41– كتاب الحرث والمزارعة
باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه
وقول الله تعالى: أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا [الواقعة:63- 65].
2320- حدثنا قتيبة بن سعيد: حدثنا أبو عوانة. ح، وحدثني عبدالرحمن بن المبارك: حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: ما من مسلمٍ يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ، إلا كان له به صدقةٌ.
وقال لنا مسلم: حدثنا أبان: حدثنا قتادة: حدثنا أنس، عن النبي ﷺ.
الشيخ: وهذا يدل على فضل الزراعة وما فيها من الخير العظيم والمصالح الكثيرة.
والمؤلف رحمه الله (البخاري) ساق هذا الحديث أولًا من طريق العنعنة، ثم ذكر ما يدل على سماع قتادة من أنسٍ.
والحديث يدل على شرعية الغرس والزراعة؛ لما فيه من المصالح الكثيرة للعباد، والثقة بالله، والاعتماد عليه، وطلب الرزق، والله يقول: أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [الواقعة:63- 67].
فالله هو الذي زرع لهم جلَّ وعلا، فأنبت النبات وحفظه وسلَّمه حتى حصدوه، وهكذا الغراس، ولو شاء لجعله حطامًا، لو شاء لم يُنبته، ثم لو شاء لحطمه وأتلفه بعدما نبت، وأنزل عليه من الآفات ما يُهلكه، كما قد يقع، فهو سبحانه الجواد، الكريم، المنعم، الميسر، فالعبد عليه السبب الذي أمر به، والله سبحانه هو الذي يسَّر له الغنيمة والفائدة، وحفظ عليه الزرع والنخل، وغير ذلك من أنواع الغراس.
ثم فيه هذه الفائدة العظيمة: ما من مسلمٍ يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إلا كان له صدقةٌ، وفي اللفظ الآخر: ما رزئ منه كان له صدقةٌ، وكل ما أصابه من نقصٍ فهو له صدقةٌ، وليطمئن المؤمن على هذا الخير، ليغرس، وليزرع، وليجتهد، فهو على خيرٍ، إن نجح فقد حصل له خيران: الصدقات، والفائدة العظيمة، وإن أصابه شيءٌ كان كفارةً له، وكانت مصالح كبيرةٌ في المصائب أيضًا: فيُكفِّر الله بها الخطايا، ويستر بها المعايب، ثم هو ممتثلٌ لأمر الله، مُتوكِّلٌ عليه، آخذٌ بالأسباب، فهو على خيرٍ.
وهكذا أصحاب التجارة والحِرَف مع النية الصالحة هم على خيرٍ عظيمٍ، أخذوا بالأسباب، وطلبوا الرزق، فهم على خيرٍ.
وإذا نوى العبد بحِرفته وكسبه الاستغناء عمَّا في أيدي الناس، وأكل الحلال، والامتثال لأمر الله في طلب الرزق؛ فهو على خيرٍ، وعلى أجرٍ، مع ما يحصل له من الفائدة الدنيوية.
مداخلة: عندي "كتاب المزارعة" فقط؟
الشيخ: ما عندك: الحرث؟
الطالب: لا.
الشيخ: ما يُخالف.
باب ما يُحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع، أو مُجاوزة الحد الذي أُمِرَ به
2321- حدثنا عبدالله بن يوسف: حدثنا عبدالله بن سالم الحمصي: حدثنا محمد بن زياد الألهاني، عن أبي أُمامة الباهلي، قال: ورأى سكةً وشيئًا من آلة الحرث، فقال: سمعتُ النبي ﷺ يقول: لا يدخل هذا بيت قومٍ إلا أدخله الله الذل.
قال أبو عبدالله: واسم أبي أمامة: صُدَي بن عجلان.
الشيخ: هذا يدل على أن المراد بذلك إذا قصَّر في الواجب، أو توسَّع فيه، فإنه لما رأى شيئًا من آلة الحرث قال: ما دخل هذا بيت قومٍ إلا أدخله الله الذل، يُحمل مثلما قال المؤلف على ما إذا كان تعاطي ذلك على وجهٍ يكون فيه الإسراف والزيادة، أو التقصير عن الواجب، أو الامتناع عن الواجب، أو الشغل به عمَّا أوجب الله، أما إذا كانت الزراعة والحرث لم تمنعه مما أوجب الله عليه، ولم تُقعده عن الجهاد عند الداعي إليه، ولم يُسرف فيها ويتوسع حتى تشغله؛ فهي مكسبٌ عظيمٌ؛ جمعًا بين الأدلة.
