لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران:181- 184].
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لما نزل قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245] قَالَتِ الْيَهُودُ: يا محمّد، افتقر ربّك فسأل عِبَادَهُ الْقَرْضَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ الْآيَةَ. رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ ابْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فوجد من يهود ناسًا كثيرةً قَدِ اجْتَمَعُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: فِنْحَاصُ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ، وَمَعَهُ حَبْرٌ يُقال له: أشيع، فقال له أَبُو بَكْرٍ: وَيْحَكَ يَا فِنْحَاصُ! اتَّقِ اللَّهَ وأسلم، فوالله إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَدْ جَاءَكُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِهِ، تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ.
فَقَالَ فِنْحَاصُ: وَاللَّهِ يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا بِنَا إِلَى اللَّهِ مِنْ حَاجَةٍ مِنْ فَقْرٍ، وَإِنَّهُ إِلَيْنَا لَفَقِيرٌ، مَا نَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ كَمَا يَتَضَرَّعُ إِلَيْنَا، وَإِنَّا عَنْهُ لَأَغْنِيَاءُ، وَلَوْ كَانَ عَنَّا غَنِيًّا مَا اسْتَقْرَضَ مِنَّا كَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُكُمْ، يَنْهَاكُمْ عَنِ الرِّبَا ويُعطيناه، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا مَا أَعْطَانَا الرِّبَا.
فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ فَضَرَبَ وَجْهَ فِنْحَاصَ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لولا الذي بيننا وبينكم مِنَ الْعَهْدِ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، فَاكْذِبُونَا مَا اسْتَطَعْتُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
فَذَهَبَ فِنْحَاصُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فقال: يا محمد، أَبْصِرْ مَا صَنَعَ بِي صَاحِبُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَبِي بَكْرٍ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ قَدْ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا؛ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ، وَأَنَّهُمْ عَنْهُ أَغْنِيَاءُ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ غَضِبْتُ لِلَّهِ مما قال، فضربتُ وجهه. فجحد فنحاصُ ذلك وَقَالَ: مَا قُلْتُ ذَلِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيمَا قَالَ فِنْحَاصُ رَدًّا عَلَيْهِ وَتَصْدِيقًا لِأَبِي بَكْرٍ: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ الْآيَةَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
الشيخ: وهذا يُبين خُبث اليهود وجرأتهم على الله، وأنهم في غايةٍ من الاستهتار والتَّنقص للمولى سبحانه، مع ما عندهم من العلم الذي جحدوه، فكيف يقول مَن له أدنى مسكة من عقلٍ: إنَّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء! ويقولون كما قال الله عنهم في سورة المائدة: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ يعني: بخيل ما يُعطي، بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64]، هذه المقالات وأشباهها من اليهود تدل على الخُبث العظيم، والكفر الشَّنيع، والاستهتار، وقلّة الحياء، فالله هو أغنى الأغنياء، هو الذي خلقهم، وهو الذي أوجدهم من العدم، وهو الذي أعطاهم ما أعطاهم من النِّعَم، مَن الذي أعطاهم الحياة؟ مَن الذي أعطاهم الصحّة؟ مَن الذي أعطاهم الصِّناعة؟ مَن الذي أعطاهم المال؟ مَن الذي خلق الأرض؟ مَن الذي خلق السَّماء؟ مَن الذي خلق الأنهار والأشجار والأحجار والمعادن وغير ذلك؟ مُكابرة، قومٌ بُهْتٌ، يجحدون الحقَّ ويُنكرونه بغير مُبالاةٍ ولا حياءٍ؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82].
