باب بيع الملامسة
وقال أنسٌ: نهى عنه النبي ﷺ.
2144- حدثنا سعيد بن عُفَير، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهابٍ قال: أخبرني عامر بن سعد: أن أبا سعيدٍ أخبره: أن رسول الله ﷺ نهى عن المنابذة. وهي طرح الرجل ثوبَه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه، ونهى عن الملامسة، والملامسة: لمس الثوب، لا ينظر إليه.
2145- حدثنا قتيبة: حدثنا عبدالوهاب: حدثنا أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة قال: نهي عن لِبْسَتين: أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد، ثم يرفعه على منكبه، وعن بيعتين: اللِّماس، والنِّباذ.
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله.
أما بعد: فقد جاءت الشريعة المحمدية كاملةً لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد في الدين والدنيا، من الأقوال والأعمال في جميع الشؤون، فقد دعت إلى كل خيرٍ، ونهت عن كل شرٍّ؛ دعت إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ونهت عن سفاسف الأخلاق وسيئ الأعمال، وجاءت في المعاملات بما يتضمن حِلّ ما يتعاطاه الناس في معاملاتهم بطرقٍ سليمةٍ بعيدةٍ عن الشَّحناء والعداوة، وعن المخاطرة والقِمار، فأباحت البيوع التي يحصل فيها التراضي على بصيرةٍ، وحرَّمت البيوع والعقود التي يكون فيها ما يجرّ إلى الشَّحناء والعداوة والمقامرة وعدم حصول الأمر على الوجه المرضي من الطرفين.
ومن ذلك: النهي عن بيع الملامسة والمنابذة، فإن الملامسة والمنابذة تُفضي إلى الشحناء والعداوة والغَبْن؛ لكون المشتري يشتري على غير بصيرةٍ، والبائع يبيع على غير بصيرةٍ، فقد يندم هذا، ويندم هذا، وتكون الشحناء، وتكون المقامرة، فقد يغلب هذا، وقد يغلب هذا؛ لأن المنابذة: أن ينبذ إليه الثوب من غير أن ينظر فيه أو يقلبه، قد يكون مخدوعًا مغبونًا، وقد يكون النَّابِذ أيضًا مخدوعًا.
وهكذا الملامسة، يقول: أي ثوبٍ لمسته فهو عليك بكذا، أو أي ثوبٍ لمسه فلانٌ فهو عليك بكذا. فهذه فيها مُقامرةٌ ومُخاطرةٌ؛ ولهذا نُهي عن ذلك حتى ينظر ويتأمل المبيع.
فإذا قال الإنسان: أي ثوبٍ نبذته إليك، أو نبذه إليك فلانٌ فهو عليك بكذا، أو أي ثوبٍ لمسته، أو لمسه فلانٌ فهو عليك بكذا. فهذا بيعٌ باطلٌ؛ لما فيه من الغرر وعدم البصيرة.
وهكذا بيع الحصاة: أرمي بهذه الحصاة، فأي مدًى بلغت فهو عليك بكذا.
ولهذا ثبت في "الصحيح" النهي عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر، وهكذا المزابنة، والمخاضرة، والمخابرة، إلى غير ذلك من البيوع التي فيها غررٌ: إما من جهة خطورة الجهل والغرر، وإما من جهة الربا.
وأما النهي عن الاحتباء في ثوبٍ واحدٍ فإنه يُفضي إلى رؤية العورة، إذا احتبى بثوبٍ واحدٍ -ولو جعل طرفه على عاتقيه- فإنه إذا وقف عليه إنسانٌ تكون عورته باديةً إلى جهة السماء، إلا إذا كانت عليه سراويل أو إزارٌ يستر عورته فلا بأس، النهي إذا كان في ثوبٍ واحدٍ، يعني: قطعةً واحدةً يُقال لها: ثوبٌ واحدٌ، مثل: إزار يحتبي به، أو رداء يحتبي به، يربطه على أسفل ظهره، وعلى ساقيه وهما قائمتان، هذا هو الاحتباء؛ ينصب فخذيه، وينصب ساقيه، ويقعد على مقعدته، ويربط الثوب على أسفل ظهره، ويُديره على ساقيه، هذا الاحتباء عند العرب، وكانوا يستعملونه لأنه يكون كالمستند، ويبقى ما فوق الفرج مكشوفًا، فهذا يُفضي إلى ظهور العورة ورؤية العورة لمن يقف على رأسه: يُسلِّم عليه، أو يسأله، يرى عورته.