س: ما المقصود بالإسراف؟
ج: الإسراف الذي يجعله مشغولًا بها عن الخيرات وعن الطاعات.
س: يعني: أن تكون له مزارع مُتعددةٌ، أو مزرعةٌ واسعةٌ طويلةٌ؟
ج: الضابط أنها تشغله، الضابط أنه يتوسع توسعًا يشغله، فالأنصار عندهم حقولٌ كثيرةٌ، وهم يختلفون إليها، وقد أثنى الله عليهم، ونفعوا المسلمين، فإذا كانت المزارع لا تشغل عمَّا أوجب الله، ولا تُوقع فيما حرَّم الله، فهي مكسبٌ طيبٌ، وصاحبها على خيرٍ، وكلما أخرج منها أو نقص منها فهو صدقةٌ.
س: لا بد أن يحتسب المزارع؟
ج: إذا احتسب يكون الأجر أعظم، نعم.
باب اقتناء الكلب للحرث
2322- حدثنا معاذ بن فضالة: حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: مَن أمسك كلبًا فإنه ينقص كل يومٍ من عمله قيراطٌ، إلا كلب حرثٍ أو ماشيةٍ.
قال ابن سيرين وأبو صالح: عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ: إلا كلب غنمٍ، أو حرثٍ، أو صيدٍ.
وقال أبو حازم: عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ: كلب صيدٍ أو ماشيةٍ.
2323- حدثنا عبدالله بن يوسف: أخبرنا مالك، عن يزيد بن خصيفة: أن السائب بن يزيد حدَّثه: أنه سمع سفيان بن أبي زهير -رجلًا من أزد شَنوءة، وكان من أصحاب النبي ﷺ- قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: مَن اقتنى كلبًا لا يُغني عنه زرعًا ولا ضَرْعًا نقص كل يومٍ من عمله قيراطٌ، قلتُ: أنت سمعتَ هذا من رسول الله ﷺ؟ قال: إي وربِّ هذا المسجد.
الشيخ: وهذا يدل على جواز اقتناء الكلب لهذه الأشياء الثلاثة: الزرع، والصيد، والماشية؛ لدعاء الحاجة إلى ذلك، وفي حديث ابن عمر "قيراطان": "نقص من أجره كل يومٍ قيراطان"، وهذا يدل على أن الأمر أشدّ، كان قيراطًا أولًا ثم زِيد فصار قيراطين، يعني: سهمين من أجوره التي يحصل عليها في اليوم؛ أجور صلواته وعباداته ينقص منها قيراطان، أو قيراطٌ، جزءٌ من أربعةٍ وعشرين جزءًا عند العرب، أو جزءٌ من عشرين، على اختلافٍ بينهم: هل هو من عشرين، أو من أربعةٍ وعشرين؟
والمقصود أنه جزءٌ من عمله، أو جزآن من عمله.
ويظهر من هذا تحريم اقتنائه لغير ذلك؛ لأن كونه يتعرض لنقص أجوره فلا يجوز له، ويحتمل الكراهة؛ لأنه ما فيه النهي، إنما فيه النقص، فيحتمل أنه يُكره، ويحتمل التَّحريم، والعرب في البادية يتَّخذون الكلاب للغنم؛ حتى تطرد عنها الذِّئاب، أو على الأقل تُسمعهم إذا جاء شيءٌ؛ حتى يقوم أهل الغنم ويُساعدوا الكلب.
والحرث كذلك تحميه من السُّرَّاق واللصوص بصوتها ومُحاربتها للصوص، والصيد معروفٌ.
س: هل يُقاس على هذا ..... ما يحتاج إلى حراسته؟
ج: الأظهر -والله أعلم- أنه لا يُقاس عليه شيءٌ؛ لأن هذا نصٌّ محصورٌ، فالنبي ﷺ ما قال: أو لغير ذلك من المقاصد، بل حصر، فلا .....، ثم اتِّخاذه ليحرس الأبواب يُؤذي الناس بصياحه وأذاه، وقد يعضّ مَن لا يستحقّ العضّ، والذي يجب الاقتصار على الثلاث، نعم.
س: حديث: ثمن الكلب خبيثٌ؟
ج: صحيحٌ، في "الصحيحين".
