باب كراهية السَّخب في السوق
2125- حدثنا محمد بن سنان: حدثنا فليح: حدثنا هلال، عن عطاء بن يسار قال: لقيتُ عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله ﷺ في التوراة. قال: أجل، والله إنه لموصوفٌ في التوراة ببعض صفته في القرآن: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزاب:45]، وحِرْزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتُك المتوكل، ليس بفَظٍّ ولا غليظٍ، ولا سَخَّابٍ في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يُقيم به الملَّة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلْفًا.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وسلم على رسول الله.
أما بعد: فهذه الكلمات التي ذكرها عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن صفة النبي ﷺ فيما قرأ في التوراة مُطابقةٌ لما في القرآن العظيم من صفاته عليه الصلاة والسلام، وكان عبدالله قرأ كتبًا كثيرةً من كتب أهل الكتاب، وكان أصاب زاملتين يوم اليرموك من كتبهم من التوراة وغيرها ...، وكان قرأ من ذلك شيئًا كثيرًا، فينقل عنهم بعض الشيء من هاتين الزاملتين مما يُوافق القرآن، ومما ينفع الناس ويُؤيد، والله سبحانه قد أغنى الأمة بكتابه العظيم القرآن، وبسنة الرسول ﷺ عمَّا سوى ذلك، ولكن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، وابن عباسٍ، وجماعةً من الصحابة، وجماعةً من التابعين قد ينقلون بعض الأشياء للتأييد، وبيان أن كتب الماضين مُؤيدة لما جاء في القرآن العظيم؛ وأخذًا بالحديث: حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، فهم يأخذون بهذا الإذن؛ لأن فيهم الأعاجيب والغرائب؛ فلهذا حدَّث عبدالله بن عمرو وغيره من الصحابة وجماعةٌ من التابعين عن بعض ما نُقل من كتب وفوائد من طريق كعب الأحبار، أو من طريق .....، أو من طريق قراءة بعض كتبهم.
وهذا أمرٌ واقعٌ، فإن في قصص الماضين عبرةً: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لّأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف:111]، وهو ﷺ بعثه الله نعمةً ورحمةً للعالمين، وجعله هاديًا للبشرية: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] عليه الصلاة والسلام، فهو يدعوهم إلى أسباب النجاة، ويُحذِّرهم من أسباب الهلاك؛ ولهذا سُمي: حرزًا للأميين، يعني: حرزًا لهم من الهلاك إذا استقاموا على الدين، أعظم الحرز الاستقامة على الدين واتِّباع الرسول عليه الصلاة والسلام، هذا هو الحرز العظيم، يعني: مَن استقام عليه نجا.
وليس سخَّابًا في الأسواق، بل يحفظ لسانه عما لا ينبغي، ولا يتكلم إلا بالخير عليه الصلاة والسلام وما فيه المصلحة.
وسُميت "الملَّة العوجاء" بمعنى: الحنيفية؛ لأنها مِلَّة حادت عن أديان الكفار، واستقامت على الحقِّ، فهي في نفسها قيِّمةٌ، الملة المحمدية، الملة الإبراهيمية، ملة الرسل، قيِّمةٌ في نفسها: دِينًا قِيَمًا [الأنعام:161]، وفي القراءة الأخرى: قيمًا، وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، فهو دينٌ قَيِّمٌ، عظيمٌ، مستقيمٌ، لكنه حنيفٌ بالنسبة إلى الأديان الأخرى، يعني: مائلًا عن أديانهم التي هي عبادة الأصنام، والأوثان، والنجوم، والموتى، وغير ذلك، فأديان الناس ما عدا دين الله الذي بعث به الرسل باطلةٌ كثيرةٌ.
