باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة

باب مَن لم يُظهر حُزْنَه عند المصيبة

وقال محمد بن كعبٍ القُرَظِي: الجزع: القول السيئ والظن السيئ، وقال يعقوب : إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86].

1301- حدثنا بشر بن الحكم: حدثنا سفيان بن عيينة: أخبرنا إسحاق بن عبدالله ابن أبي طلحة: أنه سمع أنس بن مالكٍ يقول: اشتكى ابنٌ لأبي طلحة. قال: فمات، وأبو طلحة خارجٌ، فلمَّا رأتِ امرأتُه أنه قد مات هَيَّأَتْ شيئًا ونَحَّتْه في جانب البيت، فلمَّا جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هَدَأَتْ نَفْسُه، وأرجو أن يكون قد استراح. وظن أبو طلحة أنها صادقةٌ. قال: فبات، فلمَّا أصبح اغتسل، فلمَّا أراد أن يخرج أَعْلَمَتْه أنه قد مات، فصلَّى مع النبي ﷺ، ثم أخبر النبي ﷺ بما كان منهما، فقال رسول الله ﷺ: لعلَّ الله أن يُبارِك لكما في ليلتكما.

قال سفيان: فقال رجلٌ من الأنصار: فرأيتُ لهما تسعةَ أولادٍ كلهم قد قرأ القرآنَ.

الشيخ: وهذا يدل على أنه لا بأس ولا حرج في عدم إظهار الجزع، وعدم إظهار الحزن، وكونه يتحمّل ويتصبّر ولا يُظهر الحزن ولا التأثر بالمصيبة، لكن الحزن لا بأس به، الحزن وإظهار المصيبة، و"إنا له وإنا إليه راجعون" أفضل، هذا فعله ﷺ، فهذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام.

أما كون أم سُليم أخفت على أبي طلحة موت الجنين وقالت: هدأت نفسه. تأوَّلت فقالت: هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح. هذا ما هو بكذبٍ، تأويل الكلام: الميت هدأت نفسه، استراح، ترجو أنه استراح، وأن موته فيه خيرٌ له، ولم تُبلغه بموته، بل هيَّأت له الطعام، وتهيَّأت له حتى جامعها، ثم أخبرته بعد ذلك، فشقَّ عليه هذا وغضب عليها، واتَّصل بالنبي ﷺ فأخبره، فقال: لعلَّ الله يُبارك لكما في ليلتكما، وفي اللفظ الآخر: بارك الله لكما في ليلتكما.

وحملت من ذلك الجماع، وولدت ولدًا مباركًا سمَّاه: عبدالله، ووُلِدَ له تسعٌ من الولد كلهم قد قرأ القرآن، وكان من أصلح الناس، وأجاب الله دعوة نبيه ﷺ بالبركة.

ولهذا قال محمد بن كعب القرظي: الجزع: إظهار القول السيئ والظن السيئ، وقول يعقوب عليه الصلاة والسلام: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ يعني: ما أُظهره لهم، وهذا يدل على أن الإنسان إذا لم يُظهر الحزن وتحمّل وتصبر لا حرج، لكن كونه يظهر عليه الحزنُ وتظهر المصيبة ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل، أو يبكي؛ لا بأس، يكون هذا أولى؛ لأنه فعل النبي ﷺ، فقد بكى على ابنته، ودمعت عيناه، وبكى على ابن ابنته، وقال: إنها رحمة، ولما مات ابنه إبراهيم قال: العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي الربّ، وإنا بفُراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولما جاءه خبر قتل الثلاثة عُرِفَ عليه أثرُ الحزن عليه الصلاة والسلام.

المقصود أن سيرته ﷺ أفضل السِّيَر، وأولى من سيرة غيره عليه الصلاة والسلام، وصار ما فعلته أم سليم على الجواز ..... للجواز، وأنه لا حرج في ذلك: ألا يتظاهر بالحزن والتألم من المصيبة. نعم.

س: في الحديث جواز التورية؟

ج: تجوز، نعم، إذا كانت ما فيها ضررٌ على أحدٍ، كونه يتأوّل ويأتي بكلمات مُحتملة إذا كانت فيها مصلحة. نعم.

