وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [آل عمران:48- 51].
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ تَمَامِ بِشَارَةِ الْمَلَائِكَةِ لِمَرْيَمَ بِابْنِهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّ اللَّهَ يُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ هَاهُنَا الْكِتَابَةُ، وَالْحِكْمَةُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، والتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ فَالتَّوْرَاةُ هو الكتاب الذي أُنزل على موسى بن عمران، والإنجيل الذي أُنزل على عيسى ابن مريم عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدْ كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَحْفَظُ هَذَا وَهَذَا.
وَقَوْلُهُ: وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أي: يَجْعَلُهُ رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَائِلًا لَهُمْ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ، يُصَوِّرُ مِنَ الطِّينِ شَكْلَ طَيْرٍ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ فَيَطِيرُ عِيَانًا بِإِذْنِ اللَّهِ الذي جعل هذا معجزةً له تدلّ على أنه أرسله.
وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ قيل: إنَّه الَّذِي يُبْصِرُ نَهَارًا، وَلَا يُبْصِرُ لَيْلًا. وَقِيلَ بالعكس. وقيل: الْأَعْشَى. وَقِيلَ: الْأَعْمَشُ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُولَدُ أَعْمَى. وَهُوَ أَشْبَهُ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْمُعْجِزَةِ وأقوى في التَّحدي، وَالْأَبْرَصَ معروفٌ، وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ.
قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: بعث اللهُ كلَّ نبيٍّ من الأنبياء بما يُناسب أَهْلَ زَمَانِهِ، فَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى زَمَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ السِّحْرُ وَتَعْظِيمُ السَّحَرَةِ، فَبَعَثَهُ اللَّهُ بِمُعْجِزَةٍ بَهَرَتِ الْأَبْصَارَ، وَحَيَّرَتْ كُلَّ سَحَّارٍ، فَلَمَّا اسْتَيْقَنُوا أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ الْعَظِيمِ الْجَبَّارِ انْقَادُوا للإسلام، وصاروا من عباد الله الْأَبْرَارِ.
وَأَمَّا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَبُعِثَ فِي زَمَنِ الْأَطِبَّاءِ وَأَصْحَابِ عِلْمِ الطَّبِيعَةِ، فَجَاءَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ بِمَا لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَيَّدًا مِنَ الَّذِي شَرَعَ الشَّرِيعَةَ، فَمِنْ أَيْنَ لِلطَّبِيبِ قُدْرَةٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْجَمَادِ، أَوْ عَلَى مُدَاوَاةِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَبَعْثِ مَنْ هُوَ فِي قَبْرِهِ رَهِينٌ إِلَى يَوْمِ التَّنَادِ؟
وكذلك محمد ﷺ بُعِثَ في زمان الفُصحاء والبُلغاء وتجاريد الشُّعَرَاءِ.
الشيخ: الصواب: نحارير، جمع نحرير، وهو الجيد في البلاغة.
الشيخ: والمقصود من هذا أنَّ الله جلَّ وعلا أيَّد الرسلَ بما يُقيم الحجّة على أقوامهم، ويقطع المعذرة، ويقتضي إلزامهم بالحقِّ على وجهٍ لا عذرَ لهم فيه إلا المكابرة والمباهتة والعصيان والعناد، هكذا من أوَّلهم إلى آخرهم عليهم الصلاة والسلام.
فالواجب على ذوي العقول، وعلى ذوي الرغبة في أسباب النَّجاة وفي الحقِّ، لا بدَّ أن تكون على بصيرةٍ، ويجب عليهم أن يخضعوا للحقِّ، وأن ينقادوا للهدى، وأن يأخذوا بالحجّة؛ ولهذا أيَّد صالحًا بالنَّاقة الغريبة العجيبة، وأيَّد نوحًا وهودًا بما أيَّدهم به من إقامة الحجّة والتَّحدي العظيم في عهد نوحٍ مدةً طويلةً، وفي عهد هود: فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِي [هود:55]، وأيَّد بقيّتهم بما أيَّدهم به.
