باب أداء الديون
وقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58].
2388- حدثنا أحمد بن يونس: حدثنا أبو شهاب، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن أبي ذرٍّ قال: كنتُ مع النبي ﷺ، فلما أبصر –يعني: أُحُدًا- قال: ما أُحبّ أنه تحول لي ذهبًا يمكث عندي منه دينارٌ فوق ثلاثٍ، إلا دينارًا أرصده لدَينٍ، ثم قال: إن الأكثرين هم الأقلون، إلا مَن قال بالمال هكذا، وهكذا -وأشار أبو شهاب بين يديه، وعن يمينه، وعن شماله-، وقليلٌ ما هم، وقال: مكانك، وتقدم غير بعيدٍ، فسمعتُ صوتًا، فأردتُ أن آتيه، ثم ذكرتُ قوله: مكانك حتى آتيك، فلما جاء قلتُ: يا رسول الله، الذي سمعت -أو قال: الصوت الذي سمعت-؟! قال: وهل سمعت؟ قلت: نعم. قال: أتاني جبريل عليه السلام فقال: مَن مات من أمتك لا يُشرك بالله شيئًا دخل الجنة، قلت: ومَن فعل كذا وكذا؟ قال: نعم.
مداخلة: عندي: وإن فعل كذا وكذا.
الشيخ: وعندك؟
قارئ المتن: قلت: ومَن فعل كذا وكذا؟ قال: نعم.
الشيخ: وأنتم عندكم: قلت: وإن؟
الطالب: وإن فعل.
الشيخ: المشهور "وإن"، "وإن زنا، وإن سرق"، أيش قال الشارح عليه؟ لعلها روايةٌ، تكلم على "من"؟
قارئ الشرح: وقوله: "ومَن فعل كذا وكذا؟" فُسِّر في الرواية الآتية في "الرقاق": "وإن زنى، وإن سرق"، ووقع في رواية المستملي هنا: "وإن" بدل "ومَن".
الشيخ: يكفي، يكفي، رواية، نعم.
الشيخ: وهذان الحديثان وما جاء في معناهما فيهما الحثُّ على النفقة والإحسان والجود والكرم في وجوه الخير، وإذا كان هذا في وجوه الخير فالدَّين أولى وأولى بأن يُقضى؛ لأنه هنا شيءٌ لازمٌ؛ ولهذا بوَّب فيما يتعلق بالديون، وذكر الآية الكريمة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
فإذا كان العبد مأمورًا بأداء الأمانة التي هي عنده وديعةٌ، أو مُستودعٌ عليها، أو مُؤتمنٌ عليها، فالشيء الذي هو لازمٌ في ذمَّته وأخذه بمُعاوضةٍ يكون أولى وأولى بأن يهتم به، ويُسلمه لأهله، ويتخلص منه، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]، هذا يدل على عِظَم الأمر.
وفي الحديث الصحيح يقول ﷺ: مَن أخذ أموالَ الناس يُريد أداءها أدَّى الله عنه، ومَن أخذها يُريد إتلافها أتلفه الله.
وفي هذا يقول ﷺ: ما يسرني أن لي مثل أُحُدٍ ذهبًا يمر عليَّ ثلاثة أيامٍ وعندي منه دينارٌ، إلا دينار أرصده لدَينٍ، فهذا فيه الحث على النفقة؛ ولهذا قال: ولكن أقول به في عباد الله هكذا، وهكذا، وهكذا عن يمينه، وعن شماله، ومن أمامه، والله يقول جلَّ وعلا: وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].
ويقول الله جلَّ وعلا في الحديث القدسي الثابت عن نبيه ﷺ، عن الله أنه قال: يا ابن آدم، أنفق نُنفق عليك، وفي الحديث الصحيح: ما نقص مالٌ من صدقةٍ.