فهذه الملَّة التي بعث الله بها نبيه محمدًا ﷺ وبعث بها الأنبياء ملَّة حنيفية عوجاء، يعني: مائلة عن أولئك، ليس أنها في نفسها عوجاء بالنسبة إلى وجود خللٍ فيها، لا، فهي دينٌ قيِّمٌ، دينٌ عظيمٌ، فيه الهدى والنور، وفيه السعادة والصراط المستقيم، ولكنه حنيفٌ عن الأديان الأخرى، مُعوجٌّ عن الأديان الأخرى، مائلٌ عنها، فهو في جانبٍ، وهي في جانبٍ، فالأديان الأخرى لا تُحصى، فهذا يعبد الشمس، وهذا يعبد القمر، وهذا يعبد النجم الفلاني، وهذا يعبد الصنم الفلاني، وهذا يعبد الجني الفلاني، والملك الفلاني، إلى غير ذلك، أديانٌ لا تُحصى، كلها باطلةٌ، وهذا الدين الحق مال عنها، فهو حنيفٌ عنها، مُعْوَجٌّ عنها، يعني: مائلًا إلى القصد؛ ولهذا قالوا في الحنيف: إنه المائل عن الشرك إلى التوحيد، يعني: الذي مال قصدًا وإرادةً وعمدًا عن الباطل إلى الحق.
فالحنيفية في ملة إبراهيم هي الملة التي حادت عن الأديان الأخرى ومالت عنها، واعوجَّت عنها، وصارت في جانبٍ عنها، وهي في جانبٍ، وهي نفسها قيِّمةٌ: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا [الأنعام:161]، وفي القراءة الأخرى: دينًا قيمًا، وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، وقال تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وقال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153].
فدين الله مستقيمٌ، قَيِّمٌ، حنيفٌ، ليس فيه اعوجاجٌ في ذاته، ولا خللٌ في ذاته، بل هو قيِّمٌ، ولكنه حنيفٌ، مُعْوَجٌّ عن الأديان الأخرى؛ لأنه مائلٌ عنها، فهو في جانبٍ، وهي في جانبٍ آخر، فهي في جانب الباطل والقيادة إلى النار، وهو حقٌّ، قَيِّمٌ في نفسه، قائدٌ إلى الجنة والسعادة.
أيش قال الشارح على الترجمة؟
قارئ الشرح: قوله: "باب كراهية السَّخَب في الأسواق" بفتح المهملة والخاء المعجمة، بعدها مُوحَّدةٌ، ويقال فيه: "الصَّخب" بالصاد المهملة بدل السين، وهو رفع الصوت بالخصام.
الشيخ: نعم، يعني: كونه يصيح في الأسواق، يُخاصم، ما يرفق، ويعمّ أيضًا رفع الصوت بالباطل والأشياء التي يُرغب عنها، كعادة المتبذلين واللاعبين والهازلين.
كلامه حكيمٌ عليه الصلاة والسلام، يتكلم بما ينفع بهدوءٍ، لا برفع الأصوات التي لا مُبرر لها، أما إذا جاء مُبررٌ رفع صوته: كان إذا خطب رفع صوته حتى كأنه مُنذر جيشٍ، يقول: صبَّحكم، ومسَّاكم عند الحاجة، لكن في الأسواق يُخاطب الناس بالكلام الطيب المعتدل الذي ليس فيه رفع الصوت.
فرفع الصوت من غير حاجةٍ فيه خللٌ، فيه نقصٌ على الإنسان، ولا يرضاه المخاطب أيضًا ..... يُخاطبه بالكلام المناسب، والصوت المناسب، فإذا رفع الصوت من دون سببٍ صار نقصًا على الرافع، وربما استهجنه المخاطب ورأى أنه أيضًا نقصٌ عليه، كأنه يُخاطب أصمَّ؛ ولهذا قال في وصفه: ليس بسَخَّابٍ في الأسواق يعني: يتكلم كلامًا مُعتدلًا، نعم.
تابعه عبدالعزيز بن أبي سلمة، عن هلال، وقال سعيدٌ: عن هلال، عن عطاء، عن ابن سلام.
غلف: كل شيءٍ في غلافٍ.
الشيخ: يعني: ابن سلام قال مثل قول ابن عمرو في وصف النبي ﷺ: ليس بفَظٍّ، ولا غليظٍ، ولا سَخَّابٍ في الأسواق ... إلى آخره، نعم.
غلف: كل شيءٍ في غلافٍ، سيفٌ أغلف، وقوسٌ غلفاء، ورجلٌ أغلف: إذا لم يكن مختونًا.