س: فكيف يُشترى؟
ج: ما يُشترى، مَن قال لك أنه يُشترى؟ يُربيه بدون شراءٍ، يقتنيه بدون شراءٍ.
س: ما يُفسر القيراط مثل القيراط الذي في الصلاة على الجنازة .....؟
ج: الله أعلم، ما هو بظاهرٍ، نعم.
س: الجمع بين رواية القيراط والقيراطان؟
ج: الظاهر أنه في الأول كان قيراطًا، ثم زِيد للتَّحذير، فالزيادة لا تُخالف ..... نعم.
س: هنا رواية: لا يُغني عنه زرعًا ولا ضَرْعًا بالنصب؟
ج: هو، لا يُغني الكلب، "زرعًا" مفعولٌ.
س: الفاعل الكلب؟
ج: نعم.
باب استعمال البقر للحراثة
2324- حدثنا محمد بن بشار: حدثنا غندر: حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم قال: سمعتُ أبا سلمة، عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال: بينما رجلٌ راكبٌ على بقرةٍ التفتت إليه فقالت: لم أُخلق لهذا، خُلقتُ للحراثة، قال: آمنتُ به أنا، وأبو بكرٍ، وعمر، وأخذ الذئبُ شاةً، فتبعها الراعي، فقال له الذئب: مَن لها يوم السبع، يوم لا راعي لها غيري؟، قال: آمنتُ به أنا، وأبو بكر، وعمر، قال أبو سلمة: وما هما يومئذٍ في القوم.
الشيخ: هذا من آيات الله، يُخبر النبي ﷺ أن الله جلَّ وعلا أنطق البقرة، وأنطق الذئب، والله على كل شيءٍ قديرٌ، كما يُنطق الأسماع والأبصار والجلود والأيدي والأرجل يوم القيامة، وقادرٌ على أن يُنطقها في الدنيا، فالذئب له صوتٌ معروفٌ، والبقرة لها صوتٌ معروفٌ، وهذه البهائم لها أصواتٌ معروفةٌ، والله سبحانه قادرٌ على أن يُنطقها؛ ولهذا قال: آمنتُ بذلك أنا، وأبو بكر، وعمر يعني: آمنتُ بأن الله جلَّ وعلا قادرٌ على إنطاق هذه الحيوانات، والبقر للحرث في الغالب ..... للحرث، لا للحمل والركوب، لكن ليس هناك نهيٌ، فقولها هي ما يمنع، قولها: "إني ما خُلقت لهذا" ما يمنع؛ لأن الرسول ﷺ ما نهى عنه، قال: أنها تكلَّمت، ولكن لم ينهَ عن ركوبها، ولا عن الحمل عليها ..... على أن الركوب والحمل عليها بقدر طاقتها كالإبل، وهكذا الغنم إذا حُمل عليها شيءٌ لا يضرها.
س: يوم السبع؟
ج: يعني: يوم تعطل المواشي، حين تتعطل المواشي، إما في آخر الزمان عند تعطل المواشي، وشغل الناس عنها في المحشر، أو بأسبابٍ أخرى يُشغل الناس عنها. أيش قال المحشي عليه؟ الشارح؟
قارئ الشرح: قوله: "باب استعمال البقر للحراثة" أورد فيه حديث أبي هريرة في قول البقرة: لم أُخلق لهذا، إنما خُلقتُ للحراثة، وسيأتي الكلام عليه في المناقب، فإن سياقه هناك أتمّ من سياقه هنا، وفيه سبب قوله ﷺ: آمنتُ بذلك، وهو حيث تعجب الناس من ذلك، ويأتي هناك أيضًا الكلام على اختلافهم في قوله: يوم السبع، وهل هي بضم الموحدة أو إسكانها؟ وما معناها؟
قال ابن بطال: في هذا الحديث حُجَّة على مَن منع أكل الخيل، مُستدلًّا بقوله تعالى: لِتَرْكَبُوهَا [النحل:8]، فإنه لو كان ذلك دالًّا على منع أكلها لدلَّ هذا الخبر على منع أكل البقر؛ لقوله في هذا الحديث: إنما خُلقتُ للحرث، وقد اتَّفقوا على جواز أكلها، فدلَّ على أن المراد بالعموم المستفاد من جهة الامتنان في قوله: لِتَرْكَبُوهَا، والمستفاد من صيغة "إنما" في قوله: إنما خُلقتُ للحرث عمومٌ مخصوصٌ.