ثم قال ﷺ لأبي ذرٍّ: إن جبرائيل أتاه، فقال للنبي ﷺ: مَن مات من أمتك لا يُشرك بالله شيئًا أدخله الله الجنة يعني: مات على التوحيد والإيمان، قال: قلت: يا رسول الله، وإن زنى، وإن سرق؟! قال: وإن زنى، وإن سرق كررها ثلاثًا، وفي روايةٍ قال: وإن رغم أنف أبي ذرٍّ.
وهذا يدل على أن مَن مات على التوحيد فهو موعودٌ بالجنة، وذنوبه تحت مشيئة الله، أهل التوحيد موعودون بالجنة، ولهم الجنة، سواء نالوها ابتداءً، أو بعد التَّمحيص والتَّطهير من المعاصي.
فالنصوص دلَّت على أن الموحد إذا مات على الإيمان والتوحيد فهو موعودٌ بالجنة، وهو تحت مشيئة الله: إن شاء غفر الله له، وأدخله الجنة من أول وهلةٍ، وإن شاء سبحانه عذَّبه على قدر المعاصي التي مات عليها ولم يتُب، ثم أدخله الجنة، كما دلَّت على ذلك أحاديث الشفاعة المتواترة وغيرها، وأنه يدخل النار من الموحدين ناسٌ كثيرون، ويُعذَّبون على قدر معاصيهم، ويشفع فيهم النبي ﷺ، والملائكة، والأفراط، والمؤمنون، وأنه لا يبقى في النار أحدٌ مُوحِّدٌ، لا يبقى فيها إلا الكفرة، وعليهم تُطبق.
أما الموحدون وإن طال الأمدُ، وإن طال وجود بعضهم، وإن خُلِّد مُددًا طويلةً، فلا بد له من الخروج، ولا يخلد فيها إلا مَن حكم عليه القرآن بذلك من الكفرة الذين قال فيهم سبحانه: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، وقال فيهم سبحانه: يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [المائدة:37]، وقال فيهم سبحانه: فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النبأ:30]، كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97]، نسأل الله العافية.
وهذا لا يُقلل من شدة تحريم الزنا والسرقة، فهما كبيرتان عظيمتان، وقد قال الله جلَّ وعلا في الآية: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:38، 39]، وقال: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ولَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ولَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68، 69]، فدل على أن القاتل والزاني يخلد، لكنه خلودٌ له نهاية؛ لأن العرب تُطلق الخلود على المدة الطويلة، كما في قول الشاعر: "أقاموا فأخلدوا".
المقصود أن العاصي قد يخلد في النار، لكنه خلودٌ له نهايةٌ، له أمدٌ، ثم ينتهي بفضل الله ورحمته.
أما التائبون لا، التائبون لا يدخلون النار، التائب قد منعه الله بالتوبة من دخول النار؛ ولهذا قال: إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان:70].
وقال في المنافقين وهم شرُّ الناس: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:145، 146].
فالواجب الحذر من المعاصي، والتواصي بتركها، فإنها وسيلةٌ للعذاب، قلَّ أو كثر.
فالواجب البدار بالتوبة، والواجب أيضًا الإيمان بما شرع الله من أن العاصي لا يخلد، وله أمدٌ، وله رجاءٌ، وإن دخل النار لا بد له من أمدٍ ينتهي إليه، ولا يبقى فيها إلا الكفار والمنافقون الذين حكم عليهم القرآن بالخلود لكفرهم وضلالهم، نعم.
س: الشرك الأصغر إن مات عليه صاحبه؟
ج: الشرك الأصغر فيه خلافٌ بين أهل العلم؛ منهم مَن قال: إنه مثل الكبائر يُغفر. ومنهم مَن قال: إنه تعمّه النصوص بعدم المغفرة، ولكنه لا يُبطل الأعمال، وإنما يُبطل العمل الذي قارنه، ويُمحى بالعذاب، أو برجحان الحسنات.
