باب إذا لم يوجد إلا ثوب واحد

باب إذا لم يُوجد إلا ثوب واحد

1275- حدثنا محمد بن مقاتل: أخبرنا عبدالله: أخبرنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم: أنَّ عبدالرحمن بن عوف أُتي بطعامٍ، وكان صائمًا، فقال: قُتِلَ مصعب بن عمير، وهو خيرٌ مني، كُفن في بردةٍ، إن غُطّي رأسُه بدت رجلاه، وإن غُطّي رجلاه بدا رأسُه -وأُراه قال: وقُتِل حمزةُ، وهو خيرٌ مني-، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بُسط -أو قال: أُعطينا من الدنيا ما أُعطينا-، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجّلت لنا. ثم جعل يبكي حتى ترك الطَّعام.

باب إذا لم يجد كفنًا إلا ما يُواري رأسَه، أو قدميه؛ غطّى رأسَه

1276- حدثنا عمر بن حفص بن غياث: حدثنا أبي: حدثنا الأعمش: حدثنا شقيق: حدثنا خباب قال: هاجرنا مع النبي ﷺ نلتمس وجهَ الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا مَن مات لم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير، ومنا مَن أينعت له ثمرته، فهو يهدبها، قُتل يوم أحد، فلم نجد ما نُكفّنه إلا بردة، إذا غطّينا بها رأسَه خرجت رجلاه، وإذا غطّينا رجليه خرج رأسُه، فأمرنا النبيُّ ﷺ أن نُغطي رأسه، وأن نجعل على رجليه من الإذخر.

الشيخ: وهذان الحديثان فيهما عِظة وذكرى، فهؤلاء أصحاب رسول الله ﷺ، وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، أصابهم من الحاجة والشّدة ما أصابهم، والفقر، ولا سيما بعدما هاجروا إلى المدينة، حتى قُتل مصعب بن عمير ولم يجدوا له إلا بُردة يُكفّنونه فيها، إن غُطي بها رأسُه بدت رجلاه، وإن غُطي بها رجلاه بدا رأسُه، فأمرهم النبي ﷺ أن يجعلوها على رأسه، يعني: وعورته، ويجعلون على رجليه الإذخر، والإذخر نبتٌ معروفٌ طيب الرائحة، كانوا يستعملونه في مكّة في القُبور.

هذا يدلّ على أنَّ الدنيا ليست ميزانًا، ولا تُعتبر في حقِّ الرجال، وإنما العِبرة بأعمالهم الطّيبة، وصفاتهم الحميدة، وأخلاقهم الكريمة، والله يُعطي الدنيا مَن يُحبّ ومَن لا يُحبّ، ويبتلي أولياءه بالشّدة؛ ليرفع من درجاتهم، ويُحسن ذكرهم، كما في الحديث الصَّحيح: أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فقد أُصيب الأنبياء بالشّدائد والحروب، ومنهم مَن قُتل، ومنهم مَن سُجن.

فينبغي للعاقل أن يتحمّل في ذات الله ما يُصيبه من شدّةٍ وأذى في جهاده في سبيل الله، وفي دعوته إلى الله، وفي أمره بالمعروف، وفي نهيه عن المنكر، وغير هذا من وجوه الخير، يتذكر أولئك الأخيار من الرسل الأبرار، وأصحاب رسول الله، فيكون له فيهم أسوة.

وهذا عبدالرحمن بن عوف أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، خاف وهو أحد العشرة، مشهودٌ له بالجنة، خاف أن تكون طيّباته عُجّلت له في الدنيا لما قدّم بين يديه الطَّعام المتنوع، وهو صائم، وتذكّر حال أصحابه الماضين، وما أصابهم من الشّدة، فبكى، وقال: أخشى أن تكون حسناتُنا عُجّلت لنا. وتذكر قوله تعالى في كتابه العظيم: وَيوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ الآية [الأحقاف:20]، خاف وهو مَن هو! مشهودٌ له بالجنة، ومن خيرة أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومن المهاجرين.

فلا ينبغي للعاقل أن يغترَّ أو يعجب بعمله، بل ينبغي أبدًا أن يكون مع الجدِّ، ومع الصبر والمصابرة، ويكون خائفًا ..... مع الجدِّ، ومع الاستقامة والأعمال الصَّالحة، ويكون خائفًا كما خاف الرسل، وكما خاف الصحابة، وهم خيرة الناس، ثم ترك الطَّعام.

