وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:112- 113].
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا جَعَلْنَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ أعداء يُخالفونك ويُعادونك ويُعاندونك، جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ مِنْ قَبْلِكَ أَيْضًا أَعْدَاءً، فلا يحزنك ذلك، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا الآية [الأنعام:34]، وَقَالَ تَعَالَى: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ [فصلت:43]، وَقَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ الآية [الفرقان:31].
وَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ.
وَقَوْلُهُ: شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بَدَلٌ مِنْ عَدُوًّا أَيْ: لهم أعداء من شياطين الإنس والجنّ.
والشيطان كل مَن خرج عن نظيره بالشَّر، ولا يُعادي الرسل إلا الشَّياطين من هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ وَلَعَنَهُمْ.
قَالَ عَبْدُالرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ قَالَ: مِنَ الْجِنِّ شَيَاطِينُ، وَمِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينُ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ.
قَالَ قَتَادَةُ: وَبَلَغَنِي أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ يَوْمًا يُصَلِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: تَعَوَّذْ يَا أَبَا ذَرٍّ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَقَالَ: أَوَإِنَّ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: نَعَمْ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ بَيْنَ قَتَادَةَ وَأَبِي ذَرٍّ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ ؛ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِاللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَشْيَخَةِ، عَنِ ابْنِ عَائِذٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في مَجْلِسٍ قَدْ أَطَالَ فِيهِ الْجُلُوسَ، قَالَ: فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَعَوَّذْتَ بِاللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الإنسِ والجنِّ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ شَيَاطِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، هُمْ شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ.
وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ انْقِطَاعٌ، وَرُوِيَ مُتَّصِلًا، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ: حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ: أنبأنا ابن أبي عُمَرَ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ الحسيحاس.
الشيخ: وإلا بالخاء؟
الطالب: بالحاء.
الشيخ: ابن الخشخاش؟
الطالب: نعم.
الشيخ: لعله عبيد بن الخشخاش، هذا المعروف.
الطالب: الذي قبله: أبو عمر.
الشيخ: السند الذي قبله؟ قال الإمام أحمد.
الشيخ: الذي بعده: قال الإمامُ أحمد.
الشيخ: كذا عندكم؟
الطالب: أبو عمر، أحسن الله إليك.
الشيخ: ما في ابن؟ أعد: حدَّثنا أيش؟
الشيخ: حطّ على ابن أبي عمر: نسخة أبو عمر، يُراجع سند ابن جرير.
مُداخلة: في "التهذيب" قال: عبيد بن الخشخاش، روى عن أبي ذرٍّ، وعنه أبو عمر.
الشيخ: هذا "التهذيب" معك؟
الطالب: ..........
الشيخ: أيش يقول؟
الطالب: روى عن أبي ذرٍّ، وعنه أبو عمر الدِّمشقي.
الشيخ: صلّحها: أبو عمر.
الطالب: في "التقريب" يقول: عبيد بن الخشخاش بالمعجمات، وقيل: بالمهملات.
الشيخ: إيه، نعم.
كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ: حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ: أنبأنا أبو عُمَرَ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ الْخشخاش، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَلَسْتُ، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: قُمْ فَصَلِّ، قَالَ: فَقُمْتُ فَصَلَّيْتُ ثُمَّ جَلَسْتُ، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِلْإِنْسِ شَيَاطِينُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ بِطُولِهِ.
وَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي "تَفْسِيرِهِ" مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، وَيَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ، وَعُبَيْدِاللَّهِ بْنِ مُوسَى –ثَلَاثَتِهِمْ- عَنِ الْمَسْعُودِيِّ بِهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ: قال ابنُ جريرٍ: حدَّثنا الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَعَوَّذْتَ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ شَيَاطِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
الشيخ: وهنا قدَّم شياطين الإنس؛ لأنَّ شرَّهم أعظم؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112]، فهم أعداء أشدّاء على الرسل وعلى أتباعهم من شياطين الجنِّ؛ لأنَّهم أعداء يُباشرون بالسلاح وبالقوة، والتَّلبيس والشُّبَه، وشياطين الجنِّ بالوسوسة ..... التَّعوذ بالله من الشيطان الرجيم، والتَّحرز منه بذكر الله، أمَّا شياطين الإنس فهم لا يُعيذ منهم إلا الله، ثم القوة، مع التَّعوذات الشَّرعية، لكن شرّهم مباشرٌ، شرّهم عظيم، فالبداءة بهم في الآية، وهم أعداء الرسل، وهم أعداء أتباع الرسل، الكفرة الصَّادُّون عن سبيل الله.