س: قوله: كلهم قد قرأ القرآن؟

ج: عيال جدّ عبدالله، الذين جدّهم أبو طلحة.

س: لكن المقصود الحفظ أو إتمام التلاوة؟

ج: عندهم "قرأ القرآن" معناه: الحفظ، إذا قال: "القرَّاء" معناه: حُفَّاظ القرآن.

س: معنى ما جاء في الحديث: اقرأ وارتَقِ ورتّل كما كنتَ تُرتّل في الدنيا؟

ج: يقرأ من حفظه، نعم.

س: الأولاد لعبدالله أم لوالده؟

ج: لعبدالله.

س: الأنصاري يقول: فرأيتُ لهما؟

ج: يعني: أبا طلحة وأم سُليم من عبدالله، من ولده، هم أجداده.

أيش قال الشارح على هذه الترجمة؟

قوله: "باب مَن لم يُظهر حُزنه عند المصيبة" تقدم الكلامُ على ذلك في الترجمة التي قبلها.

و"يُظهر" بضمِّ أوله من الرباعي.

و"حزنه" منصوبٌ على المفعولية.

قوله: "وقال محمد بن كعب" يعني: القُرَظي: بضم القاف، وفتح الراء، بعدها ظاء مُشالة.

قوله: "السيئ" بفتح المهملة، وتشديد التحتانية، بعدها أخرى مهموزة، والمراد به ما يبعث الحزن غالبًا، وبالظن السيئ: اليأس من تعويض الله المصاب في العاجل ما هو أنفع له من الفائت، أو الاستبعاد لحصول ما وعد به من الثواب على الصبر.

الشيخ: الظن السيئ أعمّ من هذا، كونه يظن السوء: أنه لا يُؤجر على هذه المصيبة، أو أنه أُصيب بهذا لأمر كذا وكذا مما يسوؤه، بل يحسن ظنّه بربه، ولا ييأس، يرجو أن هذه المصيبة خيرٌ له، وأنها كفَّارة لسيئاته، وأن الله أراد به خيرًا، يُحسن الظنّ بربه.

وقد روى ابنُ أبي حاتم في تفسير سورة "سأل" من طريق أيوب بن موسى، عن القاسم بن محمد كقول محمد بن كعبٍ هذا.

قوله: "وقال يعقوب عليه السلام: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ" قال الزين بن المنير: مناسبة هذه الآية للترجمة أنَّ قول يعقوب لما تضمن أنه لا يشكو بتصريحٍ ولا تعريضٍ إلا لله وافق مقصود الترجمة، وكان خطابه بذلك لبنيه بعد قوله: يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ [يوسف:84].

والبثّ: بفتح الموحدة، بعدها مُثلثة ثقيلة: شدة الحزن.

قوله: "حدثنا بشر بن الحكم" هو النيسابوري، قال أبو نعيم في "المستخرج": يُقال: إنَّ هذا الحديث مما تفرَّد به البخاري عن بشر بن الحكم. انتهى. يعني: من هذا الوجه من حديث سفيان بن عيينة، ولم يُخرجه أبو نعيم ولا الإسماعيلي من طريق إسحاق إلا من جهة البخاري.

وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق عبدالله بن عبدالله ابن أبي طلحة -وهو أخو إسحاق المذكور-، عن أنسٍ.

وأخرجه البخاري ومسلم من طريق أنس بن سيرين، ومحمد بن سعد من طريق حميد الطويل، كلاهما عن أنسٍ.

وأخرجه مسلمٌ وابن سعدٍ أيضًا وابن حبان والطيالسي من طرقٍ عن ثابتٍ، عن أنسٍ أيضًا، وفي رواية بعضهم ما ليس في رواية بعضٍ.

وسأذكر ما في كلٍّ من فائدةٍ زائدةٍ، إن شاء الله تعالى.

قوله: "اشتكى ابنٌ لأبي طلحة" أي: مَرِضَ، وليس المراد أنه صدرت منه شكوى، لكن لما كان الأصلُ أن المريض يحصل منه ذلك استُعمل في كل مرضٍ لكل مريضٍ.