وفي هذا المعنى يقول جلَّ وعلا في كتابه العظيم: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ۝ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ۝ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61]، هذا حال أولياء الله، يُؤدّون ما يُؤدّون من الأعمال الصَّالحات: من الصَّلاة، والجهاد، والصوم، وغير هذا، وقلوبهم وجلة، خائفة، مُشفقة من أجل إيمانهم بأنَّهم إلى الله راجعون، ولا يدرون ماذا يحصل لهم؟ وماذا تُقبّل منهم؟

وهذا الخوف حملهم على أن سارعوا إلى الخيرات، وسابقوا إليها، فسبقوا، هذا الخوف ما جعلهم يكسلون ويضعفون ويقنطون، لا، جعلهم يُسارعون في الخيرات، ويُسابقون إليها.

فهكذا ينبغي للمؤمن، كما قال تعالى عن الأنبياء والأخيار: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].

وجاء في الحديث عن عائشةَ رضي الله عنها: أنها سألت النبي ﷺ عن قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: لا، ولكنَّه الرجل يُصلي ويصوم ويتصدّق ويخاف ألا يُقبل منه، أو كما قال عليه الصَّلاة والسَّلام.

هكذا يكون المؤمن، وهكذا يكون طالب العلم، وهكذا يكون الأخيار: يُسارعون في الخيرات، ويُسابقون إليها عن رغبةٍ بما عند الله، وعن رهبةٍ، وعن خشوعٍ وخضوعٍ لله، وذلٍّ وخوفٍ، لا عن عُجْبٍ، ولا عن مَنٍّ، ولكن عن خوفٍ وحذرٍ. والله المستعان، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.

وفيه من الفوائد: أنَّ الإنسان إذا ما وُجِدَ كفنٌ يُكفّن بما تيسر، مثل: الصلاة، يُصلِّي بما تيسر، فإذا كان ما وُجِدَ كفنٌ يكفيه، يُكفّن بما تيسر، ويُجعل على البقية الإذخر، أو ورق الشجر إذا ما تيسر الإذخر، أو التراب، إن ما تيسر إلا التراب فالتراب، نعم.

باب مَن استعد الكفن في زمن النبي ﷺ فلم يُنكر عليه

1277- حدثنا عبدالله بن مسلمة: حدثنا ابنُ أبي حازم، عن أبيه، عن سهلٍ : أنَّ امرأةً جاءت النبي ﷺ ببردةٍ منسوجةٍ، فيها حاشيتها، أتدرون ما البردة؟ قالوا: الشَّملة. قال: نعم، قالت: نسجتُها بيدي فجئتُ لأكسوكها. فأخذها النبي ﷺ مُحتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنَّها إزاره، فحسَّنها فلان، فقال: اكسنيها، ما أحسنها! قال القومُ: ما أحسنتَ؛ لبسها النبيُّ ﷺ مُحتاجًا إليها، ثم سألتَه، وعلمتَ أنَّه لا يردّ! قال: إني والله ما سألتُه لألبسه، إنما سألته لتكون كفني. قال سهل: فكانت كفنه.

الشيخ: هذه البُردة ثوب، قطعة ثوبٍ، قد تأتي من اليمن كثيرًا، تُتّخذ إزارًا، وتُتّخذ رداءً، أهدتها امرأةٌ للنبي ﷺ فقبلها، فخرج إلى الناس فيها، فلمَّا رآها بعضُ الصحابة سأله إياها، فقالوا له: ما أحسنتَ؛ رأيت النبي لبسها، فكيف تسأله إياها وهو مُحتاج إليها؟! فقال: والله ما سألته إياها لألبسها، ولكن لتكون كفني؛ لأنها باشرت جسد النبي ﷺ، فأحبّ أن تكون كفنَه هذه القطعة التي باشرت جسده عليه الصلاة والسلام.

وفي هذا فوائد:

منها: أنَّه لا مانع من إهداء المفضول للفاضل، كما أهدت المرأةُ إلى النبي ﷺ.

وفيه: قبول الهدية، وأنَّ الفاضل يقبلها ولو كانت من صغار الرعية، ومن صغار الناس، وكان من أخلاقه ﷺ قبول الهدية، والإثابة عليها.

وفيه: الجود والكرم، وأنَّ النبي ﷺ كان لا يردّ سائلًا عليه الصلاة والسلام، وهذا من جوده، فإن تيسر أعطى، وإلا اعتذر عليه الصلاة والسلام، أو وعد خيرًا.

