باب من رد أمر السفيه والضعيف العقل وإن لم يكن حجر عليه الإمام

باب مَن ردَّ أمر السَّفيه والضَّعيف العقل

وإن لم يكن حَجَر عليه الإمام

ويُذكر عن جابرٍ : أن النبي ﷺ ردَّ على المتصدِّق قبل النهي، ثم نهاه.

وقال مالك: إذا كان لرجلٍ على رجلٍ مالٌ، وله عبدٌ، لا شيءَ له غيره، فأعتقه، لم يجز عتقه، ومَن باع على الضعيف ونحوه، فدفع ثمنه إليه، وأمره بالإصلاح والقيام بشأنه، فإن أفسد بعد منعه؛ لأن النبي ﷺ نهى عن إضاعة المال، وقال للذي يُخدع في البيع: إذا بايعتَ فقل: لا خلابةَ، ولم يأخذ النبي ﷺ ماله.

2414- حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا عبدالعزيز بن مسلم: حدثنا عبدالله بن دينار، قال: سمعتُ ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رجلٌ يُخدع في البيع، فقال له النبي ﷺ: إذا بايعتَ فقل: لا خلابة، فكان يقوله.

2415- حدثنا عاصم بن علي: حدثنا ابن أبي ذئب، عن محمد بن المنكدر، عن جابرٍ : أن رجلًا أعتق عبدًا له، ليس له مالٌ غيره، فردَّه النبي ﷺ، فابتاعه منه نعيم بن النحام.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم،

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،

مراد البخاري رحمه الله في هذه التراجم بيان حال الناس في تصرفاتهم بالصدقة، والعتق، ونحو ذلك من أنواع التبرع، وأن الإنسان متى عُرف بأنه فقيرٌ، وليس له ما يقوم بحاله، أو ما يقضي دَينه؛ فإنه يُمنع تصرفه، ولا يُمضى، بل يُردّ؛ حفظًا لماله، ورحمةً له، وأخذًا على يديه؛ لأنه كالسَّفيه في هذه الحالة، وهذا قال به جماعةٌ من أهل العلم، وهو الحجر على مَن قلَّ ماله، وكان لا يُقابل دَينه، أو ظهر منه سوء التَّصرف مع فقره.

أخرج المؤلف في قصة الرجل ..... الذي باع عبدًا له قد أعتقه عن دبرٍ، فباعه النبي ﷺ، وقال: اقضِ دَينك .....، فأعطاه المال ليقضي به حاجته.

والمشهور عند جمهور أهل العلم: أن تصرفات الرشيد ماضيةٌ ولو كان ماله قليلًا، ما دام رشيدًا عاقلًا فله أن يتصدق، وله أن يعتق، ولو كان ماله ليس بالكثير، ولو كانت عليه ديونٌ، إلا إذا حجر عليه ولي الأمر، إذا أعلن ولي الأمر -السلطان أو نائبه أو القاضي- أن فلانًا محجورٌ عليه فإنه حينئذٍ لا يصح تصرفه إلا بعد فكِّ الحجر، وهذا هو الذي عليه العمل، وهو قول الجمهور؛ لأن ضبط الناس ومنع تصرفاتهم من دون حجرٍ فيه صعوبةٌ، وفيه مشقةٌ.

وقضية الرجل الذي أعتق عبده عن دبرٍ قضيةٌ خاصةٌ، ليس تصرفًا مطلقًا، بل تصرفٌ مُعلَّقٌ في حكم الوصية، وهو حُجَّة على أن الموصي له الرجوع في وصيته، ولولي الأمر أن يأمره بالرجوع عن وصيته إذا كانت هناك مصلحةٌ له أو لغُرمائه: كقصة صاحب العبد المدبَّر، هذه قضيةٌ يعمل فيها ولي الأمر ونوابه ما يرونه مناسبًا حسب قواعد الشرع، وليست حُجَّةً عامَّةً على أن كل إنسانٍ يتصرف وماله قليلٌ يُمنع من التصرف، فالقضايا التي وقعت للمسلمين في عهد النبي ﷺ كثيرةٌ، ولم يكن فيها النبي ﷺ يسأل عن أحوالهم، ولا يمنع تصرفاتهم، وفي ذلك من المشاقِّ ما هو معلومٌ، ولم يزل الناس يستدينون ويبيعون ويشترون وعليهم الديون الكثيرة.