أمَّا استقراض الله: فهو يدعو الناس إلى الصَّدقة، إلى الإحسان، هو غنيٌّ عنهم جلَّ وعلا، لكن لأنفسهم: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يعني: يُقدّم صدقات، ما هو يُعطيها الربّ، الربّ غنيٌّ عنها، لكن يُقدّمها لوجهه الكريم للفقير والمسكين والقريب والمشاريع الخيرية، إلى غير هذا من وجوه الخير، فالإقراض في الحقيقة ..... تقرض ربّك يعني: تُقدم له المال ابتغاء وجهه في وجوه الخير، وربك عنك غنيٌّ، هو الذي أعطاك المالَ، مَن الذي أعطاك المالَ؟ سواء كان من كسبك، أو إرث، أو غير هذا، مَن الذي أعطاك؟ مَن الذي أعطاك الآلة التي كتبتَ بها؟ وأعطاك العقل؟ وأعطاك اليد؟ وأعطاك الفكر؟ وأعطاك البصر؟ وأعطاك السمع؟ وأعطاك القدم؟ وأعطاك اليد؟ مَن الذي أعطى من قبلك من آبائك وأسلافك الذين ورثوا لك المال؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15- 17].
فالحثّ على القرض معناه: الحثّ على الصَّدقة والإحسان في إخوانك، في بني آدم، من جنسك، من المشاريع الخيرية، ربك عنك غنيٌّ، إنما يأمرك بالإقراض ابتغاء وجهه، إقراض الله: الإنفاق ابتغاء وجهه، والصَّرف في وجوه الخير ابتغاء وجهه، ليس به حاجة إليك، ولا إلى غيرك، ولكنَّه يأمرك بما فيه مصلحتك، يأمرك بالقرض لما فيه من المصلحة لك، ويأمرك بالصَّدقة: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:280]، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274]، آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، يأمرك بما فيه الخير لك، يأمرك بالأعمال التي فيها خيرك، فيها صلاحك، فيها نجاتك، فيها حُسن العاقبة لك إن كنت تعقل، ولكن اليهود قومٌ قلَّ حياؤهم، وذهب إيمانهم، وكثر استهتارهم، فاستحقّوا لعنةَ الله وغضبه، نسأل الله العافية.
ولهذا لخُبثِهم وعنادهم وسُوء طويَّتهم قلَّ أن يُسْلِمَ منهم مسلمٌ، النَّصارى يُسْلِم منهم الكثير، والكفرة الآخرون يُسْلِم منهم الكثير، أما اليهود فقلَّ مَن يُسلم منهم، نعوذ بالله؛ لخُبثهم العظيم، وعنادهم الشَّديد، وحقد قلوبهم على المسلمين، فهم في غايةٍ من البُعد عن الهدى، وفي غايةٍ من الخُبث وسُوء العقيدة، وفي غايةٍ من سُوء الظنِّ بالله، وفي غايةٍ من الاستهتار والتَّنقص بما جاء به الرسولُ عليه الصلاة والسلام، فاستحقُّوا غضبَ الله، واستحقُّوا لعنته وشدّة عذابه، نسأل الله العافية.
وَقَوْلُهُ: سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا تهديدٌ ووعيدٌ؛ ولهذا قرنه تعالى بِقَوْلِهِ: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أَيْ: هَذَا قَوْلُهُمْ فِي اللَّهِ، وَهَذِهِ مُعَامَلَتُهُمْ لِرُسُلِ اللَّهِ، وَسَيَجْزِيهِمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ شَرَّ الْجَزَاءِ؛ وَلِهَذَا قال تعالى: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران:181- 182] أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا وَتَحْقِيرًا وتصغيرًا.
وقوله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [آل عمران:183].
يَقُولُ تَعَالَى تَكْذِيبًا أَيْضًا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمُوا أنَّ الله عهد إليهم في كتبهم ألَّا يُؤمنوا لرسولٍ حَتَّى يَكُونَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ أَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ بصدقةٍ من أُمَّته فتُقبِّلت مِنْهُ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ تَأْكُلُهَا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا.
قَالَ اللَّهُ : قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ أَيْ: بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ، وَبِالَّذِي قُلْتُمْ أَيْ: وَبِنَارٍ تَأْكُلُ الْقَرَابِينَ الْمُتَقَبَّلَةَ، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ أَيْ: فَلِمَ قَابَلْتُمُوهُمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالْمُخَالَفَةِ وَالْمُعَانَدَةِ وَقَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَنَّكُمْ تَتَّبِعُونَ الْحَقَّ وَتَنْقَادُونَ لِلرُّسُلِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران:184] أَيْ: لَا يُوهِنُكَ تكذيب هؤلاء لك، فلك أسوةٌ بمَن قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ كُذِّبُوا مَعَ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ، وَهِيَ الْحُجَجُ وَالْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ، وَالزُّبُرِ وَهِيَ الْكُتُبُ الْمُتَلَقَّاةُ مِنَ السَّمَاءِ؛ كَالصُّحُفِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ أَيِ: البيّن الواضح الجليّ.