الشيخ: يعني: أن الله يهدي به قلوبًا غُلْفًا، ويُسمع به آذانًا صُمًّا، ويفتح به أعينًا عُمْيًا بدعوته عليه الصلاة والسلام.
فالمؤلف يُفسر الغلف: وهو الشيء المغلف بغلافٍ، فالقلوب التي أعرضت عن الحقِّ كأنها في غلافٍ: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88] يعني: في غلافٍ، لا نسمع كلمتك يا محمد.
باب الكيل على البائع والمعطي
لقول الله تعالى: وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:3] يعني: كالوا لهم ووزنوا لهم، كقوله: يَسْمَعُونَكُمْ [الشعراء:72]: يسمعون لكم.
وقال النبي ﷺ: اكتالوا حتى تستوفوا.
ويُذكر عن عثمان : أن النبي ﷺ قال له: إذا بِعْتَ فكِلْ، وإذا ابتعتَ فاكتَلْ.
الشيخ: وهذا إذا كان البيع بالكيل، أما إذا كان البيع بالميزان فلا بأس، ثبت عنه ﷺ أنه أقرَّهم على بيع الطعام جُزافًا من دون كيلٍ: صبرة، أو مثلًا طعام في زنبيل، أو في كيس يبيعه كله ..... منظورٌ لا بأس، أما إذا اشترى بالكيل الصاع بكذا، الكيلة بكذا، فإنه يكيل عند البيع حتى يُوفيهم، وإذا اشترى يكتال حتى يستوفي، نعم.
س: ويُذكر عن عثمان؟
ج: في سنده ضعفٌ، هذا الذي ذكره المؤلف بصيغة التَّمريض، أيش قال الشارح عليه؟
قارئ الشرح: قوله: "ويُذكر عن عثمان: أن النبي ﷺ قال له: إذا بِعْتَ فكِلْ، وإذا ابتعتَ فاكتل" وصله الدَّارقطني من طريق عبيدالله بن المغيرة المصري، عن مُنقذ مولى ابن سُراقة، عن عثمان بهذا، ومُنقذ مجهول الحال، لكن له طريقٌ أخرى أخرجها أحمد وابن ماجه والبزار من طريق موسى بن وردان، عن سعيد بن المسيب، عن عثمان، به. وفيه ابن لهيعة، ولكنه من قديم حديثه؛ لأن ابن عبدالحكم أورده في "فتوح مصر" من طريق الليث عنه، وأشار ابن التين إلى أنه لا يُطابق الترجمة، قال: لأن معنى قوله: إذا بِعْتَ فكِلْ أي: فأَوفِ، وإذا ابتعتَ فاكتل أي: فاستوفِ. قال: والمعنى: أنه إذا أعطى أو أخذ لا يزيد ولا ينقص، أي: لا لك، ولا عليك. انتهى.
لكن في طريق الليث زيادةٌ تُساعد ما أشار إليه البخاري، ولفظه: إن عثمان قال: "كنتُ أشتري التمر من سوق بني قينقاع، ثم أجلبه إلى المدينة، ثم أفرغه لهم، وأُخبرهم بما فيه من المكيلة، فيُعطوني ما رضيتُ به من الربح، فيأخذونه ويأخذونه بخبري، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال ..."، فظهر أن المراد بذلك تعاطي الكيل حقيقةً، لا خصوصَ طلب عدم الزيادة والنقصان.
وله شاهدٌ مُرسلٌ أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الحكم، قال: "قدم لعثمان طعامٌ" فذكر نحوه بمعناه.
الشيخ: هذه شواهد لابن لهيعة شاهدةٌ للرواية التي فيها المجهول والمرسل كذلك، والمعنى واضحٌ في أن الكيل والاكتيال يقطع النزاع ما دام ..... كيل فهو يقطع النزاع، قد يصدقونه ثم يشكون، لكن إن سمَّى الكيل فالواجب أن يكيل.
