باب إحداد المرأة على غير زوجها
1279- حدثنا مسدد: حدثنا بشر بن المفضل: حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين قال: تُوفي ابنٌ لأم عطية رضي الله عنها، فلمَّا كان اليوم الثالث دعت بصفرةٍ، فتمسّحت به، وقالت: نُهينا أن نحدّ أكثر من ثلاثٍ إلا بزوجٍ.
1280- حدثنا الحميدي: حدثنا سفيان: حدثنا أيوب بن موسى، قال: أخبرني حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة قالت: لما جاء نعي أبي سفيان من الشأم دعت أمُّ حبيبة رضي الله عنها بصفرةٍ في اليوم الثالث، فمسحت عارضيها وذراعيها، وقالت: إني كنتُ عن هذا لغنية، لولا أني سمعتُ النبي ﷺ يقول: لا يحلّ لامرأةٍ تُؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميتٍ فوق ثلاثٍ، إلا على زوجٍ، فإنها تحدّ عليه أربعة أشهرٍ وعشرًا.
1281- حدثنا إسماعيل: حدَّثني مالك، عن عبدالله ابن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة أخبرته قالت: دخلت على أمِّ حبيبة زوج النبي ﷺ، فقالت: سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: لا يحلّ لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر تحدّ على ميتٍ فوق ثلاثٍ، إلا على زوجٍ أربعة أشهر وعشرًا.
1282- ثم دخلت على زينب بنت جحش حين تُوفي أخوها، فدعت بطيبٍ، فمسّت به، ثم قالت: ما لي بالطّيب من حاجةٍ، غير أني سمعتُ رسول الله ﷺ على المنبر يقول: لا يحلّ لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر تحدّ على ميتٍ فوق ثلاثٍ، إلا على زوجٍ أربعة أشهر وعشرًا.
الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة تدلّ على فوائد، حديث أمِّ عطية الأنصارية، وحديث أمِّ حبيبة أم المؤمنين بنت أبي سفيان رضي الله عنهما، وحديث زينب بنت جحش أم المؤمنين أيضًا، كلّها تدلّ على عدّة فوائد:
منها: أنَّ الميت إذا كان غير زوجٍ -كالأخ والأب والعمِّ- لا بأسَ بالإحداد عليه من قريباته ثلاثة أيامٍ فقط؛ لقوله ﷺ في الحديث الصَّحيح: لا يحلّ لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدَّ على ميتٍ فوق ثلاثٍ، إلا على زوجٍ، فدلّ على إباحة الثلاث، وعلى تحريم ما زاد على ذلك، فإذا مات أبوها أو أخوها أو غيرهما من أقاربها فلا بأس بالإحداد عليه ثلاثة أيام بترك الزِّينة والطِّيب.
ولهذا لما جاء نعي أبي سفيان من الشَّام حين مات سنة ثنتين وثلاثين أخذت أمُّ حبيبة ابنته بعض الصُّفرة ومسحت ذراعيها؛ لإظهار أنَّها انتهت من الإحداد عليه بعد ثلاثٍ.
وهكذا زينب لما جاء نعي أخيها أخذت بعض الطِّيب وتمسّحت به؛ ليعلم أنَّها أنهت إحدادها على أخيها، وهكذا أمُّ عطية.
والفائدة الثانية: أنه يجب أن تحدّ على الزوج أربعة أشهرٍ وعشرًا؛ لأنَّه قال: إلا على زوجٍ فإنّها تحدّ عليه يعني: مدّة العدّة، تحدّ عليه أربعة أشهرٍ وعشرًا يعني: مدّة العدّة، وإن كانت حاملًا إلى وضع الحمل، وإذا كانت غير حاملٍ فأربعة أشهرٍ وعشرًا.
وفيه من الفوائد: عناية الصَّحابة بالامتثال والمبادرة إلى فعل ما شرعه الله، وأنَّهم أسرع الناس إلى الخيرات بعد الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام.