المقصود أن هذا الأمر يجعل العورة مكشوفةً، والواجب ستر العورة بالسراويل، أو بالقميص، أو بالإزار، نعم.
باب بيع المنابذة
وقال أنسٌ: نهى عنه النبي ﷺ.
2146- حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن محمد بن يحيى بن حبان، وعن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ نهى عن الملامسة والمنابذة.
2147- حدثنا عياش بن الوليد: حدثنا عبدالأعلى: حدثنا معمر، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيدٍ قال: نهى النبي ﷺ عن لِبْسَتين، وعن بيعتين: الملامسة، والمنابذة.
الشيخ: "عن لِبستين" مثلما تقدم: الاحتباء في ثوبٍ واحدٍ، والثانية: اشتمال الصَّمَّاء، وهي أن يلتفّ بالثوب الواحد ليس عليه إزارٌ ولا سراويل، وقد يتحرك ويأخذ شيئًا، أو يُعطي شيئًا فتظهر عورته؛ ولهذا قيل له: الصماء، ليس فيه منفَذٌ يكون فيه آمنًا من ظهور العورة، فلا بد أن تكون الملابس ساترةً للعورة، بعيدةً عن التَّكشف والتَّساهل وقلَّة الحياء، نعم.
س: الاحتباء غير الصَّماء؟
ج: غير الصَّماء، نعم، الاحتباء مثلما تقدم: يُدير الثوب على أسفل ظهره وعلى ساقيه المنصوبتين، وتبقى جهة العورة مكشوفةً جهة السماء، وليس عليه إزارٌ، وليس عليه سراويل، واشتمال الصَّماء: أن يتلفف بالثوب على بدنه كله قطعةً واحدةً، ما فيها قميصٌ، ولا سراويل، ولا شيءٌ، قطعةٌ يلتفّ بها، وهو ما عليه شيءٌ غيرها، وقد يتحرك ويأخذ شيئًا، أو يُعطي شيئًا، أو يتناول شيئًا وتظهر عورته.
وبعضهم فسَّر اشتمال الصَّماء بجعل الثوب على عاتقه، ويُسدل طرفيه من هنا ومن هنا، وهذا ظاهرٌ في كشف العورة أيضًا، ولكن ما ينطبق عليه الصَّماء من كل وجهٍ، نعم.
باب النهي للبائع ألا يُحَفِّل الإبل والبقر والغنم وكل مُحَفَّلةٍ
والـمُصَرَّاة: التي صُرِّي لبنها وحُقِنَ فيه وجُمِعَ، فلم يُحلب أيامًا.
وأصل التَّصرية: حبس الماء، يُقال منه: صريت الماء، إذا حبسته.
2148- حدثنا ابن بُكير: حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال أبو هريرة : عن النبي ﷺ: لا تُصَرُّوا الإبل والغنم، فمَن ابتاعها بعد فإنه بخير النَّظرين بعد أن يحتلبها: إن شاء أمسك، وإن شاء ردَّها وصاع تمرٍ.
ويُذكر عن أبي صالح، ومجاهد، والوليد بن رباح، وموسى بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ: صاع تمرٍ.
وقال بعضهم: عن ابن سيرين: صاعًا من طعامٍ، وهو بالخيار ثلاثًا.
وقال بعضهم: عن ابن سيرين: صاعًا من تمرٍ. ولم يذكر "ثلاثًا"، والتمر أكثر.
