وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النساء:25].
يقول تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَيْ: سَعَةً وَقُدْرَةً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ أي: الحرائر العفائف المؤمنات.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُالْجَبَّارِ، عَنْ رَبِيعَةَ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ، قال ربيعة: الطّول: الهوى، يعني: ينكح الأمةَ إذا كان هواه فيها.
الشيخ: هذا غريبٌ جدًّا، المقصود من هذا وهمٌ، الصَّواب: الطول: المهر والمال والقُدرة، الذي ما عنده قُدرة أن ينكح الحرَّة فحينئذٍ لا مانع أن يتزوج الأمةَ المملوكةَ إذا كانت عفيفةً معروفةً بالخير، بشرط خوف العنت، يخشى على نفسه من الزنا، وليس عنده القُدرة، بهذين الشَّرطين ينكح الأمةَ الطَّيبة المحصنة.
الشيخ: وهو جديرٌ بالتَّشنيع، وهو جديرٌ بالردِّ، نعم.
فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ أَيْ: فَتَزَوَّجُوا مِنَ الْإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ اللَّاتِي يَمْلِكُهُنَّ الْمُؤْمِنُونَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: فَلْيَنْكِحْ مِنْ إِمَاءِ الْمُؤْمِنِينَ. وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ.
ثُمَّ اعْتَرَضَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أَيْ: هُوَ الْعَالِمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَسَرَائِرِهَا، وَإِنَّمَا لَكُمْ أيّها الناس الظَّاهر من الأمور، ثم فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ هُوَ وَلِيُّ أَمَتِهِ، لَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وكذلك هو وليُّ عبده، ليس له أن يتزوَّج بغير إذنه، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَهُوَ عَاهِرٌ أَيْ: زَانٍ. فَإِنْ كَانَ مَالِكُ الْأَمَةِ امْرَأَةً زَوَّجَهَا مَنْ يُزَوِّجُ الْمَرْأَةَ بِإِذْنِهَا؛ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلَا الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا.
الشيخ: والمعنى: إذا كانت الجاريةُ امرأةً فوليُّها وليّ المرأة: أبوها، ابنها، أخوها، وليّ الجارية وليّ سيِّدتها.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ: وَادْفَعُوا مُهُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ: عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْكُمْ، وَلَا تَبْخَسُوا مِنْهُ شَيْئًا اسْتِهَانَةً بِهِنَّ؛ لِكَوْنِهِنَّ إِمَاءً مَمْلُوكَاتٍ.
وقوله تعالى: مُحْصَنَاتٍ أَيْ: عَفَائِفَ عَنِ الزِّنَا، لَا يَتَعَاطَيْنَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَهُنَّ الزَّوَانِي اللَّاتِي لا يمنعن مَن أرادهنَّ بالفاحشة.
وقوله تعالى: وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُسَافِحَاتُ هنَّ الزَّواني المعلنات، يَعْنِي: الزَّوَانِي اللَّاتِي لَا يَمْنَعْنَ أَحَدًا أَرَادَهُنَّ بِالْفَاحِشَةِ.
ومُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ يَعْنِي: أَخِلَّاءَ.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالضَّحَّاكِ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَيَحْيَى ابْنِ أَبِي كَثِيرٍ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَالسُّدِّيِّ، قَالُوا: أَخِلَّاءَ.
الشيخ: والمعنى: أنَّ الذي يضطر إلى الأَمَةِ يتحرى أن تكون عفيفةً جيدةً، ليست من الزَّواني، المسافحات، المعلنات، المشهورات بالفاحشة، ولسن أيضًا من ذوات الأخلَّاء، ذوات الأخدان اللاتي يزنين بالسّرِّ، ومع الخواصِّ من الناس، لا هذا، ولا هذا، يجب أن يتحرَّى المحصنة العفيفة البعيدة عن الشَّر إذا اضطرّ إلى ذلك، وهكذا في الحرائر من باب أولى؛ ولهذا قال في الحرائر: محصنات: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5]، فالإحصان لا بدَّ منه في حقِّ الزوجة، سواء كانت مسلمةً أو كتابيَّةً، حُرَّةً أو أَمَةً، لا بدَّ من مُراعاة هذا الأمر العظيم، وهو الإحصان والبُعد عن الشَّرِّ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي الصَّدِيقَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا: وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ذات الخليل الواحد الْمُقِرَّةُ بِهِ، نَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. يَعْنِي تزويجها ما دامت كذلك.
وقوله تعالى: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي أُحْصِنَّ؛ فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ، مَبْنِيٌّ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالصَّادِ، فِعْلٌ لَازِمٌ. ثُمَّ قِيلَ: مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أحدهما: أنَّ المرادَ بالإحصان هاهنا الإسلام، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَزِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ، وَرَوَى نَحْوَهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ.
وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الذي نصَّ عليه الشَّافعي فِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ، قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا بِالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَإِذَا أُحْصِنَّ، قَالَ: إِحْصَانُهَا: إِسْلَامُهَا وَعَفَافُهَا، وَقَالَ: الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا التَّزْوِيجُ. قَالَ: وَقَالَ عَلِيٌّ: اجْلِدُوهُنَّ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ.
قُلْتُ: وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وفيه مَن لم يُسمَّ، ومثله لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ.
وَقَالَ الْقَاسِمُ وَسَالِمٌ: إِحْصَانُهَا: إِسْلَامُهَا وَعَفَافُهَا.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا التَّزْوِيجُ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَطَاوُسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ.
وَنَقَلَهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي كِتَابِهِ "الْإِيضَاح" عَنِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو الْحَكَمِ ابْنُ عبدِالحكم عنه.
وَقَدْ رَوَى لَيْثُ ابْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: إِحْصَانُ الْأَمَةِ أَنْ يَنْكِحَهَا الْحُرُّ، وَإِحْصَانُ الْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ الْحُرَّةَ.
وَكَذَا رَوَى ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ.
وَقِيلَ: مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَبَايِنٌ؛ فَمَنْ قَرَأَ: أُحْصِنَّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ فَمُرَادُهُ التَّزويج، ومَن قرأ بفتحها فمُراده الإسلام. اختاره أَبُو جَعْفَرِ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَرَّرَهُ وَنَصَرَهُ.
وَالْأَظْهَرُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَانِ هَاهُنَا التَّزْوِيجُ؛ لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، حَيْثُ يَقُولُ : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25] وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ سِيَاقُهَا كُلُّهَا فِي الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا أُحْصِنَّ أَيْ: تَزَوَّجْنَ.
الشيخ: وهذا هو الصَّواب المراد من هذا التَّنبيه؛ لأنَّ حدَّها لا يختلف في حال كونها قد تزوَّجت أو لم تتزوج، حدّها النِّصف، بخلاف الحُرَّة فإنها إذا زنت وهي لم تتزوج فإنها تُجلد مئة جلدةٍ وتُغرَّب سنةً، وإذا كانت ثيِّبًا تُرجم، وهكذا الرجل، أمَّا العبد والأَمَة فالحدّ لهما النِّصف: خمسون جلدة، بكرًا أو ثيِّبًا، وفي الحديث الصَّحيح: إذا زنت أَمَةُ أحدِكم فليجلدها الحدَّ ولا يُثَرِّب عليها، فالأمة والمملوك من تخفيف الله جلَّ وعلا أنَّ حدَّهما النِّصف؛ لأنَّهما مملوكان، وفي إتلافهما مضرَّة كبيرة على سيِّدهما، فمن رحمة الله أن جعل النِّصف كافية، إذا زنا أو زنت يُجلد النِّصف، يُقام نصف الحدِّ، ويبقى لسيِّده ينتفع به.
كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَعَلَى كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ إِشْكَالٌ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَمَةَ إِذَا زَنَتْ فَعَلَيْهَا خَمْسُونَ جِلْدَةً، سَوَاءٌ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً، مُزَوَّجَةً أَوْ بِكْرًا، مَعَ أنَّ مفهومَ الآية يقتضي أنَّه لا حدَّ على غير المحصنة ممن زنى مِنَ الْإِمَاءِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَجْوِبَتُهُمْ عَنْ ذَلِكَ:
فَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّ الْمَنْطُوقَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ عَامَّةٌ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْإِمَاءِ، فَقَدَّمْنَاهَا عَلَى مَفْهُومِ الْآيَةِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ، فَإِنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ زَنَتْ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا، فَإِذَا هِيَ حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ، فَخَشِيتُ إِنْ جلدتُها أن أقتلَها، فذكرتُ ذلك لنبي اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: أَحْسَنْتَ، اتْرُكْهَا حَتَّى تَمَاثَلَ. وَعِنْدَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ غَيْرِ أَبِيهِ: فَإِذَا تَعَافَتْ مِنْ نَفْسِهَا حَدَّهَا خَمْسِينَ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّانِيَةَ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا ولو بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ. وَلِمُسْلِمٍ: إِذَا زَنَتْ ثَلَاثًا فليبعها في الرَّابعة.
وروى مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ قَالَ: أَمَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَلَدْنَا ولائدَ مِنْ وَلَائِدِ الْإِمَارَةِ خَمْسِينَ خَمْسِينَ فِي الزِّنَا.
الْجَوَابُ الثَّانِي: جَوَابُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأَمَةَ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا تُضْرَبُ تَأْدِيبًا، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ طَاوُسٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ ابْنُ سَلَّامٍ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَعُمْدَتُهُمْ مَفْهُومُ الْآيَةِ، وَهُوَ مِنْ مَفَاهِيمِ الشَّرط، وهو حُجَّة عند أكثرهم، فقُدِّمَ عَلَى الْعُمُومِ عِنْدَهُمْ.
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عن الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ، قَالَ: إِنْ زَنَتْ فَحِدُّوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لَا أدري أبعد الثالثة أو الرَّابعة؟ وأخرجاه فِي "الصَّحِيحَيْنِ".
