قال ابن إسحاق: فحدَّثني مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ تَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَالْمُسْلِمُونَ، قَالَ: وَلَقِيَهُمُ الصِّبْيَانُ يَشْتَدُّونَ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُقْبِلٌ مَعَ الْقَوْمِ عَلَى دَابَّةٍ، فَقَالَ: خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر، فأُتي بعبدالله بن جعفر فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: وَجَعَلَ النَّاسُ يَحْثُونَ عَلَى الْجَيْشِ التُّرَابَ، وَيَقُولُونَ: يَا فُرَّارُ، فَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ! قَالَ: فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَيْسُوا بِالْفُرَّارِ، وَلَكِنَّهُمُ الْكُرَّارُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهَذَا مُرْسَلٌ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ: حدَّثَنَا عاصم، عن مُورق الْعِجْلِيِّ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا قدم من سفرٍ تلقَّى الصبيان مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَإِنَّهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَسُبِقَ بِي إِلَيْهِ، قَالَ: فَحَمَلَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، ثم قال: جيء بأحد بني فَاطِمَةَ -إِمَّا حَسَنٌ وَإِمَّا حُسَيْنٌ- فَأَرْدَفَهُ خَلْفَهُ، فَدَخَلْنَا الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةً عَلَى دَابَّةٍ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حديث عاصم الأحول، عن مورق، بِهِ.
الشيخ:
وهذا يدل على تواضعه ﷺ وحُسن خلقه، ورأفته بالصبيان، ورحمته ولطفه بهم عليه الصلاة والسلام، هكذا ينبغي لأهل الفضل والعلم أن يكونوا متواضعين، كان يتلقَّى الصبيان إذا قدم من السفر، فسُبق إليه بعبدالله بن جعفر، فجعله بين يديه على دابته، ثم جيء بأحد ابني فاطمة: الحسن أو الحسين، فجعله خلفه، صاروا ثلاثةً على الدابة، فدلَّ على حُسن خلقه ﷺ وتواضعه، وأنه ينبغي للمؤمن هذا الخلق مع الأطفال ومع الأقارب، وأنه لا بأس بالإرداف على الدابة، ولا بأس أن يركبها ثلاثة إذا كانت تطيق ذلك، وأنَّ هذا من باب التَّواضع، ومن باب حُسن الخلق والرأفة بالصبيان والرحمة لهم، هكذا كان خلقه عليه الصلاة والسلام، كان أحسن الناس خلقًا عليه الصلاة والسلام.
الشيخ: في نسخةٍ: أعلم بالخير.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي "الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ" مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهِ.
وَهَذَا كَانَ بَعْدَ الْفَتْحِ، فَإِنَّ الْعَبَّاسَ إِنَّمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حدثَنَا إِسْمَاعِيلُ: حدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ لِابْنِ الزُّبَيْرِ: أَتَذْكُرُ إِذْ تَلَقَّيْنَا رَسُول اللَّهِ ﷺ أَنَا وَأَنْتَ وَابْنُ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَمَلَنَا وَتَرَكَكَ.
وَبِهَذَا اللَّفْظِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، وَهَذَا يُعَدُّ مِنَ الْأَجْوِبَةِ الْمُسْكِتَةِ.
وَيُرْوَى أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَجَابَ بِهِ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَيْضًا، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ قِصَّةٌ أُخْرَى كَانَتْ بَعْدَ الْفَتْحِ كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ، وَاللَّهُ أعلم.
فَصْلٌ فِي فَضْلِ هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءِ الثَّلَاثَةِ
أَمَّا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عامر بن النُّعمان بن عامر بن عبد ودّ بْنِ عَوْفِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ زَيْدِ اللَّاتِ بْنِ رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن ثعلب بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ الْكَلْبِيُّ الْقُضَاعِيُّ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَذَلِكَ أنَّ أُمَّهُ ذَهَبَتْ تزور أهلها، فأغارت عليهم خيلٌ فَأَخَذُوهُ، فَاشْتَرَاهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وَقِيلَ: اشْتَرَاهُ رَسُول اللَّهِ ﷺ لَهَا، فَوَهَبَتْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، فَوَجَدَهُ أَبُوهُ، فَاخْتَارَ الْمُقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَعْتَقَهُ وَتَبَنَّاهُ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمَوَالِي، وَنَزَلَ فِيهِ آيَات مِنَ الْقُرْآنِ: مِنْهَا قَوْلُهُ تعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [الأحزاب:4]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:5]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ [الأحزاب:40]، وَقَوْلُهُ: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا الْآيَةَ [الأحزاب:37].
أَجْمَعُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ أُنْزِلَتْ فِيهِ، وَمَعْنَى أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَيْ: بِالْإِسْلَامِ، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَيْ: بِالْعِتْقِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي التَّفْسِيرِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُسَمِّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَهُ، وَهَدَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَعْتَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَزَوَّجَهُ مَوْلَاتَهُ أُمَّ أَيْمَنَ، وَاسْمُهَا: بَرَكَةُ، فَوَلَدَتْ لَهُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: الْحِبُّ بْنُ الْحِبِّ، ثُمَّ زَوَّجَهُ بِابْنَةِ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَآخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمِّهِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَدَّمَهُ فِي الْإِمْرَةِ عَلَى ابْنِ عَمِّهِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ مُؤْتَةَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ -وَهَذَا لَفْظُهُ: حدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ وَائِلِ بْنِ دَاوُدَ: سَمِعْتُ الْبَهِيَّ يُحَدِّثُ أنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقُولُ: مَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فِي سَرِيَّةٍ إِلَّا أمَّره عليهم، ولو بقي بعد لاستخلفه. ورواه النَّسائي عن أحمد بن سلمان، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيِّ بِهِ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حدَّثنا سليمان: حدَّثنا إسماعيل: أَخْبَرَنا ابْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بعث بَعْثًا وأمَّر عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاس فِي إِمْرَتِهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمْرَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمْرَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ.
وَأَخْرَجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عن قتيبة، عن إسماعيل -هُوَ ابْنُ جَعْفَرِ ابْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْمَدَنِيّ- عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَذَكَرَهُ.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ.
وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ اسْتَغْرَبَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حدَّثَنَا عمر بن إسماعيل، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا أُصِيبَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ جيء بأسامة بن زيد وأُوقف بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأُخِّرَ، ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أُلَاقِي مِنْكَ الْيَوْمَ مَا لَقِيتُ مِنْكَ أَمْس. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ غَرَابَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الشيخ: مجالد ضعيف، السند ضعيف.
الشيخ: يعني المصيبة عظيمة، كونه يبكي على الثلاثة لا شكَّ أنها مصيبة عظيمة، قتل الثلاثة: زيد وجعفر وعبدالله لا شكَّ، وفيه الدلالة على أنه لا بأس بالبكاء بدمع العين، إنما المنكر هو النياحة، أما كونه تدمع عيناه على قريبه ونحوه فهذا لا بأس به؛ ولهذا قال ﷺ لما مات ابنه إبراهيم: العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي الربّ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون، فكون الإنسان تدمع عينه ويحزن قلبه عند موت قريبه أو صديقه وحبيبه في الله لا حرج في هذا.
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: أَنَّهُ شَهِدَ لَهُمْ بِالشَّهَادَةِ، فَهُمْ مِمَّنْ يُقْطَعُ لَهُ بِالْجَنَّةِ.
وَقَدْ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَرْثِي زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَابْنَ رَوَاحَةَ:
عَيْنُ جُودِي بِدَمْعِكِ الْمَنْزُورِ | وَاذْكُرِي فِي الرَّخَاءِ أَهْلَ الْقُبُورِ |
وَاذْكُرِي مُؤْتَةَ وَمَا كَانَ فِيهَا | يَوْمَ رَاحُوا فِي وَقْعَةِ التَّغْوِيرِ |
حِينَ رَاحُوا وَغَادَرُوا ثَمَّ زَيْدًا | نِعْمَ مَأْوَى الضَّرِيكِ وَالْمَأْسُورِ |
حِبَّ خَيْرِ الْأَنَامِ طُرًّا جَمِيعًا | سَيِّدِ النَّاسِ حُبُّهُ فِي الصُّدُورِ |
ذَاكُمُ أَحْمَدُ الَّذِي لَا سِوَاهُ | ذَاكَ حُزْنِي لَهُ مَعًا وَسُرُورِي |
إنَّ زَيْدًا قَدْ كَانَ مِنَّا بِأَمْرٍ | لَيْسَ أَمْرَ الْمُكَذَّبِ الْمَغْرُورِ |
ثُمَّ جُودِي لِلْخَزْرَجِيِّ بِدَمْعٍ | سَيِّدًا كَانَ ثَمَّ غَيْرَ نَزُورِ |
قَدْ أَتَانَا مِنْ قَتْلِهِمْ مَا كَفَانَا | فَبِحُزْنٍ نَبِيتُ غَيْرَ سُرُورِ |
وَأَمَّا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ فَهُوَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ أَخِيهِ عَلِيٍّ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ عقيل.