س: ما رأيكم؟
ج: الأقرب العموم، يعمّه، لكنه لا يلزم منه الخلود في النار، وإنما هو في حكم المعاصي؛ فله نهايةٌ، وإن عُوقِب عليه فله نهايةٌ ينتهي إليها، ثم يُخرج الله الموحدين؛ كالكبائر، نعم.
س: إن أُقيم الحدّ على الزاني؟
ج: كفَّارةٌ، الحد كفَّارةٌ، مَن أُخِذَ بالحدِّ فهو كفارةٌ له، كما قال النبي ﷺ، لما ذكر المعاصي قال: فمَن أدركه الله في الدنيا كان كفارةً له، ومَن ستره الله فأمره إلى الله: إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له»، نعم.
س: إذا أُقيم الحد على الزاني أو على السارق في الدنيا ومات ولم يتُب؟
ج: الحد كفارةٌ، إلا إذا عاد إلى الزنا أو السرقة فإنه يُؤخذ بالأخير، أما إذا أُقيم عليه حدُّه فقد مُحِيَ عنه، لكن لو عاد إلى الزنا أو السرقة أو غيرهما من المعاصي أُخذ بالأخير، إلا أن يتوب منه، أو يُقام عليه الحد.
س: معنى "الأقلون"؟
ج: إن الأكثرين هم الأقلون يعني: يوم القيامة، الأكثرون مالًا في الدنيا هم الأقلون يوم القيامة؛ لأن المال قد يشغلهم عن الآخرة، وقد يُطغيهم، فالأكثرون مالًا هم الأقلون يوم القيامة، إلا مَن قال هكذا، وهكذا يعني: إلا مَن تصدق وأنفق؛ لأن المال قد يُطغيه، وقد يحمله على ما لا يُرتضى. نعم.
س: الأقلون ..........؟
ج: الظاهر أنهم هم الأقلون يوم القيامة، يعني: من جنس المؤمنين، يعني: دخول الجنة، الظاهر أنهم هم أقلّ المؤمنين؛ لأن أكثر أهل الجنة الفقراء كما في الحديث الآخر: أكثر أهل الجنة الفقراء، إلا مَن قال هكذا، وهكذا.
س: أغنياء الصحابة يدخلون في الأقلين؟
ج: يدخلون فيمَن قال هكذا وهكذا، إن شاء الله؛ لأنهم لهم فضلٌ خاصٌّ، وفقراء الصحابة مُقدَّمون على أغنيائهم، يعمّهم الحديث.
س: فيه دليلٌ على فضل الفقير؟
ج: الفقر لا يُتعمد، فضل الفقر إذا صبر عليه العبدُ وقد أُصيب به، ما يبحث عنه، إذا صبر عليه .....، ابتُلِيَ به وصبر عليه ولم يجزع.
لكن مَن رزقه الله الغنى وأنفق صار أفضل؛ لأنه صار غنيًّا شاكرًا، والصحيح أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر؛ لأن الغني الشاكر جاءته الدنيا، وجاءته أسباب الشر، فحفظه الله وأعانه؛ ولهذا لما ذكر ﷺ فقراء المهاجرين وما فاتهم من المال، وعلَّمهم التسبيح والتهليل والتحميد قالوا: يا رسول الله، إن إخواننا أهل الأموال علموا بما علَّمتنا ففعلوا مثله! شاركونا أيضًا في التسبيح والتهليل! فقال النبي ﷺ: ذلك فضل الله يُؤتيه مَن يشاء يعني: وافقوهم في العمل، وزادوا عليهم بالنفقة. نعم.
ومن أسباب فضل الصديق وتقدّمه على غيره: إنفاقه الأموال في سبيل الله : لنصر الدين، وحمايته للدين، وتأييد النبي عليه الصلاة والسلام.