كذلك قصة عبدالله بن عمرو بن حرام، فقد كانت عليه الديون الكثيرة، وقُتِلَ يوم أُحدٍ وهو مَدِينٌ بديونٍ كثيرةٍ.

المقصود أن عدم تنفيذ تصرفات الناس من دون حجرٍ سابقٍ فيه مشقَّةٌ كبيرةٌ، وإنما هي قضايا ينظر فيها ولي الأمر إذا وقعت، قضايا مُعينةٌ ينظر فيها ولي الأمر.

أيش قال الشارح على الترجمة الأولى؟

قارئ الشرح: قوله: "باب مَن ردَّ أمر السَّفيه والضعيف العقل، وإن لم يكن حَجَرَ عليه الإمام" يعني: وفاقًا لابن القاسم، وقصره أصبغ على مَن ظهر سفهه، وقال غيره من المالكية: لا يردّ مطلقًا إلا ما تصرف فيه بعد الحجر. وهو قول الشافعية وغيرهم، واحتج ابن القاسم بقصة المدبر، حيث ردَّ النبي ﷺ بيعه قبل الحجر عليه.

..............

واحتج غيره بقصة الذي كان يُخدع في البيوع، حيث لم يحجر عليه، ولم يفسخ ما تقدم من بيوعه.

وأشار البخاري بما ذكر من أحاديث الباب إلى التفصيل بين مَن ظهرت منه الإضاعة فيُردّ تصرفه فيما إذا كان في الشيء الكثير أو المستغرق، وعليه تُحمل قصة المدبَّر، وبين ما إذا كان في الشيء اليسير، أو جعله له شرطًا يأمن به من إفساد ماله، فلا يُردّ، وعليه تُحمل قصة الذي كان يُخدع.

قوله: "ويُذكر عن جابرٍ: أن النبي ﷺ ردَّ على المتصدق قبل النهي، ثم نهاه" قال عبدالحق: مُراده قصة الذي دبَّر عبده فباعه النبي ﷺ، وكذا أشار إلى ذلك ابنُ بطال ومَن بعده، حتى جعله مغلطاي حُجَّةً في الردِّ على ابن الصلاح، حيث قرر أن الذي يذكره البخاري بغير صيغة الجزم لا يكون حاكمًا بصحته، فقال مُغلطاي: قد ذكره بغير صيغة الجزم هنا، وهو صحيحٌ عنده، وتعقبه شيخنا في "النكت على ابن الصلاح" بأن البخاري لم يرد بهذا التعليق قصة المدبَّر، وإنما أراد قصة الرجل الذي دخل والنبي ﷺ يخطب، فأمرهم فتصدَّقوا عليه، فجاء في الثانية فتصدق عليه بأحد ثوبيه، فردَّ عليه النبي ﷺ، قال: وهو حديثٌ ضعيفٌ، أخرجه الدارقطني وغيره.

قلتُ: لكن ليس هو من حديث جابر، وإنما هو حديث أبي سعيدٍ الخدري، وليس بضعيفٍ، بل هو إما صحيحٌ، وإما حسنٌ، أخرجه أصحاب السنن، وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم، وقد بسطتُ ذلك فيما كتبتُه على ابن الصلاح.

والذي ظهر لي أولًا أنه أراد حديث جابرٍ في قصة الرجل الذي جاء ببيضةٍ من ذهبٍ أصابها في معدنٍ، فقال: يا رسول الله، خُذها مني صدقةً، فوالله ما لي مالٌ غيرها. فأعرض عنه، فأعاد، فخذفه بها، ثم قال: يأتي أحدُكم بماله لا يملك غيره فيتصدَّق به، ثم يقعد بعد ذلك يتكفف الناس، إنما الصَّدقة عن ظهر غِنًى، وهو عند أبي داود، وصححه ابن خزيمة.