وفيه من الفوائد أيضًا: تعليم الناس، وأنَّ طالب العلم يُعلّم الناس بما أعطاه الله بالفعل والقول:
بالفعل: مثلما فعلت أمُّ حبيبة، وأم عطية، وزينب، من جهة فعل الطّيب.
والقول: كونها حدَّثت عن النبي ﷺ، وأخبرت عن النبي ﷺ بالدليل.
فأهل العلم هكذا شأنهم، أهل العلم هكذا، طلاب العلم هكذا، شأنهم أنَّهم يُعلّمون الناس قولًا وفعلًا، فبعض الناس قد يستفيد من القول أكثر، وبعض الناس يستفيد من الفعل أكثر.
والفعل أكثر تأثيرًا في الناس، اقتداء يبقى يُشاهد، وكان النبي ﷺ يُعلّم الناس بأقواله وأفعاله: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، كان يُعلّم بالقول والفعل والتَّقرير عليه الصلاة والسلام.
وفيه من الفوائد: نقل العلم وإفشاؤه في الناس، وعدم الكتمان، وعدم التَّساهل، فزينب نقلت العلم، وما اكتفت بواحدةٍ، نقلت عن زينب، وعن أمِّ حبيبة، وعن أم عطية؛ لأنَّ نقل العلم مطلوبٌ، الذي عنده علمٌ ينقل في هذا المجلس، وفي هذا المجلس، وفي هذا المجلس، وفي البلد الفلانية، وفي القرية الفلانية، حتى ينتشر، إذا نقله عالم، أو طالب العلم بأفعاله وأقواله، وفي مجالسه، وفي زياراته لإخوانه، وفي زيارته لبعض القرى: نصحهم، ووعظهم، وذكّرهم، وبلّغهم بعض العلم الذي قد يخفى عليهم، هذا شأن الصَّحابة، وهذا شأن الأخيار، نعم.
س: أليس عدم الإحداد بالنسبة للأخ والأب أفضل؟
ج: جائز، الظَّاهر أنَّه مُستوي الطَّرفين، جائز، نعم.
باب زيارة القبور
1283- حدثنا آدم: حدثنا شعبة: حدثنا ثابت، عن أنس بن مالك قال: مرَّ النبي ﷺ بامرأةٍ تبكي عند قبرٍ، فقال: اتَّقي الله واصبري، قالت: إليك عنِّي، فإنَّك لم تُصب بمُصيبتي. ولم تعرفه، فقيل لها: إنَّه النبي ﷺ. فأتت بابَ النبي ﷺ، فلم تجد عنده بوَّابين، فقالت: لم أعرفك. فقال: إنما الصَّبر عند الصَّدمة الأولى.
الشيخ: وهذا أيضًا فيه فوائد: استدلّ به أنَّه لا بأس بزيارة النِّساء للقبور؛ لأنَّه ﷺ قال: اتَّقي الله واصبري، ولم يقل لها: لماذا زرتِ القبور؟ لماذا جئتِ؟ بل قال: اتَّقي الله واصبري من جهة البكاء على الصَّبي، فقالت: إليك عني، فإنَّك لم تُصب بمثل مُصيبتي. حلم عليها، ولم يضربها، ولم يسبّها، وهذا من حلمه عليه الصلاة والسلام، وحُسن تعليمه وتوجيهه، امرأة، لا سبَّها، ولا ضربها، علَّمها.
وهذا يحتجّ به على الزيارة، ولكن هذا كان قبل النَّهي، ثم نهى النبيُّ ﷺ عن زيارة القبور للنِّساء، وهكذا زيارة عائشة لأخيها عملًا بالإذن الأول، ثم بيَّن النبي ﷺ نهي النِّساء عن زيارة القبور؛ لأنَّهن فتنة، ولأنَّهن في الغالب قلَّ أن يصبرن عندما يُشاهدن أقاربهنَّ.
وفيه من الفوائد: تعليم الجاهل، والإنكار عليه باللُّطف، وعدم الضرب: اتَّقي الله واصبري، ما ضربها، ولا سبَّها، تعليمٌ وتوجيهٌ.