س: على هذا ينبغي للإنسان أن يُتاجر، مع ضبطه لأحواله واستقامته؟
ج: ما في شكٍّ، ينبغي له أن يطلب المال بالطريق الحلال الذي لا يشغله، بالطرق الشرعية التي لا تشغله عن الحقِّ: عن قول الحقِّ، وعن فعل الحقِّ. نعم.
باب استقراض الإبل
2390- حدثنا أبو الوليد: حدثنا شعبة: أخبرنا سلمة بن كهيل، قال: سمعت أبا سلمة بمنى يُحدِّث عن أبي هريرة : أن رجلًا تقاضى رسول الله ﷺ، فأغلظ له، فهمَّ به أصحابه، فقال: دعوه، فإن لصاحب الحقِّ مقالًا، واشتروا له بعيرًا فأعطوه إياه، وقالوا: لا نجد إلا أفضل من سِنِّه. قال: اشتروه، فأعطوه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاءً.
الشيخ: وهذا فيه الحلم والتَّحمل من صاحب الحقِّ إذا طلب حقَّه، ولو أساء الأدب بالكلام لا بد أن يتحمل؛ ولهذا جاء إلى النبي ﷺ رجلٌ يطلب منه حقًّا عليه، فأغلظ للنبي ﷺ، فهمَّ به الصحابة، فقال: دعوه، فإن لصاحب الحق مقالًا، وفي روايةٍ: أنه كان يهوديًّا، وكان يطلب سنًّا من الإبل، فلم يجدوا سِنَّه، ووجدوا سِنًّا أعلى منه، فقال النبي ﷺ: أعطوه السنَّ الأعلى؛ فإن خيار الناس أحسنهم قضاءً. وفي بعض الروايات أنه قال: والله ما فعلتُ هذا إلا لأختبر حلمك. ثم أسلم.
المقصود أن الواجب على مَن عليه الحقّ أن يحلم ولا يتعجل إذا أغلظ له صاحب الحقِّ، قال: أنت تماطل، أنت ما تُبالي، أنت ما تُعطيني حقِّي، أنت تلعب بي. يقول له: الله يهديك، أبشر، هداك الله، أبشر بالحقِّ، سوف .....، ولا يُقابل السيئة بالسيئة: إن خيار الناس أحسنهم قضاءً.
باب حُسن التقاضي
2391- حدثنا مسلم: حدثنا شعبة، عن عبدالملك، عن ربعي، عن حذيفة قال: سمعت النبي ﷺ يقول: مات رجلٌ، فقيل له، قال: كنتُ أبايع الناس، فأتجوز عن الموسِر، وأُخفف عن المعسر، فغُفر له. قال أبو مسعود: سمعته من النبي ﷺ.
الشيخ: وهذا يدل على أن التجاوز عن المعسرين من أسباب المغفرة، كان يُيَسِّر على الموسِر، ويُخفف عن المعسر، حتى الموسِر يُعامله بالتي هي أحسن، فتجاوز الله عنه؛ لأن الموسِر قد تعرض له عوارض تمنع من قضاء الدَّين، قد تكون أمواله ما هي بحاضرةٍ، وهو مُوسِر، عنده يُسْرٌ، لكن قد تعرض له عوارض، ما تكون الأموال حاضرةً، فينبغي الرفق أيضًا.
فهذا الرجل لما مات وسُئل عن عمله قال: كنت أُيسر على الموسِر، وأُخفف عن المعسِر.
وفي روايةٍ: كنت أتجاوز عن المعسر، كنت أقول لغلماني: تجاوزوا عن المعسر. فقال الله: نحن أحقّ بهذا. فتجاوز الله عنه .
باب هل يُعطى أكبر من سِنِّه
2392- حدثنا مسدد، عن يحيى، عن سفيان قال: حدثني سلمة بن كهيل، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة : أن رجلًا أتى النبي ﷺ يتقاضاه بعيرًا، فقال رسول الله ﷺ: أعطوه، فقالوا: ما نجد إلا سِنًّا أفضل من سِنِّه. فقال الرجل: أوفيتني، أوفاك الله. فقال رسول الله ﷺ: أعطوه، فإن من خيار الناس أحسنهم قضاءً.