وفي الحديث الصحيح عند مسلمٍ: مَن اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يكتال يعني: إذا اشتراه بالكيل، وهذا يُؤيد ما ذُكر عن عثمان، هذه رواية المجهول، وابن لهيعة على ضعفه والمرسل مع حديث مسلم: حتى يكتال كلها تُؤيد ما تقدم من وجوب الكيل على البائع، والاكتيال من المشتري إذا صار البيع بالكيل؛ حتى لا تبقى حزازات، حتى لا يبقى شيءٌ، والإنسان قد يحمله حبُّ المال على التدليس والجحد، فالكيل والاكتيال إذا سمياه هو الطريق إلى السلامة وقطع الظن السيئ والبراءة من البخس، أما إذا ..... هذه صبرة اشتراها أمام عينيه، يشتري الصبرة، أو بالكيس الموجود من دون اشتراطٍ: الصاع بكذا، أو الوزن بكذا، نعم.
الشيخ: نعم، هذا يعمّ: إن كان بالكيل بالكيل، وإن كان بالجزاف ينقله، كان ابن عمر يقول: نضرب على بيعه في المكان حتى ننقله. إن كان بالكيل يُستوفى بالكيل، وإن كان بالجُزاف يُنقل من محلِّه: من أعلى السوق إلى أسفله، أو من السوق إلى بيته، أو من بيته إلى مكانٍ آخر يبيع فيه؛ حتى يتم القبض، ويبتعد عن النزاع.
الشيخ: "عذق" شكَّلها بالكسر؟
القارئ: إيه، نعم.
الشيخ: يمكن، المشهور "العذق" القنو، والعذق نوعٌ من النخل، انظر هل ضبطه الشارح؟
القارئ: وقوله فيه: وعذق ابن زيد العَذق -بفتح العين- النخلة.
الشيخ: هذا المعروف، نعم.
القارئ: وبكسرها العرجون.
الشيخ: هذا هو، نعم.
القارئ: والذال فيهما مُعجمة.
الشيخ: والمقصود في هذا النوع، نعم، يعني: صنِّفه أصنافًا: الصّقعي على حدةٍ، والسلج على حدةٍ، ونبتة السيف على حدةٍ، والعجوة على حدةٍ، هكذا أنواع، حتى يأتي ﷺ فيدعو فيه بالبركة.
فقال لي النبي ﷺ: اذهب فصنِّف تمرك أصنافًا: العجوة على حدةٍ، وعذق ابن زيد على حدةٍ، ثم أرسل إليَّ، ففعلتُ، ثم أرسلتُ إلى النبي ﷺ، فجاء فجلس على أعلاه، أو في وسطه، ثم قال: كِلْ للقوم، فكِلتهم حتى أوفيتهم الذي لهم، وبقي تمري كأنه لم ينقص منه شيءٌ.
وقال فراس: عن الشعبي: حدثني جابر، عن النبي ﷺ: فما زال يكيل لهم حتى أدَّاه.
وقال هشام: عن وهب، عن جابرٍ، قال النبي ﷺ: جُذَّ له فأَوفِ له.
الشيخ: هذه من مُعجزاته عليه الصلاة والسلام، ومن كراماته، وما أكثرها عليه الصلاة والسلام!
فهؤلاء قومٌ طلب جابرٌ الشفاعة من النبي ﷺ إلى غُرماء أبيه أن يضعوا بعض الدَّين، وكان عبدالله بن عمرو بن حرام -والد جابر رضي الله عنهما- قُتل يوم أحد وعليه دَينٌ على عادة الحرَّاثين، تكون عليهم ديونٌ، فجاء جابرٌ إلى النبي ﷺ يطلب منه الشفاعة إلى غُرماء أبيه لعلهم يضعون عنه بعض الشيء؛ لأنه يرى أن ثمرة حائطه لا تفي، فالديون كثيرةٌ، فشفع إليهم النبي ﷺ فاعتذروا ولم يستجيبوا، وقد يكونون من اليهود ولم يستجيبوا، فقال له النبي ﷺ: صنِّف تمرك وأنا آتي يعني: يدعو فيه بالبركة، فلما صنَّفه أقسامًا جاء النبي ﷺ ودعا فيه بالبركة، فبارك الله فيه، وأوفى الغُرماء، وبقي المال كأنه لم يُؤخذ منه شيءٌ ..... هذا يقع له كثيرًا عليه الصلاة والسلام.
