وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف:34- 36].
يَقُولُ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَيْ: قَرْنٍ وَجِيلٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ أَيْ: مِيقَاتُهُمُ الْمُقَدَّرُ لَهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ.
ثُمَّ أَنْذَرَ تَعَالَى بَنِي آدَمَ أنَّه سَيَبْعَثُ إِلَيْهِمْ رُسُلًا يَقُصُّونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَبَشَّرَ وَحَذَّرَ، فَقَالَ: فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ أَيْ: تَرَكَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَفَعَلَ الطَّاعَاتِ، فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أَيْ: كَذَّبَتْ بِهَا قُلُوبُهُمْ، وَاسْتَكْبَرُوا عَنِ الْعَمَلِ بِهَا، أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أَيْ: مَاكِثُونَ فيها مكثًا مخلَّدًا.
الشيخ: وهذا فيه التَّحذير والإنذار لهذه الأُمَّة أن يُصيبها ما أصاب مَن قبلها، كل أمةٍ لها أجلٌ، إذا جاء أجلُها المقدَّر لها قُضي عليها، كما جرى لأُمَّة نوحٍ، وأمة هود، وأمة صالح، وأمة شعيب، وأمة لوط، وغيرهم من الأمم التي أُهلكت بذنوبها وكفرها.
ثم يقول جلَّ وعلا: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي، إمَّا يعني: إن يأتكم، ما صلة، فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ يعني: اتَّقى غضبَ الله، واتَّقى عقابَه بطاعته، والاستقامة على دينه، فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
وهذا من فضله وإحسانه جلَّ وعلا: أنَّ مَن اتَّقاه وأصلح في العمل وراقبه جلَّ وعلا؛ فإنَّ الله جلَّ وعلا يُوفيه أجوره كاملة، ولا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، بل هو في نعيمٍ وخيرٍ، لا يحزن على ما مضى، ولا يخاف مما يستقبل، بل له الأمن الكامل: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يعني: بقلوبهم وألسنتهم، لا بالقلوب وحدها، بل بالقلوب والألسنة، فإنَّ القلوبَ ما يعلمها إلا الله، ولكن الألسنة تُعبر عمَّا في القلوب وتُبين، فمَن كذب بالحقِّ واستكبر عن اتِّباعه هذا هو الهالك، وهو الذي يُخلد في النار؛ لكفره وضلاله، واستكباره عن الحقِّ، كما جرى من غالب الأمم: استكبروا عن طاعة الرسل، وقتلوا، أو كذَّبوا ولم يقتلوا، فالله جلَّ وعلا أعدَّ لهم عذابه وبئس المصير: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف:76]، فالمعنى: يا أمة محمد، احذروا أن يُصيبكم ما أصاب مَن قبلكم، واحذروا أن تفعلوا فعل مَن قبلكم من التَّكذيب والاستكبار عن الحقِّ فتهلكوا كمَن هلك.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأعراف:37].
يقول: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ، أَوْ كَذَّبَ بآياته الْمُنَزَّلَةِ، أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ؛ فَقَالَ الْعَوْفِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَنَالُهُمْ مَا كُتِبَ عَلَيْهِمْ، وَكُتِبَ لِمَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ أَنَّ وَجْهَهُ مُسْوَدٌّ.
وَقَالَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: نَصِيبُهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَنْ عَمِلَ خَيْرًا جُزِيَ بِهِ، وَمَنْ عَمِلَ شَرًّا جُزِيَ بِهِ.
وَقَالَ مجاهدٌ: ما وعدوا به مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ قال: عمله ورزقه وَعُمُرُهُ. وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوِيٌّ فِي الْمَعْنَى، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قوله: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ، ونظير المعنى في هذه الآية كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس:69- 70]، وَقَوْله: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا الآية [لقمان:23- 24].
وقوله: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ الْآيَةَ.
الشيخ: وهذا أظهر في المعنى، مَن كذَّب بآيات الله وافترى على الله الكذب يناله ما كتب اللهُ له في هذه الدَّار، ثم يُوفى جزاءه بعد ذلك في الآخرة، له ما كتب اللهُ له في الدنيا من رزقٍ وأجلٍ وأيامٍ معدوداتٍ، ثم ينتهي إلى ما قدّر له في الجزاء الموجع المهلك بسبب تكذيبه وظلمه، وقد يملى ويُمهل كثيرًا، كما قال جلَّ وعلا: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183]، وقال سبحانه: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42]، فقد يَكذب ويُكذب ويظلم ويُملى له.
فلا ينبغي للعاقل أن يغترَّ بإملاء الله لمن أُملي له من الظَّلمة والكفرة، وهو سبحانه أعلم وأحكم: سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:182- 183]، كلٌّ يرجع إلى ما كُتب له، وقُدِّر له، فمَن قُدِّر له الإملاء والإمهال أُمْهِلَ، ومَن سبق في علم الله له تعجيل العقوبة عُجِّلت له العقوبة، نسأل الله العافية.