ولأبي ذر: "في الشركة"، وقدَّموا البسملة، وأخَّرها.

والشَّرِكة: بفتح المعجمة وكسر الراء، وبكسر أوله وسكون الراء، وقد تُحذف الهاء، وقد يُفتح أوله مع ذلك. فتلك أربع لغاتٍ.

وهي شرعًا: ما يحدث بالاختيار بين اثنين فصاعدًا من الاختلاط لتحصيل الربح، وقد تحصل بغير قصدٍ كالإرث.

قوله: "الشركة في الطعام والنهد" أما الطعام فسيأتي القول فيه في بابٍ مُفردٍ.

وأما النهد: فهو بكسر النون وبفتحها: إخراج القوم نفقاتهم على قدر عدد الرُّفقة، يقال: تناهدوا، وناهد بعضُهم بعضًا. قاله الأزهري.

وقال الجوهري نحوه، لكن قال: على قدر نفقة صاحبه. ونحوه لابن فارس.

وقال ابن سيده: النهد: العون، وطرح نهده مع القوم: أعانهم وخارجهم، وذلك يكون في الطعام والشراب. وقيل: ... فذكر قول الأزهري.

وقال عياض مثل قول الأزهري، إلا أنه قيَّده بالسفر والخلط، ولم يُقيده بالعدد.

وقال ابن التين: قال جماعةٌ: هو النفقة بالسوية في السفر وغيره.

والذي يظهر أن أصله في السفر، وقد تتفق رُفقةٌ فيضعونه في الحضر، كما سيأتي في آخر الباب من فعل الأشعريين، وأنه لا يتقيد بالتسوية إلا في القسمة، وأما في الأكل فلا تسويةَ؛ لاختلاف حال الآكلين، وأحاديث الباب تشهد لكل ذلك.

وقال ابن الأثير: هو ما تُخرجه الرُّفقة عند المناهدة إلى الغزو، وهو أن يقتسموا نفقتهم بينهم بالسوية حتى لا يكون لأحدهم على الآخر فضلٌ. فزاده قيدًا آخر، وهو: سفر الغزو، والمعروف أنه خلط الزاد في السفر مطلقًا، وقد أشار إلى ذلك المصنف في الترجمة حيث قال: يأكل هذا بعضًا وهذا بعضًا.

وقال القابسي: هو طعام الصلح بين القبائل. وهذا غير معروفٍ، فإن ثبت فلعله أصله.

وذكر محمد بن عبدالملك التاريخي أن أول مَن أحدث النهد حضين -بمهملة ثم مُعجمة، مُصغر- الرقاشي.

قلت: وهو بعيدٌ؛ لثبوته في زمن النبي ﷺ، وحضين لا صُحبةَ له، فإن ثبتت احتملت أوَّليته فيه في زمنٍ مخصوصٍ، أو في فئةٍ مخصوصةٍ.

قوله: "والعُروض" بضم أوله جمع عرْض -بسكون الراء- مقابل النقد، وأما بفتحها فجميع أصناف المال، وما عدا النقد يدخل فيه الطعام، فهو من الخاص بعد العام.

الشيخ: بعده حديث جابر: خرجنا مع أبي عبيدة. نعم.

القارئ: ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث: أحدها حديث جابرٍ في بعث أبي عبيدة بن الجراح إلى جهة الساحل، وسيأتي الكلام عليه مُستوفًى في "كتاب المغازي"، وشاهد الترجمة منه قوله: "فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجُمِعَ" الحديث.

وقال الداودي: ليس في حديث أبي عبيدة ولا الذي بعده ذكر المجازفة؛ لأنهم لم يُريدوا المبايعة ولا البدل، وإنما يفضل بعضهم بعضًا لو أخذ الإمام من أحدهم للآخر.

وأجاب ابن التين بأنه إنما أراد أن حقوقهم تساوت فيه بعد جمعه، لكنهم تناولوه مُجازفةً كما جرت العادة.

ثانيها: حديث سلمة بن الأكوع في إرادة نحر إبلهم في الغزو، والشاهد منه: جمع أزوادهم ودعاء النبي ﷺ فيها بالبركة، وهو ظاهرٌ فيما ترجم به من كون أخذهم منها كان بغير قسمةٍ مُستويةٍ، وسيأتي الكلام عليه مُستوفًى في "كتاب الجهاد"، إن شاء الله تعالى.