وفيه: جواز كون الإنسان يتّخذ شيئًا من الثِّياب كفنًا له، لا بأسَ به، لكن ليس هذا بمُستحبٍّ، لم يأمر به النبي ﷺ، ولم يفعله عليه الصلاة والسلام، لكنه جائز، كون الصَّحابي قال: أريد أن تكون كفني، ولم يُنكر عليه أحدٌ؛ دلَّ على الجواز.

كونه يتّخذ كفنًا من كسبٍ حلالٍ عرفه، ولا سيّما عند خوفه من قرب الأجل، كأن يكون مريضًا .....، أو لأسباب فتن، أو بلايا كثر فيها الموت، فيعدّ كفنه؛ لئلا يشقّ على أهله في طلب الكفن، أو ما أشبه ذلك.

المقصود أنَّه لا حرج فيه، كون الإنسان يعدّ كفنه هذا لا بأس به، لكن هذا ليس بمُستحبٍّ، بل هو جائز.

س: كذلك إعداد القبر لنفسه؟

ج: ما بلغني، ما أذكر في هذا شيئًا، والأصل أنَّه لا بأس إذا دعت الحاجةُ إلى هذا، مثل: الأراضي شحيحة، ولا تُباع إلا بثمنٍ باهظٍ، وأراد أن يعدّ له قبرًا، ولا سيما عند كبر سِنِّه، أو عند وجود المرض الذي يُخشى منه الموت، أو وجود القتل، أو ما أشبه ذلك، إذا وُجدت الأسباب ما في مانع.

س: ما ذُكر عن بعض السَّلف أنَّه كان يحفر قبره لنفسه، ويذهب لزيارته؟

ج: ما أعلم فيه شيئًا، يعني: يُقتدى به. أيش قال الشارحُ على: أُريد أن تكون كفني؟

قوله: "باب مَن استعد الكفن في زمن النبي ﷺ فلم يُنكر عليه" ضُبط في روايتنا بفتح الكاف على البناء للمجهول، وحُكي الكسر على أنَّ فاعل الإنكار النبي ﷺ، وحكى الزينُ بن المنير عن بعض الرِّوايات: "فلم يُنكره" بهاء بدل "عليه"، وهو بمعنى الرِّواية التي بالكسر، وإنما قيد الترجمة بذلك ليُشير إلى أنَّ الإنكار الذي وقع من الصَّحابة كان على الصَّحابي في طلب البُردة، فلمَّا أخبرهم بعُذره لم يُنكروا ذلك عليه، فيُستفاد منه جواز تحصيل ما لا بدَّ للميت منه من كفنٍ ونحوه في حال حياته، وهل يلتحق بذلك حفر القبر؟ فيه بحثٌ سيأتي.

قوله: "أنَّ امرأةً" لم أقف على اسمها.

قوله: "فيها حاشيتها" قال الدَّاودي: يعني: أنها لم تقطع من ثوبٍ فتكون بلا حاشيةٍ.

وقال غيره: حاشية الثوب: هدبه، فكأنَّه قال: إنها جديدة، لم يُقطع هدبها، ولم تُلبس بعد.

وقال القزاز: حاشيتا الثوب: ناحيتاه اللَّتان في طرفهما الهدب.

قوله: "أتدرون" هو مقول سهل بن سعد، بيَّنه أبو غسان، عن أبي حازم، كما أخرجه المصنفُ في "الأدب"، ولفظه: فقال سهل للقوم: أتدرون ما البُردة؟ قالوا: الشَّملة. انتهى.

وفي تفسير البُردة بالشَّملة تجوّز؛ لأنَّ البُردة كساء، والشَّملة: ما يشتمل به، فهي أعمّ، لكن لما كان أكثر اشتمالهم بها أطلقوا عليها اسمها.

قوله: "فأخذها النبيُّ ﷺ مُحتاجًا إليها" كأنَّهم عرفوا ذلك بقرينة حالٍ، أو تقدّم قولٍ صريحٍ.

قوله: "فخرج إلينا وإنَّها إزاره" في رواية ابن ماجه، عن هشام بن عمار، عن عبدالعزيز: فخرج إلينا فيها.

وفي رواية هشام بن سعد، عن أبي حازم عند الطَّبراني: فاتَّزر بها ثم خرج.

