الشيخ: وهذه دعوة الرسل من أوَّلهم إلى آخرهم، دعوتهم للنَّاس أن يعبدوا الله وحده دون كلِّ ما سواه، قد كان الناسُ على التَّوحيد في عهد آدم، وبعده عشرة قرون، حتى جاء عهدُ نوحٍ، عهد قوم نوحٍ وقع فيهم الشِّرك لما غلوا في ودّ وسُواع ويغوث ويعوق ونسرًا، صوَّرهم قومُهم لتذكر أعمالهم الصَّالحة، كانوا قومًا صالحين، صوَّروهم ليتذكَّروهم، ثم زيَّن الشَّيطانُ لهم في آخر الوقت أو لمن جاء بعدهم حتى عبدوهم من دون الله، ثم استمرَّ الشِّركُ في الناس، كل واحدةٍ تقول: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]، فأهلك اللهُ قومَ نوحٍ، وقومَ هودٍ، وقومَ صالحٍ، وقومَ شعيبٍ، وقوم لوطٍ، كلّهم بأسباب كفرهم وشركهم.
وهكذا أهلك اللهُ الأممَ من بعدهم بهذا الذَّنب العظيم، وختم اللهُ أنبياءَه ورسلَه بمحمدٍ ﷺ، وأخبره في كتابه العظيم أنَّ الرسلَ دعوا إلى هذا التَّوحيد: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]، وهذا هو أصل الدِّين، وأساس الملَّة، وأعظم الواجبات، وأعظم الفروض، والشِّرك هو أعظم السَّيئات، وأكبر الجرائم، ثم بعد ذلك أداء فرائض الله، وترك محارم الله.
على الموحِّد أن يُؤدي ما فرض اللهُ عليه، وأن يدع ما حرَّم الله عليه، وأن يقف عند حدود الله حتى يلقى ربَّه، وعليه أن يأمر في ذلك وينهى، ويُوالي ويُعادي ما دام في قيد الحياة؛ ولهذا خُلِقَ، لهذا الأمر خُلِقَ: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]؛ لهذا خُلِقَ، وبه أُمِرَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]؛ فلهذه العبادة خُلِقَ الناس، وبها أُمِرُوا.
الشيخ: وبراء يعني: ذات وبرٍ.
يَتَحَرَّكُ جَنِينُهَا بَيْنَ جنبيها كما سألوا، فعند ذلك آمن رئيسُهم جُنْدَعُ بْنُ عَمْرٍو وَمَنْ كَانَ مَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ، وَأَرَادَ بَقِيَّةُ أَشْرَافِ ثَمُودَ أَنْ يُؤْمِنُوا فَصَدَّهُمْ ذُؤَابُ بْنُ عَمْرِو بْنِ لَبِيدٍ، وَالْحُبَابُ صَاحِبُ أَوْثَانِهِمْ، وَرَبَابُ بْنُ صَمْعَرَ بْنِ جَلْهَسَ، وَكَانَ لِجُنْدَعِ بْنِ عَمْرٍو ابْنُ عَمٍّ يُقَالُ له: شهاب بن خليفة بن مخلاة بن لبيد بن جواس، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ ثَمُودَ وَأَفَاضِلِهَا، فَأَرَادَ أَنْ يُسْلِمَ أَيْضًا فَنَهَاهُ أُولَئِكَ الرَّهْطُ فَأَطَاعَهُمْ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ مُؤْمِنِي ثَمُودَ يُقَالُ له: مهوش بن عثمة بن الدّميل رحمه الله: [الوافر]
وَكَانَتْ عُصْبَةٌ مِنْ آلِ عَمْرٍو | إِلَى دِينِ النَّبِيِّ دَعَوْا شِهَابَا |
عَزِيزَ ثَمُودَ كُلَّهُمُ جَمِيعًا | فَهَمَّ بِأَنْ يُجِيبَ فَلَوْ أَجَابَا |
لَأَصْبَحَ صَالِحٌ فِينَا عَزِيزًا | وَمَا عَدَلُوا بِصَاحِبِهِمْ ذُؤَابَا |
وَلَكِنَّ الْغُوَاةَ مِن آلِ حُجْرٍ | تَوَلَّوْا بَعْدَ رُشْدِهِمُ ذئابا |
وأقامت النَّاقَةُ وَفَصِيلُهَا بَعْدَمَا وَضَعَتْهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مدّةً، تشرب من بِئْرِهَا يَوْمًا، وَتَدَعُهُ لَهُمْ يَوْمًا، وَكَانُوا يَشْرَبُونَ لبنَها يوم شُربها، يحتلبونها فيملئون ما شاءوا مِنْ أَوْعِيَتِهِمْ وَأَوَانِيهِمْ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [القمر:28]، وَقَالَ تَعَالَى: هذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء:155].