ثم ظهر لي أن البخاري إنما أراد قصة المدبَّر، كما قال عبدالحق، وإنما لم يجزم به لأن القدر الذي يحتاج إليه في هذه الترجمة ليس على شرطه، وهو من طريق أبي الزبير، عن جابرٍ أنه قال: أعتق رجلٌ من بني عذرة عبدًا له عن دبرٍ، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ، فقال: ألك مالٌ غيره؟ فقال: لا. الحديث، وفيه: ثم قال: ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيءٌ فلأهلك الحديث، وهذه الزيادة تفرد بها أبو الزبير عن جابرٍ، وليس هو من شرط البخاري، والبخاري لا يجزم غالبًا إلا بما كان على شرطه، والله أعلم.

قوله: "وقال مالك ..." إلخ، هكذا أخرجه ابن وهب في "موطئه" عنه، وأخذ مالك ذلك من قصة المدبَّر كما ترى.

الشيخ: نعم، المقصود أن الأقرب والأظهر أن هذا من باب المشورة على مَن أساء التَّصرف والإحسان إليه في قضايا مُعينةٍ، إذا رأى ولي الأمر المشورة عليه، أو نصيحته، أو تعزيره في قضايا مُعينةٍ، ليس المراد جميع أعمال الناس، جميع تصرفات الناس، إذا رأى ولي الأمر أن إنسانًا يتساهل نصحه، قال له: أنت أولى بهذا. مثلما في الحديث الصحيح: ابدأ بنفسك ثم بمَن تعول، وحديث حكيم بن حزام في "الصحيحين" قال: ..... وابدأ بمَن تعول، وخير الصَّدقة ما كان عن ظهر غِنًى، ومَن يستعفف يُعفّه الله، ومَن يستغنِ يُغنه الله.

فالإنسان الذي قد يتساهل هو ليس بسفيهٍ، ولا صغيرٍ، ولا مجنونٍ، عاقلٌ، لكن قد يتساهل فيما يضره، فيُرشَد، فإذا أعتق عن دبرٍ وليس له مالٌ، أو أراد أن يتصدق بماله يُرشَد، مثلما قال النبي ﷺ لكعب بن مالك لما أراد أن يتصدق بماله من خيبر قال: أمسك عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك، هكذا في الصحيح، قال: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً. قال: أمسك عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك، من باب الإرشاد والتوجيه.

وهكذا قوله في حديث حكيم في "الصحيحين": خير الصَّدقة ما كان عن ظهر غِنًى، ما قال: ما تكون إلا عن غِنًى. قال: خيرها، يعني: أفضلها. وهو ظاهرٌ في أنه يتصدق ولو لم يكن غنيًّا، له أن يتصدق، لكن الأفضل له أن يبدأ بنفسه، إن كانت عنده عائلةٌ، وعنده مَن يقوم بحالهم، فعليه بالصدقة فيهم، ويدل على هذا قصة الذين أضافوا الضيوف، وطووا، وأصبحوا جائعين، وقدَّموا الضيوف، فالله أثنى عليهم، وأثنى على الأنصار: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، فلو كان ما يتصرف إلا مَن كان عنده فضلٌ ما أُثني على هؤلاء الذين آثروا.

فالمسائل تختلف؛ فباب الإيثار له شأنٌ، وإكرام الضيف له شأنٌ، وتقديم ما فيه ضرورة له شأنٌ، وكون الإنسان يُرشَد إلى أن يبدأ بنفسه في الأمور العامَّة، تكون صدقته عن ظهر غِنًى، من فضلٍ، وهذا هو الأصل، هذه هي القاعدة: ابدأ بنفسك ثم بمَن تعول.

