الشيخ: عند وجود المصائب والكوارث، وأن يعلموا أنَّ الله جلَّ وعلا حكيمٌ عليمٌ، يبتلي رسلَه وأولياءه بالسَّراء والضَّراء، والشدة والرَّخاء؛ ليمتحن صبرهم وشكرهم، كما قال في قصة أحدٍ: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا الآية [آل عمران:166- 167]، فهو الحكيم العليم فيما يقضي ويُقدر من المصائب والنِّعَم، فهي تكون عقوبةً على ما يقع من العبد من المعاصي، وتكون امتحانًا ليتبين أهل الصِّدق من أهل الكذب، وأهل الإيمان من أهل النِّفاق.
وهكذا ما جرى يوم أحدٍ يُبين لهم سبحانه، فقال: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، فهي عقوبةٌ على ما جرى من الرّماة الذين فرَّطوا في الموقف، ولم يثبتوا، وعصوا، وتنازعوا، وفشلوا.
ثم أيضًا لحكمةٍ أخرى: ليعلم المؤمنين، وليعلم الذين نافقوا، فيتبين الصَّابرون والصَّادقون من غيرهم، الصَّابر والصَّادق يصبر عند الشّدة والمحنة، كما يصبر عند الرَّخاء والعافية، فهو صبورٌ في البلاء والشّدة، شكورٌ عند النَّعماء، مع صبره.
وهكذا النّعاس يوم أصابهم، أصاب أهلَ الإيمان والثّقة، وهم المؤمنون الصَّادقون الموقِنون بأنَّ الله سوف ينصر رسولَه وإن ابتلاه وابتلى أولياءه بشيءٍ من الشّدة والمصائب، يوقِنون بأنَّ العاقبةَ للمُتقين، وأنَّ العاقبةَ لأهل الإيمان والتُّقَى والاتِّباع: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49].
أمَّا المنافقون فقد أهمّتهم أنفسهم، وطار عنهم النوم؛ لما عندهم من القلق والشَّك والرَّيب؛ ولهذا قال: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154].
فالمؤمن الصَّادق ثابتٌ في الشّدة والرَّخاء، مُطمئنٌّ، صبورٌ عند البلاء، شكورٌ عند الرَّخاء، والمنافق والمرتاب في قلقٍ دائمٍ وشرٍّ وشكوكٍ وظنونٍ سيئةٍ؛ ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كلّه له خير؛ إن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن رواه مسلم في "الصحيح" من حديث صهيب ، والقرآن واضحٌ في ذلك، لما ذكر أهلَ البرِّ قال: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إلى أن قال في آخره: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ السَّراء في النِّعَم، والضَّراء: ما يحصل من الجراحات والأمراض وغير ذلك، وحين البأس: حين القتال، أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، هؤلاء هم أهل الصِّدق والتَّقوى: صبر عند البلاء، وعند الرخاء، وعند الحرب، هم صبرٌ دائمًا: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ منصوبٌ على المدح، قال: وأمدح الصابرين، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، البأساء: حين الفقر والشّدة، والضَّراء: الأمراض ونحوها، وحين البأس: حين الحرب.
ثم حكم عليهم بحكمٍ عظيمٍ فقال: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، هؤلاء أصحاب هذه الأعمال هم أهل الصِّدق، وهم أهل التَّقوى، عملوا الصَّالحات، وحقَّقوا إيمانهم بالأعمال الطّيبة، وصبروا عند الشّدة، في جميع أحوال الشّدة: في البأساء، والضَّراء، وحين البأس.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي تِلْكَ الْحَالِ: هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟ فقال تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ، ثُمَّ فَسَّرَ مَا أَخْفَوْهُ فِي أَنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِ: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154] أَيْ: يُسِرُّونَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
قال ابنُ إسحاق: فَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ الزُّبَيْرُ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ اشْتَدَّ الْخَوْفُ عَلَيْنَا أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْنَا النَّوْمَ، فَمَا مِنَّا مِنْ رَجُلٍ إِلَّا ذَقْنُهُ في صدرِه. قال: فوالله إِنِّي لَأَسْمَعُ قَوْلَ مُعْتَبِ بْنِ قُشَيْرٍ -مَا أَسْمَعُهُ إِلَّا كَالْحُلْمِ- يَقُولُ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا، فَحَفِظْتُهَا منه، وفي ذلك أنزل: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا لِقَوْلِ مُعْتَبٍ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154] أي: هذا قدرٌ قدَّره اللهُ ، وحكمٌ حتمٌ لا محيدَ عنه، ولا مناصَ منه.