طَرِيقٌ أُخْرَى لِلْحَدِيثِ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ الْحِمْصِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ: حَدَّثَنَا مُعَانُ بْنُ رِفَاعَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا أَبَا ذَرٍّ، تَعَوَّذْتَ من شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، وهل للإنس شَيَاطِين؟ قَالَ: نَعَمْ، شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا.
فَهَذِهِ طُرُقٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَمَجْمُوعُهَا يُفِيدُ قُوَّتَهُ وصحَّته، والله أعلم.
الطالب: مُعَان -بضم أوله وتخفيف المهملة- ابن رفاعة السّلامي -بتخفيف اللام- الشَّامي، لين الحديث، كثير الإرسال، من السابعة، مات بعد الخمسين. (ق).
الشيخ: الذي بعده؟
الطالب: معاوية، في معاذ بن رفاعة.
الشيخ: نعم.
الطالب: معاذ بن رفاعة بن رافع الأنصاري، الزرقي، المدني، صدوق، من الرابعة. (خ، د، ت، س).
انظر السَّند الذي عندك.
الشيخ: .........
الشيخ: هذا كلامٌ مُتناقضٌ، هذا كلامٌ مُتناقضٌ ..... قد يكون هذا وهمًا من شريكٍ، له أغلاط، ثم نصّ القرآن، لا يجوز لعكرمة ولا غيره أن يقول خلاف ذلك، لا يُخالف نصّ القرآن.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا الْحَارِثُ: حَدَّثَنَا عَبْدُالْعَزِيزِ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا، قَالَ: لِلْإِنْسِيِّ شَيْطَانٌ، وَلِلْجِنِّيِّ شَيْطَانٌ، فَيَلْقَى شَيْطَانُ الْإِنْسِ شَيْطَانَ الْجِنِّ، فَيُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا.
وَقَالَ أَسْبَاطٌ: عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ: أَمَّا شَيَاطِينُ الْإِنْسِ فَالشَّيَاطِينُ الَّتِي تُضِلُّ الْإِنْسَ، وشياطين الجنِّ التي تُضلّ الْجِنَّ، يَلْتَقِيَانِ، فَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: إني أضللتُ صاحبي بكذا وكذا، فأضلّ أَنْتَ صَاحِبَكَ بِكَذَا وَكَذَا. فَيُعَلِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
فَفَهِمَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِشَيَاطِينِ الْإِنْسِ عِنْدَ عِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ الشَّيَاطِينُ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ يُضِلُّونَ النَّاسَ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ مِنْهُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِ عِكْرِمَةَ، وَأَمَّا كَلَامُ السُّدِّيِّ فَلَيْسَ مِثْلَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ نَحْوَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ لِلْجِنِّ شَيَاطِينَ يُضِلُّونَهُمْ مِثْلُ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ يُضِلُّونَهُمْ. قَالَ: فَيَلْتَقِي شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَشَيَاطِينُ الْجِنِّ، فَيَقُولُ هَذَا لِهَذَا: أَضْلِلْهُ بِكَذَا، فَهُوَ قَوْلُهُ: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَالصَّحِيحُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ لِلْإِنْسِ شياطين منهم، وشيطان كل شيءٍ مارده؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ، وَمَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: شَيْطَانٌ فِي الْكِلَابِ.
الشيخ: وهذا هو الصَّواب: أنَّ الجنَّ والإنس منهم شياطين، وهم المردة المضلّون من هؤلاء ومن هؤلاء، وهم يتساعدون في الباطل، يُوحي بعضُهم إلى بعضٍ زخرف القول غرورًا، يلتقيان بوسوسته إليه وإلقائه إليه ما يضلّ به الناس، وهذا بكلامه الصَّريح، وأعماله الصَّريحة، وهكذا ما يقع للكهنة من الشَّياطين التي تضلّ الناس بواسطة الكهنة الذين يصدّون عن الحقِّ ممن لديهم من أصدقائهم من الجنِّ، فإنَّ كلَّ كاهنٍ له رِئْيٌ من الجنِّ، يعني: صاحب من الجنِّ، صديقٌ يُمْلِي عليه.
