قال العوفيُّ: عن ابن عباسٍ: نزلت سورةُ النِّساء بالمدينة.
وكذا روى ابنُ مردويه عن عبدالله بن الزبير وزيد بن ثابت. وروى من طريق عبدالله بن لهيعة، عن أخيه عيسى، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ قال: لما نزلت سورةُ النِّساء قال رسولُ الله ﷺ: لا حبس.
وقال الحاكم في "مستدركه": حدَّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب: حدَّثنا أبو البختري عبدالله بن محمد بن شاكر: حدَّثنا محمدُ بن بشر العبدي: حدَّثنا مسعر بن كدام، عن معن بن عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود، عن أبيه، عن جدِّه، عن عبدالله بن مسعودٍ قال: إنَّ في سورة النِّساء لخمس آياتٍ ما يسرّني أنَّ لي بها الدنيا وما فيها: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ الآية [النساء:40]، إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ الآية [النساء:31]، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ الآية [النساء:64]، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110]. ثم قال: هذا إسنادٌ صحيحٌ إن كان عبدُالرحمن سمع من أبيه، فقد اختُلِفَ في ذلك.
............
الشيخ: حطّ عليه حاشية: سقطت الخامسة، وفي الحاكم هي قوله تعالى ..... على ما عندك.
وعبدالرحمن المشهور أنَّه لم يسمع من أبيه، صغير، والآيات لا شكَّ أنها عظيمة ونعمة من الله ، فإنه تفضّل على عباده بقوله جلَّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا، فلا أحدَ يُظلم مثقال ذرَّةٍ، حتى مثاقيل الذَّر؛ ولهذا يقول سبحانه في الآية: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7- 8]، ويقول جلَّ وعلا: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، من فضل الله جلَّ وعلا أنَّ أعمالَ العباد وإن دقَّت فهي محفوظة، حسناتهم محفوظة لهم، والسَّيئات محفوظة أيضًا، وهو إلى العفو أقرب ، وهو الجواد الكريم.
وهكذا قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ كون العُصاة تحت المشيئة هذه من نِعَمِ الله العظيمة، وهو سبحانه ذو الجود والكرم، يغفر لمن يشاء، ويُعذِّب مَن يشاء، وقد ثبت في الأحاديث المتواترة عن النبي ﷺ أنَّ كثيرًا منهم يدخلون النار ويُعذَّبون فيها، أي: العُصاة الذين ارتكبوا معاصٍ دون الشِّرك ولم يتوبوا، منهم مَن يُغفر له ويُعفا عنه لأسبابٍ كثيرةٍ، ومنهم مَن يُعذَّب في النار على قدر المعاصي التي مات عليها، فمنهم مَن يطول حبسه فيها، ومنهم مَن لا يطول، على حسب أحوالهم في تلك المعصية، ولا يُخلّد في النار إلا مَن حكم عليه القرآنُ بالخلود، وهم الكفَّار، لا يُخلَّد في النار إلا الكفَّار الذين ماتوا على الكفر بالله، هم المخلَّدون فيها، أمَّا العُصاة الموحِّدون فمُنتهاهم إلى الخروج وإن طال الأمدُ.
وهكذا قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا أيضًا هذا وعدٌ من الله عظيمٌ، الله يُكفّر سيئات مَن رزقه الله العافية من الكبائر وحذرها: كل بني آدم خطَّاء، فإذا رزق اللهُ العبدَ اجتناب الكبائر غُفرت له الصَّغائر، هذا من فضله جلَّ وعلا، وجوده وكرمه ، وهكذا إذا عمل سيئًا، أو ظلم نفسه، ثم استغفر ربَّه وتاب إليه وأناب إليه فهو جلَّ وعلا الجواد الكريم الذي يغفر ذنوبَ مَن تاب إليه وأناب.
فالواجب الحذر؛ أنَّ المؤمنَ يحذر أن يصرّ على السَّيئة، وأن يكون حريصًا على حساب نفسه وجهادها؛ لأنَّه قد يظنّ أنَّ هذه السَّيئة صغيرة، وهي كبيرة، وهو لا يدري، قد تتراكم السَّيئات الصَّغائر عليه فيُصاب بالغفلة والوقوع في الكبائر، ثم الصَّغيرة ليس لها حدٌّ متَّفقٌ عليه كالكبيرة، فالواجب الحذر من جميع السَّيئات: صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها؛ خوفًا من الله، وتعظيمًا له، وحذرًا من عقابه .
مُداخلة: في تعليق لأحمد شاكر يقول: وعبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود سمع من أبيه، كما هو الراجح الذي رجَّحه البخاري في "التاريخ الصغير"، وكما جزم به ابنُ أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، ولم يحكِ قولًا غيره، وقد رجَّحنا ذلك أيضًا في .....
الشيخ: قد يكون سمع منه شيئًا يسيرًا.