ثم قالت كلامًا ليس بجيدٍ: إليك عني، فإنَّك لم تُصب بمثل مُصيبتي. ومع هذا حلم عليها، ولم يزجرها، ولم يسبّها، فراحت تعتذر، ولم تجد عند بابه بوَّابين، ولا حَرَسًا، فقال لها: إنما الصَّبر عند الصَّدمة الأولى يعني: الصبر الذي فيه الثواب العظيم والأجر عندما تنزل المصيبة، يصبر الإنسان، لا يجزع، هذا محلّ الثواب، وأمَّا بعد طول مُدَّةٍ لا بدَّ أن يسلو، فهذا ما يكون صبرًا؛ سلوان، يسلو كما تسلو البهائم.
عند وجود الصَّدمة، عند وجود الموت، عند الانقلاب، وجود الضَّرب، إلى غير هذا، هذا محلّ الصَّبر والتَّحمل، بحيث لا يتكلّم إلا بخيرٍ، ولا يفعل إلا الخير.
وفيه أنَّه لا بأس ألا يتّخذ الرئيسُ والأميرُ حرسًا إذا لم يكن هناك حرجٌ، وليس هناك خطرٌ، فلا حاجةَ إلى الحرس؛ ولهذا لم تجد عند بابه بوَّابين، ولعلَّ هذا بعد نزول قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، أو في أوقات ما كان هناك خطرٌ عليه عليه الصلاة والسلام؛ فلهذا لم يتّخذ حرسًا.
أمَّا إذا وجدت الأسباب فإنَّه ينبغي اتِّخاذ الحرس، إذا وجدت الأسباب المقتضية لذلك فإنَّ الأمير والسُّلطان ونحوهما لا مانعَ لهم من اتّخاذ الحرس، بل قد يجب.
ولهذا في صُلح الحديبية لما جاءوا يُفاوضونه في الصُّلح كان على رأسه المغيرة ومعه السَّيف، كان واقفًا على رأس النبي ﷺ ومعه السَّيف؛ حذرًا من خطر المشركين.
ولما تقدّم عروة بن مسعود ليأخذ بلحية النبي ﷺ ضربه المغيرةُ بنعل السيف، وقال: "كفّ يدك عن رسول الله".
وفي بعض الليالي أرق في المدينة، تقول عائشةُ رضي الله عنها: فقال: ليت رجلًا صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة، فبينا نحن كذلك إذا هو يسمع السِّلاح، فقال: مَن هذا؟، يسمعه من عند الباب، فقال: سعد بن أبي وقاص. قال: لم جئتَ؟ قال: جئتُ أحرسك يا رسول الله، قالت: فنام النبي ﷺ.
المقصود أنَّ الحرس عند الحاجة إليهم لا بأس، وعند عدم الحاجة لا حاجةَ إليهم، نعم.
س: الحديث السابق: الحداد ثلاثة أيام للقريب فقط؟
ج: الظاهر أنَّه للقريب ومَن يعزّ عليها: كصديقٍ وصديقةٍ، فبعض الأحباء في الله أعظم من القريب، نعم.
س: ما يُستفاد منه حدٌّ للتَّعزية؟
ج: ما في حدّ محدود، نعم، التَّعزية ما لها حدٌّ، هذا ما يُفيد حدّ التعزية، يُفيد حدّ الإحداد فقط، نعم.
س: صنع الطَّعام لأهل الميت؟
ج: ليس له حدٌّ أيضًا، ما جاء فيه حدٌّ، لكن الثلاث الأول أهمّها؛ لأنها في وقت المصيبة، الثلاث الأول أهم الأوقات، والتَّعزية ينبغي البدار بها وقت شدّة الحزن، من حين الموت: في المقبرة، أو في الطريق، أو في المسجد، من حين الموت، هذا محلّ التَّعزية.
س: طيب، إذا ما تيسر في أول الوقت؟
ج: لا حرج، الحمد لله، متى تيسر يُعزّي.
س: ولو طالت المدّة؟
ج: ما نعلم فيه حدًّا محدودًا، التَّحديد يحتاج إلى شرعٍ.