وقصة الذي قال: عندي دينارٌ. قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي آخر. قال: تصدق به على زوجتك، قال: عندي آخر. قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي آخر. قال: أنت أعلم به.

المقصود أن الإنسان ينظر فيما هو الأولى فالأولى، ولا يكون عنده تساهلٌ واندفاعٌ يضرُّه ويضر مَن تحت يده، نعم.

س: إذا بايعتَ فقل: لا خلابة؟

ج: يعني: لا خديعةَ، وهذا من الحجج على أنه ..... يعني: يعلم ..... من الناس، يقول لهم: تروني ما أنا بمضبوطٍ، هذا معنى: "لا خلابةَ" يعني: لا خديعةَ، لا تخدعوني، فإذا خُدِعَ فله الخيار.

س: فعل الصديق من هذا الباب؟

ج: هو من هذا الباب، نعم؛ لأن الصديق كانت عنده الثقة بالله، وكان قويًّا، يعمل ويكتسب، فأقرَّه النبي ﷺ على صدقته وإنفاقه جميع ماله، هكذا الإنسان: إنسانٌ نجَّار، خرَّاز، تاجر، يُنفق ويتسبب، عنده ما يقوم بحاله بكسبه، فإذا تصدق بما أعطاه الله، وأنفق الأموال في سبيل الله، وكسبه يقوم بحاله مثلما فعل الصديق، فهذا من مكارم الأخلاق، ومما جبل الله عليه أهل الجود والفضل.

س: قول مالك: إذا كان للرجل مالٌ، وله عبدٌ، ولا شيء له غيره؟

ج: هذه العبارة فيها نظرٌ، هذه عبارةٌ ما هي بمضبوطةٍ، نعم، إذا كان له مالٌ كثيرٌ .....، وأيش يضرُّه إذا أعتق العبد؟! الكلام إذا لم يكن له مالٌ، صواب العبارة: إذا لم يكن له مالٌ إلا هذا العبد. هذا محل البحث.

س: ...............؟

ج: الظاهر أنها مُحرَّفةٌ، نعم، إذا كان له مالٌ وله عبدٌ، كيف يصير هذا؟! صوابه: إذا لم يكن له مالٌ، هذا صواب العبارة من حيث المعنى.

مداخلة: في الترجمة الثانية: مَن ..... على الضعيف ونحوه، ودفع ثمنه، وأمره بالإصلاح.

الشيخ: يعني: ضعيف التصرف، ضعيف الرأي؛ لأن هذا من ضعف الرأي، كونه يعتق عبده، وما عنده مالٌ غيره نوعٌ من ضعف الرأي.

س: هذا سفيهٌ؟

ج: ما يكون سفيهًا، لا، فقط نوعٌ من الضعف في التصرف، وإلا فالسَّفيه يُحجر عليه، السَّفيه الذي لا يُحسن التصرف؛ لصغر سنِّه، أو لضعف عقله، هذا يُسمونه: الحجر لحظِّ نفسه، الصغير، والمجنون، والسَّفيه، بخلاف المفلِس فهو حجر عليه لحقِّ غيره من الغُرماء، نعم.

وقد يكون بعض الناس ليس بسفيهٍ، ما يُحكم عليه بأنه سفيهٌ، لكن عنده تسرعٌ في إنفاق الأموال، وعدم بصيرةٍ في العواقب، فلولي الأمر أن يمنعه في بعض الأحيان، أو في بعض المسائل، مثلما جرى لصاحب العبد، ومثلما قال لكعب: أمسك عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك، ومثلما يُروى عن الذي تصدق ببيضةٍ إن صحَّ ..... أرشده النبي ﷺ إلى أن يستعين بها هو ..... بطريقةٍ فيها إنكارٌ إن صحَّ الخبر، نعم.

س: وإن أفسد بعد منعٍ؟

ج: يعني: إن ظهر منه سُوء التصرف، يعني: صار سفيهًا.