س: أحسن الله إليك، الحديث: لولا أنَّكم تُذْنِبُونَ وتستغفرون لذهب بكم، وجاء بقومٍ يُذنبون ويستغفرون؟
ج: صحيحٌ، هذا من رحمة الله، وليس معناه الإذن بالسَّيئات، معناه أنَّ هذا هو الواقع، أنَّ الله جلَّ وعلا قضى في سابق علمه أنَّ العباد يُذنبون حتى تظهر آثارُ عفوه ورحمته، وأنَّه التَّواب، وأنه الرحيم، وأنه العفو، لم يخلقهم معصومين، خلقهم يتعرَّضون للذنوب، فالموفَّق مَن وفَّقه اللهُ للسَّلامة منها، وللتوبة لما يقع منها.
وقال عبدُالرزاق: أخبرنا معمر، عن رجلٍ، عن ابن مسعودٍ قال: خمس آياتٍ من النِّساء لهنَّ أحبّ إليَّ من الدّنيا جميعًا: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31]، وقوله: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وقوله: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء:110]، وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:152]. رواه ابنُ جرير.
ثم روى من طريق صالح المري.
الشيخ: الواعظ المعروف.
عن قتادة، عن ابن عباسٍ قال: ثماني آيات نزلت في سورة النِّساء هي خيرٌ لهذه الأُمَّة مما طلعت عليه الشمس وغربت:
أولاهنَّ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النساء:26].
والثانية: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا [النساء:27].
والثالثة: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28].
ثم ذكر قولَ ابن مسعودٍ سواء، يعني في الخمسة الباقية.
وروى الحاكمُ من طريق أبي نعيمٍ، عن سفيان بن عُيينة، عن عبيدالله ابن أبي يزيد، عن ابن أبي مُليكة: سمعتُ ابن عباسٍ يقول: سلوني عن سورة النِّساء، فإني قرأتُ القرآنَ وأنا صغيرٌ.
ثم قال: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشَّيخين، ولم يُخرجاه.
الشيخ: والمعنى: يعني سألتُ عنه الصحابة وفقهتُ تفسيره؛ لأني درستُ وأنا صغيرٌ، والصَّغير يحفظ ويرتسم في ذهنه ما يُقال له.
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
يقول تعالى آمرًا خلقه بتقواه، وهي عبادته وحده لا شريكَ له، ومُنَبِّهًا لهم على قُدرته التي خلقهم بها من نفسٍ واحدةٍ، وهي آدم ، وخلق منها زوجها، وهي حواء عليها السلام، خُلقت من ضلعه الأيسر، من خلفه وهو نائم، فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليها، وأنست إليه.
الشيخ: وهذه الآية مثل قوله جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، وهكذا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فالعباد خُلِقُوا لهذا الأمر؛ ليعبدوا ربَّهم، ليتَّقوه، فالتَّقوى هي العبادة التي خُلِقُوا لها، وهي دين الإسلام، وهي البرّ والإيمان، وهي التَّقوى، فالتَّقوى والإيمان والبرّ والهدى والإسلام كلّه تفسير للعبادة، تفسير لقوله: اتَّقُوا رَبَّكُمُ، وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ [الحج:77]، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] يعبدوه يعني: يتَّقوه ويخصّوه بالعبادة، ويُنِيبوا إليه، ويستقيموا على دينه بفعل الأوامر وترك النَّواهي.
هذه هي العبادة التي خُلِقُوا لها، وأساسها توحيد الله، والإخلاص له، وترك الإشراك به، مع الإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام، مع الإيمان بكلِّ ما أخبر اللهُ به ورسوله مما كان وما يكون.
فالله أمر بالعبادة والتَّقوى، وخلق الخلقَ لأجل ذلك، ثم فسَّر ذلك ووضَّح ذلك في كتابه العظيم من أوله إلى آخره، وضَّح الأوامر والنَّواهي التي هي العبادة التي أُمِرُوا بها: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ يعني: يعبدوني بفعل الأوامر وترك النَّواهي التي بيّنتُ لهم في كتابي، وبيَّنها رسولُه عليه الصلاة والسلام، وأهمّها وأعظمها توحيده والإخلاص له، تخصيصه بالعبادة وترك الإشراك به، مع الإيمان بكلِّ ما أخبر اللهُ به ورسوله، ثم يتبع ذلك جميع الأوامر وترك جميع النَّواهي.
وقال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا أبي: حدَّثنا محمدُ بن مُقاتل: حدَّثنا وكيع، عن أبي هلال، عن قتادة، عن ابن عباسٍ قال: خُلِقَتِ المرأةُ من الرَّجُلِ، فجعل نهمتها في الرَّجل، وخُلِقَ الرجلُ من الأرض، فجعل نهمته في الأرض، فاحبِسُوا نساءكم.
وفي الحديث الصَّحيح: إنَّ المرأةَ خُلِقَتْ من ضلعٍ، وإن أعوج شيءٍ في الضِّلع أعلاه، فإن ذهبتَ تُقيمَه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عِوَجٌ.
وقوله: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً أي: وذرأ منهما -أي من آدم وحواء- رجالًا كثيرًا ونساءً، ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر.
ثم قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ أي: واتَّقوا الله بطاعتكم إيَّاه.
قال إبراهيمُ ومجاهدُ والحسنُ: الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ أي كما يُقال: أسألك بالله وبالرَّحِم.