الشيخ: كلامٌ طيبٌ، نعم، فكونها خُلقت للحرث، أو كون الله مَنَّ بالخيل للركوب والزينة لا يمنع من أكلها، كذلك لا يمنع من جعل شيءٍ على غير الركوب، تحمل أشياء؛ ولهذا ثبت عنه ﷺ حِلّ الخيل، وأنه رخص في أكلها، وذُبحت في المدينة في عهده، وأُكلت أيضًا، مع أنها مَنَّ الله بها علينا للزينة والركوب والجهاد عليها، ولكن مع ذلك لو ذُبحت وأُكلت لا بأس، وهكذا إذا حمل عليها لغير الركوب، وهكذا البقر وإن كانت خُلقت للحرث، وأعظم نفعها في الحرث، لكنها يجوز أن يُحمل عليها، وأن تُذبح للأكل، وأن تُربى للأكل، نعم.
س: بارك الله فيكم، قوله: آمنتُ هذا من قول النبي ﷺ، أم من قول الصحابي؟
ج: من قول النبي ﷺ، هو الذي يقول: آمنتُ بذلك أنا، وأبو بكر، وعمر، وليسا حاضرين.
س: فيه منقبةٌ للشيخين؟
ج: منقبةٌ لهما بلا شكٍّ، يعني: يعرف من حالهما أنهما لا يُكذِّبانه، بل يُصدِّقانه.
س: حديث: لا تقوم الساعةُ حتى تُكلم السباعُ الإنس؟
ج: ما أتذكر هذا.
الشيخ: "وتشركني" ضبطها؟
القارئ: إيه، نعم، فيها الوجهان.
الشيخ: ما يُخالف، نعم.
الشيخ: ، وهذا من جودهم، لما جاء المهاجرون إلى المدينة قال الأنصار: "يا رسول الله، اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين نخيلنا"، فقال: لا، فقالوا: "تكفونا المؤونة ونشرككم في الثمرة" يعني: نكون معكم في الثمر، وأنتم تقومون على نخيلكم، فقالوا: "سمعنا وأطعنا" ، وصدقوا، وتعبوا في نخيلهم، واعتنوا بها، وجادوا على إخوانهم، نعم.
وفي هذا من الفوائد: أن المسلمين شيءٌ واحدٌ، وجسدٌ واحدٌ، وبناءٌ واحدٌ، يتعاونون، فإذا كان فيهم الفقير يحملونه، يحملون فقيرهم، سواء كانوا مُزارعين، أو تجارًا، أو أهل حرفٍ، الواجب أنهم يحملون فقيرهم؛ لأنهم شيءٌ واحدٌ، كما قال ﷺ: المؤمن للمؤمن كالبُنيان، يشدّ بعضه بعضًا، وشبَّك بين أصابعه، وقال ﷺ: مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمى، فهم يتعاطفون، ويحمل غنيُّهم فقيرَهم ويُواسيه مما أعطاه الله، نعم؛ ولهذا الأنصار قاموا بما يجب من مساعدة المهاجرين حتى وسَّع الله على الجميع.
س: قوله: "فقالوا" المهاجرون أو الرسول ﷺ؟
ج: الأنصار.
س: قالوا: "تكفونا المؤونة" الأنصار؟
ج: لا، المهاجرون، معناه: النبي ﷺ والمهاجرين جميعًا، والأنصار قالوا: "سمعنا وأطعنا"، نعم.
س: والمهاجرون يعملون في النخل ويشترطون في الثمرة؟
ج: ما يعملون معهم، يعملون هم: الأنصار: "تكفونا المؤونة، ونشرككم في الثمرة"، هم يقومون بالسقي والعمل.
س: .............؟
ج: المهاجرون قد يحصل لهم البيع والشراء، ما هم يعملون معهم في الزراعة.
س: ما هو ظاهره أن المهاجرين يكفونهم المؤونة ويشركوكم .....؟
ج: لا، قال: "تكفونا المؤونة" يعني: المهاجرين يقولون للأنصار: "تكفونا المؤونة" يعني: القيام على الحرث، "ونشرككم في الثمرة"، ما قال: نكفيكم بالمؤونة، "تكفونا" هم الذين يكفونهم، الأنصار هم الذين يكفونهم.