ولا مانع أيضًا أن يكون بعضُ الشياطين يتمثّل للإنس في صورة إنسانٍ، فيُملي عليه الباطل، ويصدّه عن الحقِّ، كما فعل الشيطانُ مع قريشٍ لما اجتمعوا في النَّدوة لحرب محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وكما تمثّل الشيطانُ للنبي ﷺ بشعلةٍ من نارٍ يُريد إحراقه بها، حتى أمسكه النبيُّ عليه الصلاة والسلام.
المقصود أنَّ هذا يقع من شياطين الإنس وشياطين الجنّ، فاللِّقاء بينهم والتَّعاون سواء بالوسوسة من شياطين الجنِّ إلى الإنس، وشياطين الإنس يُضلُّونهم بما يسمعون منهم من الباطل، وبما يفعلون مع أولياء الله من الباطل، أو بما يقع من التَّمثل من الجنِّ؛ حتى يُساعدون شياطين الإنس، وحتى يلقوا عليهم ما يُلقون من الكلام الذي يُباشرونهم به مُشافهةً ومُشاهدةً، نعم.
وَقَالَ ابْنُ جريرٍ: قَالَ مُجَاهِدٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: كُفَّارُ الْجِنِّ شَيَاطِينُ، يُوحُونَ إِلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ -كُفَّارِ الْإِنْسِ- زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى الْمُخْتَارِ فَأَكْرَمَنِي وَأَنْزَلَنِي، حَتَّى كَادَ يَتَعَاهَدُ مَبِيتِي بِاللَّيْلِ، قال: فقال لي: اخرج إلى الناس فحدِّثهم. قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي الْوَحْيِ؟ فَقُلْتُ: الْوَحْيُ وَحْيَانِ؛ قَالَ اللَّهُ تعالى: بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [يوسف:3]، وقال تَعَالَى: شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا، قَالَ: فَهَمُّوا بِي أن يأخذوني. فقلتُ لهم: مَا لَكُمْ ذَاكَ، إِنِّي مُفْتِيكُمْ وَضَيْفُكُمْ. فَتَرَكُونِي. وَإِنَّمَا عَرَّضَ عِكْرِمَةُ بِالْمُخْتَارِ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي عُبَيْدٍ -قَبَّحَهُ اللَّهُ- وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الوحي، وَقَدْ كَانَتْ أُخْتُهُ صَفِيَّةُ تَحْتَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَكَانَتْ مِنَ الصَّالِحَاتِ، وَلَمَّا أُخْبِرَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ الْمُخْتَارَ يَزْعُمُ أنَّه يُوحى إليه، فقال: صَدَقَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيَائِهِمْ [الأنعام:121].
الشيخ: صدق، يعني: يُوحي إليه الشيطانُ. وهكذا قول عكرمة: الوحي وحيان: وحيٌ من الله -وهذا للرسل- ووحي الشيطان، مثلما يدَّعي المختار.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا أَيْ: يُلْقِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ الْمُزَيَّنَ الْمُزَخْرَفَ، وَهُوَ الْمُزَوَّقُ الَّذِي يَغْتَرُّ سَامِعُهُ مِنَ الْجَهَلَةِ بِأَمْرِهِ.
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ أَيْ: وَذَلِكَ كُلُّهُ بِقَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ، وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ.
الشيخ: يعني من هؤلاء الشَّياطين، والمقصود من ذلك الاختبار والامتحان، وربُّك حكيمٌ عليمٌ؛ ليهلِك مَن هلك عن بينةٍ، ويتبين الصَّادقون الذين يُريدون الحقَّ؛ حتى يمتحنوا الأخبار، ويبتلوا ما يقوله الناسُ، وينظروا فيظهر لهم الحقّ، ويتبين لهم الباطل، بخلاف الذين لهم هوى، ولهم مقاصد خبيثة، فإنهم لا يُبالون، يتبعون كلَّ ناعقٍ حسب مصالحهم، وحسب رغبتهم في الدنيا، والله يبتلي عباده بالأشرار والأخيار، بالصَّادقين والفُجَّار، بشياطين الإنس والجنّ، بدُعاة الباطل ودُعاة النار: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:42]، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]، وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168]، لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2].