الشيخ: هذه عاقبة حُسن الخلق، قال: أوفيتني، أوفاك الله. ولهذا قال ﷺ: إن خيار الناس أحسنهم قضاءً.
باب حُسن القضاء
2393- حدثنا أبو نعيم: حدثنا سفيان، عن سلمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: كان لرجلٍ على النبي ﷺ سِنٌّ من الإبل، فجاءه يتقاضاه، فقال ﷺ: أعطوه، فطلبوا سِنَّه، فلم يجدوا له إلا سِنًّا فوقها، فقال: أعطوه، فقال: أوفيتني، وفَّى الله بك. قال النبي ﷺ: إن خياركم أحسنكم قضاءً.
الشيخ: وهذا يدخل في عموم قوله جلَّ وعلا: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]، فمَن أحسن في قضاء الدَّين، وفي أداء الأمانة، وفي مُلاطفة اليتيم والفقير، وفي إنظار المعسِر، إلى غير هذا؛ دخل في هذا: إن خيار الناس أحسنهم قضاءً، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، نعم.
س: إذا استقرض إنسانٌ من إنسانٍ مالًا، ثم زاد عليه حينما يقضيه؟
ج: يدخل في هذا، تسلف منه مئةً، وأعطاه مئةً وعشرين، أو مئةً وثلاثين، ما هو بخاصٍّ بالصفة، يدخل في هذا الصفة والعدد جميعًا، يُروى عنه ﷺ أنه اقترض ثلاثين وسقًا، فقضى ستين، وفي روايةٍ: أربعين، وقضى ثمانين، المقصود أن الزيادة في العدد والصفة جميعًا كله خيرٌ إذا لم يكن شرطًا، نعم.
س: حديث الزيادة هذا مَن رواه؟
ج: ذكره ابن القيم في "الهدي"، وما أتذكر مَن رواه، ذكره ابن القيم رحمه الله.
س: جزم به ابن القيم؟
ج: ما أتذكر، لكن عموم الحديث: خير الناس أحسنهم قضاءً يعمّ العدد والصفة جميعًا.
الشيخ: هذا فيه أيضًا فوائد: أن مَن دخل المسجد يُؤمر بتحية المسجد، قال: صلِّ ركعتين، ثم قضاه ثمن البعير وزاده، بل وردَّ عليه البعير، وهكذا سليك الغطفاني لما دخلوا والنبي ﷺ يخطب يوم الجمعة أمرهم أن يُصلوا ركعتين.
س: مَن قال أنها واجبةٌ؟
ج: حُجته قويةٌ؛ لهذا الحديث، فالقول بوجوبها قولٌ قويٌّ.
س: .............؟
ج: بلى، زاده قراريط، هذا من العدد، زاده من الثمن قراريط، في روايةٍ قال: قراريط. وردّ عليه الجمل –جابر-، ويمكن أن يتعرض الشارح للزيادة العددية في روايةٍ، تأمّلوا الشرح.
الطالب: يقول: قد تقدم في مواضع، وفي بعضها بيان قدر الزيادة، وأنها قيراطٌ، وهو في الوكالة.
الشيخ: لا، يمكن على: خيار الناس أحسنهم قضاءً، يمكن أن يكون ما فعله النبي ﷺ من القضاء بالعدد، قد يُشير الشارح إلى هذا، أو العيني، نعم.
الطالب: هنا بيَّن، يقول: قدر الزيادة قيراطٌ.
الشيخ: لا، خلِّ هذا، حديث جابر ..... في الأحاديث الأخرى.