والابن المذكور هو أبو عمير الذي كان النبي ﷺ يُمازحه ويقول له: يا أبا عمير، ما فعل النُّغير؟ كما سيأتي في كتاب "الأدب"، بيَّن ذلك ابنُ حبان في روايته من طريق عمارة بن زاذان، عن ثابتٍ، وزاد من طريق جعفر بن سليمان، عن ثابتٍ في أوله قصّة تزويج أم سُليم بأبي طلحة بشرط أن يُسلم، وقال فيه: "فحملت، فولدت غلامًا صبيحًا، فكان أبو طلحة يُحبّه حبًّا شديدًا، فعاش حتى تحرّك، فمرض، فحزن أبو طلحة عليه حزنًا شديدًا حتى تضعضع، وأبو طلحة يغدو ويروح على رسول الله ﷺ، فراح روحةً فمات الصبي". فأفادت هذه الرواية تسمية امرأة أبي طلحة.

ومعنى قوله: "وأبو طلحة خارجٌ" أي: خارج البيت عند النبي ﷺ في أواخر النهار.

وفي رواية الإسماعيلي: "كان لأبي طلحة ولدٌ فتُوفي، فأرسلت أم سُليم أنسًا يدعو أبا طلحة، وأمرته ألَّا يُخبره بوفاة ابنه، وكان أبو طلحة صائمًا".

قوله: "هيَّأت شيئًا" قال الكرماني: أي: أعدّت طعامًا لأبي طلحة وأصلحته.

وقيل: هيَّأت حالها وتزيّنت.

قلت: بل الصواب أن المراد أنها هيَّأت أمر الصبي بأن غسَّلته وكفَّنته كما ورد في بعض طرقه صريحًا، ففي رواية أبي داود الطيالسي.

الشيخ: يكفي، الله المستعان.

باب الصبر عند الصدمة الأولى

وقال عمر : نِعْمَ العِدْلانِ، ونِعْمَ العِلاوةُ: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۝ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156-157].

الشيخ: يُقال: العِلاوة والعَلاوة، يقول عمر : "نِعْمَ العِدْلانِ، ونِعْمَ العلاوة" يعني: الصلاة والرحمة عِدلان، والعلاوة: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ هذا من ثواب الصابرين على مصابهم: أنَّ عليهم من ربهم صلاةً ورحمةً، وأنَّ لهم الهداية، وهذه نعمةٌ عظيمةٌ، وفضلٌ كبيرٌ.

فجديرٌ بالمصابين أن يتحرّوا هذا الخير، وأن يتحمَّلوا ألم المصيبة، ويُقابلوها بالرضا والصبر والاحتساب، كما قال الصابرون: "إنا لله وإنا إليه راجعون". نعم.

وقوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ [البقرة:45].

1302- حدثنا محمد بن بشارٍ: حدثنا غُندرٌ: حدثنا شعبة، عن ثابتٍ قال: سمعتُ أنسًا ، عن النبي ﷺ قال: الصبر عند الصَّدمة الأولى.

الشيخ: تقدّم أنه قال للمرأة لما رآها تبكي عند القبر: اصبري، فلما جاءت تعتذر قال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى يعني: محل الصبر عند وجود المصيبة وحدوثها، فينبغي البدار بالصبر، أما إذا طالت المدّة فيسلو كما يسلو غيره، لكن الواجب عند وجود الصدمة -عند الموت، أو الضربة، أو غير ذلك من المصائب- البدار بالصبر والتَّحمل، وعدم فعل ما لا ينبغي من قولٍ سيئ أو فعلٍ سيئ، بل يتحمل، فلا يجزع، ولا يتكلم بما لا ينبغي، ولا يفعل ما لا ينبغي، هذا هو الواجب عند نزول المصيبة. نعم.

باب قول النبي ﷺ: إنَّا بك لمَحْزُونون

وقال ابنُ عمر رضي الله عنهما: عن النبي ﷺ: تدمع العينُ، ويحزن القلبُ.

