إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159].
قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا: وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اخْتَلَفُوا قَبْلَ مبعث مُحَمَّدٍ ﷺ، فَتَفَرَّقُوا، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ ﷺ أنزل اللهُ عليه: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ الآية.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عُمَرَ السَّكُونِيُّ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ: كَتَبَ إِلَيَّ عبادُ بن كثيرٍ: حدَّثنا ليث، عن طاوس، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ وَلَيْسُوا مِنْكَ، هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَأَهْلُ الشُّبُهَاتِ، وَأَهْلُ الضَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الأُمَّة.
لكنَّ هذا إسنادٌ لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ عَبَّادَ بْنَ كَثِيرٍ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَخْتَلِقْ هَذَا الْحَدِيثَ، وَلَكِنَّهُ وَهِمَ فِي رَفْعِهِ؛ فَإِنَّهُ رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ لَيْثٍ -وَهُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمٍ- عَنْ طَاوُسٍ، عن أبي هريرة، في الآية أنَّه قَالَ: نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَقَالَ أَبُو غالبٍ: عن أبي أُمامة في قوله: وَكَانُوا شِيَعًا قَالَ: هُمُ الْخَوَارِجُ. وَرُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا، وَلَا يَصِحُّ.
وَقَالَ شُعْبَةُ: عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ، عَنْ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال لعائشةَ رضي الله عنها: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ الْبِدَعِ. وَهَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَهُوَ غَرِيبٌ أَيْضًا، وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ فَارَقَ دِينَ اللَّهِ، وَكَانَ مُخَالِفًا لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَشَرْعُهُ وَاحِدٌ، لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا افْتِرَاقَ، فَمَنِ اخْتَلَفَ فِيهِ وَكَانُوا شِيَعًا أي: فِرَقًا، كأهل الملل والنِّحَل والأهواء والضَّلالات، فإنَّ الله تعالى قد بَرَّأَ رَسُولَه ﷺ مِمَّا هُمْ فِيهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ الآية [الشورى:13].
وَفِي الْحَدِيثِ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ، دِينُنَا وَاحِدٌ، فَهَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالتَّمَسُّكِ بِشَرِيعَةِ الرَّسُولِ الْمُتَأَخِّرِ، وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَضَلَالَاتٌ وَجَهَالَاتٌ وَآرَاءٌ وأهواءٌ، والرسل بُرَآء منها، كما قال الله تعالى: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ.
وقوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الآية [الحج:17].
الشيخ: والمقصود من هذا التَّحذير من التَّفرق في الدِّين والاختلاف؛ لأنَّ ذلك يُضعف الدِّين، ويُزيل الثِّقة به، ويزرع الشَّحناء والعداوة والبغضاء والقتال، فالواجب هو التَّمسك بالحقِّ؛ لأنَّه شيء واحد، فالتَّفرق فيه يُضيعه بين الناس، ويُوجب الشَّحناء والعداوة والفساد، كلٌّ يدَّعي أنه صاحب الحقِّ؛ ولهذا قال : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ اليهود والنَّصارى تفرَّقوا على مللٍ كثيرةٍ، فعابهم اللهُ بذلك، وهذه الأمّة كذلك تفرَّقت أيضًا، كما أخبر نبيُّها عليه الصلاة والسلام، وأمر بالاتحاد على الفرقة الناجية، قال: ستفترق هذه الأُمَّة على ثلاثٍ وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وهذه الأُمَّة زادت؛ افترقت على ثلاثٍ وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: مَن هي يا رسول الله؟ قال: مَن كان على ما أنا عليه وأصحابي، وفي اللَّفظ الآخر: هي الجماعة، والمقصود هي المعتصمة بالحقِّ، هي الثابتة على الحقِّ الذي درج عليه النبيُّ ﷺ، ودرج عليه أصحابُه ، وأتباعهم بإحسانٍ، وهو امتثال أوامر الله، وترك نواهي الله، والوقوف عند حدود الله.
س: كل الفِرَقِ في النَّار؟
ج: إلا واحدة، هذا وعيدٌ، من باب الوعيد، فيهم الكافر، وفيهم العاصي، هذا كلّه وعيدٌ، النَّاجية، السَّالمة، المعتصمة بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسَّلام.