وقوله تعالى: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ أَيْ: يَخْتَبِرَكُمْ بِمَا جَرَى عَلَيْكُمْ ليميز الخبيثَ من الطَّيب، ويظهر أمر المؤمن من المنافق لِلنَّاسِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154] أَيْ: بِمَا يَخْتَلِجُ فِي الصُّدُورِ مِنَ السَّرائر والضَّمائر.
ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمران:155] أَيْ: ببعض ذنوبهم السَّابقة، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ بَعْدَهَا، وَإِنَّ مِنْ جَزَاءِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ بَعْدَهَا.
الشيخ: وهذا من جنس: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، فالذين تولّوا يوم التقى الجمعان -يوم أُحُدٍ- إنما استزلهم الشيطانُ ببعض ما كسبوا؛ ولهذا قال بعضُ السلف: إنَّ من جزاء الحسنة الحسنة بعدها، وإنَّ من جزاء السَّيئة السَّيئة بعدها. فالله قد يُتابع الحسنات على المؤمن جزاء بحسناته حسنات أخرى؛ فضلًا منه وإحسانًا، وقد تتبع السّيئة السّيئة، قد يستمرّ في السّيئة ويضعف عن مُقاومتها، فتأتي بعدها سيئةٌ، ثم سيئة، فالحازم هو الذي ينتبه إذا جاءت السيئةُ بادر بالتوبة والإقلاع والحذر من مجيء غيرها.
س: كيف يُجمع بين قوله سبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وفي الحديث: يُبتلى الصَّالحون: الأمثل، فالأمثل؟
ج: لا منافاةَ؛ هذا في الجملة، معناه في الجملة، في الأغلب –يعني- لأنَّ القرآن يُفسّر بعضُه بعضًا، والسنة تُفسّر بعضُها بعضًا: فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ قد تكون معاصٍ، وقد تكون أشياء فرَّطوا فيها في الحرب، وحصل ما حصل، وقد يكون ما أصابهم لرفع الدَّرجات، كما في الأنبياء: أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، قد يكون لرفع الدَّرجات وللتَّأسِّي.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ أَيْ: عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْفِرَارِ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:155] أَيْ: يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَحْلُمُ عَنْ خَلْقِهِ وَيَتَجَاوَزُ عَنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي شَأْنِ عُثْمَانَ وَتَوَلِّيهِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ عَفَا عنه مع مَن عَفَا عَنْهُمْ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152]، وَمُنَاسِبٌ ذِكْرُهُ هَاهُنَا:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ شَقِيقٍ قَالَ: لَقِيَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: مَا لِي أَرَاكَ جَفَوْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ؟! فَقَالَ لَهُ عَبْدُالرحمن: أبلغه أنِّي لم أفرّ يوم حُنين.
مداخلة: في نسخة "الشَّعْب": بالعين، يوم عينين.
الشيخ: لعلَّ "عينين" يعني واحدًا، موضع في أحد، لعل "عينين" نسخة، حطّها.
الطالب: في الأصل: عينين.
الشيخ: نعم، هو الأنسب؛ لأنَّه محل الوقعة، صلح عندك: عينين.
الشيخ: يعني عن ذلك الفِرار.
الشيخ: وهذا مما يقع بين الصَّحابة من المعاتبة والتَّوجيه، مع سلامة القلوب، ومع الحرص على الخير رضي الله عنهم وأرضاهم، وعثمان في هذا قد أصاب، فالأمر مثلما بيَّن الله؛ قد عفا اللهُ عنهم، وليس هذا خاصًّا بعثمان، بل معه جماعة، وكذلك عذره في تمريض رُقية، كذلك ما ذكر من سنة عمر واجتهاده .