1303- حدثنا الحسن بن عبدالعزيز: حدثنا يحيى بن حسَّان: حدثنا قُرَيْشٌ -هو ابن حيَّان-، عن ثابتٍ، عن أنس بن مالكٍ قال: دخلنا مع رسول الله ﷺ على أبي سيفٍ القَيْنِ، وكان ظِئْرًا لإبراهيم عليه السلام، فأخذ رسول الله ﷺ إبراهيم فقبَّله، وشَمَّه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجُودُ بنَفْسِه، فجعلتْ عينا رسول الله ﷺ تَذْرِفَانِ، فقال له عبدالرحمن بن عوفٍ : وأنت يا رسول الله؟! فقال: يا ابن عوفٍ، إنها رحمةٌ، ثم أتبعها بأخرى، فقال ﷺ: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلَّا ما يَرضى ربُّنا، وإنا بفِرَاقِك يا إبراهيم لمحزونون.

رواه موسى، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابتٍ، عن أنسٍ ، عن النبي ﷺ.

الشيخ: وهذا مثلما تقدّم لما دعته ابنتُه قال: قل لها: لتصبر ولتحتسب، فلله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مُسمًّى، فلمَّا أقسمت عليه حضر، وقدَّموا له الصبي ونفسه تقعقع، فلما رآه دمعت عيناه عليه الصلاة والسلام، فقال له أصحابُه الحاضرون -سعد بن عبادة ومَن معه-: ما هذا يا رسول الله؟! قال: إنها رحمةٌ، وإنما يرحم الله من عباده الرُّحماء.

أيش قال عليه؟

قوله: "باب قول النبي ﷺ: إنا بك لمحزونون، قال ابنُ عمر: عن النبي ﷺ: تدمع العين، ويحزن القلب" سقطت هذه الترجمة والأثر في رواية الحموي، وثبتت للباقين، وحديث ابن عمر كأن المراد به ما أورده المصنف في الباب الذي بعد هذا، إلا أنَّ لفظه: إن الله لا يُعذّب بدمع العين، ولا بحزن القلب، فيحتمل أن يكون ذكره بالمعنى؛ لأن ترك المؤاخذة بذلك يستلزم وجوده.

وأما لفظه فثبت في قصة موت إبراهيم من حديث أنسٍ عند مسلمٍ، وأصله عند المصنف كما في هذا الباب، وعن عبدالرحمن بن عوف عند ابن سعد والطبراني، وأبي هريرة عند ابن حبان والحاكم، وأسماء بنت يزيد عند ابن ماجه، ومحمود بن لبيد عند ابن سعد، والسائب بن يزيد وأبي أمامة عند الطبراني.

قوله: "حدثني الحسن بن عبدالعزيز" هو الجَرَوي -بفتح الجيم والراء- منسوبٌ إلى جَرْوة -بفتح الجيم وسكون الراء- قرية من قرى تنيس، وكان أبوه أميرها، فتزهد الحسنُ ولم يأخذ من تركة أبيه شيئًا، وكان يُقال: إنه نظير قارون في المال. والحسن المذكور من طبقة البخاري، ومات بعده بسنةٍ، وليس له عنده سوى هذا الحديث وحديثين آخرين في التفسير.

قوله: "حدثني يحيى بن حسان" هو التنيسي، أدركه البخاري ولم يلقَه؛ لأنه مات قبل أن يدخل مصر، وقد روى عنه الشافعي مع جلالته، ومات قبله بمدةٍ، فوقع للحسن نظير ما وقع لشيخه من رواية إمامٍ عظيم الشأن عنه ثم يموت قبله.

قوله: "حدثنا قريش" هو ابن حيان، هو بالقاف والمعجمة، وأبوه بالمهملة والتحتانية، بصري، يُكنى: أبا بكر.

قوله: "على أبي سيف" قال عياض: هو البراء بن أوس، وأم سيف زوجته هي أم بُردة، واسمها: خولة بنت المنذر.