مداخلة: تكلم عليه الشارح.
الشيخ: نعم.
الطالب: يقول الشارح -أحسن الله إليك-: ثم ظاهر الحديث يقتضي عملهم على النصف مما يخرج "الثمرة"؛ لأن الشركة إذا أُبهمت ولم يكن فيها حدٌّ معلومٌ كانت نصفين.
وقال المهلب: فيه حُجة على جواز المساقاة.
وردَّ عليه ابن التين بأن المهاجرين كانوا ملكوا من الأنصار نصيبًا من الأرض والمال باشتراط النبي ﷺ على الأنصار مُواساة المهاجرين ليلة العقبة. قال: فليس ذلك من المساقاة في شيءٍ.
وردَّ عليه بأنه لا يلزم من اشتراط المواساة ثبوت الاشتراك في الأرض؛ إذ لو ثبت ذلك بمجرد ذكر المواساة لم يبقَ لسؤالهم لذلك وردّه ﷺ عليهم معنًى.
الشيخ: الصواب أن أموالهم لهم: الأنصار، وهم يقومون بالمؤونة: السقي والحرث، ويُساعدون المهاجرين مما أعطاهم الله من الثمرة، وليس المهاجرون شركاء لهم في أموالهم، وإنما هم شُركاء في الثمرة، وهذا من جود الأنصار، ومن إيوائهم للمهاجرين وإعانتهم لهم، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ولَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
المقصود أن الأنصار هم الذين تبوَّؤوا الدار والإيمان، وهم الذين آثروا وأحسنوا إلى إخوانهم المهاجرين.
القارئ: تكلم بكلامٍ ما هو بطويلٍ في الشرح هنا.
الشيخ: نعم.
القارئ: قوله "المؤونة" أي: العمل في البساتين؛ من سقيها والقيام عليها.
قال المهلب: إنما قال لهم النبي ﷺ: لا؛ لأنه علم أن الفتوح ستُفتح عليهم، فكره أن يخرج شيءٌ من عقار الأنصار عنهم، فلما فهم الأنصار ذلك جمعوا بين المصلحتين: امتثال ما أمرهم به، وتعجيل مُواساة إخوانهم المهاجرين، فسألوهم أن يُساعدوهم في العمل ويشركوهم في الثمر. قال: وهذه هي المساقاة بعينها.
وتعقبه ابن التين بأن المهاجرين كانوا ملكوا من الأنصار نصيبًا من الأرض والمال باشتراط النبي ﷺ على الأنصار مُواساة المهاجرين ليلة العقبة. قال: فليس ذلك من المساقاة في شيءٍ. وما ادَّعاه مردودٌ؛ لأنه شيءٌ لم يقم عليه دليلٌ، ولا يلزم من اشتراط المواساة ثبوت الاشتراك في الأرض، ولو ثبت بمجرد ذلك لم يبقَ لسؤالهم لذلك وردّه عليهم معنًى، وهذا واضحٌ بحمد الله تعالى.
الشيخ: مثلما قال، وهو واضحٌ، ليس لهم شركةٌ، إنما قالوا: "تكفونا المؤونة، ونشرككم في الثمرة"، تقومون بالواجب أنتم، تحصل منهم المواساة والإيثار والخير، وهم على أموالهم، وعلى حرثهم، يقومون باللازم من جهة الحرث، ويُساعدون إخوانهم، نعم.
باب قطع الشجر والنخل
وقال أنسٌ: أمر النبي ﷺ بالنخل فقُطِعَ.
2326- حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا جويرية، عن نافع، عن عبدالله ، عن النبي ﷺ: أنه حرَّق نخل بني النَّضير وقطع، وهي البويرة، ولها يقول حسان:
وهان على سُراة بني لُؤي | حريقٌ بالبويرة مُستطير |
الشيخ: ولهذا لما حاصر بني النضير ..... قطع النخل والشجر الذي كان يستظل به بنو النضير لإيذاء المسلمين ورمي المسلمين، وهكذا يوم اختار الأرض التي بنى بها مسجده، واشتراها من الأنصار، كان فيها نخلٌ، فأمر بقطع النخل، وكانت فيها حُفَرٌ، فأمر بتسويتها، وكانت فيها قبورٌ من قبور المشركين، فأمر بنبشها، ثم بُني المسجد.