س: ............؟
ج: نعم صحيحٌ، الحديث صحيحٌ، له طرقٌ كثيرةٌ، لكن ما يلزم من دخولها النَّار كفرها كلها، يلزم مَن توعد: كالقاتل، والمرابي، وغيرهما بالنار، من باب الوعيد، فيهم الكافر، وفيهم غير الكافر.
ثم بيَّن لطفَه سبحانه في حكمه وعدله يوم القيامة، فقال تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الأنعام:160].
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مُفَصِّلَةٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ مُطَابِقَةً لِهَذِهِ الْآيَةِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: حَدَّثَنَا الْجَعْدُ أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ، عن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال فيما يروي عن ربِّه تبارك وتعالى: إِنَّ رَبَّكُمْ رَحِيمٌ، مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا إِلَى سَبْعِمِئَةٍ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ. وَمَنْ هُمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ وَاحِدَةً، أَوْ يَمْحُوهَا اللَّهُ ، وَلَا يَهْلكُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا هَالِكٌ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ومسلمٌ والنَّسائيُّ من حديث الجعد أبي عثمان به.
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَقُولُ اللَّهُ : مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَجَزَاؤُهَا مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ، وَمَنْ عَمِلَ قُرَابَ الْأَرْضِ خَطِيئَةً ثُمَّ لَقِيَنِي لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا؛ جَعَلْتُ لَهُ مِثْلَهَا مَغْفِرَةً، وَمَنِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ شِبْرًا اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِهِ. وَعَنْ أَبِي بَكْرِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيِّ، عَنْ وَكِيعٍ بِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَارِكَ السَّيِّئَةِ الَّذِي لَا يَعْمَلُهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
تارةً يتركها لله، فَهَذَا تُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةً عَلَى كَفِّهِ عَنْهَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا عَمَلٌ وَنِيَّةٌ؛ وَلِهَذَا جَاءَ أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةٌ، كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ: فَإِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائِي أَيْ: مِنْ أَجْلِي.
وَتَارَةً يَتْرُكُهَا نِسْيَانًا وَذُهُولًا عَنْهَا، فَهَذَا لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ خَيْرًا، وَلَا فَعَلَ شَرًّا.
وَتَارَةً يتركها عجزًا وكسلًا عنها بَعْدَ السَّعْيِ فِي أَسْبَابِهَا وَالتَّلَبُّسِ بِمَا يُقَرِّبُ منها، فهذا بمنزلة فاعلها، كما جاء في الحديث الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قال: إذا التقى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُول؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ.
وقال الْإِمَامُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ. وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ وأبو خَيْثَمَةَ قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ –كِلَاهُمَا- عن موسى بن عبيدة، عن أبي بَكْرِ ابْنِ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ جَدِّهِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةً، فَإِنْ تَرَكَهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ مَخَافَتِي، هَذَا لَفْظُ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ –يَعْنِي: ابْنَ مُوسَى.
الشيخ: وهذا من لطف الله جلَّ وعلا وعظيم إحسانه: أنَّ العبدَ إذا همَّ بحسنةٍ: من صدقةٍ، أو تسبيحٍ، أو تهليلٍ، أو تكبيرٍ، أو صلة رحمٍ، أو برِّ والدين، أو زيارة جارٍ، أو عيادة مريضٍ، ثم فعلها؛ كتب اللهُ له عشر حسنات. إذا همَّ بحسنةٍ ولم يفعلها كتبها اللهُ له حسنةً، فإن فعلها كتبها اللهُ له عشر حسنات؛ لأنَّ همَّه بها عملٌ صالحٌ، فكتب اللهُ له به حسنةً، فإذا فعل ذلك ضُوعفت إلى عشرٍ من ذلك على حسب حاله وإخلاصه وصدقه واجتهاده، فإن همَّ بها ولم يفعلها تكاسلًا لم تُكتب عليه ولا له، لم تُكتب حسنة ولا سيئة، بخلاف الذي همَّ بها فقط؛ لأنَّ هذا في الحسنة، إذا همَّ بالحسنة فعملها كتب اللهُ له عشر حسنات، فإن همَّ بها فلم يعملها كتبها اللهُ له حسنةً إلى أضعافٍ مُضاعفة .....
أمَّا السَّيئة فمثلما قال المؤلفُ: تنقسم إلى أقسامٍ ثلاثٍ: إن همَّ بالسَّيئة ثم تركها من أجل الله كُتبت له حسنةً، إن تركها من أجل الله: من جرَّائي، فإن همَّ بها ثم تركها كسلًا وتهاونًا لم تُكتب لا له ولا عليه.