قلت: جمع بذلك بين ما وقع في هذا الحديث الصحيح، وبين قول الواقدي فيما رواه ابن سعدٍ في "الطبقات" عنه، عن يعقوب ابن أبي صعصعة، عن عبدالله ابن أبي صعصعة قال: لما وُلد له إبراهيم تنافست فيه نساء الأنصار: أيَّتهن تُرضعه؟ فدفعه رسولُ الله ﷺ إلى أم بُردة بنت المنذر بن زيد بن لبيد، من بني عدي بن النجار، وزوجها البراء بن أوس بن خالد بن الجعد، من بني عدي بن النجار أيضًا، فكانت تُرضعه، وكان رسول الله ﷺ يأتيه في بني النجار. انتهى.

وما جمع به غير مُستبعدٍ، إلا أنه لم يأتِ عن أحدٍ من الأئمة التَّصريح بأن البراء بن أوس يُكنى: أبا سيف، ولا أن أبا سيف يُسمّى: البراء بن أوس.

قوله: "القين" بفتح القاف، وسكون التحتانية، بعدها نون، هو الحداد، ويُطلق على كل صانعٍ، يُقال: "قان الشيء" إذا أصلحه.

قوله: "ظئرًا" بكسر المعجمة، وسكون التحتانية المهموزة، بعدها راء، أي: مُرضعًا، وأُطلق عليه ذلك لأنه كان زوج المرضعة، وأصل الظِّئر من ظَأَرَتِ الناقة: إذا عطفت على غير ولدها، فقيل ذلك للتي تُرضع غير ولدها، وأُطلق ذلك على زوجها لأنه يُشاركها في تربيته غالبًا.

قوله: "لإبراهيم" أي: ابن رسول الله ﷺ، ووقع التصريح بذلك في رواية سليمان بن المغيرة المعلَّقة بعد هذا، ولفظه عند مسلمٍ في أوله: وُلِدَ لي الليلة غلامٌ فسمّيتُه باسم أبي إبراهيم، ثم دفعه إلى أم سيف امرأة قينٍ بالمدينة يُقال له: أبو سيف، فانطلق رسول الله ﷺ فاتبعته، فانتهى إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره، وقد امتلأ البيت دخانًا، فأسرعتُ المشي بين يدي رسول الله ﷺ فقلتُ: يا أبا سيف، أمسك؛ جاء رسول الله ﷺ.

ولمسلمٍ أيضًا من طريق عمرو بن سعيد، عن أنسٍ: ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله ﷺ، كان إبراهيم مُسترضعًا في عوالي المدينة، وكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت وإنه ليُدخّن، وكان ظِئره قينًا.

الشيخ: "ليُدخّن" يعني: يُدَخِّن البيت من عمل الكِير.

قوله: "وإبراهيم يجود بنفسه" أي: يُخرجها ويدفعها كما يدفع الإنسانُ ماله.

وفي رواية سليمان: "يكيد" قال صاحب "العين": أي: يسوق بها. وقيل: معناه: يُقارب بها الموت. وقال أبو مروان ابن سراج: قد يكون من الكيد، وهو القيء، يُقال منه: كاد يكيد، شبّه تقلع نفسه عند الموت بذلك.

قوله: "تذرفان" بذال مُعجمة وفاء، أي: يجري دمعهما.

قوله: "وأنت يا رسول الله؟!" قال الطيبي: فيه معنى التَّعجب، والواو تستدعي معطوفًا عليه، أي: الناس لا يصبرون على المصيبة، وأنت تفعل كفعلهم! كأنه تعجّب لذلك منه، مع عهده منه أنه يحثّ على الصبر، وينهى عن الجزع، فأجابه بقوله: إنها رحمة أي: الحالة التي شاهدتها مني هي رقّة القلب على الولد، لا ما توهمت من الجزع. انتهى.

ووقع في حديث عبدالرحمن بن عوف نفسه: فقلت: يا رسول الله، تبكي! أولم تنهَ عن البكاء؟! وزاد فيه: إنما نهيتُ عن صوتين أحمقين فاجرين: صوتٍ عند نغمةٍ: لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوتٍ عند مصيبةٍ: خمش وجوهٍ، وشقّ جيوبٍ، ورنّة شيطانٍ.

قال: إنما هذا رحمة، ومَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم، وفي رواية محمود بن لبيد: فقال: إنما أنا بشرٌ، وعند عبدالرزاق من مرسل مكحول: إنما أنهى الناس عن النياحة: أن يُنْدَب الرجل بما ليس فيه.