س: إذا مات وهو مُعْسِرٌ، وليس وراءه شيءٌ يُخلصه فيما بعد؟
ج: أمره إلى الله يوم القيامة، مع صاحبه يوم القيامة، إذا كان أراد القضاء أوفى الله عنه، وإن كان ما أراد القضاء فالله جلَّ وعلا يقضي بينه وبين خصمه، أما مَن أراد القضاء فالله يقضي عنه يوم القيامة إذا مات مُعسرًا، يقول النبي ﷺ: مَن أخذ أموال الناس يُريد أداءها أدَّى الله عنه، ومَن أخذها يُريد إتلافها أتلفه الله رواه البخاري في "الصحيح".
س: إذا جلس ولم يُصلِّ تحية المسجد يُقال له: قم؟
ج: يقول له: يا أخي، قم صلِّ ركعتين، جزاك الله خيرًا، سنة تحية المسجد. قم صلِّ ركعتين. حتى ولو في وقت النهي على الراجح، ولو في وقت النهي، ولو بعد العصر، هذا هو أرجح الأقوال.
س: حتى ولو كان يخطب؟
ج: ولو كان الإمام يخطب.
س: ولو طال الفصل؟
ج: ولو، ما هناك مانعٌ.
س: ترى الوجوب؟
ج: الله أعلم، لكنه قولٌ قويٌّ، والمعروف عند أهل العلم أنها سنةٌ مُؤكدةٌ: تحية المسجد.
س: إذا دخل على غير طهارةٍ يُلزم بالوضوء، أو يجوز أن يجلس؟
ج: إذا دخل على غير طهارةٍ يجلس، لا يُصلِّ، وإذن فقد أتى كبيرةً من الكبائر ومنكرًا.
س: يجوز الجلوس؟
ج: يجلس ويكفي؛ معذورٌ، إذا كان ما هو على طهارةٍ يجلس والحمد لله.
س: ما يجب عليه أن يخرج ويتوضأ ويُصلي؟
ج: لا، ما يجب عليه، ولا يتيمم أيضًا، يجلس.
باب: إذا قضى دون حقِّه أو حلله فهو جائزٌ
2395- حدثنا عبدان: أخبرنا عبدالله: أخبرنا يونس، عن الزهري قال: حدثني ابن كعب بن مالك: أن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أخبره: أن أباه قُتِلَ يوم أحدٍ شهيدًا وعليه دَينٌ، فاشتد الغُرماء في حقوقهم، فأتيتُ النبي ﷺ، فسألهم أن يقبلوا تمر حائطي ويُحللوا أبي، فأبوا، فلم يُعطهم النبي ﷺ حائطي، وقال: سنغدوا عليك، فغدا علينا حين أصبح، فطاف في النخل ودعا في ثمرها بالبركة، فجددتها، فقضيتُهم، وبقي لنا من تمرها.
الشيخ: هذا من فضل الله، النبي ﷺ طلب منهم أن يأخذوا الميسور ويُحللوه فأبوا، فأمره أن ..... ودعا فيها بالبركة، وأوفاهم، وبقي الخير الكثير.
وهكذا قصة كعب بن مالك لما اشتدوا عليه أمر خصمَه أن يضع النصف، وأمر كعبًا أن يقضيه، فوافق الخصم ووضع النصف، فإذا تيسر الصلح بأن يضع الدائن ثم يُوفيه المدينُ فلا بأس، الصلح جائزٌ.
ويُروى أنه قال لبني النضير لما أجلاهم: ضعوا وتعجلوا، والصواب أنه يجوز لصاحب الحقِّ أن يضع بعض الشيء ويتعجل، إن كان له على زيدٍ ألف ريالٍ تحلّ في رمضان، وقال: أعطني ثمانمئةٍ ولك المئتان، عجِّلها لي. فلا بأس، هذا هو الصواب، يضع ويتعجل، فيه مصلحتان: مصلحةٌ لصاحب الدَّين؛ قد يكون مُحتاجًا، ومصلحةٌ للمدين؛ يضع عنه بعض الشيء، فالمصلحة مُشتركةٌ بينهما، نعم.