2149- حدثنا مسدد: حدثنا معتمر، قال: سمعت أبي يقول: حدثنا أبو عثمان، عن عبدالله بن مسعود قال: مَن اشترى شاةً مُحَفَّلةً فردَّها فليردّ معها صاعًا من تمرٍ.
ونهى النبي ﷺ أن تُلقى البيوع.
2150- حدثنا عبدالله بن يوسف: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قال: لا تَلَقَّوا الرُّكْبَان، ولا يبع بعضُكم على بيع بعضٍ، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضرٌ لبادٍ، ولا تُصَرُّوا الغنم، ومَن ابتاعها فهو بخير النَّظرين بعد أن يحتلبها: إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردَّها وصاعًا من تمرٍ.
الشيخ: هذه أنواع من البيوع المنهي عنها مثلما تقدم؛ لأنها تجرّ إلى الشحناء والعداوة والبغضاء؛ ولأن فيها مُخاطرةً وعدم وضوحٍ، وفيها غررًا وغشًّا، فهي ما بين غررٍ وغشٍّ، وما بين جلبها للشحناء والعداوة.
والمطلوب من المسلمين المعاملة الطيبة التي ليس فيها غررٌ، وليس فيها غشٌّ، وليست فيها مُخادعةٌ؛ حتى تبقى المودة والمحبة والتعاون على الخير، فالمسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يغشّه، ولا يخونه، ولا يخدعه؛ ولهذا نهى الرسول ﷺ عن هذه البيوع: عن التَّصرية، وهي التَّحفيل، يعني: يُحَفِّل اللبن في الضّرع، يجمعه، يُقال: صرّ الماء في الحوض، يعني: جمعه، سُمِّي جمع اللبن في الضَّرع "تصريةً" لأنه يجمعه: وجبتين، ثلاثًا، ثم يبيع على أنها وجبةٌ واحدةٌ، يجمعه، يُسمونه: التحيين، يُسميه العامَّة الآن: التحيين، حيَّنها يعني: جمع فيها لبن البارحة ولبن الصبح، وجلبها الضحى للبيع وفيها اللَّبن على أنه لبن الصبح، أو يقول للناس: إنه لبن الصبح. وهو مجموعٌ من لبن الليل ولبن الصبح جميعًا، فيظن المشتري أن هذا لبنها لوجبةٍ واحدةٍ، وأن لبنها كثيرٌ، فهذا يُسمّى: تصريةً، وهو تحفيلٌ وخداعٌ.
والمشتري له الخيار ثلاثة أيام، ينظر: إن استمرَّ لبنها على ما هي عليه فليست مُحيَّنةً، ليست مُصَرَّاةً، وإن ظهر له نقصٌ ردَّها وصاعًا من تمرٍ، هذا الصاع بدل اللبن الذي دخلت عليه به وأخذه منها، وإن لم يجد صاعًا من تمرٍ -صارت البلاد ليس فيها- فصاعٌ من طعامٍ، والمشهور في رواية الأكثر التمر، وفي روايةٍ: وصاعًا من طعامٍ.
وهذا لا يخصّ الغنم أو الإبل فقط، بل يعمّ الإبل والبقر والغنم، وقد ذكر الغنم كمثالٍ، أو الإبل كمثالٍ، والمقصود النهي عن التَّصرية في الإبل والبقر والغنم جميعًا.
وهكذا النَّجَش كما تقدم: يزيد في السلع وهو لا يريد الشراء، قال: ولا تناجشوا، يُناجش الإنسان على السلعة ويزيد، فهذا يقول: خمسون، وهذا يقول: ستون، وهذا يقول: سبعون، ما يجوز أن تزيد شيئًا وأنت لن تشتري، إما أن تشتري، وإلا فلا تزد؛ لأن زيادتك وأنت كذَّابٌ غِشٌّ للناس، وهذا يفعله اللَّاعبون والمخادعون، ويفعله مَن يريد نفع البائع؛ حتى يزيد الثمن له، أو يعرف أن واحدًا له رغبةٌ فيها، ويُريد أن يضرَّه.