قوله: "ثم أتبعها بأخرى" في رواية الإسماعيلي: "ثم أتبعها والله بأخرى" بزيادة القسم.

قيل: أراد به أنه أتبع الدمعة الأولى بدمعةٍ أخرى.

وقيل: أتبع الكلمة الأولى المجملة -وهي قوله: إنها رحمةٌ- بكلمةٍ أخرى مُفصّلة -وهي قوله: إن العين تدمع.

ويُؤيد الثاني ما تقدّم من طريق عبدالرحمن ومرسل مكحول.

قوله: إن العين تدمع ... إلخ، في حديث عبدالرحمن بن عوف ومحمود بن لبيد: ولا نقول ما يُسخط الرب، وزاد في حديث عبدالرحمن في آخره: لولا أنه أمر حقٍّ ووعد صدقٍ وسبيلٌ نأتيه، وأن آخرنا سيلحق بأوَّلنا؛ لحزنَّا عليك حزنًا هو أشدّ من هذا، ونحوه في حديث أسماء بنت يزيد ومرسل مكحول، وزاد في آخره: وفصل رضاعه في الجنة.

الشيخ: لعله: "فصال" يعني: كمال، فصال: تمام، وفي الحديث الآخر: إنَّ له مرضعًا في الجنة.

أو فصل في بقية رضاعةٍ في الجنة؛ لأنَّ له مُرضعةً في الجنة. نعم.

وفي آخر حديث محمود بن لبيد: وقال: إن له مرضعًا في الجنة، ومات وهو ابن ثمانية عشر شهرًا.

وذكر الرضاع وقع في آخر حديث أنسٍ عند مسلمٍ من طريق عمرو بن سعيد عنه، إلا أنَّ ظاهر سياقه الإرسال، فلفظه: قال عمرو: فلمَّا تُوفي إبراهيم قال رسول الله ﷺ: إن إبراهيم ابني، وأنه مات في الثدي، وإن له لظِئرين يُكملان رضاعه في الجنة، وسيأتي في أواخر الجنائز حديث البراء: إن لإبراهيم لمرضعًا في الجنة.

فائدةٌ في وقت وفاة إبراهيم : جزم الواقدي بأنه مات يوم الثلاثاء لعشر ليالٍ خلون من شهر ربيع الأول سنة عشرٍ.

وقال ابن حزم: مات قبل النبي ﷺ بثلاثة أشهرٍ.

واتفقوا على أنه وُلد في ذي الحجّة سنة ثمانٍ.

قال ابن بطال وغيره: هذا الحديث يُفسّر البكاء المباح والحزن الجائز، وهو ما كان بدمع العين، ورقّة القلب، من غير سخطٍ لأمر الله، وهو أبين شيءٍ وقع في هذا المعنى.

وفيه مشروعية تقبيل الولد وشمّه، ومشروعية الرضاع، وعيادة الصغير، والحضور عند المحتضر، ورحمة العيال، وجواز الإخبار عن الحزن، وإن كان الكتمان أولى.

وفيه وقوع الخطاب للغير وإرادة غيره بذلك، وكلٌّ منهما مأخوذٌ من مُخاطبة النبي ﷺ ولده، مع أنه في تلك الحالة لم يكن ممن يفهم الخطاب لوجهين: أحدهما: صغره. والثاني: نزاعه.

وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين إشارةً إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق.

وفيه جواز الاعتراض على مَن خالف فعلُه ظاهرَ قوله؛ ليظهر الفرق.

وحكى ابنُ التين قول مَن قال: إن فيه دليلًا على تقبيل الميت وشمِّه. وردَّه بأن القصة إنما وقعت قبل الموت، وهو كما قال.

قوله: "رواه موسى" هو ابن إسماعيل التَّبوذكي، وطريقه هذه وصلها البيهقي في "الدلائل" من طريق تمتام -وهو بمثناتين- لقب محمد بن غالب البغدادي الحافظ عنه، وفي سياقه ما ليس في سياق قريش بن حيان، وإنما أراد البخاري أصل الحديث.