س: التَّعزية بعد الوفاة، أو بعد الدَّفن؟
ج: من حين خروج الروح، التَّعزية تبدأ من خروج الروح، التَّعزية في البيت قبل الصَّلاة عليه، قبل الدَّفن، أو في الطريق، أو في المسجد بعد الصلاة، أو قبلها، أو في المقبرة قبل الدَّفن، أو بعده، كلّه واسع، من خروج الروح هو وقت التَّعزية.
النبي ﷺ دخل على أبي سلمة بعدما خرجت روحُه، وعزَّاهم فيه قبل أن يُنقل، وقبل أن يُغسّل، نعم.
س: ما يحصل في بعض الدول: إذا مات الرئيسُ تُسوِّي حدادًا؟
ج: ما له أصل، هذا ما له أصل، الحداد الذي يفعلونه من تنكيس الألوية، وتعطيل الأعمال أسبوعًا، أو ثلاثة أيام، أو شهرًا، أو أربعين يومًا، كلّ هذا ما له أصلٌ، أمرٌ جاهلي.
س: ولو –يعني- يومًا واحدًا؟
ج: ما له أصلٌ، ما له أصل إلا في الزوج والقريب في حقِّ المرأة، الزوج في حقِّ المرأة.
س: بكم تُحدد التَّعزية؟
ج: ما لها حدٌّ، التَّعزية ما لها حدٌّ، التَّعزية متى تيسرت، قد يكون غائبًا وقدم بعد شهرٍ، فيُعزِّي ولو بعد شهرٍ.
س: إذا عزّيته بعد مدةٍ تُذكّره بميته؟
ج: لا، ما في بأس، ما في حرج، ولو طالت المدّة.
باب قول النبي ﷺ: يُعذّب الميتُ ببعض بُكاء أهله عليه إذا كان النوحُ من سُنَّته؛ لقول الله تعالى: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]، وقال النبي ﷺ: كلّكم راعٍ، ومسؤول عن رعيَّته، فإذا لم يكن من سُنَّته فهو كما قالت عائشةُ رضي الله عنها: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، وهو كقوله: وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ ذنوبًا إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ [فاطر:18]، وما يُرخّص من البكاء في غير نوحٍ.
وقال النبي ﷺ: لا تُقتل نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ من دمها؛ وذلك لأنَّه أول مَن سنَّ القتل.
1284- حدثنا عبدان ومحمد، قالا: أخبرنا عبدالله: أخبرنا عاصم بن سليمان، عن أبي عثمان قال: حدَّثني أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: أرسلت ابنةُ النبي ﷺ إليه: إنَّ ابنًا لي قُبض، فأتنا. فأرسل يُقرئ السلام ويقول: إنَّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلٌّ عنده بأجلٍ مُسمًّى، فلتصبر، ولتحتسب، فأرسلت إليه تُقسم عليه ليأتينها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال، فرفع إلى رسول الله ﷺ الصَّبي ونفسه تتقعقع -قال: حسبته أنَّه قال: كأنها شنّ-، ففاضت عيناه، فقال سعدٌ: يا رسول الله، ما هذا؟! فقال: هذه رحمةٌ جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم اللهُ من عباده الرُّحماء.
الشيخ: هذا فيه بيان حُسن خلقه ﷺ، ورأفته بأولاده، وإحسانه إلى أولاده، ورحمته لهم، ورفقه بهم، وحُسن خلقه عليه الصلاة والسلام، وتواضعه، بنته أرسلت إليه تقول: إنَّ ابنها مات. وفي اللَّفظ الآخر: إنَّه في الحضر. يعني: في قُرب الأجل، يعني: يحتضر، فقال: فلتصبر، ولتحتسب، فلله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مُسمًّى، هذا مما يُقال في التَّعزية، يُقال للمُعزَّى: اصبر، واحتسب، فلله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مُسمًّى، جبر الله مُصيبتك، أعظم الله أجرك، أحسن الله عزاءك. من هذا الكلام الطّيب.