فالمقصود أنه لا يجوز السَّوم وأنت غير راغبٍ في الشراء، لو قال: نصيبك هونت، هذا النَّجش، سواء من واحدٍ، أو من جماعةٍ، أو من الطرفين التَّناجش.
وهكذا تلقِّي الرُّكبان فيه مُخادعةٌ أيضًا؛ لأن الراكب ما يدري في الغالب عن الأسعار، فكونه يُتلقَّى ويُشترى منه في الطريق ما يجوز حتى ينزل السوق ويهبط السوق ويسوم على سلعته، وينظر إلى حال الناس؛ حتى لا يُخدع، فلا تلقَّ الجلب: الإبل، أو الغنم، أو غيرهما في الطريق، لا، اصبر حتى تهبط في الأسواق، فإن خُدِعَ فله الخيار.
وهكذا بيع الحاضر للبادي هذا ..... مصلحة أهل البلد؛ لأنه إذا باع حاضرٌ لبادٍ شقَّ عليهم، وشدد عليهم في الثمن، لكن إذا باع البادي في البادية يكون أسمح، يبيع سلعته ويمشي، وينتفع أهل بلده بعدم الغلاء، فإذا جلب البدوي أو غير البدوي إبله أو غنمه أو الحرَّاث ..... ما يبيعها للحاضر، هو الذي يتولى البيع، هو الذي يقول: اشتروا مني. هذا بيع الحاضر للبادي، البادي الذي يأتي من بعيدٍ، ما يعرف الأسواق، ولا يعرف البلد، يأتي من بعيدٍ، قادمٌ على البلد، يُقال له: بادٍ: دعوا الناس يُرزق بعضُهم من بعضٍ، نعم.
س: يدخل في هذا المحرج؟ يدخل في هذا الحكم، يعني: يُمنع؟
ج: المحرج هو الدَّلال، يقول ابن عباسٍ: لا يكون له سمسارًا، يعني: دلَّالًا.
باب: إن شاء ردَّ المصرَّاة، وفي حلبتها صاعٌ من تمرٍ
2151- حدثنا محمد بن عمرو: حدثنا المكي: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني زياد: أن ثابتًا مولى عبدالرحمن بن زيد أخبره: أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله ﷺ: مَن اشترى غنمًا مُصرَّاةً، فاحتلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاعٌ من تمرٍ.
س: ..............؟
ج: ..... إلا إذا حلبها، إذا ردَّها في الحال هذا محل نظرٍ، المقصود إذا حلبها ورأى الخيانة، أما إذا هوَّن هذا فيه التفصيل، إن كان هوَّن قبل أن يتفرقا كل واحدٍ له الخيار قبل أن يتفرقا، وأما بعد التَّفرق يلزم البيع، إلا إذا أظهر له أنها مُصرَّاةٌ، يعني: مُحيَّنةً.
س: إذا كان الحضري شريكًا مع البدوي، ويجلب عليه إنتاج مزرعته .....؟
ج: إذا كان باديًا ما يبيع له الحاضر، أما إن كان في البلد -أهل البلد- ما في بأس، واحدٌ يأتي من الأحساء أو من مكة إلى الرياض، ومن المدينة إلى الرياض، أو من الخرج، أو من الحوطة، هذا بادٍ، يُسمّى: باديًا، ما يجعل أحدًا يبيع له، هو الذي يتولى البيع، هو الذي يقول: اشتروا، استعينوا بالله، يبيع على الناس.
س: ولو كان شريكه؟
ج: ولو شريكه ..... ما دام الجالبُ من الأحساء، أو من الحوطة، أو من المدينة، أو من أمريكا، لا يتولى له الحضري.
باب بيع العبد الزاني
وقال شُريح: إن شاء ردّ من الزنا.
الشيخ: قف على هذا، وانظر كلامه على أول الباب.