الشيخ: ما ذكر رحمه الله أسباب دفعه لامرأة أبي سيفٍ لإرضاعه: لماذا لم تُرضعه مارية أمه؟! لعل الأسباب: أن إرضاعه يشغلها عن النبي ﷺ وتمتعه بها، وأنه لا بأس بكون الطفل يُنزع من أمه ويُعطى مرضعةً، لا حرجَ في ذلك؛ لتفرغ الأم لحاجة زوجها ومصلحة زوجها وبيتها، لا حرج؛ لأنه ما ذكر هنا السر في عدم إرضاع مارية ابنها، وأنه دفعه إلى امرأة أبي سيفٍ، يدلّ ذلك على أنه لا بأس أن يدفع الزوجُ ولدَه إلى مَن يُرضعه من أول ما يأتي: إما لأن أمه ليس فيها لبنٌ، أو لأنه أراد بها أن تكون مُهيَّأةً له، فارغةً له، أو لأسبابٍ أخرى.

وفيه من الفوائد: التَّسمية في أول يومٍ، قال: وُلِدَ لي الليلة ولدٌ، وسمّيته باسم أبي إبراهيم دلَّ على أنه لا بأس أن يُسمَّى في اليوم الأول، هو سنة، وفي السابع سنة، كما في حديث سمرة: يُحْلَق ويُسَمَّى، فإذا سُمِّي في أول يومٍ، أو في اليوم السابع، كله سنة.

وفيه من الفوائد -كما تقدّم-: تواضع النبي ﷺ؛ كونه زاره عند أبي سيفٍ، وهو حداد، ودخل عليه في محلِّه وفيه الدخان، فيه الكِير، لم يتكبر عن ذلك عليه الصلاة والسلام، فدلّ على تواضعه ﷺ، ومحبّته للأطفال الصِّغار، وعيادة المريض الصغير، وزيارة ابنه الصغير الرضيع في محلِّ أمِّه، أو في محل مُرضعه.

كل هذه من أخلاقه الكريمة عليه الصلاة والسلام، وهي تدلّ على فضل هذه الأشياء، وأنه ينبغي للمؤمن أن يكون مُتواضعًا مع أولاده، ومع أطفاله، ويحرص على زيارة المريض وعيادته، وإن كان الزائر كبيرًا: كالملك، ورئيس الجمهورية، والوزير الكبير، والعالم الكبير، فكونه يزور طفله الصغير أو المريض الذي دونه ويعوده كلّ هذا من أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا من التواضع، ومن إظهار السنن.

والفائدة الأخرى تقدَّمت: وهي كون الإنسان تدمع عينه، لا بأس، يحزن، ولكن لا يتكلم إلا بالخير، مثلما قال ﷺ: العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي الربّ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.

فهذه القصة وما أشبهها فيها فوائد كثيرة مثلما قال الشارح رحمه الله.

س: كون إبراهيم له مرضعٌ في الجنة هل يعني هذا أنه سيدخل أقلّ من ثلاثٍ وثلاثين سنة؟

ج: يحتمل -والله أعلم- أن المراد في الوقت الحاضر؛ لأن الروح إلى الجنة، أما يوم القيامة فكل الأطفال يكونون رجالًا كبارًا. نعم.

س: ما صحّة زيادة حديث عبدالرحمن: إنما نُهيتُ عن صوتين فاجرين؟

ج: ما أعرف حال سنده.

............

س: هل دفع الرضيع إلى مرضعةٍ من السنة؟

ج: لا، قُصاراه أنه مباح؛ لأنَّ إرضاع أمه أولى، هذا هو الأصل: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ [البقرة:233]، هذا الأصل، لكن يجوز دفعه إلى غير أمه لمصلحةٍ، أو لعذرٍ. نعم.

س: هل تُشرع الصلاة عند المصيبة؟

ج: نعم، لا بأس؛ لقوله جلَّ وعلا: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [البقرة:45]، وفي الحديث الصحيح: "كان النبي إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة"، فبعض الناس قد يشقّ عليه تحمّلها فيُصلي ركعتين ويسأل ربَّه أن يُعينه على تحمّلها. نعم.