وما رضيتْ، أرسلت للرسول مرةً أخرى تُقسم عليه أن يحضر، فأبرّ قسمها عليه الصلاة والسلام، وقام إليها في جماعةٍ من الصحابة، وجاء إليها، وقدَّموا إليه الصَّبي ونفسه تقعقع عند خروج الروح، فلمَّا رأى ذلك فاضت عيناه عليه الصلاة والسلام؛ رحمةً، فقال له سعد بن عبادة: يا رسول الله، وأنت؟! أو قال: ما هذا؟! قال: إنَّها رحمة، وإنما يرحم الله من عباده الرُّحماء.
فهذا يدلّ على أنَّه لا بأس بالبكاء على الميت بالدمع -دمع العين-، هذه من الرحمة، ما يضحك عند الموت، لا بأسَ أن يبكي.
والتَّعذيب باللِّسان النَّوح، أمَّا بكاء العين فلا يضرّ؛ ولهذا في الحديث الآخر يقول لما مات ابنُه إبراهيم: العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي الربّ، وإنا بفُراقك يا إبراهيم لمحزونون، الممنوع النَّوح، أن ينوح، يرفع صوته، هذا الممنوع، أو يشقّ ثوبًا، أو يلطم خدًّا، أو ينتف شعرًا، هذا الممنوع، هذه النياحة الممنوعة، هذا الجزع.
والمؤلف رحمه الله البخاري يحمل الحديثَ -حديث كون الإنسان يُعذَّب ببكاء أهله عليه- على ما إذا كان من سُنَّته، يعني: إذا كان من عادتهم، ولم ينههم، يحمل الحديثَ على هذا.
أمَّا إذا كان ما هو من سُنَّتهم أو نهاهم فلا؛ لقوله تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وفي الحديث يقول ﷺ: إنَّ الميتَ يُعذَّب في قبره بما نِيح عليه.
فالعُلماء في هذا اختلفوا؛ فمنهم مَن قال: إنَّ هذا إذا كان من عادته وسُنة قومه ولم ينههم، فإنَّه يكون كالرَّاضي؛ فيُعذّب بنوحهم. وعلى هذا حمله المؤلفُ البخاري رحمه الله.
وقال آخرون: إنَّه مطلق، وأنَّ الرسول ما قيّد، والمقصود من الإطلاق حثّ الأموات على نهي أقاربهم عن النوح، وأن يحثّوهم ويُحرضوهم حتى لا ينوحوا عليهم.
وظاهر الحديث الإطلاق، ويكون مُستثنى من قوله: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، يكون مُستثنى من القاعدة: أنَّ الميت يُعذّب بما نِيح عليه، والله أعلم بنوع العذاب هذا ما هو، فهو شيء مُستثنى، والمقصود منه تحذيرهم وحثّهم على عدم النوح وعدم الجزع، والله المستعان، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.
س: ما يكون رأي المؤلف الجمع بين النُّصوص؟
ج: هو قول جيد، لكن ما في ..... يدلّ على هذا، عائشة أنكرت هذا، ما بلغتها السُّنة، أنكرت هذا وقالت: إنَّ الله يقول: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، ولكن هذا غلطٌ من عائشة، ثابت في الأحاديث، أقول: ثابت عن رسول الله ﷺ، نعم، لكن حمله على ما إذا كان من سُنته أو عادته أو أوصى به له وجهٌ، ولكن ظاهر الأحاديث عدم ذلك، نعم.
س: ما هناك دعاء ثابت في التَّعزية؟
ج: ما أعلم شيئًا إلا ما سمعت: "لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مُسمًّى"، والحثّ على الصَّبر والاحتساب هذا مما ورد.
س: تذكير المعزّين بالموعظة مناسب؟
ج: نعم.
1285- حدثنا عبدالله بن محمد: حدثنا أبو عامر: حدثنا فليح بن سليمان، عن هلال بن عليّ، عن أنس بن مالك قال: شهدنا بنتًا لرسول الله ﷺ. قال: ورسول الله ﷺ جالسٌ على القبر. قال: فرأيتُ عينيه تدمعان. قال: فقال: هل منكم رجلٌ لم يُقارف الليلة؟ فقال أبو طلحة: أنا. قال: فانزل. قال: فنزل في قبرها.