س: إذا كان الذين يتلقَّون الرُّكبان أصبحوا يُمثلون السوق، وعندهم (حراجٌ) يختصّ بهم غير (الحراج) الذي يوجد في السوق؟
ج: إذا جاء السوق ..... هو والزبون ما يُخالف، المقصود أنهم لا يتلقَّونهم، إن صاروا في وسط السوق ..... يشترون ما في بأس.
س: لا، يخرجون عن السوق، ويتلقَّون الرُّكبان، ويكونون في حراجٍ؟
ج: يُنهى عن ذلك، لا بد، حتى يهبطوا الأسواق، يُنهى عن ذلك حتى يهبطوا الأسواق، يعني: أسواق البيع.
س: ..... المحرجين يُنكر عليهم؟
ج: إذا كانوا يبيعون للبادي، أما إذا باعوا لأهل البلد ما في بأس.
س: الوكالات التجارية، يُوكَّل عن شركةٍ مثلًا، يبيع لها بضائع؟
ج: هذا إن كان ما قدم، وأرسلها ليبيع ما في بأس، المقصود إذا قدم البادي بإبله أو غنمه أو نحوها ليبيع.
قارئ الشرح: قوله: "باب بيع الملامسة، قال أنسٌ: نهى النبي ﷺ عنه".
ثم قال: "باب بيع المنابذة"، وعلَّق عن أنسٍ مثله، وأورد في البابين حديث أبي سعيدٍ من وجهين، وحديث أبي هريرة من وجهين، فأما حديث أنسٍ فسيأتي موصولًا بعد ثلاثين بابًا في باب بيع المخاضرة.
قوله في حديث أبي سعيدٍ: "نهى عن المنابذة، وهي طرح الرجل ثوبَه بالبيع إلى رجلٍ قبل أن يقلبه أو ينظر إليه، ونهى عن الملامسة، والملامسة: لمس الثوب، لا ينظر إليه"، وسيأتي في اللباس من طريق يونس، عن الزهري بلفظ: "والملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار، ولا يقلبه إلا بذلك. والمنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه، وينبذ الآخر بثوبه، ويكون بيعهما عن غير نظرٍ ولا تراضٍ".
ولأبي عوانة من طريقٍ أخرى عن يونس: وذلك أن يتبايع القوم السلع لا ينظرون إليها، ولا يُخبرون عنها، أو يتنابذ القوم السلع كذلك، فهذا من أبواب القمار.
وفي رواية ابن ماجه من طريق سفيان، عن الزهري: والمنابذة أن يقول: ألقِ إليَّ ما معك، وأُلقي إليك ما معي.
وللنسائي حديث أبي هريرة: "الملامسة أن يقول الرجل للرجل: أبيعك ثوبي بثوبك. ولا ينظر واحدٌ منهما إلى ثوب الآخر، ولكن يلمسه لمسًا. والمنابذة أن يقول: أنبذ ما معي، وتنبذ ما معك. يشتري كل واحدٍ منهما من الآخر، ولا يدري كل واحدٍ منهما كم مع الآخر"، ونحو ذلك.
ولم يذكر التفسير في طريق أبي سعيدٍ الثانية هنا، ولا في طريق أبي هريرة.
وقد وقع التفسير أيضًا عند أحمد من طريق معمر هذه، أخرجه عن عبدالرزاق عنه، وفي آخره: "والمنابذة أن يقول: إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب البيع. والملامسة: أن يلمس بيده، ولا ينشره، ولا يقلبه، إذا مسَّه وجب البيع".
ولمسلمٍ من طريق عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة: "أما الملامسة: فأن يلمس كل واحدٍ منهما ثوب صاحبه بغير تأملٍ. والمنابذة: أن ينبذ كل واحدٍ منهما ثوبه إلى الآخر، لم ينظر واحدٌ منهما إلى ثوب صاحبه".
