قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الأنعام:164].
يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ فِي إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا أَيْ: أَطْلُبُ ربًّا سواه، وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، يُربِّيني ويحفظني ويكلؤني وَيُدَبِّرُ أَمْرِي، أَيْ: لَا أَتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلَا أُنِيبُ إِلَّا إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شيءٍ ومليكه، وله الخلق والأمر.
ففي هذه الآية الأمر بإخلاص التَّوكل، كما تضمّنت التي قبلها إخلاص العبادة لله وحده لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُقْرَنُ بِالْآخَرِ كثيرًا في القرآن؛ كقوله تعالى مُرشدًا لعباده أن يقولوا له: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وَقَوْلُهُ: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]، وَقَوْلُهُ: قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [الملك:29]، وَقَوْلُهُ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل:9]، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
الشيخ: وهذا فيه الجمع بين توحيد الربوبية وتوحيد العبادة، ومن ضمن ذلك توحيد الأسماء والصِّفات، فالمؤمن يعتقد أنَّ الله ربُّه ومالكه، وأنَّه سبحانه المصرِّف لعباده، وعليه التُّكلان، وهو المدبر للأمور، والقاضي للحاجات، والمصرِّف للعباد، وبذلك استحقَّ العبادة؛ ولهذا احتجَّ الربُّ على الكفَّار بما أقرُّوا به من توحيد الربوبية على ما جحدوه وأنكروه من توحيد العبادة؛ ولهذا قال تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا [الأنعام:164] بعدما بيَّن وجوب إخلاص العبادة له: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162- 163]، ثم قال بعدها: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا، فهو ربي المستحقّ لأن أعبده، وهو ربّ كل شيءٍ ، مالك كل شيءٍ، ومُدبر كل شيءٍ، فهو المستحقّ لأن يُعبد ويُطاع ويُعظم، كونه مالك الجميع، والقاهر فوق عباده، والمتصرف في عباده، بيده ضرّهم ونفعهم، وحياتهم وموتهم، وشدّتهم ورخاؤهم، وغير ذلك بيده، فهو المستحقّ لأن يُعبد؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يعني: إياك نعبد وحدك، وإياك نستعين؛ لأنَّه المالك القادر: قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [الملك:29]، آمَنَّا بِهِ أي: عبدناه وحده، وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا؛ لأنَّه مالكنا وربنا: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]، اعبده لأنَّه المستحقّ للعبادة، وتوكّل عليه لأنَّه مالك كل شيءٍ، بيده الضرّ والنَّفع.
والتوكل: تفويض الأمور إلى الله، والاعتماد عليه فيها، مع القيام بالأسباب، المتوكل: هو الذي يقوم بالأسباب؛ يعبد الله ويُطيعه .....، ومع ذلك يتوكل عليه، يعني: يعتمد عليه، ويعلم أنَّه مُنفذ الأمور وقاضيها والمالك لها، فالعبادة وسيلة لقضاء الحاجات من مالكها والقادر عليها، فمَن أراد أن تُنفذ حاجته وأن يفوز بالسَّعادة فليأتِ بالأول، وهو العبادة: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، قُلْ إِنَّ صَلَاتِي إلى آخره، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فالأول هو المقصود، والثاني وسيلة لذلك، فالتَّوكل على الله والاعتراف به والإقرار به، وأنَّه ربُّ العالمين، وعدم التَّشريك في ذلك هو الدَّليل والحُجَّة على الأول؛ على إخلاص العبادة لله وحده.
وفي ضمن ذلك الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العُلَى؛ لأنَّه كان ربًّا بسبب ما اتَّصف به من القُدرة والعلم والحكمة والرحمة والسَّمع والبصر، إلى غير ذلك من الصِّفات العظيمة التي بها صار قادرًا على كل شيءٍ، ومُدبِّرًا لكل شيءٍ، بقُدرته العظيمة، وعلمه العظيم الكامل، وحكمته، وسمعه، وبصره، وأنَّه لا تخفى عليه خافية جلَّ وعلا.
فهو الجدير الحقيق بأن يُعبد وحده؛ ولهذا قدم الصِّفات هذه على العبادة: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2- 4]، ثم قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]، هذا الموصوف هو الذي يُعبد ويُتوكل عليه.
فتوحيد الربوبية مشتملٌ على جميع الأسماء والصِّفات، وكلها في ضمن توحيد العبادة، "لا إله إلا الله" مُتضمنة لجميع الأسماء والصِّفات؛ ولأنَّه سبحانه المالك، القادر، المتصرف في عباده؛ ولهذا استحقَّ أن يكون هو المعبود بالحقِّ.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] إِخْبَارٌ عَنِ الْوَاقِعِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي جَزَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمِهِ وَعَدْلِهِ: أَنَّ النُّفُوسَ إِنَّمَا تُجَازَى بِأَعْمَالِهَا؛ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَأَنَّهُ لَا يُحْمَلُ مِنْ خَطِيئَةِ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ، وَهَذَا مِنْ عَدْلِهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر:18].