وكانت تسرح في بعض تلك الأودية، تَرِدُ مِنْ فَجٍّ، وَتَصْدُرُ مِنْ غَيْرِهِ لِيَسَعَهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَتَضَلَّعُ مِنَ الْمَاءِ، وَكَانَتْ عَلَى مَا ذُكِرَ خَلْقًا هَائِلًا، وَمَنْظَرًا رَائِعًا، إِذَا مَرَّتْ بِأَنْعَامِهِمْ نَفَرَتْ مِنْهَا، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمْ ذلك وَاشْتَدَّ تَكْذِيبُهُمْ لِصَالِحٍ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَزَمُوا عَلَى قَتْلِهَا؛ لِيَسْتَأْثِرُوا بِالْمَاءِ كُلَّ يَوْمٍ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمُ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى قَتْلِهَا.
قَالَ قَتَادَةُ: بلغني أنَّ الذي قتلها طَافَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ أَنَّهُمْ رَاضُونَ بِقَتْلِهَا، حَتَّى على النِّساء في خُدورهنَّ، وعلى الصِّبيان.
قلتُ: وهذا هو الظَّاهر؛ لقوله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا [الشمس:14]، وَقَالَ: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا [الإسراء:59]، وَقَالَ: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ [الأعراف:77]، فَأَسْنَدَ ذَلِكَ عَلَى مَجْمُوعِ القبيلة.
الشيخ: فأسند ذلك إلى القبيلة، نسب إليهم، يعني: كذَّبوه فعقروها.
الشيخ: "فأسند إلى" بدل "على"، يعني: نسب إليهم العقر كلّهم والتَّكذيب، وبهذا وقعت بهم العقوبة، نسأل الله العافية.
الشيخ: والمقصود من هذا العِظة والعبرة العظيمة أنَّ الله جلَّ وعلا أعطاهم طلبتهم آيةً عظيمةً، ثم أعطاهم الشُّرب يومًا، ولها الشُّرب يومًا، وبدل شربها عوَّضهم اللَّبن العظيم، ثم مع ذلك يستكبرون ويعتدون ويُبادرون الله بالتَّكذيب والعقوبة ..... ذنب عظيم، واستهتار خبيث؛ ولهذا استحقُّوا النِّقمة العاجلة، نسأل الله العافية.
الشيخ: لا بارك اللهُ فيها.
ابْنَةُ غَنْمِ بْنِ مِجْلَزٍ، وَتُكَنَّى: أُمَّ عثمان، كَانَتْ عَجُوزًا كَافِرَةً، وَكَانَتْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِصَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتْ لَهَا بَنَاتٌ حِسَانٌ، وَمَالٌ جَزِيلٌ، وَكَانَ زَوْجُهَا ذُؤَابُ بْنُ عَمْرٍو أَحَدَ رُؤَسَاءِ ثَمُودَ، وَامْرَأَةً أُخْرَى يُقَالُ لَهَا: صدوف بنت المحيا بن زهير بن المختار، ذَاتِ حَسَبٍ وَمَالٍ وَجَمَالٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ مِنْ ثَمُودَ فَفَارَقَتْهُ، فَكَانَتَا تَجْعَلَانِ لِمَنِ الْتَزَمَ لَهُمَا بِقَتْلِ النَّاقَةِ، فَدَعَتْ صُدُوفُ رَجُلًا يُقال له: الحباب، فعرضت عَلَيْهِ نَفْسَهَا إِنْ هُوَ عَقَرَ النَّاقَةَ، فَأَبَى عَلَيْهَا، فَدَعَتِ ابْنَ عَمٍّ لَهَا يُقَالُ لَهُ: مِصْدَعُ بْنُ مِهْرَجِ بْنِ الْمُحَيَّا، فَأَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ، وَدَعَتْ عُنَيْزَةُ بِنْتُ غَنْمٍ قِدَارَ بْنَ سالف بن جذع، وَكَانَ رَجُلًا أَحْمَرَ أَزْرَقَ قَصِيرًا، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ وَلَدَ زَنْيَةٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَبِيهِ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَهُوَ سَالِفٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: صِهْيَادٌ، وَلَكِنْ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ سَالِفٍ.