والمقصود من هذا أن ولي الأمر ينظر في الناس، فهو حاكمهم، وهو كأبيهم، بل أعظم من أبيهم، ينظر ولي الأمر، وهكذا نوابه: كالقضاة، ونوابه من الأمراء، إذا رأوا إنسانًا لا يُحسن التَّصرف أخذوا على يديه، وأرشدوه، ومنعوه إذا اقتضى الحال المنع؛ لأنه قد يكون سفيهًا، وقد يكون معتوهًا، وقد يكون مجنونًا.

المقصود أنهم ينظرون في أمره، ولا يُترك، الله قال: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5]، والمؤمن أخو المؤمن، وولي الأمر يقوم على مصالحهم، نعم.

باب كلام الخصوم بعضهم في بعضٍ

2416- حدثنا محمد: أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبدالله قال: قال رسول الله ﷺ: مَن حلف على يمينٍ، وهو فيها فاجرٌ؛ ليقتطع بها مال امرئٍ مسلمٍ، لقي الله وهو عليه غضبان، قال: فقال الأشعث: فيَّ والله كان ذلك؛ كان بيني وبين رجلٍ من اليهود أرضٌ، فجحدني، فقدمته إلى النبي ﷺ، فقال لي رسولُ الله ﷺ: ألك بينةٌ؟ قلت: لا. قال: فقال لليهودي: احلف، قال: قلتُ: يا رسول الله، إذن يحلف ويذهب بمالي! فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا إلى آخر الآية [آل عمران:77].

الشيخ: وهذا يُبين أن الخصوم وإن اختلفت دياناتهم: كفار ومسلمون، القاعدة واحدةٌ: البينة على المدَّعي، واليمين على مَن أنكر، ولو كان المدعي مسلمًا، والمدعى عليه كافرًا، فالحكم واحدٌ: لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعى ناسٌ دماء رجالٍ وأموالهم، ومن هذا قصة الزبير مع اليهودي، لما ادَّعى عليه الزبيرُ قال له النبي ﷺ: ألك بينةٌ؟ قال: لا. قال: لك يمينه، قال: إذن يحلف ولا يُبالي! قال: ليس لك إلا ذلك، ولو كان يهوديًّا، أنت الذي فرَّطتَ، لماذا لم تُشهد؟!

سواء كانت الدعوى في أرضٍ، أو في نقودٍ، أو في منقولاتٍ أخرى، الحكم واحدٌ: البينة على المدَّعي، وفي اللفظ الآخر: شاهداك أو يمينه، فالمفرط لا يلوم إلا نفسه، كل مُفرطٍ لماذا لم يُشهد؟! نعم.

ولا يسعُ الناس عقلًا وشرعًا إلا هذه الشريعة التي جاءت بما تطمئن له القلوب السليمة، وترتاح له العقول الصحيحة، ما في شيءٍ في الشريعة تُحيله العقول الصحيحة أبدًا، فالعقول الصحيحة والفِطَر السليمة تشهد بما جاءت به الشريعة من حيث الصحة والاستقامة، وأنه محض الرشد، ولا يسع الناس سواه.

أما العقول المنحرفة والفِطَر المنحرفة فلا قيمةَ لها، إنسانٌ يجيء ويقول لك: هذا البيت بيتي. هل يُعطاه؟! أو هذه السيارة سيارتي. هل يُعطاها؟! أو هذا العبد عبدي. بالكلام، ولا بينةَ له، البيت لمن هو في يده، والسيارة لمن هي في يده، والعبد لمن هو في يده، والثوب لمن هو في يده، والإناء لمن هو في يده، هاتِ البينة أنه غصب منك هذا البيت، أو غصب منك هذه السيارة، أو غصب منك هذا العبد، أو غصب منك هذا الإناء، أو هذا الثوب، وإلا فهو له.