الشيخ: عقيل بن أبي طالب أخوه يعني.
وكان عُقيل.
الشيخ: عُقيل! عَقيل -بفتح العين.
الطالب: كلها مضمومة، بالضمِّ؟
الشيخ: لا، غلط، هذاك عقيل غير هذا الراوي عن الزهري: عُقيل بن خالد، أما هذا عَقيل بن أبي طالب بالفتح، أما عُقيل بن خالد فشخص آخر.
الشيخ: يعني: بينهم عشر، عشر، طالب أكبرهم، ثم يليه عقيل، ثم يلي عقيل جعفر، ثم يلي جعفر علي، عليّ أصغرهم، وبين كل واحدٍ والآخر عشر سنين، وطالب مات على الكفر، مات على دين قومه، أما عقيل وجعفر وعلي فأسلموا .
أَسْلَمَ جَعْفَرٌ قَدِيمًا، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وكانت له هناك مَوَاقِفُ مَشْهُورَةٌ، وَمَقَامَاتٌ مَحْمُودَةٌ، وَأَجْوِبَةٌ سَدِيدَةٌ، وَأَحْوَالٌ رَشِيدَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَقَدْ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: ما أدري أنا بأيِّهما أُسَرُّ: أَبِقُدُومِ جَعْفَرٍ أَمْ بِفَتْحِ خَيْبَرَ؟ وَقَامَ إِلَيْهِ وَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ لَهُ يَوْمَ خَرَجُوا مِنْ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ: أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي، فَيُقَالُ: إِنَّهُ حَجَلَ عِنْدَ ذَلِكَ فَرَحًا كما تقدم فِي مَوْضِعِهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَلَمَّا بَعَثَهُ إلى مُؤتة جعل في الإمرة مُصليًا -أي نائبًا- لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَلَمَّا قُتِلَ وَجَدُوا فِيهِ بِضْعًا وَتِسْعِينَ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ وَطَعْنَةٍ بِرُمْحٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُقبل غير مُدبر، وكانت قد طعنت يده اليُمنى ثم اليُسرى وهو مُمسك للواء، فَلَمَّا فَقَدَهُمَا احْتَضَنَهُ حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ كَذَلِكَ.
فَيُقَالُ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الرُّومِ ضَرَبَهُ بِسَيْفٍ فَقَطَعَهُ بِاثْنَتَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ جَعْفَرٍ، وَلَعَنَ قَاتِلَهُ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِأَنَّهُ شَهِيدٌ، فَهُوَ مِمَّنْ يُقطع له بالجنَّة.
وجاء بالأحاديث تَسْمِيَتُهُ بِذِي الْجَنَاحَيْنِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَلَّمَ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ ذِي الْجَنَاحَيْنِ، وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نَفْسِهِ، وَالصَّحِيحُ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
قَالُوا: لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَوَّضَهُ عَنْ يَدَيْهِ بِجَنَاحَيْنِ فِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ.
قَال الْحَافِظُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ: حدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ ﷺ: رَأَيْتُ جَعْفَرًا يَطِيرُ فِي الْجَنَّةِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ قُتِلَ وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وثلاثين سَنَةً.
وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي "الْغَابَةِ": كَانَ عمره يوم قُتل إحدى وأربعين، قَالَ: وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَعَلَى مَا قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ أَسَنَّ مِنْ عَلِيٍّ بِعَشْرِ سِنِينَ يَقْتَضِي أَنَّ عُمْرَهُ يَوْمَ قُتِلَ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً؛ لِأَنَّ عَلِيًّا أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَهَاجَرَ وَعُمْرُهُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَيَوْم مُؤْتَةَ كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَ يُقَالُ لِجَعْفَرٍ بَعْدَ قَتْلِهِ: الطَّيَّارُ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَكَانَ كَرِيمًا جوادًا ممدوحًا، وكان لكرمه يُقال له: أبا المساكين؛ لإحسانه إليهم.