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:185- 186].
يُخْبِرُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَامًّا يَعُمُّ جَمِيعَ الْخَلِيقَةِ بِأَنَّ كُلَّ نفسٍ ذائقةُ الموت، كقوله تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:26- 27]، فَهُوَ تَعَالَى وَحْدَهُ هُوَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يموت، والجنّ والإنسُ يَمُوتُونَ، وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَيَنْفَرِدُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْقَهَّارُ بِالدَّيْمُومَةِ وَالْبَقَاءِ، فَيَكُونُ آخِرًا كَمَا كَانَ أَوَّلًا.
وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا تَعْزِيَةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى أَحَدٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ حَتَّى يَمُوتَ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَفَرَغَتِ النُّطفةُ التي قدّر الله وجودها في صُلْبِ آدَمَ وَانْتَهَتِ الْبَرِيَّةُ؛ أَقَامَ اللَّهُ الْقِيَامَةَ، وَجَازَى الْخَلَائِقَ بِأَعْمَالِهَا، جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا، كَثِيرِهَا وَقَلِيلِهَا، كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا، فَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ؛ ولهذا قال تعالى: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
الشيخ: وهذا يُوجب على العاقل الحذر والعناية والاستعداد: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ فلا يطمع في البقاء أحدٌ، بل لا بدَّ من الموت، فاحسب ..... لهذا الموت الذي لا بدَّ منه، وهو يأتي على غرَّةٍ، ليس عندك منه علامات تعرف بها متى يجيئك، ولا وثيقة بذلك، فأنت على خطرٍ، فالموت لا بدَّ منه .....، ومتى يجيء لا تعلمه، فالعاقل يعدّ العدّة لهذا الذي سيقدم، متى يقدم؟ ما تدري متى يقدم، ولكن الحزم والواجب والكيس أن تعدّ لهذا القادم، وأن تعمل الأعمال التي تستطيعها بخلاص نفسك ونجاتك قبل أن يقدم هذا الموفود الذي لا بدَّ منه، وقد فرَّط الأكثرون فخسروا، وحذر الأقلون وأخذوا بالكيس والاستعداد فربحوا وفازوا، فكن من الأكياس، كن من الأخيار، كن من الحذرين، كن من أهل الحزم أينما كنت: في بيتك، أو في الطريق، أو في السفر، أو في الإقامة، أو في الصحة، أو في المرض، أو في أي حالٍ، كن مُستعدًّا مُهيئًا نفسك لهذا القادم الذي لا بدَّ منه؛ حتى تربح الدنيا والآخرة، وتفوز بالسَّعادة التي لا نهايةَ لها.
ومَن فرَّط ندم غايةَ النَّدامة، والله كرَّر هذه في كتابه العظيم: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ للتَّحذير والحثِّ على الإعداد، والترهيب من الغِرّة والتَّساهل، وكل إنسانٍ يموت يندم، فالمسيء يندم ألا يكون تاب، كما في الحديث، والمحسِن يندم ألا يكون ازداد إحسانًا، فكن ممن يُسارع ويجتهد في أنواع الإحسان، وفي لزوم التوبة أينما كنت، هذا هو طريق النَّجاة، هذا طريق الحزم، هذا طريق الأكياس وأهل الحزم، واحذر أن تكون من المفرِّطين المعرِضين الجاهلين الغافلين الذين يُغريهم الشَّيطان، ويُزين لهم الشيطانُ التَّسويفَ فيندمون، نعم.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا عَبْدُالْعَزِيزِ الْأُوَيْسِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ أَبِي عَلِيٍّ الهاشميّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ ﷺ وَجَاءَتِ التَّعْزِيَةُ جَاءَهُمْ آتٍ يَسْمَعُونَ حِسَّهُ وَلَا يَرَوْنَ شَخْصَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرَكًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَبِاللَّهِ فَثِقُوا، وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُه.
قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ هَذَا الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الشيخ: هذا مُنقطعٌ؛ لأنَّ محمد بن علي بن الحسين -وهو الباقر- لم يُدرك جدّه الحسين، ولا جدّه عليًّا، فهو مُنقطعٌ، وغير صحيحٍ؛ لأنَّ الخضر قد تُوفي قبل النبي ﷺ بدهرٍ طويلٍ، هذا الصَّواب، الخضر ليس بموجودٍ، وبكل حالٍ هو حديثٌ ضعيفٌ، وأحاديث التَّعزية مشهورة، لكنَّ هذا السَّند ضعيفٌ، ليس بصحيحٍ، ومِن أنكر ما فيها ذكر الخضر، ولو كان موجودًا الخضر لمات بعد النبي ﷺ، فإنَّه قال في آخر حياته: إنَّه لا يأتي مئةُ عامٍ على مَن هو موجودٌ اليوم ومنهم عين تطرف. لو كان موجودًا لكان تُوفي، لكن في عهد النبي ﷺ لم يدخل في هذا الحديث؛ لأنَّه أخبر النبيّ بعده أنَّه لا يأتي مئةُ عامٍ، لكن المقصود أنه تُوفي قبل النبي بدهرٍ، فلو كان موجودًا لاتَّصل النبيُّ ﷺ ..... لقاؤه له، وإيمانه به، إلى غير ذلك.
س: الدَّجال أليس مُستثنًى بعد المئة عام؟
ج: على القول بأنَّه موجودٌ من حديث تميمٍ يكون مُستثنًى.
س: .............؟
ج: كذلك هذه من الأدلة، من أدلة ..... على موت الخضر، نعم.
وَقَوْلُهُ: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ أَيْ: مَنْ جُنِّبَ النَّارَ وَنَجَا مِنْهَا وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ كُلَّ الْفَوْزِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمَ: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ.
هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي "صَحِيحِهِ".
الشيخ: أبو حاتم ابن حبان، وهو في "الصحيحين" من حديث سهل بن سعدٍ، يقول ﷺ: رِبَاط يومٍ في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها، ولموضع سوط أحدكم في الجنّة خيرٌ من الدنيا وما عليها، والغدوة يغدوها العبدُ في سبيل الله والرّوحة خيرٌ من الدنيا وما عليها، أبو حاتم ابن حبان، نعم.
مُداخلة: عندنا: وقد رواه بهذه الزيادة .....
الشيخ: أيش عندك؟
الشيخ: أبو حاتم ابن حبان، ما في "واو".
الشيخ: يعني بذكر هذه الزيادة، زيادة: اقرؤوا الآيةَ الكريمةَ، بدون غلطٍ بهذه الزِّيادة، مثلما عند ..... يعني "الصحيحين" ليس فيهما هذه الزيادة، إنما هذه زيادة ابن أبي حاتم، ورواها ابن حبان أيضًا.
هَذَا وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: أَنْبَأَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ: أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، قَالَ: ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تعالى: وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] ما رواه وكيعُ بن الجرَّاح عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَأَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتُدْرِكْهُ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أن يُؤْتَى إليه.
وقد رواه الإمامُ أحمد في "مسنده" عن وكيعٍ به.
وقوله تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ تصغيرٌ لشأن الدّنيا، وتحقيرٌ لِأَمْرِهَا، وَأَنَّهَا دَنِيئَةٌ فَانِيَةٌ، قَلِيلَةٌ زَائِلَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16- 17]، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الشورى:36].
وَفِي الْحَدِيثِ: وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَغْمِسُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قوله تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ قال: هِيَ مَتَاعٌ مَتْرُوكَةٌ، أَوْشَكَتْ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَنْ تَضْمَحِلَّ عَنْ أَهْلِهَا، فخذوا من هَذَا الْمَتَاعِ طَاعَةَ اللَّهِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ، وَلَا قوةَ إلَّا بالله.