قوله: "فحسّنها فلان، فقال: اكسنيها، ما أحسنها!" كذا في جميع الرِّوايات هنا بالمهملتين، من التَّحسين، وللمُصنّف في "اللباس" من طريق يعقوب بن عبدالرحمن، عن أبي حازم: "فجسّها" بالجيم بغير نونٍ، وكذا للطَّبراني والإسماعيلي من طريق أخرى عن أبي حازم.

وقوله: "فلان" أفاد المحبّ الطبري في "الأحكام" له أنَّه عبدالرحمن بن عوف، وعزاه للطَّبراني، ولم أره في "المعجم الكبير"، لا في مسند سهل، ولا عبدالرحمن. ونقله شيخُنا ابن الملقن عن المحب في "شرح العمدة"، وكذا قال لنا شيخنا الحافظ أبو الحسن الهيتمي: إنَّه وقفٌ عليه، لكن لم يستحضر مكانه.

ووقع لشيخنا ابن الملقن في "شرح التَّنبيه" أنَّه سهل بن سعد، وهو غلطٌ، فكأنَّه التبس على شيخنا اسم القائل باسم الرَّاوي.

نعم أخرج الطَّبراني الحديثَ المذكور عن أحمد بن عبدالرحمن بن يسار، عن قتيبة بن سعيد، عن يعقوب بن عبدالرحمن، عن أبي حازم، عن سهل. وقال في آخره: قال قتيبة: هو سعد بن أبي وقاص. انتهى.

وقد أخرجه البخاري في "اللباس"، والنَّسائي في "الزينة" عن قتيبة، ولم يذكرا عنه ذلك.

وقد رواه ابنُ ماجه بسنده المتقدّم، وقال فيه: فجاء فلان، رجل سمَّاه يومئذٍ، وهو دالٌّ على أنَّ الراوي كان ربما سمَّاه.

ووقع في روايةٍ أخرى للطَّبراني من طريق زمعة بن صالح، عن أبي حازم: أنَّ السائل المذكور أعرابي، فلو لم يكن زمعة ضعيفًا لانتفى أن يكون هو عبدالرحمن بن عوف، أو سعد بن أبي وقاص، أو يُقال: تعددت القصّة. على ما فيه من بُعْدٍ. والله أعلم.

قوله: "ما أحسنها!" بنصب النون، و"ما" للتَّعجب.

وفي رواية ابن ماجه والطَّبراني من هذا الوجه قال: نعم، فلمَّا دخل طواها وأرسل بها إليه. وهو للمُصنف في "اللباس" من طريق يعقوب بن عبدالرحمن بلفظ: فقال: نعم، فجلس ما شاء الله في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه.

قوله: "قال القومُ: ما أحسنتَ"، "ما" نافية، وقد وقعت تسمية المعاتِب له من الصَّحابة في طريق هشام بن سعدٍ المذكورة، ولفظه: قال سهل: فقلتُ للرجل: لم سألته وقد رأيتَ حاجته إليها؟! فقال: رأيتُ ما رأيتم، ولكن أردتُ أن أخبئها حتى أُكفّن فيها.

قوله: "إنَّه لا يردّ" كذا وقع هنا بحذف المفعول، وثبت في رواية ابن ماجه بلفظ: "لا يرد سائلًا"، ونحوه في رواية يعقوب في "البيوع"، وفي رواية أبي غسان في "الأدب": لا يُسأل شيئًا فيمنعه.

قوله: "ما سألته لألبسها" في رواية أبي غسان: فقال: رجوتُ بركتها حين لبسها النبيُّ ﷺ.

وأفاد الطَّبراني في رواية زمعة بن صالح: أنَّ النبي ﷺ أمر أن يُصنع له غيرها، فمات قبل أن تفرغ.

وفي هذا الحديث من الفوائد: حُسن خلق النبي ﷺ، وسعة جوده، وقبوله الهدية.

واستنبط منه المهلب: جواز ترك مُكافأة الفقير على هديته. وليس ذلك بظاهرٍ منه؛ فإنَّ المكافأة كانت عادة النبي ﷺ مُستمرة، فلا يلزم من السُّكوت عنها هنا ألا يكون فعلها، بل ليس في سياق هذا الحديث الجزم بكون ذلك كان هديةً، فيحتمل أن تكون عرضتها عليه ليشتريها منها.

قال: وفيه جواز الاعتماد على القرائن ولو تجرّدت؛ لقولهم: فأخذها مُحتاجًا إليها. وفيه نظر؛ لاحتمال أن يكون سبق لهم منه قولٌ يدلّ على ذلك كما تقدّم.