1286- حدثنا عبدان: حدثنا عبدالله: أخبرنا ابنُ جُريج، قال: أخبرني عبدالله بن عبيدالله ابن أبي مُليكة، قال: توفيت ابنةٌ لعثمان بمكة، وجئنا لنشهدها، وحضرها ابنُ عمر وابنُ عباس ، وإني لجالسٌ بينهما -أو قال: جلستُ إلى أحدهما، ثم جاء الآخرُ فجلس إلى جنبي- فقال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما لعمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء، فإنَّ رسول الله ﷺ قال: إنَّ الميت ليُعذّب ببكاء أهله عليه؟
1287- فقال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: قد كان عمرُ يقول بعض ذلك، ثم حدّث قال: صدرت مع عمر من مكّة، حتى إذا كنا بالبيداء إذا هو بركبٍ تحت ظلِّ سمرةٍ، فقال: اذهب فانظر مَن هؤلاء الركب. قال: فنظرتُ فإذا صُهيب، فأخبرتُه، فقال: ادعُه لي. فرجعتُ إلى صُهيب فقلتُ: ارتحل فالحق أمير المؤمنين. فلمَّا أُصيب عمر دخل صهيب يبكي يقول: وا أخاه! وا صاحباه! فقال عمرُ : يا صهيب، أتبكي عليَّ وقد قال رسولُ الله ﷺ: إنَّ الميت يُعذَّب ببعض بُكاء أهله عليه.
1288- قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: فلمَّا مات عمرُ ذكرتُ ذلك لعائشةَ رضي الله عنها، فقالت: رحم الله عمر، والله ما حدّث رسولُ الله ﷺ: "إنَّ الله ليُعذّب المؤمن ببكاء أهله عليه"، ولكن رسولَ الله ﷺ قال: إنَّ الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه. وقالت: حسبكم القرآن: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما عند ذلك: "والله هو أضحك وأبكى".
قال ابنُ أبي مُليكة: والله ما قال ابنُ عمر رضي الله عنهما شيئًا.
الشيخ: وهذا الذي جاء في حديث ابن عمر وابن عباس كلّه متّفق، فهذا يُعذّب ببعض البكاء، ما هو بكلِّ البكاء، بعض البكاء الذي فيه نوح، مثلما في حديث ابن عمر.
أمَّا البكاء الذي بدمع العين فقد فعله النبي ﷺ، وفعله المسلمون، لا حرجَ فيه، دمع العين لا حرجَ فيه.
وإنما البكاء الذي يُعذّب به الإنسان هو الذي معه صوتٌ، وهو بعض البكاء؛ فإنَّ البكاء بُكاءان:
بكاء معه صوتٌ يُسمّى: نياحة.
وبكاء لا صوتَ معه، فهذا يُسمّى: بكاء فقط، ولا حرجَ فيه، فالنَّهي جاء في هذا، النَّهي جاء في الذي فيه صوت، وأمَّا إنكار عائشة فهو محلّ نظرٍ.
ثم قد يرد على عائشةَ قولها: أنَّ الرسولَ ﷺ قال: إنَّ الله ليزيد الكافر عذابًا ببُكاء أهله عليه، هذا يرد على عائشة: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، كيف يُزاد في عذابه؟!
هذا يُخالف ظاهر الآية: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، والذي ذكرته وارد عليها أيضًا؛ لأنَّ مُقتضى الآية أيضًا أنَّه لا يُزاد في عذاب الكافر، ولا في عذاب المسلم، لكن هذا نصّ مُستثنى، التَّعذيب بالنِّياحة سواء كافر أو مسلم عام، هذا نصّ مُستثنى، خاصّ، مُستثنى من قوله جلَّ وعلا: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
والصواب ما فعله ابنُ عمر وعمر وابن عباسٍ، خلافًا لما رأته عائشةُ رضي الله عنها، وعائشة لها اجتهادات رضي الله عنها تأخذها من ظاهر القرآن، ولكن السنة تخصّ القرآن، السنة تُقيد العمومات، وتخصّ ما جاء في القرآن، وعلى هذا درج أهلُ العلم، نعم.