قال الإمام أحمد: وحدثنا عفان بن وُهَيْب: حدثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا احْتَذَى النِّعَالَ وَلَا انْتَعَلَ، وَلَا رَكِبَ الْمَطَايَا، وَلَا لَبِسَ الثِّيَابَ مِنْ رَجُلٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَفْضَلَ مِنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا يُفَضِّلُهُ فِي الْكَرَمِ، فَأَمَّا فِي الْفَضِيلَةِ الدِّينِيَّةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّدِّيقَ وَالْفَارُوقَ بَلْ وَعُثْمَانَ بن عفان أفضل منه، وَأَمَّا أَخُوهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مُتَكَافِئَانِ، أَوْ عَلِيٌّ أَفْضَلُ مِنْهُ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ تَفْضِيلَهُ فِي الْكَرَمِ، بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: حدثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: حدثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ أَبُو عَبْدِاللَّهِ الْجُهَنِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَإِنِّي كُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بشبع بطني خبز، لَا آكُلُ الْخَمِيرَ، وَلَا أَلْبَسُ الْحَرِيرَ، وَلَا يَخْدُمُنِي فُلَانٌ وَفُلَانَةُ، وَكُنْتُ أُلْصِقُ بَطْنِي بِالْحَصْبَاءِ من الجوع، وإن كُنْتُ لَأَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الْآيَةَ هِيَ مَعِي كَيْ يَنْقَلِبَ بِي فَيُطْعِمَنِي، وَكَانَ خَيْرَ النَّاسِ لِلْمَسَاكِينِ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ يَنْقَلِبُ بِنَا فَيُطْعِمُنَا مَا كَانَ فِي بَيْتِهِ، حتَّى إِنْ كَانَ لَيُخْرِجُ إِلَيْنَا الْعُكَّةَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شيء فَنَشُقُّهَا فَنَلْعَقُ مَا فِيهَا. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَرْثِي جَعْفَرًا:
وَلَقَدْ بَكَيْتُ وَعَزَّ مَهْلِكُ جَعْفَرٍ | حِبِّ النَّبِيِّ عَلَى الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا |
وَلَقَدْ جَزِعْتُ وَقُلْتُ حِينَ نُعِيتَ لِي | مَنْ لِلْجِلَادِ لَدَى الْعُقَابِ وَظِلِّهَا |
بِالْبِيضِ حِينَ تُسَلُّ مِنْ أَغْمَادِهَا | ضَرْبًا وَإِنْهَالِ الرِّمَاحِ وَعَلِّهَا |
بَعْدَ ابْنِ فَاطِمَةَ الْمُبَارَكِ جَعْفَرٍ | خَيْرِ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا وَأَجَلِّهَا |
رُزْءًا وَأَكْرَمِهَا جَمِيعًا مَحْتِدًا | وَأَعَزِّهَا مُتَظَلِّمًا وَأَذَلِّهَا |
لِلْحَقِّ حِينَ يَنُوبُ غَيْرَ تَنَحُّلٍ | كَذِبًا وَأَنْدَاهَا يَدًا وَأَقَلِّهَا |
فُحْشًا وَأَكْثَرِهَا إذا ما يُجتدى | فضلًا وأنداها يدًا وأبلّها |
بالعرف غير محمدٍ لا مثله | حَيٌّ مِنَ احْيَاءِ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا |
وَأَمَّا ابْنُ رَوَاحَةَ: فَهُوَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ الْأَكْبَرِ ابْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَغَرِّ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ جعفر بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَيُقَالُ: أَبُو رَوَاحَةَ، وَيُقَالُ: أَبُو عَمْرٍو، الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، وَهُوَ خَالُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أُخْتُهُ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ.
أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَكَانَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ لَيْلَتَئِذٍ لِبَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وأُحدًا وَالْخَنْدَقَ وَالْحُدَيْبِيَةَ وَخَيْبَرَ -وَكَانَ يَبْعَثُهُ عَلَى خَرْصِهَا كَمَا قَدَّمْنَا- وَشَهِدَ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَدَخَلَ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ مُمْسِكٌ بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقِيلَ: بِغَرْزِهَا -يَعْنِي الرِّكَابَ- وَهُوَ يَقُولُ: خَلُّوا بَنِي الكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ. الْأَبْيَات كَمَا تَقَدَّمَ.