قال: وفيه الترغيب في المصنوع بالنسبة إلى صانعه إذا كان ماهرًا، ويحتمل أن تكون أرادت بنسبته إليها إزالة ما يُخشى من التَّدليس.

وفيه جواز استحسان الإنسان ما يراه على غيره من الملابس وغيرها: إمَّا ليُعرّفه قدرها، وإمَّا ليعرض له بطلبه منه، حيث يسوغ له ذلك.

وفيه مشروعية الإنكار عند مُخالفة الأدب ظاهرًا، وإن لم يبلغ المنكر درجة التَّحريم.

وفيه التَّبرك بآثار الصَّالحين.

الشيخ: قوله: "التَّبرك بآثار الصَّالحين" هذه كلمة ..... عن النووي وجماعة، والنبي ﷺ لا يُقاس عليه غيره، التَّبرك بثيابه وعرقه لا يُقاس عليه غيره عند أهل العلم؛ لأنَّ قياس غيره عليه وسيلة إلى الشِّرك، ولم يفعله الصَّحابة مع الصّديق، ولا مع عمر، ولا مع عثمان، ولا مع غيرهم، وإنما هذا خاصٌّ به؛ لما جعل اللهُ في جسده وعرقه من البركة عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز أن يُقاس عليه غيره، نعم.

قارئ المتن: فيه تعليق لسماحتكم: هذا خطأ، والصواب منع ذلك لوجهين:

أحدهما: أنَّ الصحابة لم يفعلوا ذلك مع غير النبيِّ ﷺ، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، والنبي ﷺ لا يُقاس عليه غيره؛ لما بينه وبين غيره من الفروق الكثيرة.

الوجه الثاني: سدّ ذريعة الشِّرك؛ لأنَّ جواز التَّبرك بآثار الصَّالحين يُفضي إلى الغلو فيهم، وعبادتهم من دون الله، فوجب المنع من ذلك، وقد سبق بيانُ ذلك مرارًا.

الشيخ: نبّه على هذا غيرنا: الشيخ عبدالرحمن بن حسن في "فتح المجيد" في باب "مَن تبرك بشجرٍ أو حجرٍ أو نحوهما"، نعم.

وقال ابنُ بطال: فيه جواز إعداد الشَّيء قبل وقت الحاجة إليه.

قال: وقد حفر جماعةٌ من الصَّالحين قبورهم قبل الموت.

وتعقبه الزينُ بن المنير بأنَّ ذلك لم يقع من أحدٍ من الصحابة. قال: ولو كان مُستحبًّا لكثر فيهم.

وقال بعضُ الشَّافعية: ينبغي لمن استعد شيئًا من ذلك أن يجتهد في تحصيله من جهةٍ يثق بحلِّها، أو من أثر مَن يعتقد فيه الصَّلاح والبركة. انتهى.

الشيخ: هذه مسألة سلطان، والأصل عدم الاستحباب، هذا هو الأصل؛ لأنَّه لم يفعله السلف رضي الله عنهم وأرضاهم .....، لكن لو دعت إليه الحاجة لا بأس، لو دعت إليه الحاجة في زمنٍ ما، لا سيما عند ظنِّه قُرب أجله؛ لكبر سنٍّ، أو لمرضٍ .....، أو لشدّة حاجةٍ إلى الأراضي، وهي قليلة، أو ما أشبه ذلك، إذا دعت الحاجةُ لا بأس.

س: ما حكم الهدية للعمَّال؟

ج: الهدية فيها تفصيلٌ: إذا كانت الهديةُ تضرّ لا تقبلها، العمَّال والقاضي والأمير والوكيل على شيءٍ يخشى أنَّه يضرّه قبول الهدية، ويُؤذى بأسبابها، إذا كانت تضرّ دينه لا يقبلها، بل يعتذر عذرًا حسنًا؛ حتى لا تكون رشوةً.

س: هدية الطالب للمُدرس؟

ج: كذلك هدية الطالب للمدرس ينبغي تركها، ينبغي للمدرس ألا يقبلها؛ لأنَّها قد تُسبب حيفًا في الاختبارات والدَّرجات، فينبغي تركها، المدرسون ينبغي ألا يقبلوها، هذا الأحوط لهم.