وقوله تَعَالَى: فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [طه:112]، قَالَ علماءُ التَّفسير: أي: فَلَا يُظْلَمُ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُ غَيْرِهِ، وَلَا يُهْضَمُ بِأَنْ يُنْقَصَ مِنْ حَسَنَاتِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ [المدثر:38- 39]، مَعْنَاهُ: كُلُّ نَفْسٍ مُرْتَهِنَةٌ بِعَمَلِهَا السَّيِّئِ، إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ، فَإِنَّهُ قَدْ تعود بركةُ أعمالهم الصَّالحة على ذُرياتهم وقراباتهم، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الطُّورِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور:21] أي: ألحقنا بهم ذُريتهم فِي الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ شَارَكُوهُمْ فِي الْأَعْمَالِ، بَلْ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ، وَمَا أَلَتْنَاهُمْ أَيْ: أَنْقَصْنَا أُولَئِكَ السَّادَةَ الرُّفَعَاءَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ شَيْئًا حَتَّى سَاوَيْنَاهُمْ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَنْقَصُ مِنْهُمْ مَنْزِلَةً، بَلْ رفعهم تعالى إلى منزلة الْآبَاءِ بِبَرَكَةِ أَعْمَالِهِمْ بِفَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ.
الشيخ: وهذا من جوده وكرمه؛ كونه سبحانه يرفع الأولادَ إلى منازل الآباء والأمّهات رحمةً منه سبحانه، وفضلًا منه، وجزاءً للوالدين على أعمالهم الطَّيبة: أن يقرّ أعينهم بأن يكون أولادُهم معهم، ما داموا مُؤمنين مُسلمين يرفعهم سبحانه حتى يكونوا مع آبائهم، حتى تقرَّ أعينهم بهم: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعني: ما نقصنا الوالدين، ما نقصهم، بل رفعهم سبحانه، ولكنَّه زاد في أجر الأولاد، ورفع الأولاد من أجل الوالدين، من أجل أعمال الوالدين وإخلاصهم وصدقهم جعل من أجلهم وجعل من ثوابهم أن يرفع إليهم أولادهم الذين ماتوا على الإسلام والإيمان.
س: المراد بالذُّرية .......؟
ج: نعم، نعم، ظاهر النَّص العموم: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، أمَّا الصِّغار فماتوا على الفطرة، وهم تابعون لآبائهم أيضًا، ماتوا على الفطرة، وهم من أهل الجنة، لكن حتى الكبار الذين دخلوا الجنةَ بالإيمان الله يرفعهم إلى والديهم؛ لأنَّ قوله: ذُرِّيَّتُهُمْ عامٌّ، يعمّ المكلَّفين وغير المكلَّفين، وقوله: بِإِيمَانٍ يعمّ الإيمانَ الفطري والإيمان التَّبعي والإيمان الكسبي، يعمّ الجميع.
س: ............؟
ج: يُرجى أن يرفع اللهُ الآباءَ إليه، يُرجى، قال بعضُ السَّلف: استنبط من هذا أن يرفع الآباء إلى درجة الأبناء الذين هم أرفع، كما رفع الأولادَ إلى درجة الوالدين، يُرجى منه سبحانه أيضًا أن يرفع الوالدين إلى درجة الأولاد الذين هم أرفع منهم؛ حتى تقرّ أعينهم بهم، وتقرّ أعين الأولاد بوالديهم أيضًا، وليس ببعيدٍ على الله ، هذا من جنس هذا، فالأقرب والله أعلم أنَّ رفعَ الأولاد إلى الوالدين للتَّنبيه على العكس: رفع الآباء والأمّهات إلى الأولاد.
ثُمَّ قَالَ: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21] أَيْ: مِنْ شَرٍّ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الأنعام:164] أَيِ: اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ [هود:121] عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَسَتُعْرَضُونَ وَنُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَيُنْبِئُنَا وَإِيَّاكُمْ بِأَعْمَالِنَا وَأَعْمَالِكُمْ، وَمَا كُنَّا نَخْتَلِفُ فِيهِ فِي الدَّار الدنيا، كقوله: قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ:25- 26].
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:165].
يَقُولُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ أي: جعلكم تعمرونها جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَخَلَفًا بعد سلفٍ. قاله ابن زيد وغيره، كقوله تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ [الزخرف:60]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ [النمل:62]، وَقَوْلِهِ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، وَقَوْلِهِ: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:129].
وَقَوْله: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ أَيْ: فَاوَتَ بَيْنَكُمْ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْمَحَاسِنِ وَالْمَسَاوِئِ وَالْمَنَاظِرِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ، كقوله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف:32]، وقوله: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء:21].
الشيخ: وهذا من الدَّلائل على حكمته العظيمة، وعلمه العظيم، وقُدرته الكاملة: أن فاوت بينهم، ورفع بعضهم فوق بعضٍ درجات في الدنيا والآخرة؛ في الدنيا هم مُتفاوتون في العلوم والأفهام والأخلاق والصور، وغير ذلك، وفي الآخرة كذلك منازلهم مختلفة، ونعيمهم مختلف، وإن كانوا كلّهم في سرورٍ، أهل الجنَّة في سرورٍ، وأهل النَّار في عذابٍ، لكنَّهم مُتفاوتون، وهو الحكيم العليم جلَّ وعلا.