وهذا من علامات النبوة: كون الله جلَّ وعلا جعل في دعوته البركة في المال، وكثَّره الله، وأوفى أهل الدَّين، وبقي له، فهذا من دلائل بركته ﷺ، وأن الله جعله مُباركًا، وعبدًا صالحًا، ومُجاب الدَّعوة عليه الصلاة والسلام.
وفيه من الفوائد: أن أهل الدَّين ما يلزمهم أن يُسامحونه، إذا سامحوا فالحمد لله، وإلا يلزمهم أن يُعطوا حقَّهم، والباقي يبقى، يُعطوا الموجود، والباقي يُنظر به المعسِر، ولا يُقال: لا بد أن تُسامحنا، لا، إن سمح فجزاه الله خيرًا، وإلا يبقى، يُعطى الموجود، وينتظر الباقي، ويُنظر المعسِر، كما قال تعالى: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280].
والمشروع للمؤمن التسامح، أما الإنظار فواجبٌ، الإنظار واجبٌ، لكن التسامح والعفو أفضل وأفضل، يقول النبي ﷺ: مَن أنظر مُعسرًا أو وضع له أظلَّه الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظله، وقال: مَن سرَّه أن يُنفِّس الله عنه من كُرَب يوم القيامة، فليُنفِّس عن مُعسرٍ أو يضع عنه.
باب: إذا قاص أو جازفه في الدَّين تمرًا بتمرٍ أو غيره
2396- حدثنا إبراهيم بن المنذر: حدثنا أنسٌ، عن هشامٍ، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: أنه أخبره: أن أباه تُوفي وترك عليه ثلاثين وسقًا لرجلٍ من اليهود، فاستنظره جابرٌ، فأبى أن يُنظره، فكلم جابرٌ رسول الله ﷺ ليشفع له إليه، فجاء رسول الله ﷺ وكلَّم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له، فأبى، فدخل رسول الله ﷺ النخل، فمشى فيها، ثم قال لجابرٍ: جُد له، فأوفِ له الذي له، فجده بعدما رجع رسول الله ﷺ، فأوفاه ثلاثين وسقًا، وفضلت له سبعة عشر وسقًا، فجاء جابرٌ رسول الله ﷺ ليُخبره بالذي كان، فوجده يُصلي العصر، فلما انصرف أخبره بالفضل، فقال: أخبر ذلك ابن الخطاب، فذهب جابرٌ إلى عمر فأخبره، فقال له عمر: لقد علمتُ حين مشى فيها رسول الله ﷺ ليُباركنَّ فيها.
الشيخ: هذا يهوديٌّ، واليهود لُؤماء، أعداء، خصوم، له دَينٌ على عبدالله بن حرام الذي قُتِل يوم أحدٍ ، أبو جابر، كان لهذا اليهودي ثلاثون وسقًا من التمر، والوسق: ستون صاعًا، كما هو معروفٌ، فجاء جابرٌ إلى النبي ﷺ يطلب منه أن يشفع إلى اليهودي لعله يتسامح ويأخذ ثمرة النخل عن دَينه، فجاء النبي ﷺ إلى اليهودي فشفع، فلم يقبل اليهودي.
وفيه أنه ﷺ شفع إلى اليهودي، أكبر شخصيةٍ يذهب لليهودي ليشفع، هذا فيه التواضع العظيم، والفضل العظيم، وأنه ينبغي للإنسان أن يشفع لأخيه ولو عند يهوديٍّ فيما ينفع المؤمن، ولو كان رئيس دولةٍ، فهذا رئيس الدولة، رئيس المؤمنين، رسول الله ﷺ ذهب إلى اليهودي، فأبى، أيش هذا اللؤم؟! يعني: كان غايةً في اللآمة!