فهذا يدل على جواز قطع النخيل والأشجار إذا دعت الحاجة إلى ذلك؛ لاتخاذها بيوتًا أو مساجد، أو لأن العدو يتَّقي بها ويُؤذي المسلمين في الحرب تُقطع، إذا كانت الحرب بين المسلمين وبين عدوٍّ عنده نخلٌ أو شجرٌ يتقي به ويُؤذي المسلمين قُطع؛ حتى لا يُؤذي المسلمين.
المقصود أن قطع الشجر والنخل إذا دعت المصلحة إلى ذلك لا بأس به.
الشيخ: كانت عندهم حالاتٌ للزراعة غير صحيحةٍ، فيها جهالةٌ، فنهاهم النبي ﷺ عن ذلك، كانوا يُزارعون على أن الأرض الفلانية لفلان، وهذه لفلان، يعني: أنت تُزارعه على أن لك ما نبت في الأرض الفلانية، وهو له ما نبت في الأرض الفلانية، أو لك ما نبت على المجاري وعلى السَّواقي والأنهار، والآخر محلّه .....، فنهاهم النبي ﷺ عن هذا؛ لأن هذه فيها خطرٌ وضررٌ، فقد تُنبت هذه، ولا تُنبت هذه، وقد تكون هذه أكثر من هذه، فنهاهم النبي ﷺ عن هذا، وأمرهم أن يتزارعوا على النصف والثلث ونحو ذلك، وليس على جزءٍ مشاعٍ.
قال: وأما الذهب والفضة فلم يكن يومئذٍ. يعني: كان قليلًا، ولو تزارعوا على مالٍ معلومٍ من الذهب أو الفضة أو الآصُع لا بأس، يقول: هذه أرضي، لك أن تزرعها بمئة صاعٍ، أو بمئة ريالٍ، أو بألف ريالٍ، أو مئة جنيهٍ كل سنةٍ. لا بأس، لكن أفضل منها المزارعة بالنصف، أو بالثلث، أو بالربع، أو بأقلّ، أو بأكثر، هي أفضل؛ لأن فيها اشتراكًا في الربح والنقص، وفيها قوة التوكل على الله، فهما شريكان في الربح والخسارة، فإذا سلمت له الأرض ليزرعها بالنصف أو بالثلث أو بالربع أو بالخمس، فهذه المزارعة، أما إذا أجره إياها فهي تأجيرٌ، وليست زراعةً، بحيث يُؤجر الأرض ليزرعها بآصُعٍ معلومةٍ، بدراهم معلومةٍ، هذه مُؤاجرةٌ، ليست مُزارعةً.
س: الدليل على أن .....؟
ج: لأجل الاشتراك في الثقة بالله، والتوكل على الله، والتعاون على البر والتقوى، والاشتراك في الربح والخسارة، ما يبقى في نفس أحدٍ على الآخر شيءٌ، أما لو أُصيبت الزراعة بشيءٍ يكون في نفس المستأجر؛ يُعطيه فلوسًا، ويُعطيه آصُعًا، والزراعة قد تلفت، نعم.
س: قطع النخيل من باب التَّنكيل باليهود؟
ج: نعم، للتنكيل والدفع عن المسلمين؛ دفع الضَّرر.
باب المزارعة بالشَّطر ونحوه
وقال قيس بن مسلم: عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرةٍ إلا يزرعون على الثلث والربع، وزارع عليٌّ، وسعد بن مالك، وعبدالله بن مسعود، وعمر بن عبدالعزيز، والقاسم، وعروة، وآل أبي بكر، وآل عمر، وآل علي، وابن سيرين.
وقال عبدالرحمن بن الأسود: كنتُ أشارك عبدالرحمن بن يزيد في الزرع.
وعامل عمر الناس على: إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا.
وقال الحسن: لا بأس أن تكون الأرض لأحدهما، فيُنفقان جميعًا، فما خرج فهو بينهما. ورأى ذلك الزهري.
وقال الحسن: لا بأس أن يُجتنى القطن على النصف.
وقال إبراهيم، وابن سيرين، وعطاء، والحكم، والزهري، وقتادة: لا بأس أن يُعطي الثوب بالثلث أو الربع، ونحوه.
وقال معمر: لا بأس أن تكون الماشية على الثلث والربع إلى أجلٍ مُسمًّى.