وفي هذه القصة فوائد:
منها: أنه لا بأس بطلب الشفاعة إلى الشخص الذي يُرجى أن تُقبل شفاعته، لا حرج أن يأتي زيدٌ بمَن يظن أن شفاعته تُقبل فيشفع له في حقٍّ، في دفع ظلمٍ، في قضاء دَينٍ، في تخفيفٍ عنه، في تزويجٍ، إلى غير هذا مما هو شيءٌ طيبٌ، وليس فيه محذورٌ، ولو كان المطلوب منه كبيرًا وعظيمًا لا مانع أن تكون الشفاعة، كالرسول عليه الصلاة والسلام.
وفيها من الفوائد: أنه لا بأس بردِّ الشفاعة، ما هو بلازمٍ أن تُقبل الشفاعة، هؤلاء ما قبلوا شفاعته عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على أنه ليس هناك حرجٌ، وليس عليهم إثمٌ إذا لم يقبلوا، فالنبي ﷺ قال: اشفعوا تُؤجَروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء، هؤلاء ما قبلوا، فهذا فيه جواز عدم قبول الشفاعة، ما هو بلازمٍ.
ومن مكارم الأخلاق قبول الشفاعة إذا أمكن، لكن قد لا يقبل الإنسان، قد تكون له أسباب تمنعه من قبول الشفاعة، قد يكون الشافع شفع في شيءٍ كبيرٍ يضره ويشقّ عليه.
فالحاصل أن الحديث يدل على شرعية الشفاعة، وعلى أن المشفوع إليه لا يلزمه أن يقبل، إن قبل فهذا طيبٌ، معروفٌ وحسنٌ، ولكن لا يلزمه القبول، ومثل هذا قصة بريرة لما اختلفت مع زوجها، لما أعتقت وعافت زوجها وطابت نفسها، ومغيث كان يُحبها كثيرًا، فطلب من النبيﷺ الشفاعة إليها أن تقبل، فشفع إليها ﷺ وقال: يا بريرة، لو قبلتيه، فقالت: يا رسول الله، تأمرني أو تشفع؟ قال: بل أشفع، قالت: لا حاجةَ لي فيه. ولم تقبل الشفاعة، ولم يَعِب عليها النبي ﷺ ولم يُعنفها؛ لأن الشفاعة لا تلزم، وإنما تُشرع.
وفيها من الفوائد -وهي العُظمى-: الدلالة على أنه رسول الله حقًّا عليه الصلاة والسلام، فهذه مُعجزةٌ عظيمةٌ؛ فالديون كثيرةٌ، وجاء جابرٌ يطلب منه الشفاعة أن يُخففوا منها، ثم دعا فيها النبي ﷺ فأوفاهم، وبقيت الأموال كأنها لم تنقص، أوفاهم هذا الدَّين العظيم، وبقيت أنواع التمور، وهذا من آيات الله العظيمة، ومن الدلائل العظيمة على أنه رسول الله حقًّا عليه الصلاة والسلام، وأنه مُباركٌ، وأنه صاحب الدعوة المستجابة عليه الصلاة والسلام.
س: فجلس على .....؟
ج: يعني: عند ..... الأولى.
س: ...............؟
ج: تقبل منه .....
س: تطلب منه؟
ج: ما فيه مانع إذا كان ينفع، إذا كان كبيرًا في قومه وطلبوا منه الشفاعة في مصلحةٍ للمسلمين أو لك لا بأس، نعم.
باب ما يُستحب من الكيل
2128- حدثنا إبراهيم بن موسى: حدثنا الوليد، عن ثورٍ، عن خالد بن معدان، عن المقدام بن معدي كرب ، عن النبي ﷺ قال: كِيلوا طعامكم يُبارك لكم.
الشيخ: أيش قال الشارح؟
قارئ الشرح: قوله: "باب ما يُستحب من الكيل" أي: في المبايعات.
قوله: "الوليد" هو ابن مسلم.