فهذا يقع بين الصَّحابة من الملاحظات والمعاتبات، والمقصود هو الخير والتَّعاون على البرِّ والتقوى، وكذلك عبدالرحمن غاب عنه هذا حين قال هذا الكلام بسبب ما جرى من التَّشويش على عثمان بعدما مضى من خلافته مدّة طويلة في تولية بعض بني أمية.
المقصود أنَّ هذه الأشياء التي قد تقع بين الصَّحابة هم فيها مجتهدون، مَن أصاب فله أجران، ومَن أخطأ فله أجرٌ، هذا العتاب من عبدالرحمن اجتهد فيه، وخفي عليه العذرُ .
س: سنة عمر محددة بشيءٍ معينٍ؟
ج: لا، المقصود الشَّيء الذي اجتهد فيه في القوة على الناس، والشّدة على الناس، وحزم الأمور التي يُخشى من انفلاتها رضي الله عنه وأرضاه.
س: في حاشية على هذا الحديث في نسخة "الشَّعْب" يقول: هذا الحديثُ في "مسند أحمد" في المجلد الأول .....، وهذا القول مُستبعد صدوره عن عبدالرحمن بن عوف، وقد بايع عثمانَ وهو يعرف أنه تخلَّف في بدرٍ، وفرَّ في أحدٍ، وكيف عيَّره بمُخالفة سنة عمر وهو قد بايعه على العمل بسنة الشَّيخين، لا سنة عمر وحدها؟! ثم إنَّ المسلمين فرُّوا يوم أحدٍ ولم يبقَ مع النبي ﷺ غير بضعة نفرٍ، فكيف يُعير ابنُ عوف عثمانَ بخطإٍ وقع فيه أكثرُ المسلمين؟! ويبدو لي أنَّ هذا الاتّهام كان مما أُلصق بعثمان لتفخيم مساوئه في أعين الناس، وأما ابن عوف لم يُشارك فيه.
الشيخ: السَّند جيد، وقد يكون من أوهام عاصم، قد يهم عاصم بن بهدلة، لكن السَّند جيد، والواقع واقعٌ، نعم، لكن عثمان معذورٌ مثلما قال، أقول: عثمان عفا الله عنه في الأولى، ومعذور في الثانية، والحمد لله، والاجتهادات تختلف فيما يتعلّق بسنة عمر.
س: عينين؟
ج: الظاهر أنها ثابتة، هو أخو عثمان من أمِّه.
س: كيف يكون السَّندُ جيدًا وفيه الوليد بن عقبة .....؟
ج: هذا أبو وائل هو الذي يُخبر عن الوليد، وذاك صحابي، وعفا الله عنه، قد يُرمى بخبرٍ لعله تاب منه، نسأل الله أن يعفو عنه، والرَّاوي أبو وائل أدرك عثمان وعبدالرحمن بن عوف، أبو وائل شقيق بن سلمة أحد أصحاب ابن مسعودٍ.
أيش قال عندك على: عينين؟
الطالب: يقول: عينين ..... في جبل أحدٍ عن يمينه. ويقال: جبلان عند أحدٍ. ويقال ليوم أحد: يوم عينين. وقال: وقد وقع في بعض نسخ ابن كثير: "حنين" بدل "عينين"، وهو خطأ .....، ثم تكلم عن هذا الحديث وقال: إسناده صحيحٌ، وزائدة هو ابن قدامة، وعاصم هو ابن بهدلة، وشقيق هو ابن سلمة أبو وائل، والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور"، ونسبه إلى ابن المنذر والهيثمي في "مجمع الزوائد"، ونسبه أيضًا لأبي يعلى والطَّبراني والبزار. انتهى.
الشيخ: نعم.
س: عاصم ألا يضعف في الحديث؟
ج: لا، لا، من رجال مسلم، الأصل عدم الوهم.
انظر: عاصم بن بهدلة في "التقريب".