الثالثة: همَّ وعمل، همَّ واجتهد وحرص، لكن لم يُدرك مطلوبه، كالذي أراد القتلَ فغُلِبَ، قُتِلَ، أو أراد السَّرقة فلم يتمكّن؛ فتح الباب، وفتح المخزن، فعل ما يستطيع، لكن حِيلَ بينه وبين ذلك .....، فهذا يأثم؛ لأنَّه فعل؛ لقول النبي ﷺ: إذا التقى المسلمانِ بسيفيهما فالقاتلُ والمقتولُ في النار، قيل: يا رسول الله، هذا القاتلُ فما شأن المقتول؟ قال: لأنَّه كان حريصًا على قتل صاحبه، قد فعل.
س: حاول الفعل فقط من جهةٍ تردعه؟
ج: ما فعل شيئًا، ما عليه شيءٌ إلا إذا فعل شيئًا، هم بالسَّيئة ثم ترك خوفًا أن يُمْسَك، ما عليه شيء إلا إذا فعل شيئًا: نزل كسر الباب، نزل في البيت، ضرب .....، أو ما أشبه ذلك، فعل شيئًا.
س: الرجل الذي ورد أعطاه الله مالًا يُنفقه في المحرّمات، فيقول رجلٌ آخر: يا ليت لي مثل ما لفلان .....، فهما في الوزر سواء، من أيِّ هذه الأنواع؟
ج: هذا من النَّوع الذي عمل؛ لأنَّه اجتهد، لكن ما قدر، اجتهد ولكن ما حصل المال حتى يُنفق منه، فهما في الأجر سواء، وذاك في السَّيئة ..... يتمنى أن يكون مثله معناه: لو استطاع لعمل السَّيئة، فهما في الوزر سواء، أمَّا الذي ما عليه شيءٌ هَمَّ ولم يفعل شيئًا، ولم يتمنَّ، ولم يقل شيئًا.
س: هذا يُعتبر عازمًا؟
ج: عازم، ولكن يتمنّى، معه التَّمني، نوعٌ من العمل.
س: الهمّ في الحرم؟
ج: هذا مُستثنًى، الهمُّ في الحرم يُؤاخذ به ولو لم يفعل، هذا من خصائص الحرم، مخصوصٌ من هذه الأحاديث؛ لقوله جلَّ وعلى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، هذه الآية خاصَّة، وهذا من دلائل عظم الحرم وخُصوصيَّته.
س: الإرادة أليست أقوى من الهمِّ؟
ج: الله أعلم، نوعٌ من العمل، قال: لو كان لي مثلُ فلانٍ لعملتُ مثل عمله. الإرادة هي الهمُّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ فُلَانِ بْنِ عَمِيلَةَ، عَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ الْأَسَدِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إنَّ النَّاسَ أَرْبَعَةٌ، وَالْأَعْمَالَ سِتَّةٌ، فَالنَّاسُ: مُوَسَّعٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمُوَسَّعٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا، مَقْتُورٌ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ. وَمَقْتُورٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، مُوَسَّعٌ لَهُ فِي الْآخِرَةِ. وَشَقِيٌّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالْأَعْمَالُ مُوجِبَتَانِ، وَمِثْلٌ بِمِثْلٍ، وَعَشَرَةُ أَضْعَافٍ، وَسَبْعُمِئَةِ ضِعْفٍ، فَالْمُوجِبَتَانِ: مَنْ مَاتَ مُسْلِمًا، مُؤْمِنًا، لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا؛ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ مَاتَ كَافِرًا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، فَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَهَا قَلْبَهُ وَحَرَصَ عَلَيْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ، وَمَنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ وَاحِدَةً، وَلَمْ تُضَاعَفْ عليه، ومَن عمل حسنةً كانت عليه بعشر أَمْثَالِهَا، وَمَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كانت بِسَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ عَمِيلَةَ، عَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ بِهِ بِبَعْضِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ: حَدَّثَنَا حبيبُ بنُ الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ: رَجُلٌ حَضَرَهَا بِلَغْوٍ، فَهُوَ حَظُّهُ مِنْهَا. وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِدُعَاءٍ، فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ، فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ. وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وسكونٍ، وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا، فَهِيَ كَفَّارَةٌ لَهُ إِلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا وزيادة ثلاثة أيام؛ وذلك لأنَّ الله يَقُولُ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ مَرْثَدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنِي أَبِي: حَدَّثَنِي ضَمْضَمُ بْنُ زُرْعَةَ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْجُمُعَةُ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا.