الشيخ: نعم، هكذا ينبغي، فهي متاع الغرور، متاعٌ زائلٌ، لكن العاقلَ يأخذ منه الأهبة، يتزود، فهي دار العمل، ونِعْم الدَّار لمن تزوَّد فيها بالخير والعمل الصَّالح واجتهد، فيفوز بالسَّعادة، ولكنَّها متاع الغرور مثلما قال جلَّ وعلا: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ الآية [الحديد:20]، فالمهم أن يعدّ فيها العُدّة، وأن يأخذ منها الأهبة، وأن يأخذ الزاد كما قال تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة:197].
س: ..............؟
ج: .............
وقوله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ كقوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [البقرة:155] إلى آخر الآيتين، أَيْ: لَا بُدَّ أَنْ يُبْتَلَى الْمُؤْمِنُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، أَوْ نَفْسِهِ، أَوْ وَلَدِهِ، أَوْ أَهْلِهِ، وَيُبْتَلَى الْمُؤْمِنُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي الْبَلَاءِ.
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا يَقُولُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ مَقْدَمِهِمُ الْمَدِينَةَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ مُسَلِّيًا لهم عمَّا نالهم من الأذي من أهل الكتاب والمشركين، وآمرًا لهم بالصَّفح والصَّبر والعفو حتى يفرج الله، فقال تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا.
قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَأَوَّلُ فِي الْعَفْوِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أَذِنَ اللهُ فيهم. هكذا ذكره مُخْتَصَرًا.
وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مُطَوَّلًا، فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ: أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أنَّ أسامةَ بنَ زيدٍ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَرَاءَهُ، يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ قبل وقعة بدر، قال: حتى مرَّ على مجلسٍ فيه عبدالله بن أُبي ابن سَلُولَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ ابنُ أُبيٍّ، وإذا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلَاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأوثان وأهل الكتاب اليهود، وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ وَقَالَ: لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا. فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثم وقف فنزل، ودعاهم إِلَى اللَّهِ ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: أَيُّهَا الْمَرْءُ، إِنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقًّا، فَلَا تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا، ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ، فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ. فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَاغْشِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا، فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ. فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ، فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ ﷺ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا.
ثُمَّ رَكِبَ النَّبِيُّ ﷺ دَابَّتَهُ، فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: يَا سَعْدُ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ؟ يُرِيدُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ، قَالَ: كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رسول الله، اعفُ عنه واصفح، فوالله الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ، وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ.
الشيخ: المدينة يعني.
عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ وَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ، فلمَّا أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ، شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ الَّذِي فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ. فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى.
الشيخ: وهكذا ينبغي عند ضعف المسلمين وقلّة عددهم وعُدَّتهم، ينبغي أن يستعملوا العفو والصَّفح والتَّحمُّل؛ حتى لا يُفتنوا مع أعداء الله، فإذا قوي المسلمون وصارت عندهم القوّة جاء الجهادُ حينئذٍ لأعداء الله، فمع القوّة يكون الجهادُ والقوة وردع الظالم، ومع الضَّعف وقلّة العُدّة والعدد يكون الصَّفحُ والعفو والتَّحمل والصَّبر، كما فعل النبيُّ ﷺ في مكّة، وفي المدينة أول ما هاجر، كل ذلك لأنَّ فيه مصلحةً؛ ولأنَّه مأمورٌ بالفعل والصَّفح حتى يأتي نصرُ الله وتهيئة أسباب ذلك.