وفي ذلك حفز المؤمن على المسابقة إلى الخيرات، والمسارعة إلى الطاعات، وأنَّه بذلك يزداد عند الله رفعةً ودرجةً ومنزلةً، وفي ذلك أيضًا تحذيرٌ لأصحاب المعاصي وأصحاب الكفر، وأنَّ المعاصي كلما زادت وكلما زاد الكفرُ زاد البلاءُ وزاد العذابُ، نسأل الله العافية.
وقوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ أَيْ: لِيَخْتَبِرَكُمْ فِي الَّذِي أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ وَامْتَحَنَكُمْ بِهِ؛ لِيَخْتَبِرَ الْغَنِيَّ فِي غِنَاهُ وَيَسْأَلهُ عَنْ شُكْرِهِ، وَالْفَقِيرَ في فقره ويسأله عن صبره.
وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" مِنْ حَدِيثِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ مَاذَا تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كانت في النِّساء.
وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ترهيبٌ وترغيبٌ أنَّ حسابَه وعقابَه سريعٌ فيمَن عَصَاهُ وَخَالَفَ رُسُلَهُ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ وَالَاهُ وَاتَّبَعَ رُسُلَهُ فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ خبرٍ وطلبٍ.
وقال محمدُ بن إسحاق: ليرحم الْعِبَادَ عَلَى مَا فِيهِمْ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حاتم.
وكثيرًا ما يقرن اللهُ تعالى في القرآن بين هاتين الصِّفتين: كقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [الرعد:6]، وَقَوْله: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49- 50]، إِلَى غيرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، فَتَارَةً يَدْعُو عِبَادَهُ إِلَيْهِ بِالرَّغْبَةِ وَصِفَةِ الْجَنَّةِ وَالتَّرْغِيبِ فِيمَا لَدَيْهِ، وَتَارَةً يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ بِالرَّهْبَةِ وَذِكْرِ النَّارِ وَأَنْكَالِهَا وَعَذَابِهَا وَالْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا، وَتَارَةً بهما لِيَنْجَعَ فِي كُلٍّ بِحَسَبِهِ.
جَعَلَنَا اللَّهُ مِمَّنْ أَطَاعَهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَرَكَ مَا عَنْهُ نَهَى وَزَجَرَ، وَصَدَّقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ، إِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ سَمِيعُ الدُّعَاءِ، جَوَادٌ كَرِيمٌ وَهَّابٌ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: أنَّ رسول الله ﷺ قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ من العقوبةِ ما طمع بجنَّته أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ من الرَّحمة ما قنط أحدٌ من الجنَّة، خَلَقَ اللَّهُ مِئَةَ رَحْمَةٍ، فَوَضَعَ وَاحِدَةً بَيْنَ خَلْقِهِ يَتَرَاحَمُونَ بِهَا، وَعِنْدَ اللَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِالْعَزِيزِ الدَّراوردي، عن العلاء به، وقال: حسنٌ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَقُتَيْبَةَ وَعَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ –ثَلَاثَتِهِمْ- عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جعفرٍ، عن العلاء.
وعنه أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لما خلق اللهُ الخلقَ كتب في كتابٍ فهو عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي.
وعنه أيضًا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول: جعل اللهُ الرحمةَ مئةَ جزءٍ، فأمسك عنده تسعةً وتسعين جزءًا، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائقُ، حتى ترفع الدَّابَّةُ حافرَها عن ولدِها خشيةً من أن تُصيبه رواه مسلم.
الشيخ: وهذا من رحمته جلَّ وعلا وإحسانه إلى عباده: أن رغَّبهم ورهَّبهم حتى يتوبوا إليه ويُنيبوا؛ رجاء رحمته وإحسانه، وخوفَ عقابه ونقمته، وهو سبحانه الغفور الرحيم، وهو سبحانه شديد العقاب، فلا يجوز للعبد أن يأمن مكرَه، ولا يجوز له أيضًا أن يقنط من رحمته، بل يجب أن يسير إلى الله بين هذا وهذا، فإنَّ الرحمةَ بين الرجاء والخوف، وإذا غلَّب جانبَ الخوف في الصحّة كان ذلك أنفع، كما قال جمعٌ من السلف، وفي حال المرض يُغلِّب جانبَ حُسن الظنِّ؛ لقوله ﷺ: لا يموتَنَّ أحدٌ منكم إلا وهو يُحْسِن ظنّه بالله.
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49- 50]، فمَن مال إلى القنوط فقد غلط وساء ظنّه، ومَن مال إلى الأمن فقد قنط.
فالواجب الحذر، وأن يكون بين الخوف والرجاء لعله ينجو، فالخوف يحمله على الحذر من السّيئات والتَّساهل، والرجاء يحمله على المسارعة إلى الطَّاعات والاستقامة عليها، والوقوف عند حدود الله.