قوله: "عن ثورٍ" هو ابن يزيد الدمشقي، في رواية الإسماعيلي من طريق دحيم، عن الوليد: حدثنا ثور.
قوله: "عن خالد بن معدان، عن المقدام بن معدي كرب" هكذا رواه الوليد، وتابعه يحيى بن حمزة، عن ثورٍ.
وهكذا رواه عبدالرحمن بن مهدي، عن ابن المبارك، عن ثورٍ. أخرجه أحمد عنه.
الشيخ: عندهم ثور اثنان مشهوران: ثور بن يزيد الدمشقي، من رجال البخاري، ثقةٌ، يُرمى بالقدر. وثور بن زيد -بدون ياء- الدّيلي، مدنيٌّ، ثقةٌ، من رجال الشيخين، يروي عن أبي هريرة، وكلاهما ثقةٌ، لكن ثورين الشيخين: ثور بن زيد وثور بن يزيد –بالياء- عند البخاري، الدّمشقي رُمِيَ بالقدر، نعم، لكنه ثقةٌ.
مُداخلة: توجد حاشيةٌ على قوله: تابعه يحيى بن سعد.
الشيخ: ابن سعد، أو سعيد؟ تابعه؟
الطالب: وتابعه يحيى بن سعد، لعله: دحيم بن سعيد.
الشيخ: المتن حدثنا؟
القارئ: حدثنا إبراهيم بن موسى: حدثنا الوليد، عن ثورٍ، عن خالد بن معدان، عن المقدام بن معدي كرب.
الشيخ: تابعه بعد المتن؟
الطالب: في الشرح.
الشيخ: وإلا في المتن ما في: تابعه؟
الطالب: لا، هذا في الشرح.
الشيخ: وأيش قال في الشرح؟
القارئ: قال: وهكذا رواه عبدالرحمن بن مهدي، عن ابن المبارك، عن ثور. أخرجه أحمد عنه، وتابعه يحيى بن سعد، عن خالد بن معدان.
الطالب: في الحاشية: لعله دحيم بن سعيد، وهو السّحولي، فإنه يروي عن ابن معدان، وليس من الرواة عن ابن معدان: يحيى بن سعد، ولا يحيى بن سعيد. الحاشية لمحيي الدين الخطيب.
الشيخ: دحيم ما هم ابن سعيد، دحيم بن سعد، المعروف: دحيم بن سعد، ثقةٌ، لا بأس به، شاميٌّ، ولعله المراد في المتابعة: دحيم بن سعد، بدل: يحيى بن سعد، المعروف ابن سعد، ما هو ابن سعيد ..... انظر "التقريب": دحيم بن سعد.
الطالب: دحيم -بكسر المهملة- بن سعد السحولي.
الشيخ: هذا المعروف: ابن سعد.
الطالب: أبو خالد الحمصي، ثقةٌ، ثبتٌ، من السادسة. (البخاري في "الأدب" والأربعة).
الشيخ: هذا هو، ضع تحت "ابن سعيد": لعل صوابه "ابن سعد" كما في "التقريب".
القارئ: وخالفهم أبو الربيع الزهراني، عن ابن المبارك، فأدخل بين خالد والمقدام جبير بن نفير، أخرجه الإسماعيلي أيضًا، وروايته من المزيد في متصل الأسانيد، ووقع في رواية إسماعيل بن عياش عند الطبراني.
الشيخ: المزيد في متصل الأسانيد: إذا وقع رجلٌ بين راويين: أحدهما سمع من شيخه، ثم جاء راوٍ آخر وحطَّ بينهما واحدًا، فهذا يُقال: مزيد في متصل الأسانيد؛ لأن الراوي قد سمع من شيخه، وقد يروي بعض الأحيان عن واسطةٍ للتقوية إذا سمع منه مُشافهةً، وبواسطةٍ أيضًا، قد يقع هذا كثيرًا، وهذا يُسمى: مزيد في متصل الأسانيد. نعم.
القارئ: ووقع في رواية إسماعيل بن عياش عند الطبراني ونفيه.
الطالب: حاشية: كذا في الطبعة الأولى، ولعل الصواب "بقية"، وهو ابن الوليد الكلاعي، فإنه يروي عن دحيم بن سعيد.