2418- حدثنا عبدالله بن محمد: حدثنا عثمان بن عمر: أخبرنا يونس، عن الزهري، عن عبدالله بن كعب بن مالك، عن كعبٍ : أنه تقاضى ابن أبي حدرد دَينًا كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله ﷺ وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سِجْفَ حُجرته، فنادى: يا كعب، قال: لبيك يا رسول الله. قال: ضع من دَينك هذا، فأومأ إليه –أي: الشطر-، قال: لقد فعلتُ يا رسول الله. قال: قم فاقضه.

الشيخ: هذا من باب الإصلاح بينهما، كعب وضع الشطر، وابن أبي حدرد أُمر بالوفاء، وقد علم النبي ﷺ من ابن أبي حدرد أنه يقول على تسديد النصف، يُحمل على هذا، وإذا كان مُعسرًا يُنظر، قال الله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، لكن القصة تُحمل على أن ابن أبي حدرد يقدر على الباقي، فإذا كان له مثلًا عشرة آلاف، وقال: سأضع عنك النصف، وهو عاجزٌ، ما ينفع؛ هو عاجزٌ، هو ما عنده ألفٌ ليُعطيك.

المقصود في هذا أنه محمولٌ على أن ابن أبي حدرد يقدر على النصف؛ لأن النصوص يُفسر بعضها بعضًا، ويشرح بعضها بعضًا، والأيمان التي يحلفها الناس هم مُتوعدون فيها بالنار وغضب الجبار إذا كذبوا، مثلما قال النبي ﷺ: مَن حلف على يمين صبرٍ يقتطع بها مال امرئٍ مسلمٍ بغير حقٍّ لقي الله وهو عليه غضبان، وفي اللفظ الآخر: مَن اقتطع حقَّ امرئٍ مسلمٍ فقد أوجب الله له النار، وحرَّم عليه الجنة، فليس بيد الحاكم إلا النَّصيحة والوعيد والتَّحذير إذا طلب يمينه الخصم، نعم.

س: هل يسري في الحال والمؤجل؟

ج: لا، هذا في الحال، المؤجل ما له مُطالبة حتى يحلَّ الأجلُ، هذا في الحال.

س: لو طلب المدينُ من الدائن أن يضع عنه بعض الشيء ويُعطيه الباقي من المؤجل؟

ج: إذا اصطلحوا لا بأس، وما يلزم، لكن لو قال: أعطِ بعضه، وأُسامحك في بعضه. واصطلحوا ما في بأس، في قصة بني النضير قال النبي ﷺ لهم: ضعوا وتعجَّلوا، وإن كان فيها ضعفٌ، لكن معناه صحيحٌ، فالصواب أنهم إذا اتَّفقوا على أن المدين يُعجل بعض الدَّين، ويُسامحه صاحبُ الدَّين في بعضه، فالصواب أنه لا بأس، خلافًا لمن منع ذلك، وبعضهم يحكي قول الجمهور بالمنع، لكن الصواب الجواز: ضعوا وتعجَّلوا، هذا إحسان المدين، وهو ينتفع بذلك؛ حيث يُوضَع عنه بعض الدَّين، وصاحب الدَّين ينتفع بمُعجَّله، فقد يكون محتاجًا للمُعجل، فإذا اتَّفقا أيش يمنع؟! مصلحةٌ للجميع؛ هذا يُوضَع عنه بعض الدَّين، وهذا ينتفع بالمعجَّل لحاجته الحاضرة.

عليه ألف ريالٍ، قال: أعطني خمسمئةٍ، ولك خمسمئةٍ. واتَّفقا، لا بأس، عليه مئة ألفٍ، قال: أعطني خمسين، ولك خمسون. اتَّفقا، لا مانع شرعًا، ولا عقلًا، بل فيه مصلحةٌ للجميع، نعم.

س: تخاصمهم في الدَّين في المسجد ما يُعتبر من الأمور الدنيوية؟ ما يكون أعظم من إنشاد الضَّالة؟

ج: لا، ما هو من هذا، لا بأس به؛ ولهذا تجوز الخصومات في المسجد، محل الخصومات في المساجد؛ لأن هذه من المصالح العامَّة، من أمور المسلمين العامَّة، ويحتاج إلى صبرٍ، ويحتاج إلى جلوسٍ ونظرٍ، والمساجد بُنيت لمصالح المسلمين التي تنفعهم: للعظات، والذكرى، والتوجيه، والإرشاد، لا لأمور الدنيا الخاصة، مثل: البيع، ونشد الضَّوال، أما الخصومات فهي مصالح عامَّة يُبتلى بها الناس كلهم.