وقوله فيه: "أزواد" في رواية المستملي: "أزودة".

وقوله: "وأملقوا" أي: افتقروا.

وقوله: "وبَرَّك" بتشديد الراء، أي: دعا بالبركة.

وقوله: "فاحتثى" بسكون المهملة، بعدها مُثناةٌ مفتوحةٌ، ثم مُثلثةٌ، افتعل، من الحثي، وهو الأخذ بالكفين.

ثالثها: حديث رافع بن خديج في تعجيل صلاة العصر، وهو من الأحاديث المذكورة في غير مظنتها، وقد ذكر المصنف في "المواقيت" من هذا الوجه عن رافع تعجيل المغرب، وفي هذا تعجيل العصر والغرض منه هنا.

قوله: "فننحر جزورًا فيُقسم عشر قسمٍ" قال ابن التين: في حديث رافع الشركة في الأصل، وجمع الحظوظ في القسم، ونحر إبل المغنم.

الشيخ: يكفي، بركة، سَمِّ.

باب القران في التمر بين الشُّركاء حتى يستأذن أصحابه

2489- حدثنا خلاد بن يحيى: حدثنا سفيان: حدثنا جبلة بن سحيم، قال: سمعتُ ابن عمر رضي الله عنهما يقول: نهى النبي ﷺ أن يقرن الرجل بين التمرتين جميعًا حتى يستأذن أصحابه.

2490- حدثنا أبو الوليد: حدثنا شعبة، عن جبلة قال: كنا بالمدينة فأصابتنا سنةٌ، فكان ابن الزبير يرزقنا التمر، وكان ابن عمر يمر بنا فيقول: لا تقرنوا؛ فإن النبي ﷺ نهى عن الإقران إلا أن يستأذن الرجلُ منكم أخاه.

الشيخ: وهذا يعمّ التمر وما يُشبه التمر من الفواكه وأشباهها، والحلوى، ونحو ذلك؛ لأن هذا من باب الأدب، ومن مكارم الأخلاق: كونه يأخذ مثل أصحابه إلا إذا استأذنهم؛ لأنه إذا قرن وهم لا يقرنون قد يغلبهم ويأكل كثيرًا، ويأتي في أنفسهم بعض الشيء عليه، فإذا استأذنهم نعم.  

باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدلٍ

2491- حدثنا عمران بن ميسرة: حدثنا عبدالوارث: حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: مَن أعتق شِقْصًا له من عبدٍ، أو شركًا -أو قال: نصيبًا-، وكان له ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل؛ فهو عتيقٌ، وإلا فقد عتق منه ما عتق.

قال: لا أدري قوله: عتق منه ما عتق قولٌ من نافع، أو في الحديث عن النبي ﷺ.

2492- حدثنا بشر بن محمد: أخبرنا عبدالله: أخبرنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال: مَن أعتق شَقِيصًا من مملوكه فعليه خلاصه في ماله، فإن لم يكن له مالٌ قُوِّم المملوك قيمة عدلٍ، ثم استُسعي غير مشقوقٍ عليه.

الشيخ: وهذا لإيضاح ما قبل، يكون العبد مُبَعَّضًا، وتكون القيمة قيمة العبد، فإن تيسر للمُعتق سلم القيمة، وإن كان عاجزًا استسعي العبدُ بالأعمال المناسبة التي يُحسنها حتى يُؤدي ما عليه، يُقسط عليه أقساطًا حتى يُؤدي ويعتق، وهذا هو الصواب؛ ولهذا قال: "استُسعي" يعني: على حسب أعماله: نجار، أو حداد، أو عامل بناءٍ، استُسعي في الأعمال التي يُحسنها حتى يُؤدي ما عليه.

باب: هل يُقرع في القسمة والاستهام فيه؟

2493- حدثنا أبو نعيم: حدثنا زكرياء، قال: سمعتُ عامرًا يقول: سمعتُ النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ قال: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينةٍ، فأصاب بعضُهم أعلاها، وبعضُهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نُؤذِ مَن فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا.