الشيخ: على غلطه السابق، نعم.
القارئ: عنده وعند ابن ماجه، كلاهما عن يحيى بن سعيد.
الطالب: حاشية: لعله: دحيم.
الشيخ: المقصود، بعده.
القارئ: قوله: يُبارك لكم.
الشيخ: المتن: كِيلوا طعامكم؟
القارئ: كِيلوا طعامكم يُبارك لكم.
قوله: يُبارك لكم كذا في جميع روايات البخاري، ورواه أكثر مَن تقدم ذكره فزادوا في آخره: فيه قال ابن بطال: الكيل مندوبٌ إليه فيما يُنفقه المرء على عياله، ومعنى الحديث: أخرجوا بكيلٍ معلومٍ يبلغكم إلى المدة التي قدرتم، مع ما وضع الله من البركة في مُدِّ أهل المدينة بدعوته ﷺ.
وقال ابن الجوزي: يُشبه أن تكون هذه البركة للتسمية عليه عند الكيل.
وقال المهلب: ليس بين هذا الحديث وحديث عائشة: "كان عندي شطر شعيرٍ آكل منه، حتى طال عليَّ فكِلته ففني" –يعني: الحديث الآتي ذكره في الرقاق- مُعارضةٌ؛ لأن معنى حديث عائشة: أنها كانت تُخرج قوتها -وهو شيءٌ يسيرٌ- بغير كيلٍ، فبُورك لها فيه مع بركة النبي ﷺ، فلما كالته علمت المدة التي يبلغ إليها عند انقضائها. ا. هـ.
وهو صرفٌ لما يتبادر إلى الذهن من معنى البركة، وقد وقع في حديث عائشة المذكور عند ابن حبان: "فما زلنا نأكل منه حتى كالته الجارية، فلم نلبث أن فَنِيَ، ولو لم تكله لرجوتُ أن يبقى أكثر".
وقال المحب الطبري: لما أمرت عائشةُ بكيل الطعام ناظرةً إلى مُقتضى العادة، غافلةً عن طلب البركة في تلك الحالة؛ رُدَّت إلى مُقتضى العادة. ا. هـ.
والذي يظهر لي أن حديث المقدام محمولٌ على الطعام الذي يُشترى، فالبركة تحصل فيه بالكيل؛ لامتثال أمر الشارع، وإذا لم يمتثل الأمر فيه بالاكتيال نُزعت منه؛ لشؤم العصيان.
وحديث عائشة محمولٌ على أنها كالته للاختبار؛ فلذلك دخله النقص، وهو شبيهٌ بقول أبي رافع لما قال له النبي ﷺ في الثالثة: ناولني الذِّراع، قال: وهل للشاة إلا ذراعان؟! فقال: لو لم تقل هذا لناولتني ما دمتُ أطلب منك، فخرج من شُؤم المعارضة انتزاع البركة.
ويشهد لما قلته حديث: لا تُحصي فيُحصي الله عليك الآتي.
والحاصل أن الكيل بمجرده لا تحصل به البركة ما لم ينضم إليه أمرٌ آخر، وهو امتثال الأمر فيما يُشرع فيه الكيل، ولا تُنزع البركة من المكيل بمجرد الكيل ما لم ينضم إليه أمرٌ آخر كالمعارضة والاختبار، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون معنى قوله: كِيلوا طعامكم أي: إذا ادَّخرتُموه طالبين من الله البركة، واثقين بالإجابة، فكان مَن كاله بعد ذلك إنما يكيله ليتعرف مقداره، فيكون ذلك شكًّا في الإجابة؛ فيُعاقب بسرعة نفاده. قاله المحب الطبري.
ويحتمل أن تكون البركةُ التي تحصل بالكيل بسبب السلامة من سُوء الظن بالخادم؛ لأنه إذا أخرج بغير حسابٍ قد يفرغ ما يُخرجه وهو لا يشعر فيُتَّهم.