وفي هذه القصّة شرعية دعوة الأخلاط، والإنسان لا ييأس، إذا كان مجلسٌ فيه أخلاطٌ من الكفرة والمسلمين، أو كفرة فقط يدعوهم، لا ييأس، لعلَّ الله يهدي به الحاضرين أو بعضهم، فالنبي لما رآهم مُجتمعين في طريقه إلى سعدٍ يعوده وهو مريضٌ، لما رأى الجماعةَ من اليهود والمشركين وبعض المسلمين، وفيهم عبدالله بن أُبي نزل عن الدَّابة وسلَّم عليهم، دلَّ على أنه سلَّم على الناس إذا كان فيهم أخلاط، ويقصد بالسَّلام المسلمين؛ لأنَّ الكافرَ لا يُبْدَأ، لكن إذا كانوا أخلاطًا يُسَلِّم ويقصد المسلمين ويُعمِّم ونيّته المسلمون، ثم يدعو إلى الله ويُرشد ويُعلّم ويُوجّه بالكلام الطّيب للحاضرين من يهودٍ أو عبدة أوثانٍ أو نصارى أو غيرهم، كما فعله النبيُّ ﷺ، لكن عبدالله بن أُبي لنفاقه وخُبثه -فالمنافقون أخبث الناس- ما صبر حتى قال: ما أحسن ما تقول، لكن إن كان حقًّا فلا تغشنا به في مجالسنا، اجلس في بيتك، فمَن جاءك فقصّ عليه. هكذا يكون سوءُ الأدب والخُبث من هذا اللَّعين: عبدالله بن أُبي، فقام عبدُالله بن رواحة -وهو من خير الأنصار، قُتِلَ يوم مُؤتة - وقال: يا رسول الله، بلى، اغشنا به في مجالسنا. فقام أنصارٌ لعبدالله، وأنصارٌ لعبدالله؛ أنصارٌ لابن أُبي من المنافقين، وأنصارٌ لعبدالله بن رواحة من المسلمين، واستَبَّ الناسُ، وكادوا يقتتلون، فلم يزل يُهدِّئهم ويُخفِّضهم عليه الصلاة والسلام حتى هدأوا.
ثم ركب وتوجّه إلى سعدٍ، وأخبره بما جرى، فأخبره سعدٌ أنَّ عبدالله بن أُبي ما يُستغرب منه هذا؛ لأنَّ أهلَ المدينة قد كانوا أجمعوا على أن يُرئِّسوه عليهم ويُتوِّجوه، وجاء اللهُ بهذا الحقِّ، وجاءت هجرةُ النبي ﷺ وإسلام الأنصار، فحُرِمَ هذا الشَّيء، وفاته هذا الشَّيء، فشَرِقَ بالحقِّ؛ لأنَّ مجيء الرسولِ ﷺ ودخولَ الناس في الإسلام صار سببًا لإبعاده عن هذه الرياسة التي قد كان يحلم بها ويُريدها، فالرِّياسات لها خطرٌ عظيمٌ، وشرٌّ عظيمٌ، السَّعي لها وطلبها، فإذا حُرِمَها الإنسانُ يكون عدوًّا في الغالب لمن تسبَّب في حرمانها.
فالواجب على العاقل أن يحذر الباطل وإن فاتت به مصالح، وإن فاتته مصالح ..... الحقّ مُقدَّمًا في قلبه، يُقدّمه ولا يُؤثر الدنيا عليه، ولو فاتته وظيفة، ولو فاته مالٌ، فالحقّ فوق ذلك، نسأل الله السَّلامة.
س: مُصافحة الكفَّار؟
ج: إذا دعت الحاجةُ للمصلحة الإسلامية فلا بأس، وإلا فالأصل أنَّهم لا يُصافحون، لكن إذا قدم يدَه هو أو دعت الحاجةُ إلى المصلحة الإسلامية فلا بأس.
س: قوله: قبل أن يُسْلِم .....؟
ج: قبل أن يُظهر الإسلامَ.
س: ما قال: أبو الحباب تكنيته؟
ج: هذا للتَّلطُّف في الكلام .....، من باب التَّلطف؛ لأنَّه مما يُؤلَّف، هذا من سياسة النبي ﷺ الشَّرعية؛ كونه يُكني الكافر، أو يُخاطبه بكلامٍ طيبٍ لمصلحة الإسلام والدَّعوة إليه وكفّ الشَّر.