وَكَانَ أَحَدَ الْأُمَرَاءِ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ مُؤْتَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ شجع المسلمين للقاء الرُّومِ حِينَ اشْتَوَرُوا فِي ذَلِكَ، وَشَجَّعَ نَفْسَهُ أَيْضًا حَتَّى نَزَلَ بَعْدَمَا قُتِلَ صَاحِبَاهُ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالشَّهَادَةِ، فَهُوَ مِمَّنْ يُقْطَعُ لَهُ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ.
وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا أَنْشَدَ النَّبِيَّ ﷺ شِعْرَهُ حِينَ وَدَّعَهُ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ:
فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حسنٍ | تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا |
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَأَنْتَ فَثَبَّتَكَ اللَّهُ، قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: فَثَبَّتَهُ اللَّهُ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا وَدَخَلَ الْجَنَّةَ.
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى: أَنَّ عَبْدَالله بن رَوَاحَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يَخْطُبُ، فَسَمِعَهُ يَقُولُ: اجْلِسُوا، فَجَلَسَ مكانه خارجًا من المسجد حتى فرغ الناسُ مِنْ خُطْبَتِهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبيَّ ﷺ فَقَالَ: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا عَلَى طَوَاعِيَةِ اللَّهِ وَطَوَاعِيَةِ رَسُولِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحيحِهِ": وَقَالَ مُعَاذٌ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً.
وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ فِي ذَلِكَ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ بِنَحْوِ ذَلِكَ.
فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُالصَّمَدِ، عَنْ عِمَارَةَ، عن زياد النَّحوي، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِذَا لَقِيَ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ: تَعَالَ نُؤْمِنْ بِرَبِّنَا سَاعَةً، فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِرَجُلٍ، فَغَضِبَ الرَّجُلُ، فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَرَى ابْنَ رَوَاحَةَ؟ يَرْغَبُ عَنْ إِيمَانِكَ إِلَى إِيمَانِ سَاعَةٍ! فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: رحم اللَّهُ ابْنَ رَوَاحَةَ؛ إِنَّهُ يُحِبُّ الْمَجَالِسَ الَّتِي تَتَبَاهَى بِهَا الْمَلَائِكَةُ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
الشيخ: ومعنى "لنؤمن ساعة" معناه: لنزداد إيمانًا، يعني: اجلس نتذاكر في ديننا، ونذكر ربنا، كلما جلس المؤمنُ مع أخيه للمُذاكرة والتَّعاون والتَّواصي صار هذا من زيادة الإيمان، وهذا مثلما جاء عن معاذٍ أيضًا: "نؤمن ساعة" يعني: نزداد إيمانًا، ما هو معناه: إيمان جديد، أنهم كفار قبل، لا، المقصود نؤمن يعني: نزدد إيمانًا.
الشيخ: هذا تفسيرها، هذا الأثر تفسير ما تقدَّم.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ: أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ كَانَ يَأْخُذُ بِيَدِ الرَّجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَقُولُ: قُمْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً، فَنَجْلِسُ فِي مَجْلِسِ ذِكْرٍ.
وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَفَرٍ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ .
وَقَدْ كَانَ مِنْ شُعَرَاءِ الصَّحَابَةِ المشهورين، ومما نقله البخاري من شعره فِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ:
وفينا رسول الله نتلوا كِتَابَهُ | إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الْفَجْرِ سَاطِعُ |
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ | إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ |
أَتَى بِالْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا | بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ |
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ: حدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِاللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي: وَا جَبَلَاهُ، وَا كَذَا، وَا كَذَا، تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلَّا قِيلَ لِي: أنتَ كذلك؟
حدَّثنا قتيبة: حدَّثنا خيثمة، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِاللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، بِهَذَا. فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا رَثَاهُ بِهِ حَسَّانُ بْنُ ثابتٍ مع غيره.
وقال شاعرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ رَجَعَ مِنْ مُؤْتَةَ مَعَ مَنْ رَجَعَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ:
كَفَى حَزَنًا أَنِّي رَجَعْتُ وَجَعْفَرٌ | وَزَيْدٌ وَعَبْدُاللَّهِ فِي رَمْسِ أقبُر |
قَضَوْا نَحْبَهُمْ لَمَّا مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ | وخلفت للبلوى مع المُتغير |
وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَقِيَّةُ مَا رُثي به هؤلاء الأمراء الثلاث مِنْ شِعْرِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَكَعْبِ بْنِ مالكٍ رضي الله عنهما وأرضاهما.