2419- حدثنا عبدالله بن يوسف: أخبرنا مالك، عن ابن شهابٍ، عن عروة بن الزبير، عن عبدالرحمن بن عبدالقاري، أنه قال: سمعتُ عمر بن الخطاب يقول: سمعتُ هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها، وكان رسولُ الله ﷺ أقرأنيها، وكدتُ أن أعجل عليه، ثم أمهلتُه حتى انصرف، ثم لببتُه بردائه، فجئتُ به رسول الله ﷺ، فقلتُ: إني سمعتُ هذا يقرأ على غير ما أقرأتنيها! فقال لي: أرسله، ثم قال له: اقرأ، فقرأ، قال: هكذا أُنزلت، ثم قال لي: اقرأ، فقرأتُ، فقال: هكذا أُنزلت، إن القرآن أُنزل على سبعة أحرفٍ، فاقرؤوا منه ما تيسر.

الشيخ: المقصود من هذا الحث على الرفق، والحكمة، وعدم النزاع، وعدم الخصومات، وكان عمر فيه شدةٌ وقوةٌ؛ ولهذا فعل ما فعل؛ إنكارًا لما سمع من القراءة التي اعتقد أنها خلاف الصواب، فأرشده النبي ﷺ إلى أن القرآن نزل على سبعة أحرفٍ، فاقرؤوا ما تيسر منه، وأمره بإرسال أخيه.

والعلماء وضَّحوا معنى الأحرف هنا، وأن المراد بها على الصحيح: اختلاف الكلمات والألفاظ، مع تقارب المعنى، أو اتِّحاد المعنى، مثل: سميع، عليم، حكيم، رؤوف، رحيم، غفور، إن الله خبيرٌ بما تعملون، إن الله عليمٌ بما تعملون، إن الله بصيرٌ بما تعملون، وأشباه ذلك من اختلاف الألفاظ مع تقارب المعنى، أو اتِّحاد المعنى.

ولما كثر الخلاف بعد النبي ﷺ قدم حذيفةُ من بعض المغازي على عثمان رضي الله عنهما وقال: رأيتُ الناس يختلفون في القرآن، وأخشى عليهم، فلو جمعتهم على حرفٍ. فاستشار الصحابة، وشكَّلوا لجنةً لهذا، وعيَّنوا زيد بن ثابت ، وكتبوا مُصحفًا على حرفٍ واحدٍ؛ حتى لا يتنازع الناس، وبقي المصحف على حرفٍ واحدٍ، وكَتَبَ بهذا عدة مصاحف، ووزَّعها في الأقاليم ، وأمر بإحراق ما سوى ذلك؛ حذرًا من النزاع، وبقي المسلمون على حرفٍ واحدٍ، وهو المصحف الموجود الآن، نعم.

س: الصواب أن اختلاف الأحرف باللغة أو القراءة؟

ج: مثلما سمعتَ، الأحرف يعني: الكلمات، على أحرفٍ يعني: على عدة ألفاظٍ مختلفةٍ، أو مختلفة في المعنى بعض الشيء، مع تقارب المعنى. نعم.

باب إخراج أهل المعاصي والخصوم من البيوت بعد المعرفة

وقد أخرج عمرُ أخت أبي بكر حين ناحت.

الشيخ: قف على هذه الترجمة.

س: ما حكم القراءة بعدة قراءات في الصلاة الواحدة؟

ج: لا، ما ينبغي، لا يُشوش على الناس، يقرأ قراءةً واحدةً؛ لأن استعمال القراءات نوعٌ من التشويش يُشبه مسألة الأحرف، أما من باب التعليم: يُعلم الطلبة ويُبين لهم أن هذه قُرئت بكذا، وقُرئت بكذا، فهذا من باب التعليم، نعم.