وقد تقدم في الصيام من هذا الوجه، وليس فيه التفسير، وهذا التفسير الذي في حديث أبي هريرة أقعد بلفظ: "الملامسة، والمنابذة"؛ لأنها مُفاعلةٌ، فتستدعي وجود الفعل من الجانبين.
واختلف العلماء في تفسير الملامسة على ثلاث صورٍ، وهي أوجهٌ للشافعية، أصحها: أن يأتي بثوبٍ مطويٍّ، أو في ظلمةٍ، فيلمسه المستام، فيقول له صاحب الثوب: بعتُكه بكذا، بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك، ولا خيارَ لك إذا رأيته.
وهذا مُوافقٌ للتفسيرين اللذين في الحديث الثاني: أن يجعلا نفس اللَّمس بيعًا بغير صيغةٍ زائدةٍ.
الثالث: أن يجعلا اللَّمس شرطًا في قطع خيار المجلس وغيره.
والبيع على التأويلات كلها باطلٌ، ومأخذ الأول: عدم شرط رؤية المبيع، واشتراط نفي الخيار. ومأخذ الثاني: اشتراط نفي الصيغة في عقد البيع، فيُؤخذ منه بطلان بيع المعاطاة مطلقًا، لكن مَن أجاز المعاطاة قيَّدها بالمحقرات، أو بما جرت فيه العادة بالمعاطاة، وأما الملامسة والمنابذة عند مَن يستعملهما فلا يخصّهما بذلك.
فعلى هذا يجتمع بيع المعاطاة مع الملامسة والمنابذة في بعض صور المعاطاة، فلمَن يُجيز بيع المعاطاة أن يخصّ النهي في بعض صور الملامسة والمنابذة عمَّا جرت العادة فيه بالمعاطاة.
الشيخ: وهذا الكلام من المؤلف المقصود منه أن ظاهر السياق أن تفسيره من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الروايات ما فيها نسبته إلى أحدٍ من الرواة، فيظهر من هذا أن تفسير المنابذة والملامسة من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، هو الذي فسَّر المنابذة بنبذ الرجل الثوب إلى أخيه، لا يقلبه، ولا ينظر إليه، وهكذا الملامسة: لمسه بدون نظرٍ ولا تأملٍ، وليس مُدرجًا، بل ظاهر الرواية أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وتفسيره.
وأما المعاطاة فشيءٌ آخر، المعاطاة: إذا لم يكن فيها غررٌ فلا بأس، كأن يبسط إنسانٌ في السوق مثلًا، أو عند باب بيته، أو في أي محلٍّ، ويُقرر أن هذا الشيء بكذا؛ الخبزة بريالٍ، بنصف ريالٍ، هذه الأواني على ريالٍ أو ريالين، فيجيء إنسانٌ ويضع ريالين ويأخذ السلعة، هذه يُقال لها: معاطاة؛ لأنه أظهر الرضا بهذا الشيء، وقد عرف هذه، ما فيها غررٌ، مُعاطاةٌ بدون كلامٍ، هو يأخذ ويُعطي، ليس من جنس المنابذة والملامسة، ولا حرجَ فيها، من جنس البيع المتعارف عليه، والأجرة المتعارف عليها، ليست فيها جهالةٌ.
فإذا كان معروفًا أن هذا ..... الذي أمام الدكان أو البيت معروفٌ أن هذه الحبَّة بكذا: الخبزة، أو الفاكهة، أو الإناء، قد قرر أن الحبَّة بكذا، وأن مَن وضع الثمن أخذ الحبَّة، ما يحتاج إلى كلامٍ، يُقال لها: مُعاطاة، أو مدَّ إليه الخبز وأخذ الريال وسكت، وهم ساكتون، فهي مُعاطاةٌ، هذا ظاهرٌ فيه الرضا، جاء وأخذ الخبزة، ومدَّ له الريال وسكت، أو مدَّ له ربع ريالٍ، أو قرشًا، على حسب الحال، أو أخذ فاكهةً مُعينةً كذلك، هذه يُقال لها: مُعاطاة، أو سلعة أخرى معروفة قد حدد ثمنها، فمَن سلَّم الثمن وأخذ السلعة ولو بدون كلامٍ فلا بأس ما دام أمرًا معروفًا.