س: في الحديث الذي قبله هل يُقال: من السنة أن يُقال عند دفن المرأة: هل يوجد رجلٌ لم يُقارف؟
ج: انظر كلامه على حديث أنسٍ، تمَّ الباب؟
قارئ المتن: باقي حديثان.
الشيخ: كمل الباب.
1289- حدثنا عبدالله بن يوسف: أخبرنا مالك، عن عبدالله ابن أبي بكر، عن أبيه، عن عمرة بنت عبدالرحمن أنَّها أخبرته: أنها سمعت عائشةَ رضي الله عنها -زوج النبي ﷺ- قالت: إنما مرَّ رسولُ الله ﷺ على يهودية يبكي عليها أهلُها، فقال: إنَّهم ليبكون عليها، وإنها لتُعذّب في قبرها.
1290- حدثنا إسماعيل بن خليل: حدثنا علي بن مسهر: حدثنا أبو إسحاق -وهو الشّيباني-، عن أبي بردة، عن أبيه قال: لما أُصيب عمر جعل صُهيب يقول: وا أخاه! فقال عمر: أمَّا علمتَ أنَّ النبي ﷺ قال: إنَّ الميتَ ليُعذّب ببكاء الحيّ؟
الشيخ: ماذا بعده؟
الشيخ: بركة، انظر كلامه على حديث أنس: أيُّكم لم يُقارف.
قوله: "لم يُقارف" بقاف وفاء، زاد ابنُ المبارك عن فليح: أراه –يعني- الذنب. ذكره المصنفُ في باب "مَن يدخل قبر المرأة" تعليقًا، ووصله الإسماعيلي، وكذا سريج بن النعمان، عن فليح. أخرجه أحمدُ عنه.
وقيل: معناه: لم يُجامع تلك الليلة. وبه جزم ابنُ حزم، وقال: معاذ الله أن يتبجّح أبو طلحة عند رسول الله ﷺ بأنَّه لم يُذنب تلك الليلة. انتهى.
ويُقويه أنَّ في رواية ثابت المذكورة بلفظ: لا يدخل القبر أحدٌ قارف أهلَه البارحة، فتنحّى عثمان.
وحُكي عن الطَّحاوي أنَّه قال: لم يُقارف تصحيف، والصواب: "لم يُقاول" أي: لم يُنازع غيره الكلام؛ لأنهم كانوا يكرهون الحديثَ بعد العشاء.
وتُعقّب بأنَّه تغليطٌ للثِّقة بغير مُستندٍ، وكأنَّه استبعد أن يقع لعثمان ذلك؛ لحرصه على مُراعاة الخاطر الشَّريف.
ويُجاب عنه باحتمال أن يكون مرضُ المرأة طال، واحتاج عثمانُ إلى الوقاع، ولم يظنّ عثمان أنَّها تموت تلك الليلة، وليس في الخبر ما يقتضي أنَّه واقع بعد موتها، بل ولا حين احتضارها، والعلم عند الله تعالى.
وفي هذا الحديث جواز البكاء كما ترجم له، وإدخال الرجال المرأة قبرها؛ لكونهم أقوى على ذلك من النساء، وإيثار البعيد العهد عن الملاذّ في مُواراة الميت -ولو كان امرأةً- على الأب والزوج.
وقيل: إنما آثره بذلك لأنَّها كانت صنعته. وفيه نظر، فإنَّ ظاهر السياق أنَّه ﷺ اختاره لذلك لكونه لم يقع منه في تلك الليلة جماعٌ، وعلل ذلك بعضُهم بأنَّه حينئذٍ يأمن من أن يُذكّره الشيطانُ بما كان منه تلك الليلة.
وحكى عن ابن حبيب: أنَّ السّر في إيثار أبي طلحة على عثمان: أنَّ عثمان كان قد جامع بعض جواريه في تلك الليلة، فتلطف ﷺ في منعه من النزول في قبر زوجته بغير تصريحٍ.
ووقع في رواية حماد المذكورة: فلم يدخل عثمانُ القبر.