وَقَالَتْ لَهُ: أُعْطِيكَ أَيَّ بَنَاتِي شِئْتَ عَلَى أَنْ تَعْقِرَ النَّاقَةَ. فَعِنْدَ ذَلِكَ انْطَلَقَ قِدَارُ بْنُ سَالِفٍ وَمِصْدَعُ بن مهرج، فاستغويا غُوَاةً مِنْ ثَمُودَ فَاتَّبَعَهُمَا سَبْعَةُ نَفَرٍ، فَصَارُوا تِسْعَةَ رَهْطٍ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ [النمل:48]، وَكَانُوا رُؤَسَاءَ فِي قَوْمِهِمْ، فَاسْتَمَالُوا الْقَبِيلَةَ الْكَافِرَةَ بِكَمَالِهَا فَطَاوَعَتْهُمْ عَلَى ذلك، فانطلقوا، فرصدوا النَّاقةَ حين صدرت من الماء، وقد كمن لها قدارُ بن سالف فِي أَصْلِ صَخْرَةٍ عَلَى طَرِيقِهَا، وَكَمِنَ لَهَا مِصْدَعٌ فِي أَصْلِ أُخْرَى، فَمَرَّتْ عَلَى مِصْدَعٍ فَرَمَاهَا بِسَهْمٍ، فَانْتَظَمَ بِهِ عَضَلَةَ سَاقِهَا.
وَخَرَجَتْ أُمُّ غَنْمٍ عُنَيْزَةُ وَأَمَرَتِ ابْنَتَهَا، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، فَسَفَرَتْ عَنْ وَجْهِهَا لِقِدَارٍ، وذمّرته، وشدَّ على النَّاقة بالسيف، فكشف عن عُرْقُوبِهَا، فَخَرَّتْ سَاقِطَةً إِلَى الْأَرْضِ، وَرَغَتْ رَغَاةً وَاحِدَةً تُحَذِّرُ سَقْبَهَا، ثُمَّ طَعَنَ فِي لَبَّتِهَا فَنَحَرَهَا، وَانْطَلَقَ سَقْبُهَا -وَهُوَ فَصِيلُهَا- حَتَّى أَتَى جَبَلًا مَنِيعًا فَصَعِدَ أَعْلَى صَخْرَةٍ فِيهِ وَرَغَا، فَرَوَى عَبْدُالرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَمَّنْ سَمِعَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ، أَيْنَ أُمِّي؟
وَيُقَالُ: إِنَّهُ رَغَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَإِنَّهُ دَخَلَ فِي صَخْرَةٍ فَغَابَ فِيهَا. وَيُقَالُ: بَلِ اتَّبَعُوهُ فَعَقَرُوهُ مَعَ أُمِّهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَلَمَّا فعلوا ذلك وفرغوا من عقر النَّاقة، وبلغ الْخَبَرُ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَجَاءَهُمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ، فلمَّا رَأَى النَّاقَةَ بَكَى: فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ الآية [هود:65].
وَكَانَ قَتْلُهُمُ النَّاقَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَلَمَّا أَمْسَى أُولَئِكَ التِّسْعَةُ الرَّهْطُ عَزَمُوا عَلَى قَتْلِ صَالِحٍ، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ صَادِقًا عَجَّلْنَاهُ قَبْلَنَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا أَلْحَقْنَاهُ بِنَاقَتِهِ: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ الآية [النمل:49- 51].
فلمَّا عزموا على ذلك وتواطؤوا عَلَيْهِ، وَجَاءُوا مِنَ اللَّيْلِ لِيَفْتِكُوا بِنَبِيِّ اللَّهِ، فأرسل اللَّهُ - وَلَهُ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ- عَلَيْهِمْ حِجَارَةً، فَرَضَخَتْهُمْ سَلَفًا وَتَعْجِيلًا قَبْلَ قَوْمِهِمْ، وَأَصْبَحَ ثَمُودُ يَوْمَ الْخَمِيسِ -وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَيَّامِ النَّظِرَةِ- وَوُجُوهُهُمْ مُصْفَرَّةٌ كَمَا وَعَدَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَصْبَحُوا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّأْجِيلِ -وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ- وَوُجُوهُهُمْ مُحْمَرَّةٌ، وَأَصْبَحُوا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ الْمَتَاعِ -وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ- وَوُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ.
فَلَمَّا أَصْبَحُوا مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ وَقَدْ تَحَنَّطُوا وَقَعَدُوا يَنْتَظِرُونَ نِقْمَةَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ -عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ- لَا يَدْرُونَ مَاذَا يُفْعَلُ بِهِمْ؟ وَلَا كَيْفَ يأتيهم العذابُ؟ وأشرقت الشَّمْسُ، جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَرَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ؛ فَفَاضَتِ الْأَرْوَاحُ، وَزَهَقَتِ النُّفُوسُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ: فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [الأعراف:78] أَيْ: صَرْعَى لَا أَرْوَاحَ فِيهِمْ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ: لَا صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ، لَا ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى، قَالُوا: إِلَّا جَارِيَةً كَانَتْ مُقْعَدَةً، وَاسْمُهَا: كَلْبَةُ ابْنَةُ السَّلْقِ، وَيُقَالُ لَهَا: الزُّرَيْقَةُ، وَكَانَتْ كَافِرَةً شَدِيدَةَ الْعَدَاوَةِ لِصَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا رَأَتْ مَا رَأَتْ مِنَ الْعَذَابِ أُطْلِقَتْ رِجْلَاهَا، فَقَامَتْ تَسْعَى كَأَسْرَعِ شَيْءٍ، فَأَتَتْ حَيًّا مِنَ الْأَحْيَاءِ فَأَخْبَرَتْهُمْ بِمَا رَأَتْ وَمَا حَلَّ بِقَوْمِهَا، ثُمَّ اسْتَسْقَتْهُمْ مِنَ الْمَاءِ، فَلَمَّا شَرِبَتْ مَاتَتْ.
قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ: وَلَمْ يَبْقَ مِنْ ذُرِّيَّةِ ثَمُودَ أَحَدٌ سِوَى صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلام ومَن تبعه ، إِلَّا أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: أَبُو رِغَالٍ، كَانَ لَمَّا وَقَعَتِ النِّقْمَةُ بِقَوْمِهِ مُقِيمًا إِذْ ذَاكَ فِي الْحَرَمِ، فَلَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ، فَلَمَّا خَرَجَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ إِلَى الْحِلِّ جَاءَهُ حَجَرٌ مِنَ السَّمَاءِ فَقَتَلَهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرُوا أَنَّ أَبَا رِغَالٍ هَذَا هُوَ وَالِدُ ثَقِيفٍ الَّذِينَ كانوا يسكنون الطَّائف.
قال عبدُالرزاق: عن مَعْمَرٍ: أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَرَّ بِقَبْرِ أَبِي رغالٍ فقال: أتدرون مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ، رَجُلٍ مِنْ ثَمُودَ كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ، فَمَنَعَهُ حَرَمُ اللَّهِ عَذَابَ اللَّهِ، فَلَمَّا خَرَجَ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ، فَدُفِنَ هَاهُنَا، وَدُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَنَزَلَ الْقَوْمُ فَابْتَدَرُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ، فَبَحَثُوا عَنْهُ فَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْنَ.
وَقَالَ عَبْدُالرَّزَّاقِ: قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَبُو رِغَالٍ أَبُو ثَقِيفٍ. هَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ رُوِيَ مُتَّصِلًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ بُجَيْرِ ابْنِ أَبِي بُجَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ حِينَ خَرَجْنَا مَعَهُ إِلَى الطَّائِفِ، فَمَرَرْنَا بِقَبْرٍ، فَقَالَ: هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ، وَهُوَ أَبُو ثَقِيفٍ، وَكَانَ مِنْ ثَمُودَ، وَكَانَ بِهَذَا الْحَرَمِ، فَدَفَعَ عَنْهُ، فلمَّا خرج أَصَابَتْهُ النِّقْمَةُ الَّتِي أَصَابَتْ قَوْمَهُ بِهَذَا الْمَكَانِ، فَدُفِنَ فِيهِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ، إِنْ أَنْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أصبتُموه، فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ الْغُصْنَ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِهِ.
قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ: وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ عَزِيزٌ.
قُلْتُ: تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ بُجَيْرُ ابْنُ أَبِي بُجَيْرٍ هَذَا، وَهُوَ شَيْخٌ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ.
قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا رَوَى عَنْهُ غَيْرَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ.
قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا فَيُخْشَى أَنْ يَكُونَ وَهِمَ فِي رَفْعِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ كَلَامِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مِمَّا أَخَذَهُ مِنَ الزَّامِلَتَيْنِ. قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَجَّاجِ بَعْدَ أَنْ عَرَضْتُ عَلَيْهِ ذَلِكَ: وَهَذَا مُحْتَمَلٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الشيخ: هو الأقرب مثلما قال ابنُ كثيرٍ: أنَّه من أخبار بني إسرائيل؛ لأنَّ بجيرًا ليس ممن يُعتمد عليه، وعبدالله بن عمرو تحمّل أخبارًا كثيرةً من أخبار بني إسرائيل في زاملتين يوم اليرموك، كان يُحدِّث منها.
والمقصود أنَّ الله أهلكهم بهذا الذَّنب العظيم، وهو عقر النَّاقة، وكفر نعمة الله، كفروا النِّعمة، وعقروا النَّاقة؛ فعجَّل اللهُ لهم العقوبة، مع ما لهم في الآخرة من العذاب والنَّار، وهذا من البلاء العظيم، نسأل الله العافية، ولا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله العافية.
انظر بجيرًا في "التقريب".
الطالب: بُجير -بالجيم مُصغَّرًا- ابن أبي بجير، حجازي، ويقال: اسم أبيه سالم، مجهول، من الثالثة. (أبو داود).
الشيخ: هذا هو، نعم.
س: العلَّة في الحديث بُجير؟
ج: العلّة جهالة بُجير، نعم.
س: ما يشهد له حديثُ جابرٍ المتقدم؟
ج: ما ثبت.