الشيخ: هذا الذي قاله الشارح محل نظرٍ، والأفضل -والله أعلم- حمله على الظاهر: كِيلوا طعامكم يُبارك لكم، ..... الرسول ﷺ عند الشراء يكتل، وعند البيع كذلك، وأن هذه البركة لامتثال الأوامر، إذا كالوا يُبارك لهم في امتثال الأوامر الشرعية، والبُعد عن الظن السيئ والخيانة، فامتثال الأوامر من أسباب البركة، ومن أسباب مرضاة الله، ومن أسباب العاقبة الحميدة، والتساهل في الأوامر من أسباب منع البركة، ومن أسباب سُوء العاقبة، فهذا يشمل الكيل عند الشراء، والكيل عند البيع إذا صار البيع بالكيل: كِيلوا طعامكم يُبارك لكم.
ويدخل فيه أيضًا إذا كان يخرج على الناس، مثل: الخازن على الوكيل للضيوف يُعطيهم كيلًا؛ حتى يعرفوا ماذا بذل؟ يُعطيهم كيلًا: صاعًا، صاعين، يعني: يأمر الخازن أو يأمر الوكيل أن يأخذ بالكيل؛ حتى يعرف المقدار الذي بذل في هذا اليوم، أو في هذه الضيافة .....، والباقي لا يُكال، يُترك، مثلما قالت عائشةُ لما كالته نفد، فالباقي لا يُختبر، يُترك، يكيل منه فقط حتى ينفد؛ جمعًا بين الأخبار، يأخذ بالكيال، ولكن ما هو كل ساعةٍ يقول: المكيل، الباقي أيش هو؟ لا، يتركه، يطلب من الله البركة، ويترك الباقي يُبارك الله فيه، وهو يأخذ منه بالكيل، ويُعطي بالكيل، ويبيع بالكيل، ولكن لا يَكِل الباقي، يقول: أرى أيش بقي؟ ولكن يطلب من الله البركة مثلما فعلت عائشةُ؛ كانت تأخذ منه وتُنفق وهو شيءٌ قليلٌ بارك الله فيه مدةً طويلةً، فلما كالت الباقي نفد بسرعةٍ، فهذا فيه دلالة على أن الإنسان يأخذ من الطعام بالكيل، ويبيع بالكيل، إن سمّى الكيل، ولكن ما هو كل ساعةٍ يقول: أرى أيش الباقي؟ من سوء الظن، أو من الجشع، أو من البخل، لا، يتركه.
س: يدخل هذا في الماء لو كانت معه جرَّةٌ: عدم المعاينة؟
ج: الله أعلم.
س: حديث: لا تُحصي فيُحصي الله عليك؟
ج: حديث أسماء، يعني: أنفقي ولا تُحصي: لا تُوعي فيُوعي الله عليكِ، يعني: أنفقي واطلبي الفضل من الله، والبركة من الله ، نعم.
س: ............؟
ج: ما هو ببعيدٍ، قريبٌ منه؛ حتى يعرف ما خرج، نعم.
ومعنى: لا تُحصي يعني: تخافي النَّفاد، أنفقي ولا تُحصي، يرى أيش الباقي؟ وأيش الذي مضى؟
الظاهر -والله أعلم- أنها تُنفق بما يسر الله، ولا يمنع من كونها تُنفق ..... المنفق، ما هو ..... ترى أيش الذي مضى؟ وأيش الذي بقي؟ تُنفق فقط، يُوافق ما ذكرت عائشة، نعم.
القارئ: ويحتمل أن تكون البركةُ التي تحصل بالكيل بسبب السلامة من سُوء الظن بالخادم؛ لأنه إذا أخرج بغير حسابٍ قد يفرغ ما يُخرجه وهو لا يشعر؛ فيتَّهمه مَن يتولى أمره بالأخذ منه، وقد يكون بريئًا، وإذا كاله أَمِنَ من ذلك، والله أعلم.
وقد قيل: إن في "مسند البزار" أن المراد بكيل الطعام تصغير الأرغفة، ولم أتحقق ذلك ولا خلافه.
س: الأثر الذي ذكره الشارح عن أبي رافع: أنه ناول النبي ﷺ .....؟
ج: معروفٌ، هذا صحيحٌ.