س: مكافأة الفقير على هديته مشروعة؟

ج: المكافأة مشروعة، نعم، وقد تجب، إذا عرف مَن قصده المكافأة يجب عليه: كالبيع، أمَّا إذا كان قصده التَّحبب والمحبّة فالمكافأة أفضل.

س: تُشرع الهدية لطلب المكافأة؟

ج: نعم، النبي كان يُهدى إليه ليُعطي ويُقابل بأكثر، اللهم صلِّ عليه وسلّم.

س: بالنسبة لحفر القبر قبل الموت، ألم يرد أنَّ عمر بن الخطاب طلب من عائشةَ أن يحفر قبره في بيتها؟

ج: ما حفره جزاك الله خيرًا، ما حفره، بل طلب أن يستأذنوا عائشةَ أن يُدفن مع صاحبيه، فقط.

باب اتِّباع النِّساء الجنائز

1278- حدثنا قبيصة بن عقبة: حدثنا سفيان، عن خالد الحذَّاء، عن أمِّ الهذيل، عن أمِّ عطية رضي الله عنها قالت: نهينا عن اتِّباع الجنائز، ولم يُعزم علينا.

الشيخ: وهذا يدلّ على أنَّه لا يجوز اتِّباع الجنائز، وأمَّا قولها: "ولم يعزم علينا" فهي كلمة مُجملة، ليس هناك ما يدلّ على أنَّ النهي على خلاف التَّحريم، بل أصل النَّهي التَّحريم، ويدلّ على ذلك لعنه ﷺ زائرات القبور، فإنَّ زيارة القبور من جنس اتِّباع الجنائز، بل اتِّباع الجنائز أكثر خطرًا؛ لأنَّ اتباع الجنائز يكون فيه اختلاط الرجال وكثرة الرجال؛ فتُخشى الفتنة، فلا يجوز لهنَّ اتباع الجنائز، ولا زيارة القبور، يعني: للدفن، أمَّا الصلاة على الميت فلا بأس، كن يُصلين على الميت مع النبي ﷺ، نعم، يُصلين عليه في المساجد، وفي البيوت، نعم.

وكانت عائشةُ رضي الله عنها لما تُوفي سعد بن أبي وقاص طلبت مجيئه، وجيء به للمسجد، وصلَّى عليه النِّساء والرجال في المسجد .

س: إذا كانت المقبرةُ خاليةً، لا يوجد فيها رجال؟

ج: ليس للنِّساء زيارة القبور مطلقًا.

س: ما ورد أنَّ عائشة رضي الله عنها كانت تزور الرسول ﷺ وأبا بكر؟

ج: ما حفظناه عنها، ما نعلمه عنها رضي الله عنها، إذا وجدت شيئًا أرناه جزاك الله خيرًا.

س: .............؟

ج: ما هو بمشروعٍ، ما هو بمشروعٍ لها.

مُداخلة: الشَّارح ذكر حديثًا عن أبي هريرة، يقول: رواه ابنُ أبي شيبة من طريق محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله ﷺ كان في جنازةٍ، فرأى عمرُ امرأةً، فصاح بها، فقال: دعها يا عمر. الحديث.

الشيخ: أيش يقول عندك عن الحديث؟

قوله: "ولم يعزم علينا" أي: ولم يُؤكّد علينا في المنع كما أكّد علينا في غيره من المنهيات، فكأنَّها قالت: كره لنا اتِّباع الجنائز من غير تحريمٍ.

وقال القرطبي: ظاهر سياق أمِّ عطية أنَّ النهي نهي تنزيه، وبه قال جمهور أهل العلم.

ومال مالكٌ إلى الجواز، وهو قول أهل المدينة، ويدلّ على الجواز ما رواه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله ﷺ كان في جنازةٍ، فرأى عمرُ امرأةً، فصاح بها، فقال: دعها يا عمر. الحديث.

وأخرجه ابن ماجه والنَّسائي من هذا الوجه، ومن طريق أخرى عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سلمة بن الأزرق، عن أبي هريرة. ورجاله ثقات.

وقال المهلب: في حديث أمِّ عطية دلالة على أنَّ النهي من الشَّارع على درجات.

وقال الدَّاودي: قولها: "نهينا عن اتباع الجنائز" أي: إلى أن نصل إلى القبور.

وقولها: "ولم يعزم علينا" أي: ألَّا نأتي أهل الميت فنُعزّيهم ونترحم على ميتهم، من غير أن نتبع جنازته. انتهى.