س: ولو كانت في وقت نهيٍ؟

ج: محل نظرٍ، يمكن تأخيرها إلى وقت .....

س: تقبيل الميت؟

ج: لا بأس به، فالصديق قبَّل النبي بعد وفاته عليه الصلاة والسلام. نعم.

باب البكاء عند المريض

1304- حدثنا أصبغ، عن ابن وهبٍ قال: أخبرني عمرو، عن سعيد بن الحارث الأنصاري، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: اشتكى سعد بن عُبادة شكوى له، فأتاه النبي ﷺ يعوده مع عبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، وعبدالله بن مسعودٍ ، فلما دخل عليه فوجده في غاشِيَة أهله، فقال: قد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله. فبكى النبي ﷺ، فلما رأى القومُ بُكاءَ النبي ﷺ بَكَوا، فقال: ألا تسمعون، إنَّ الله لا يُعذِّب بدمع العين، ولا بحُزن القلب، ولكن يُعذِّب بهذا -وأشار إلى لسانه- أو يَرحم، وإنَّ الميِّت يُعذَّب ببكاء أهله عليه.

وكان عمر يضرب فيه بالعصا، ويرمي بالحجارة، ويحثي بالتُّراب.

الشيخ: والمراد بالبكاء الذي يجوز: دمع العين، والبكاء الذي يُمنع: النياحة ورفع الصوت؛ لأنها كلمة مشتركة كما تقدم.

س: رفع الصوت يسيرًا مع الدمع؟

ج: الله أعلم، نعم، لعله يُعفا عن الشيء اليسير، لعله يُعفا عنه، ما يُسمّى: نوحًا، نعم، كما وقع لفاطمة وغيرها. نعم.

باب ما يُنهى من النَّوح والبكاء والزَّجر عن ذلك

1305- حدثنا محمد بن عبدالله بن حَوْشَبٍ: حدثنا عبدالوهاب: حدثنا يحيى بن سعيدٍ، قال: أخبرتني عَمْرَةُ، قالت: سمعتُ عائشة رضي الله عنها تقول: لما جاء قتلُ زيد بن حارثة، وجعفرٍ، وعبدالله بن رواحة جلس النبي ﷺ يُعرف فيه الحزنُ، وأنا أطَّلِعُ من شَقِّ الباب، فأتاه رجلٌ فقال: يا رسول الله، إن نساء جعفرٍ. وذكر بُكاءَهنَّ، فأمره بأن ينهاهُنَّ، فذهب الرجل، ثم أتى، فقال: قد نَهَيْتُهُنَّ. وذكر أنهنَّ لم يُطِعْنَه، فأمره الثَّانية أن ينهاهُنَّ، فذهب، ثم أتى، فقال: والله لقد غَلَبْنَنِي -أو غَلَبْنَنَا، الشك من محمد بن حَوْشَبٍ-، فزعمتْ أن النبي ﷺ قال: فَاحْثُ في أفواههنَّ الترابَ، فقلتُ: أَرْغَمَ الله أنفَك، فوالله ما أنت بفاعلٍ، وما تركتَ رسول الله ﷺ من العَنَاءِ.

الشيخ: تقدّم. نعم.

1306- حدثنا عبدالله بن عبدالوهاب: حدثنا حمَّاد بن زيدٍ: حدثنا أيوب، عن محمدٍ، عن أم عطيةَ رضي الله عنها قالت: أخذ علينا النبي ﷺ عند البَيْعَةِ ألا نَنُوحَ، فما وَفَتْ منَّا امرأةٌ غير خمس نسوةٍ.

الشيخ: يعني: نُحْنَ؛ لأنه يغلب على قلّة الصبر؛ ولهذا وقع النوح والصُّبَّر قليلٌ.

قالت: أخذ علينا النبي ﷺ عند البيعة ألا نَنُوحَ، فما وَفَتْ منَّا امرأةٌ غيرَ خمسِ نسوةٍ: أمِّ سُليمٍ، وأمِّ العلاء، وابنة أبي سَبْرَةَ امرأة معاذٍ، وامرأتين -أو ابنة أبي سَبْرَةَ، وامرأة معاذٍ، وامرأةٍ أخرى.

الشيخ: بركة.