2328- حدثنا إبراهيم بن المنذر: حدثنا أنس بن عياض، عن عبيدالله، عن نافع: أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أخبره: أن النبي ﷺ عامل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمرٍ أو زرعٍ، فكان يُعطي أزواجه مئة وسقٍ: ثمانون وسق تمرٍ، وعشرون وسق شعيرٍ، فقسم عمرُ خيبر، فخيَّر أزواج النبي ﷺ أن يقطع لهنَّ من الماء والأرض، أو يمضي لهن، فمنهن مَن اختار الأرض، ومنهن مَن اختار الوسق، وكانت عائشةُ اختارت الأرض.
الشيخ: وهذا كله -بحمد الله- واسعٌ، المزارعة بشيءٍ معلومٍ جائزةٌ، تُسمّى: إجارة، والمزارعة بجزءٍ مشاعٍ هي المزارعة المعروفة التي كان يفعلها الأنصار، ويفعلها المهاجرون، وقد فعلها النبي ﷺ مع اليهود لما فتح الله خيبر، أقرَّها في أيديهم بالنصف، يعملون بسقي النخيل وزراعة الأرض بالنصف؛ لأن المسلمين مُحتاجون إليهم، فاستعان بهم في هذا، والمسلمون في جهادٍ، فيجوز استئجار الكفار والانتفاع بهم في مصالح المسلمين كما فعل الرسول ﷺ مع اليهود، لكن في هذه الجزيرة يُمنع إلا عند الضرورة؛ لأن الرسول ﷺ أمر بإخراجهم منها؛ ولهذا أجلاهم عمر بعد ذلك، أما في غير الجزيرة -كمصر والشام والعراق- إذا استأجروهم عمالًا أو مُزارعين أو صُنَّاعًا لا بأس، إذا كان في ذلك مصلحةٌ للمسلمين.
أما هنا في الجزيرة فيجب ألا يبقوا فيها إلا لدعاء الحاجة، مثل: الذين يجلبون الميرة، أو يبيعون أنواع الفواكه، أو الحيوانات، ثم يرجعون، هذه مصلحةٌ للمسلمين، من دون بقاءٍ لهم في البلد، أو لضرورةٍ يراها ولي الأمر، أو مجيء رسولٍ من الكفار ليُبلغ الرسالة، إلى غير هذا من المصالح.
المقصود أن الزراعة أفضل في هذا، وهي التي فعلها النبي ﷺ مع اليهود بالنصف وبالثلث، وإذا تنوَّعت فجعلها بجزءٍ إن كان البذر من المالك، وإن كان البذر من العامل نفسه؛ فلا بأس، فإذا قال: أنا أُزارعك على أرضي: إن أعطيتُك البذر فهي بالنصف، وإن كان البذر منك فبالثلث؛ فلا بأس، ولهما الإيجار إذا أجَّروها .....: هي عليك بكذا صاع، أو درهم، أو دينار، أجرة، فتكون إجارة، لا زراعة.
وهكذا الإبل والبقر والغنم، لو أعطاه ناقةً وقال: تقوم عليها بنصف النسل، أو هذه البقرة، أو الشاة، أو غنم، أو إبل تقوم عليها وترعاها ولك النصف؛ نصف النسل، مثل: الزرع، مثل: المزارعة، نصف النسل، نصف عيالها، لا بأس، كما أفتى بهذا جماعةٌ من التابعين، وهو واضحٌ، كالمزارعة.
وهكذا الثوب: يُعطيه قطنًا أو صوفًا ينسجه بالنصف أو بالثلث، خذ هذا القطن، أو هذا الصوف، أو هذا ..... عباءة، أو مزاود، أو كذا بالنصف أو بالثلث، صلِّحها، نعم.
س: تسميته ثوبًا باعتبار .....؟
ج: الثوب: القطعة، لكن يُسمى هنا ما يصل إلينا بعد النَّسج.
س: آلات الحرث .....؟
ج: مثل: المسحاة وأشباهها، آلات حرثٍ يستعملها الحرَّاثون، نعم.
س: آلات الحرث التي تُورِث الدار الذل .....؟
ج: يعني: المقصود الزراعة، اشتغالهم بالزراعة عن الجهاد، إذا شغلتهم الزراعة عمَّا أوجب الله صارت ذلًّا، أما إذا استعانوا بها على الخير مثلما فعل الأنصار فليست من الذل.