وفي أخذ هذا التَّفصيل من هذا السياق نظر، نعم، هو في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص: أنَّ النبي ﷺ رأى فاطمةَ مُقبلةً فقال: من أين جئتِ؟ فقالت: رحمت على أهل هذا الميت ميتهم. فقال: لعلك بلغتِ معهم الكُدَى، قالت: لا. الحديث أخرجه أحمد والحاكم وغيرهما، فأنكر عليها بلوغ الكُدَى -وهو بالضم وتخفيف الدال المقصورة- وهي المقابر، ولم يُنكر عليها التَّعزية.

وقال المحبّ الطبري: يحتمل أن يكون المرادُ بقولها: "ولم يعزم علينا" أي: كما عزم على الرجال بترغيبهم في اتِّباعها بحصول القيراط ونحو ذلك. والأول أظهر، والله أعلم.

الشيخ: النَّهي هو الأظهر؛ لأنَّ هذا في "الصحيحين"؛ ولأنَّه من أسباب الفتنة.

أمَّا أثر عمر فيحتمل أنَّه كان قبل ذلك، وإلا فهو شاذٌّ مُخالفٌ للأحاديث الصَّحيحة؛ لأنَّ رواية ابن أبي شيبة وما شابهها لا يُعادل رواية "الصَّحيحين"، وما ترتّب في المعنى من الفتنة؛ ولأنَّه جنسٌ من الزيارة للقبور، فهذا مثل هذا، بل قد يكون اتباع الجنائز أخطر؛ لكثرة الجمع، اختلاطهن بها يكون أشدّ، والزيارة قد تكون وحدها، ولا يراها أحدٌ، ومع هذا ممنوعة، أمَّا كونها مع الجمع الذين يُشيعون الجنازة فهذا أخطر، فإذا منعت الزيارةُ وقد تكون وحدها ومعها نساء؛ فمنعها من اتباع الجنائز أظهر وأبين في المعنى، وتكون رواية عمر هذه شاذّة -والله أعلم-، رواية أبي هريرة في قصّة عمر شاذّة، نعم، مُخالفة للأحاديث الصَّحيحة، أو كانت سابقةً ومنسوخةً.

س: زيارتها لقبر النبي ﷺ؟

ج: ما عليها دليل، الصواب: حتى قبر النبي ﷺ، لا تُزار القبور مطلقًا؛ لأنَّه ما قال: "إلا قبري" ما استثنى؛ ولأنَّ الفتنة موجودة، زيارة القبور فيها الاختلاط، فتنة؛ لأنهنَّ في الغالب قليلات الصّبر، كثيرات الجزع، وهن فتنة أيضًا باجتماعهنَّ بالناس، واختلاطهنَّ بالناس، وزيارة القبور، وزيارة قبر النبي ﷺ مظنّة الاختلاط، ومظنّة الخلوة.

س: في المدينة يضعون حاجزًا بين الرجال والنِّساء بالنسبة للروضة، ويُفضي إلى القبر، النِّساء يدخلن إلى القبر؟

ج: هذه مسألة قبر النبي ﷺ، الحكومة تُراعي الخلاف؛ لأنَّ الخلاف بين العلماء مثلما سمعت، الخلاف مشهور بين العلماء، والمدينة محلّ ورود الناس من سائر الأقطار؛ ولهذا الدولة لا تُشدد خوفًا من الفتنة، نعم.

لكن المسلم إذا عرف الحكم ينبغي أن يتأدّب بالحكم الشَّرعي.

س: بالنسبة للمرأة إذا مرّت من عند المقبرة بسيارةٍ؟

ج: الظاهر أنَّه لا يُشرع لها سلامٌ ولا غيره، تدعو لهم والحمد لله، أمَّا الرجل فلا بأس إذا مرَّ بالقبور أن يُسلّم، الرجل إذا مرَّ يُشرع له السلام، إذا مرَّ على القبور سلّم عليهم، هذه السنة.

س: ولو ما قصدت؟

ج: ولو ما قصد، إذا مرَّ عليها يقول: السلام عليكم أهل الدِّيار.

س: ما ورد عن النبي ﷺ أنَّه لقّن عائشةَ دعاء عند زيارتها المقابر؟

ج: كان هذا في الأول، ثم نُسخ، ثم نُهي عنه، كان الرسولُ ﷺ نهى الجميع عن الزيارة، ثم أذن للجميع، ثم خصّ النساء بالنَّهي.