وقال الضَّحاك: واتَّقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به، واتَّقوا الأرحامَ أن تقطعوها، ولكن برُّوها وصلوها. قاله ابنُ عباسٍ وعكرمة ومجاهد والحسن والضَّحاك والربيع وغير واحدٍ.
وقرأ بعضُهم: وَالْأَرْحَامِ بالخفض على العطف على الضَّمير في بِهِ أي: تساءلون بالله وبالأرحام، كما قال مجاهدٌ وغيره.
الشيخ: والمعنى الأول أظهر، وهو اتِّقاء الربّ جلَّ وعلا، واتِّقاء الأرحام بعدم قطعها، وهو سبحانه يأمر العبادَ أن يتَّقوا الله بطاعته، وترك معصيته، وبخوفه، ومُراقبته، هذه تقواه: أن يُحْذَر ويُخاف الخوفَ الحقيقي الذي يحمل على فعل ما أوجب الله، وترك ما حرَّم الله، ومن ذلك صلة الأرحام وعدم قطعها، وهذا يدل على عِظم شأن الأرحام؛ لأنَّ القطيعة تُسبب الشَّحناء والعداوة، وصاحبها مُتوعدٌ بالنار، في الحديث الصَّحيح: لا يدخل الجنةَ قاطعُ رحمٍ، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22- 23].
أما التَّساؤل بالرَّحم فهو جائزٌ، كأن تقول: أسألك بحقِّ أبي عليك، أو بحقِّ أخي، أو بحقِّ قرابتي ..... أرحام، كما يُروى عن عبدالله بن جعفر: كان إذا اشتدَّ طلبه سأل عمَّا هو عليه بحقِّ جعفر وحقِّ الرحم، فيما بينهم، أما الله فما يُسْأَل بحقِّ الأرحام، يُسْأَل بأسمائه وصفاته، فالمراد هنا: تساءلون بينكم -بين الناس- بالرَّحم، أما الربُّ فيُسأل بأسمائه وصفاته، وحقّه على عباده الإيمان به وتقواه، كما يُسأل بالأعمال؛ لأنها من التَّقوى، من العمل الصَّالح، فيُسأل بأسمائه وصفاته، وبالتقوى والإيمان، وبالعمل الصَّالح، كما في حديث أصحاب الغار، أما الناس فيما بينهم فلا بأس أن يتساءلوا بالأرحام، وبحقِّ أبي عليك، أو حقِّ أخيك، أو والدتي، أو عمِّي، أو ما أشبه ذلك.
س: ............؟
ج: ............
وقوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا أي: هو مُراقبٌ لجميع أحوالكم وأعمالكم، كما قال: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة:6].
وفي الحديث الصَّحيح: اعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك، وهذا إرشادٌ وأمرٌ بمُراقبة الرَّقيب؛ ولهذا ذكر تعالى أنَّ أصلَ الخلق من أبٍ واحدٍ وأمٍّ واحدةٍ؛ ليعطف بعضهم على بعضٍ، ويحننهم على ضُعفائهم.
وقد ثبت في "صحيح مسلم" من حديث جرير بن عبدالله البجلي: أنَّ رسولَ الله ﷺ حين قدم عليه أولئك النَّفر من مُضر وهم مجتابو النِّمَار -أي من عريهم وفقرهم- قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر، فقال في خُطبته: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1] حتى ختم الآية، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]، ثم حضَّهم على الصَّدقة فقال: تصدَّق رجلٌ من ديناره، من درهمه، من صاع برِّه، من صاع تمره، وذكر تمام الحديث.
وهكذا رواه أحمدُ وأهلُ السنن عن ابن مسعودٍ في خطبة الحاجة، وفيها: ثم يقرأ ثلاث آيات، هذه منها: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الآية.
الشيخ: والمراقبة لها شأنٌ عظيمٌ، فالعبد إذا عرف أنَّ ربَّه شهيدٌ عليه ورقيبٌ، واستحضر هذا، فهذا من أعظم الأسباب التي تُعينه على طاعة الله ورسوله، وتُعينه على الانكفاف والتَّحرز من المعاصي؛ ولهذا في حديث سؤال جبريل لما سأل عن الإحسان أجابه النبيُّ ﷺ: أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك.
وقال جلَّ وعلا لنبيِّه ﷺ: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء:218- 219]، وقال سبحانه: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس:61] يعني: إذ تشرعون فيه.
فهذه المراقبة لها شأنٌ عظيمٌ في الردع عن السَّيئات، والحثِّ على أداء الفرائض، والله على كل شيءٍ شهيد، وعلى كل شيءٍ رقيب، فلا تخفى عليه خافيةٌ مهما كانت يا عبد، فأنت في مرأى من الله ومسمع ولو كنت في جوف جبلٍ، في جوف غارٍ ..... أنت بمرأى من الله ومسمع، فاحذر أن تخلو بمعصيته، فإنَّه سبحانه يُمْلِي ولا يغفل، قد تكون هذه المعصية من أسباب مرض قلبك والرَّان عليه؛ فتكون من أسباب هلاكك، فالواجب الحذر من المعاصي كلّها: دقيقها وجليلها.