س: هل يُعاد الجار النَّصراني إذا مرض؟
ج: إذا أراد الخيرَ، إذا أراد أن يدعوه إلى الله، لعلَّ الله يهديه، مثلما عاد النبيُّ اليهوديَّ الذي كان يخدمه؛ كان النبي ﷺ يخدمه غلامٌ من اليهود، فمرض، فزاره النبيُّ، عاده النبيُّ ﷺ ودعاه إلى الله وأسلم، فكأنَّه استشار أباه فقال: أطع أبا القاسم. فأسلم وشهد شهادةَ الحقِّ، فقال النبيُّ ﷺ: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار، وأمر الصَّحابة أن يتولّوه.
س: هل يُبْدَؤون بالسلام في هذه الحالة؟
ج: لا، ما يُبدأ بالسلام، يقول: "السلام عليكم" على العموم، إذا كان فيه مسلمون وكفّار يكون على العموم، لكن إذا رأى المصلحة الإسلامية والدَّعوة إلى الله فلا بأس.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا الآية، وَقَالَ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ الآية [البقرة:109].
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَأَوَّلُ فِي الْعَفْوِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أذن له فِيهِمْ، فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَدْرًا، فَقَتَلَ اللَّهُ بِهِ صَنَادِيدَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابن سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ، فَبَايِعُوا الرَّسُولَ ﷺ على الإسلام. فبايعوه وأسلموا.
الشيخ: يعني خوفًا، لما رأوا نصرَ الله له خافوا وبايعوه في الظَّاهر، والمنافقون على كُفرهم في الباطن، نسأل الله العافية.
س: فبايعوا مرَّتين: كأنَّ الأولى أمرٌ، والثانية خبرٌ؟
الشيخ: أيش؟
الشيخ: يمكن أن يكونوا قالوه على سبيل التَّقية، وإلا ما يُؤمنون بأنَّه الرسول، يعني: المنافقين يُبايعون الرسولَ –يعني- من باب التّقية، يصلح لأنَّه قال بعدها: فبايعوه.
س: مُصافحة المشرك؟
ج: إذا دعت المصلحةُ الشَّرعية، وإلا لا يبدأ بالمصافحة، ولا يبدأ بالسلام، لكن إذا بدؤوا هم يردّ عليهم، أو مدَّ يدَه يمدّ يدَه.
س: إذا صافحناه هل تبطل الطَّهارة؟
ج: لا، لا، ما تبطل، إذا صافحته ما تبطل الطَّهارة، ولا يغسل يدَه، ما فيها شيءٌ.
س: نقول: وعليكم السلام، أو وعليكم؟
ج: مثلما قال النبي: وعليكم، إذا سلَّم عليكم ..... فقولوا: وعليكم، وإذا قال: "وعليكم السلام" لا بأس؛ لأنَّ معنى: وعليكم، يعني: السلام الذي قلتُم.
س: السَّند الأول الذي فيه ضرب أبي بكرٍ لفنحاص؟
ج: فيه محمد ابن أبي محمد، فيه نظر؛ لأنَّ محمدًا هذا ما هو بمعروفٍ بالعدالة، فيه جهالة شيخ ابن إسحاق.
س: لو التقى مع المشرك ولم يبدأه بالسلام، ولكن قال: صباح الخير؟
ج: الصواب أنَّه يجوز، مثلما قال شيخُ الإسلام ابن تيمية؛ لأنَّ هذا ما هو بسلامٍ، قال: كيف حالك؟ كيف أولادك؟ كيف أنت؟ السلام المنهي عنه أن يقول: السلام عليكم، يبدأ به، نعم.
س: أن يبدأه بغير السَّلام؟
ج: بغير السلام لا بأس إذا رأى المصلحةَ في ذلك.
س: إذا أصرَّ على المصافحة؟
ج: إذا بدأك صافحه، وإذا سلَّم تردّ عليه.
س: إذا صرَّح بلفظ السلام قال: السلام عليكم، هل يقال: وعليكم فقط .....؟
ج: في الأحاديث: وعليكم، والظاهر أنَّه لو قال: وعليكم السلام، هو المعنى، لكن بعض اليهود قد يقول: السَّام، ما يقول: السلام؛ ولهذا يقول: وعليكم، يعني: عليكم ما قلتم، أمَّا إذا صرَّح بالسَّلام فقال: وعليكم ... فلا يضرّ هو المعنى.