ومثل: صاحب السفينة، وصاحب السيارة (التاكسي)، السفينة المعتادة التي يركبها الناس، مَن ركب سلَّم الأجرة المعلومة؛ مَن ركب مع صاحب (التاكسي)، وقد قرر صاحب (التاكسي) أن من كذا إلى كذا كذا وكذا، ومن كذا إلى كذا كذا وكذا، وصاحب السفينة من جدة إلى كذا، ومن الدمام إلى كذا، شيءٌ معروفٌ، إذا ركب ولو ما قال شيئًا، إذا سلَّم الوكيل أو المحلّ الذي يضع فيه الأجرة وينتهي؛ لأنه شيءٌ معروفٌ، قد عُرِفَ بالعادة الرضا بهذا الشيء، هذا بيعٌ، هذا ما فيه شيءٌ.
مداخلة: توجد تنبيهاتٌ حول التفسير لمن .....
الشيخ: أيش قال؟
قارئ الشرح: تنبيهات:
الأول: وقع عند ابن ماجه أن التفسير من قول سفيان بن عيينة، وهو خطأٌ من قائله، بل الظاهر أنه قول الصحابي كما سأُبينه بعد.
الحديث الثاني -حديث أبي سعيدٍ- اختُلف فيه على الزهري؛ فرواه معمر وسفيان وابن أبي حفصة وعبدالله بن بديل وغيرهم عنه، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيدٍ.
ورواه عقيل ويونس وصالح بن كيسان وابن جريج، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبي سعيدٍ.
وروى ابن جريج بعضه عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله، عن أبي سعيدٍ، وهو محمولٌ عند البخاري على أنها كلها عند الزهري.
واقتصر مسلمٌ على طريق عامر بن سعد وحده، وأعرض عمَّا سواها.
وقد خالفهم كلهم الزبيدي فرواه عن الزهري، عن سعيدٍ، عن أبي هريرة.
وخالفهم أيضًا جعفر بن برقان.
الشيخ: جعفر؟!
القارئ: ابن برقان.
الشيخ: بالضم.
وخالفهم أيضًا جعفر بن برقان فرواه عن الزهري، عن سالم، عن أبيه. وزاد في آخره: "وهي بيوعٌ كانوا يتبايعون بها في الجاهلية". أخرجهما النسائي، وخطَّأ رواية جعفر.
الثالث -حديث أبي هريرة- أخرجه البخاري عنه من طرقٍ، ثالثها طريق حفص بن عاصم عنه، وهو في "مواقيت الصلاة"، ولم يذكر في شيءٍ من طرقه عنه تفسير المنابذة والملامسة، وقد وقع تفسيرهما في رواية مسلم والنسائي كما تقدم.
وظاهر الطرق كلها أن التفسير من الحديث المرفوع، لكن وقع في رواية النسائي ما يُشعر بأنه من كلام مَن دون النبي ﷺ، ولفظه: "وزعم أن الملامسة أن يقول ..." إلخ، فالأقرب أن يكون ذلك من كلام الصحابي؛ لبُعد أن يُعبر الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: "زعم"، ولوقوع التفسير في حديث أبي سعيدٍ الخدري من قوله أيضًا كما تقدم.
الشيخ: الظاهر أنه من كلام النبي ﷺ، التفسير من كلام النبي ﷺ، وليس من كلام الصحابة ولا الرواة حتى يأتي نصٌّ واضحٌ أنه من كلام الصحابي.
وبكل حالٍ الصحابة من أئمة اللغة يعرفون لغتهم، ولكن ظاهر السياق أنه من تفسير النبي ﷺ، فقد نهى عن الملامسة وبيَّنها، ونهى عن المنابذة وبيَّنها أيضًا، هذا هو ظاهر السياق من الأحاديث.