الشيخ: وهذا الحديث حديثٌ عظيمٌ، وهكذا كل أحاديثه ﷺ عظيمةٌ، ولكن بعض الأحاديث يشتمل على قواعد عظيمةٍ تُصلح أمر الناس في الدين والدنيا، وتُرشدهم إلى أسباب النجاة بطرقٍ واضحةٍ يعقلها ذوو الألباب.

يقول عليه الصلاة والسلام: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، الحدود هنا المعاصي، وهذا مثل قوله سبحانه: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187] يعني: المعاصي.

وتُطلق الحدود على الفرائض التي حدَّها جلَّ وعلا وبيَّنها: كالصلاة، والصوم، والزكاة، وغير هذا، كما في قوله سبحانه: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229]، لا يُتعدَّ حدّ ما شرع الله في الصلاة، وفي الصيام، وفي الزكاة، وفي غير ذلك، يجب الامتثال والوقوف عند حدود الله.

وتُطلق الحدود على المقدرات الشرعية، كالعقوبات: كحد الزنا، وحد السرقة، وحد قُطَّاع الطريق، إلى غير ذلك، كما قال عبدالرحمن بن عوف لعمر: أخفُّ الحدود ثمانون.

والحد هنا مرادٌ به المعاصي: مثل القائم على حدود الله بالنهي عنها، والتحذير منها، ومنع الناس من الإقدام عليها، ومثل الواقع فيها يعني: الذي وقع في المعاصي وأسرف على نفسه، كمثل قومٍ استهموا على سفينةٍ اقترعوا على سفينةٍ، فصار بعضُهم أسفلها، وبعضهم أعلاها، فهي سفينةٌ ذات طابقين اقترعوا عليها: مَن يكون فوق؟ ومَن يكون في الأسفل؟

فأصاب بعضُهم الأسفل، وبعضهم الأعلى، فكان الذين في الطابق الأسفل إذا أرادوا أن يستقوا صعدوا إلى مَن فوقهم ليجلبوا الماء من فوق، من البحر، فقالوا فيما بينهم: لو أننا خرقنا في نصيبنا أسفل ..... نخرق السفينة من عندنا، ونجلب الماء من تحت، ولا نُؤذي مَن فوقنا، يعني: قد يقولون هذا عن اجتهادٍ منهم، وعدم نظرٍ في العواقب، وعدم بصيرةٍ، قال: فإن تركوهم وما أرادوا تركوا أهل السفينة وما أرادوا من خرقها غرقوا جميعًا؛ لأن الماء يدخل، ثم تثقل السفينة، ثم تغرق، وإذا أخذوا على أيديهم ومنعوهم من الخرق نجوا، ونجوا جميعًا، نجا هؤلاء وهؤلاء.

هذا مثلٌ عظيمٌ في أن الأخذ على أيدي السفهاء من أسباب النجاة، وترك السفهاء يعبثون من أسباب الهلاك، فالذي يخرق السفينة من جنس السَّفيه الذي يُجاهر بالمعاصي، ويتساهل في المعاصي، فتحلّ العقوبة بأسبابه، كما في الحديث: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يُغيروه أوشك أن يعمَّهم الله بعقابه، وإذا أخذ أهل الغيرة وأهل الحل والعقد على أيدي السفهاء ومنعوهم، وأقاموا عليهم الحدود، وردُّوهم عن فسادهم؛ نجوا جميعًا.

فهذا مثلٌ عامٌّ، وهكذا الشُّركاء فيما بينهم: إن تعاونوا أفلحوا، وإن لم يتعاونوا هلكوا، وهكذا أهل البيت: إن أقاموا على سُفهائهم واجتهدوا ونصحوهم وأخذوا على أيديهم نجوا جميعًا، وإن تركوهم هلكوا جميعًا، وهكذا الغُزاة والسرايا والجيوش، إلى غير ذلك.

فالواجب على ذوي الحل والعقد، وعلى أهل الإيمان، وعلى أهل البصيرة: أن يأخذوا على أيدي السفهاء، وأن يمنعوهم من الباطل، وأن يأطروهم على الحقِّ أطرًا؛ لأن في هذا نجاة الجميع، وصلاح الجميع، وسعادة الجميع في الدنيا والآخرة، وفي الإعراض والغفلة وترك الأمور على ما جاءت عليه من الفوضى وعدم الانضباط يكون ذلك من أسباب هلاك الجميع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

س: ..............؟

ج: يجتهد على الحقِّ حسب طاقته: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

..............