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: الضَّفير: الحبل.
قالوا: فلم يُؤقِّت فيه عددًا كما أقَّت في المحصنة، وكما وقَّت في القرآن بِنِصْفِ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الشيخ: والصَّواب في هذا أنَّ السُّنة تُوضح الآية، مفهوم الآية غير مراد، الله أراد التَّنبيه على أنَّ الأمةَ ليست مثل الحرَّة، الحرَّة إذا زنت بعد الإحصان تُرجم، فنبَّه اللهُ جلَّ وعلا على أنَّ الأمةَ لا، تُجلد على النِّصف؛ لأنَّ الجلدَ هو الذي يتنصَّف، ثم بيَّن النبيُّ ﷺ لما سُئِلَ عن الأمةِ ولم تُحصَن سأله الصَّحابةُ: هل لهذا مفهومٌ: فَإِذَا أُحْصِنَّ؟ سُئِلَ عن هذه الآية إذا زنت ولم تُحْصَن، فقال: اجلدوها الحدَّ، فدلَّ على أنَّ الآيةَ لا يُراد بها المفهوم، المفهوم غير المراد، وأنَّ المراد بيان أنَّ حدَّها النِّصف بعد إحصانها، خلافًا للحرَّة، فاتَّضح من الحديث والآية أنَّ الأمةَ حدّها النصف مطلقًا، لكن ليس فيها رجمٌ، وهكذا العبد، نعم.
وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺمَ: لَيْسَ عَلَى أَمَةٍ حَدٌّ حَتَّى تُحْصَنَ -أَوْ حَتَّى تُزَوَّجَ- فَإِذَا أُحْصِنَتْ بِزَوْجٍ فَعَلَيْهَا نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عِمْرَانَ الْعَابِدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بِهِ مَرْفُوعًا، وَقَالَ: رَفْعُهُ خَطَأٌ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عِمْرَانَ، وَقَالَ مِثْلَمَا قَالَهُ ابنُ خُزيمة.
قالوا: وحديث عليٍّ وعمر قَضَايَا أَعْيَانٍ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ أَجْوِبَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ؛ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ.
الثَّانِي: أَنَّ لفظةَ الحدِّ في قوله: فليجلدها الحدَّ مُقحمةٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، بِدَلِيلِ الْجَوَابِ الثَّالِثِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا مِنْ حَدِيثِ صَحَابِيَّيْنِ، وَذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَطْ، وَمَا كَانَ عَنِ اثنين فهو أولى بالتَّقديم مِنْ رِوَايَةِ وَاحِدٍ.
وَأَيْضًا فَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ -وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا زَنَتِ الْأَمَةُ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ أَطْلَقَ لفظةَ الْحَدِّ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْجَلْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْجَلْدُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ حَدٌّ، أَوْ أَنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَةَ الْحَدِّ عَلَى التَّأْدِيبِ، كَمَا أَطْلَقَ الحدَّ على ضرب مَن زنى مِنَ الْمَرْضَى بِعُثْكَالِ نَخْلٍ فِيهِ مِئَةُ شِمْرَاخٍ، وَعَلَى جَلْدِ مَنْ زَنَى بِأَمَةِ امْرَأَتِهِ إِذَا أَذِنَتْ لَهُ فِيهَا مِئَةً، وَإِنَّمَا ذَلِكَ تَعْزِيرٌ وتأديبٌ عند مَن يراه؛ كأحمد وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ.
وَإِنَّمَا الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ هُوَ جَلْدُ الْبِكْرِ مِئَةً، وَرَجْمُ الثَّيِّبِ أَوِ اللَّائِطِ، والله أعلم.
وقد روى ابنُ ماجه وابنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ: أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: لَا تُضْرَبُ الْأَمَةُ إِذَا زَنَتْ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَنْهُ، وَمَذْهَبٌ غريبٌ إن أراد أنَّها لا تُضرب الأمةُ أصلًا لا حدًّا، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ بِمَفْهُومِ الْآيَةِ وَلَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ، وإن أَرَادَ أَنَّهَا لَا تُضْرَبُ حَدًّا، وَلَا يَنْفِي ضربها تأديبًا، فهو كقول ابن عباسٍ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الشيخ: والصَّواب في هذا مثلما تقدَّم أنها تُجلد حدًّا، محصنةً أو بكرًا غير محصنةٍ: خمسين جلدةً، النصف.
س: بالنسبة لبيعها هل يُبين العيبَ الذي فيها؟
ج: يُبَيِّنه، لا بدَّ من بيان العيب؛ ولهذا قال: ولو بحبلٍ من شعرٍ، ما هي ..... بحبلٍ من شعرٍ إلَّا إذا بيَّن العيبَ، يُبين أنها زنت .....، لعلها تصلح عند السيد الجديد، لعله يُربِّيها ويُعلِّمها ويُوجِّهها، لعلها تصلح عنده إذا انتقلت من السَّيد الأول.