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَقَدْ صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَهَذَا لَفْظُهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَزَادَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، الْيَوْمُ بعشرة أيامٍ. ثم قال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا مَنْ جَاءَ بلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ يَقُولُ: بالشِّرك. وهكذا جاء عن جماعةٍ من السَّلف رضي الله عنهم أجمعين.
الشيخ: هذه الآية عامَّة في جميع الحسنات، لكن أعظمها حسنة التوحيد، فمَن جاء بحسنة التوحيد فله الأجر العظيم والنَّجاة والسَّعادة.
الشيخ: وهذا لا شكَّ أنَّ نصوصَه كثيرة، ونصّ القرآن كافٍ وشافٍ، فينبغي للمؤمن الإكثار من الحسنات والحرص، وألا يحتقر حسنةً، لا يحتقر شيئًا: اتَّقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ، فمَن لم يجد فبكلمةٍ طيبةٍ أغناك الله، عافاك الله، رحمك الله، وما أشبه ذلك.
وقد ذكرتُ لكم في هذا المجلس غير مرةٍ قصّة المرأة التي جاءت تشحذ في بيت النبيِّ ﷺ -من بيت عائشة- ومعها ابنتان، فلم تجد عائشةُ في البيت إلا ثلاث تمرات -وفي روايةٍ: تمرة- فأخذت التَّمرات الثلاث، فأعطت كلَّ واحدةٍ تمرةً، وأخذت الثالثةَ لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها؛ فشقَّتها بينهما نصفين، ولم تأكل شيئًا، قالت عائشةُ: فأعجبني شأنُها. فلما جاء النبيُّ ﷺ أخبرته، فقال: إنَّ الله أوجب لها بها الجنة، هاتان تمرتان شقَّتهما، رواه البخاري في "الصحيح" وغيره، وهذا شاهدٌ لقوله: اتَّقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ، فمَن لم يجد فبكلمةٍ طيبةٍ، فإذا أعطى ريالًا، قرشًا، قرشين، لقمةً، أو غير ذلك مما يستطيع؛ فهذا أعظم من شقِّ التَّمرة، وهكذا إذا ردَّ بكلمةٍ طيبةٍ أو دعوةٍ صالحةٍ فقد أحسن، له أجر ذلك.
س: السَّيئة في رمضان تُضاعف؟
ج: شهر رمضان تُضاعف فيه الأعمال، وعشر ذي الحجّة الأولى ..... في الحرم الشَّريف مكة، في المكان، وكذلك بعض الناس ممن له نشاطٌ في الخير، وأعمالٌ صالحةٌ، وقوةُ إيمانٍ؛ تُضاعف له الأعمال أكثر من غيره؛ لكمال إيمانه، وكمال تقواه ونشاطه، وإخلاصه وصدقه.
س: والسَّيئة في رمضان؟
ج: السَّيئة تُضاعف من جهة الكيفية، ما هو من جهة العدد، سيئةٌ في رمضان أعظم من سيئةٍ في شعبان من جهة الكيفية، من جهة الإثم، ولكن ما تعدد، ما يُعطى سيِّئتان ولا عشرٌ، سيئة واحدة، لكنَّها أعظم من جهة الإثم، وهكذا سيئةٌ في الحرم وسيئةٌ في عشر ذي الحجّة أعظم: مَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [الأنعام:160] بنصِّ القرآن.
س: الدَّليل على أنَّ السَّيئة تعظم؟
ج: وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]؛ ولأنَّ الحسنات فيه مُضاعفة، والسَّيئات كذلك من جهة الإثم، وأما العدد لا؛ لأنَّ الله نصَّ في قوله: مَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا، هذا عامٌّ، نصٌّ من القرآن، لا تعدد السَّيئات، كل مَن جاء بالسَّيئة يُعطى مثلها، لكن المثل يختلف؛ فمثلٌ في رمضان، أو في عشر ذي الحجّة، أو الحرم الشَّريف ليس مثل غيره.
س: والأشهر الحرم؟
ج: الأشهر الحرم فيها الخلافُ من جهة القتال فقط.