وفيه جواز الجلوس على شفير القبر عند الدَّفن، واستدلّ به على جواز البكاء بعد الموت، وحكى ابنُ قدامة في "المغني" عن الشَّافعي أنَّه يُكره؛ لحديث جبر بن عتيك في "الموطأ"، فإنَّ فيه: فإذا وجب فلا تبكين باكية يعني: إذا مات. وهو محمولٌ على الأولوية، والمراد لا ترفع صوتها بالبكاء.
ويمكن أن يُفرّق بين الرجال والنِّساء في ذلك؛ لأنَّ النساء قد يُفضي بهنَّ البكاء إلى ما يحذر من النوح؛ لقلة صبرهنَّ.
واستدلّ به بعضُهم على جواز الجلوس عليه مطلقًا، وفيه نظر، وسيأتي البحثُ فيه في بابٍ مُفردٍ إن شاء الله تعالى.
وفيه فضيلة لعثمان؛ لإيثاره الصّدق، وإن كان عليه فيه غضاضة.
الشيخ: انظر كلامه على أول ما قرأت: لما جاء نعي أخي زينب .....، زينب المشهور أنَّها ماتت في خلافة عمر.
قوله: "ثم دخلت" هو مقول زينب بنت أمِّ سلمة، وهو مُصرّح به في الرواية التي في العدد، وظاهره أنَّ هذه القصّة وقعت بعد قصّة أم حبيبة، ولا يصحّ ذلك إلا إن قلنا بالتَّعدد، ويكون ذلك عقب وفاة يزيد ابن أبي سفيان؛ لأنَّ وفاته سنة ثمان عشرة أو تسع عشرة، ولا يصحّ أن يكون ذلك عند وفاة أبيه؛ لأنَّ زينب بنت جحش ماتت قبل أبي سفيان بأكثر من عشر سنين على الصَّحيح المشهور عند أهل العلم بالأخبار، فيُحمل على أنَّها لم ترد ترتيب الوقائع، وإنما أرادت ترتيب الأخبار.
وقد وقع في رواية أبي داود بلفظ: "ودخلت"، وذلك لا يقتضي الترتيب، والله أعلم.
الشيخ: هذا هو الأقرب، ثم دخلت؟ المتن عندك: عن زينب: دخلت على أمِّ حبيبة؟
الشيخ: لعلَّ ..... أمّ حبيبة حين مات أخوها يزيد يكون صحيحًا؛ لأنَّهم كلّهم ماتوا في حياة عمر، وأمَّا إذا فسر بأبيها، أبوها تأخّر لسنة اثنين وثلاثين في آخر خلافة عثمان، فقوله: "ثم" غلطٌ من بعض الرُّواة، وإنما الصواب: "ودخلت" بالواو؛ لأنَّ دخولها على زينب قبل ذلك، في حياة عمر.
س: قد يكون بعضُ النساء ضعيفات، وقد يكون نصحها ألا تَنُحْ عليه، فإذا مات لا تصبر، وتبكي عليه، فهل يُعذَّب؟
ج: الله أعلم.
س: أولى الناس بإنزال الميت في قبره؟
ج: الأمر واسع، الأمر فيه واسع، ما فيه تحديد، مَن نزله فلا بأس، سواء مَحْرَم، أو ما هو بمحرم، وسواء قريب، أو ما هو بقريب، فإنَّ طلحة أنزل بنت النبي ﷺ وهو بعيد، من الأنصار.
س: يجوز أن يُنزل الرجلُ المرأةَ في القبر؟
ج: نعم، أما سمعتَ الحديث؟ أبو طلحة أنصاري، ونزّل بنت النبي ﷺ، ما هو بمحل فتنةٍ، ولا بمحلِّ شهوات، هو محلّ اعتبار، ومحل نصائح، والله المستعان.
س: ............؟
ج: جامع البارحة، المقارفة يعني: الجماع؛ لأنَّه يكون حديثَ عهدٍ بالنِّساء على هذا القول.
س: ............؟
ج: الله أعلم، هما ثنتان: أمّ كلثوم ورقية، هما زوجتا عثمان، زوجتا عثمان: رقية وأمّ كلثوم، يحتمل أنَّها هذه أو هذه.