س: تخيير عمر أزواج النبي ﷺ، فبعضهن اختارت من الأرض، أو من الوسق .....؟
ج: لما قسم الأرض التي تركها النبي ﷺ صدقةً، قسمها عمر، فمَن أراد أوساقًا معلومةً أعطاه من بيت المال، ومَن أراد الأرض أعطاه أرضًا من المقسوم، نعم.
س: يُعطيها أرضًا، ولا يكون لها شيءٌ من الوسق؟
ج: ما يكون لها شيءٌ، لا، هي التي تزرعه.
س: مشاركة نتاج الإبل ما يكون مجهولًا؟
ج: المزارعة جهالتها مُغتفرةٌ، كلها تحت يد الله، مثلما أنه يزرع، ما يدري هل تُنبت أو ما تُنبت؟ ..... تحت يد الله، الزارع وصاحب الأرض كلهم تحت يد الله، وهكذا الغنم والإبل.
باب إذا لم يشترط السنين في المزارعة
2329- حدثنا مسدد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيدالله قال: حدثني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: عامل النبي ﷺ خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمرٍ أو زرعٍ.
باب
2330- حدثنا علي بن عبدالله: حدثنا سفيان، قال عمرو: قلتُ لطاووس: لو تركت المخابرة؛ فإنهم يزعمون أن النبي ﷺ نهى عنه. قال: أي عمرو، إني أُعطيهم وأُغنيهم، وإن أعلمهم، أخبرني –يعني: ابن عباسٍ رضي الله عنهما-: أن النبي ﷺ لم ينهَ عنه، ولكن قال: أن يمنح أحدُكم أخاه خيرٌ له من أن يأخذ عليه خرجًا معلومًا.
الشيخ: المزارعة لا بأس بها، أما المخابرة التي نهى عنها فكونها بالجهالة: لك هذه الأرض، والآخر له الأرض الأخرى، هذه جهالةٌ، أما بشيءٍ معلومٍ فلا بأس، وكان أولًا نهاهم عن مُزارعة الأرض وقال: أن يمنح أحدُكم أخاه خيرٌ من أن يأخذ خرجًا، ثم رخَّص لهم في الزرع، وكان أراد أن يمنح الأنصار إخوانهم، مَن شاء يُزارعهم ولا يأخذ عليهم شيئًا، ثم رخَّص في الزراعة وأمر بها، وزارع أهلَ خيبر على النصف.
وقال رفع: أما شيءٌ معلومٌ مضمونٌ فلا بأس به.
س: قوله: أن يمنح أحدُكم أخاه خيرٌ له .....؟
ج: هذا يدل على أن هذا أفضل، كونه يقول: "أزرعها لك" أفضل، من باب التعاون، من باب الفضل، لكن إذا زرع بالنصف أو بالثلث فلا حرج، مثلما فعل الأنصار، ومثلما فعل النبي ﷺ مع اليهود، وإلا فإنه أولًا كان نهاهم عن هذا، ثم رخَّص لهم ﷺ، كان أخبرهم بالمنيحة: يمنحهم الأرض ليزرعوها بدون أجرةٍ، ثم أمرهم بالمزارعة؛ لأن المنح لا يستطيعه كل أحدٍ، النفوس شحيحةٌ، وفيها مشقَّةٌ، وجاء الله بما هو أنفع، وهو المزارعة والمؤاجرة، كلٌّ ينتفع، هذا ينتفع، وهذا ينتفع، صاحب الأرض ينتفع، وأخوه الثاني ينتفع بالمشاركة أو بالاستئجار.
س: الضمير في "نهى عنه"؟
ج: أيش؟
س: "لو تركت المخابرة؛ فإنهم يزعمون أن النبي ﷺ نهى عنه"؟
ج: يعني: عن هذا العمل، المعنى مفهومٌ من السياق، نعم.
س: لا بد أن يأخذ من الأرض التي زرعها؟
ج: إذا أعطاه إياها من باب الصدقة، من باب المنيحة، من باب المساعدة، لا بأس، طيبٌ: المسلم أخو المسلم، وإن زارعه عليها أو أجَّره فلا بأس.
س: يُعطيه من الأرض التي زرعها؟
ج: يُعطيه الأرض، يُعطيه النصف، ما يُعطيه إياها كلها، يُعطيه نصفها، ثلثها، طيب، من باب التعاون، وإن زارعه عليها أو أجَّره إياها فلا بأس.