فقال: ذهب النبي ﷺ إلى النخل ودعا فيه بالبركة. قال: جده له، وأعطه حقَّه، فجدّ له وأعطاه حقَّه: ثلاثين وسقًا، وبقي لجابرٍ وأهله سبعة عشر وسقًا، فأخبر النبي ﷺ بذلك.
المقصود أن هذا يدل على التواضع من النبي ﷺ، وحلمه، فما وبَّخ اليهودي، ولا لامه، ولا تكلم عليه، فهو صاحب حقٍّ، لكنه شفع لجابرٍ، ومشى بنفسه ليشفع لجابرٍ.
وهذا يُعطيكم فائدةً: أن الواحد منكم -مَن هو أكبر منكم- إذا مشى لأخيه، وشفع لأخيه؛ له قدوةٌ بالنبي ﷺ، وله أسوةٌ في هذا النبي العظيم ﷺ، فيشفع لأخيه المظلوم، أو لأخيه الفقير، أو المحتاج، أو المعسِر، ثم البركة تأتي، فالله يأجره، ويُثيبه، ويجعل للمظلوم والمعسِر فرجًا ومخرجًا، فقد صار ردُّ اليهودي الشفاعة خيرًا لجابرٍ ؛ جدّوا النخل، وحصل لهم فضلٌ: سبعة عشر وسقًا، ولو أخذ اليهودي الثمرةَ كلها ذاك الوقت ما بقي لهم شيءٌ، لكن الله جعل في دعوة النبي ﷺ وفي لؤم اليهودي وردّه جعل فيها خيرًا لجابرٍ وأهله، وعبرةً لنا أيضًا ولغيرنا ممن قبلنا، وممن يأتي بعدنا، عبرة للأولين والآخرين الذين يسمعون هذا الخبر، نعم.
باب مَن استعاذ من الدَّين
2397- حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري. ح، وحدثنا إسماعيل، قال: حدثني أخي، عن سليمان، عن محمد ابن أبي عتيق، عن ابن شهابٍ، عن عروة: أن عائشة رضي الله عنها أخبرته: أن رسول الله ﷺ كان يدعو في الصلاة ويقول: اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقال له قائلٌ: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المغرم! قال: إن الرجل إذا غرم حدَّث فكذب، ووعد فأخلف.
الشيخ: هذا واقعٌ، فالنبي ﷺ يستعيذ من المأثم والمغرم في آخر الصلاة، يدعو كثيرًا بذلك، وفي آخر الصلاة قبل السلام يتعوذ بالله من المأثم والمغرم.
المأثم: الإثم، مصدرٌ ميميٌّ.
والمغرم: الغرامة، الدَّين، وأن يغرم شيئًا.
فقيل له في ذلك: إنك تستعيذ من المغرم كثيرًا! قال: إن الرجل إذا غرم حدَّث فكذب، ووعد فأخلف يعني: قد تضطره الظروف، وقد يخاف من الحبس ويكذب: سآتيك بالمال، وعندي كذا، وعندي كذا، وسوف يحصل لي كذا. لعله يُمهل، لعله يُفرج له، فيُحدِّث ويكذب، يعني: ليسلم من قسوة صاحب الدَّين: آتيك بالدَّين باكرًا، وهو ما عنده شيءٌ، ولكن أيش يُسوِّي؟ لعله يُفلت منه، أو عندي مالٌ، أو عندي ... يكذب، أو فلانٌ وعدني أن يُعطيني، وسوف أُعطيك. المقصود أنه يضطر إلى أشياء كثيرةٍ بسبب مُضايقة الغريم، نعم.
.............
س: واجب المسلمين نحو إخوانهم .....؟
ج: الدعاء لهم أن الله يُنقذهم من اليهود، ويكفيهم شرَّ اليهود، ودعاء المسلمين والدول المنتسبة للإسلام أن الله يُعينهم على نُصرة إخوانهم، ما في إلا الدعاء. نعم.