س: الحديث الذي أرشد النبيُّ ﷺ إليه الصحابيَّ حينما شكا إليه تلبيس الشيطان عليه صلاته، هل أرشده إلى أن يأتي بهذا الدعاء في نفس الصلاة، أو في خارج الصلاة؟

ج: عثمان بن أبي العاص الثقفي اشتكى إلى النبي ﷺ ما يجد من الشيطان، فأرشده النبيُّ ﷺ إلى أن ينفث عن يساره ثلاث مرات، ويتعوَّذ بالله من الشيطان، ففعل -رواه مسلمٌ في الصحيح- فأذهب الله عنه ذلك.

وأما الذي فيه لعنه هذا مع النبي ﷺ: أن الشيطان جاء إليه بشهابٍ من نارٍ يُريد أن يحرقه به، فردَّه النبي ﷺ وقال: ألعنك بلعنة الله، ألعنك بلعنة الله، فلما أبى أخذه النبي ﷺ حتى سال لعابُه بين أصابعه، وقال: لولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطًا في ساريةٍ من هذه السَّواري يلعب به صبيان أهل المدينة، ويدل على جواز لعن مَن جاءت الشريعة بلعنه: كلعن الشيطان، فالله لعنه، وهكذا لعن الظالمين، ولعن الكافرين: أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89]، مَن جاء الشرع بلعنه يُلعن، وفيه قصة لعن العقارب -كما سمعتم الدرس الماضي- إن صحَّ خبرها، نعم.

س: هل يلعن شياطين الإنس أيضًا؟

ج: على العموم، نعم، لعن الله شياطين الإنس والجن جميعًا.

س: إذا علمت أن شخصًا ظالـمًا في مسألةٍ هل تلعنه؟

ج: لعن المعيَّن فيه خلافٌ؛ بعض أهل العلم يرى جواز لعنته، وبعض أهل العلم يرى عدم الجواز؛ لأنه قد يتوب، والنبي ﷺ لما سمع قومًا يلعنون عبدالله بن حمار، وكان يشرب الخمر، فلعنه خالد قال: ما أكثر ما يُؤتى به، لعنه الله. فقال: لا تلعنوه، فإنه يُحب الله ورسوله، لا تُعينوا عليه الشيطان، ففيه خطرٌ، والأولى عدم اللعن، والدعاء له بالهداية مثلما قال ﷺ لما قيل له: إن دوسًا عتت وطغت، فادعُ عليهم يا رسول الله. قال: اللهم اهدِ دوسًا وَأْتِ بهم، فهداهم الله وأسلموا، لكن إذا رأى إنسانًا يُعاند الحقَّ، ويُكابر الحقَّ، فهذا قد يجوز لعنه حينئذٍ لمصلحة المسلمين، والدعاء بالهداية أولى، إلا إذا اقتضت المصلحة الشرعية عدم لعنه، أو ..... مثلما لعن النبي ﷺ الشيطان الذي أراد أن يُحرقه بالشِّهاب.

س: حديث الرسول ﷺ: لعن المؤمن كقتله صحيحٌ؟

ج: لعن المؤمن كقتله حديثٌ صحيحٌ، حديث ثابت بن الضحاك، نعم.

س: المعين إذا كان ميتًا يجوز لعنه؟

ج: النبي ﷺ قال: لا تسبوا الأموات، لا يلعن، اللَّعن على العموم: لعن الله الظالمين، لعن الله الكافرين، لعن الله الفاسقين، في الحديث الصحيح: لعن الله السارق، يسرق الحبلَ فتُقطع يده، ويسرق البيضة فتُقطع يده، على العموم، من غير تعيينٍ: فلان ابن فلان.

س: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161]؟

ج: هذا عمومٌ، على العموم لا بأس، لكن الكلام في فلان ابن فلان، نعم.