س: القرين هل يموت بموت الإنسان؟
ج: لا، ما جاء أنَّه يموت بموت الإنسان، قد يبقى ما شاء الله، وقد يُنقل إلى غيره، ما هناك شيء يدل على أنَّه يموت بموته، والملك كذلك.
س: .............؟
ج: الموت كلٌّ يموت، لكن ما يلزم من موت الإنسان موت الملك والشيطان الذي معه، قد يمهلان، وقد يموتان، فالله أعلم بحالهما، ما هناك في النصوص ما يدل على أنَّ الملك والشَّيطان يموتان بموته.
س: وقول بعضهم أنَّه يلزم قبر الإنسي، القرين يلزم قبر الإنسي؟
ج: الله أعلم، ما في دليل، ما نعلم دليلًا، موت الإنسان خروج روحه، أما شيطانه وملكه فالله أعلم بهما.
فَذَرْهُمْ أَيْ: فَدَعْهُمْ، وَمَا يَفْتَرُونَ أَيْ: يَكْذِبُونَ، أَيْ: دَعْ أَذَاهُمْ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي عَدَاوَتِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَيْ: وَلِتَمِيلَ إِلَيْهِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَيْ: قُلُوبُهُمْ وَعُقُولُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: قُلُوبُ الْكَافِرِينَ.
وَلِيَرْضَوْهُ أَيْ: يُحِبُّوهُ ويُريدوه، وإنما يستجيب لذلك مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ [الصافات:161- 163]، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:8- 9].
وقوله: وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ، قَالَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلِيَكْتَسِبُوا مَا هُمْ مُكْتَسِبُونَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: وَلِيَعْمَلُوا ما هم عاملون.
س: ..............؟
ج: المعروف أنَّ الشيطان يُوسوس إلى الشَّر، ويدعو إلى الشَّر، وقد يقع منه دعوةٌ إلى خيرٍ إذا كان يتوصل بها إلى وقوعٍ في شرٍّ، هذا يحتمل، مثل: المنافقين يُزينون شيئًا من الخير ويدعون إليه؛ ليتوصَّلوا به إلى شرٍّ وبلاءٍ، ما يمتنع، نسأل الله العافية.
س: ...............؟
ج: الشيطان له لَمَّة، والملك له لَمَّة، لَمَّة الملك وعدٌ بالخير، وتصديقٌ بالحقِّ، ولَمَّة الشيطان وعدٌ بالباطل، وتصديقٌ بالباطل، وتكذيبٌ بالحقِّ.
فالقاعدة: أنَّ الشيطان يدعو إلى الشر، ويُشير به ويُزيِّنه، والملك بخلاف ذلك، لكن من حيث القواعد الشَّرعية من الأدلة الشَّرعية ما يمتنع أن يكون يُشير أو يُوسوس الشيطانُ بحقٍّ ليُريد به باطلًا، ويقوده إلى باطلٍ، كالمنافقين، نسأل الله العافية.
س: والخير لا يُسمَّى: وسوسة؟
ج: هو وسوسة في هذا، الوسوسة شيء ما يُرَى، يُوسوس له وهو ما يراه، بطريقةٍ خفيَّةٍ.
س: قول عكرمة: فهمُّوا بي أن يأخذوني؟
ج: يعني: جنود المختار، أصحاب المختار ابن أبي عبيد، كان يدَّعي النبوة في العراق، يعني: عرفوا أنَّه يُشير إلى المختار.
س: .............؟
ج: إذا كان يدعو إلى شرٍّ فهو وسوسة من الشيطان، وإن كان يدعو إلى خيرٍ فهي من الملك، هذه هي القاعدة، لكن احذر وانظر فيما يُملى عليك، فإذا كان إلى الخير فخُذْ به، وإلا انتقل إلى ما هو أفضل منه، حتى الإنسان، حتى صديقه المؤمن قد ينصحه بخيرٍ يفوته ما هو أفضل منه؛ لأنَّه لم ..... من هذا الشيء ما لم يظهر له، فإذا ظهر لك من الأدلة ومن مشورة الآخر أنَّ هناك خيرًا أفضل من هذا الخير فخذ بالخير الأفضل.
س: .............؟
ج: ذكر المؤلفُ طُرُقَه، يُقوِّي بعضُها بعضًا، ولو ما صحَّ فالقرآن كافٍ، أقول: ما يحتاج ..... القرآن كافٍ وصريح.