وفي زمن موسى أُيِّد بالعصا واليد والأشياء الأخرى التي أيَّده بها من: الطوفان، والجراد، والقمل، والضَّفادع، والدَّم، إلى غير ذلك.
وفي زمن عيسى، في زمن الأطباء وعلماء الطَّبيعة جاءهم بهذا الأمر العظيم: يُبرئ الأكمه والأبرص، ويُحيي الموتى بإذن الله، ويخلق من الجماد كهيئة الطَّير فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، ويُنبّئهم بما يدَّخرون في بيوتهم، إلى غير ذلك.
هذه حُجج عظيمة تُوجب عليهم الانقياد للحقِّ، والانصياع لما جاءت به الرسل، ولكنَّ كثيرًا منهم إنما يتَّبع الهوى ويُعاند الحقَّ، وليس قصدُه طلبَ الحقِّ، وليس قصدُه الهداية، وإنما هو المكابرة والعناد؛ ولهذا قال في أمثالهم: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، وقال في كبار قريش: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، وقال في فرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102].
فلا يليق بالمؤمن أن يُشابه هؤلاء بالعناد والمكابرة، بل الواجب على المؤمن أن ينقاد للحقِّ متى ظهرت له حُجَّته، وأن يُبادر إليه، وأن يحذر الهوى والحدث والبغي وإيثار الدّنيا كما فعل جمعٌ كبيرٌ من أعداء الرسل؛ عاندوا عن علمٍ، لا عن جهلٍ، فمَن عاند في الحقِّ فقد شابه أعداء الرسل، ومَن انقاد للحقِّ وقبله بعد ظهوره فقد سار على نهج الرسل وأئمة الهدى ودُعاة الحقّ، وعلى سبيل المؤمنين.
وفي عيسى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمران:48]، الكتاب: الكتابان؛ لأنَّه ذكر بعده التَّوراة والإنجيل، فعلم أنَّ المراد به الكتابة التي هي أنَّه يكتب لهم ما يحتاجون إليه، ويُعلِّمهم بالكتابة ما ينفعهم، والحكمة: الفقه في الدِّين والبصيرة، والتَّوراة والإنجيل أيضًا كان يُعلِّمهم إيَّاها، ويُبصرهم بها، ويُحلّ لهم بعضَ ما حرم عليهم، ويُبين لهم بعض ما اختلفوا فيه، والحجج واضحة، ولكنَّهم كابروا وعاندوا إلا مَن هدى الله منهم، وهم القليل من اليهود والنَّصارى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وقال في سورة الشُّعراء بعدما ذكر قصّة جماعةٍ من الأنبياء قال في إثر كلِّ واحدةٍ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:8- 9] ، وقال جلَّ وعلا: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20]، حيث قال: وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17]، قالها عن ظنٍّ، وصدَّقها الأكثرون وتابعوا ما جاء به الشيطان وما دعا إليه، وابتعدوا عن الحقِّ إيثارًا للهوى والعاجلة، أو للحسد والبغي والرّياسة، أو لغير هذا من المقاصد الدّنيوية، نسأل الله العافية.
وَمَا ذَاكَ إِلَّا لأنَّ كلامَ الربّ لا يُشبه كَلَامَ الْخَلْقِ أَبَدًا.
وَقَوْلُهُ: وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ أَيْ: أُخْبِرُكُمْ بِمَا أَكَلَ أَحَدُكُمُ الْآنَ، وما هو مدّخرٌ له في بيته لغدٍ، إِنَّ فِي ذَلِكَ أَيْ: فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لَآيَةً لَكُمْ أَيْ: عَلَى صِدْقِي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ أي: مُقرِّرًا لها ومُثبتًا، وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَسَخَ بَعْضَ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: لَمْ يَنْسَخْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَحَلَّ لَهُمْ بَعْضَ مَا كَانُوا يتنازعون فيه خطأً، فَكَشَفَ لَهُمْ عَنِ الْمُغَطَّى فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ [الزخرف:63]، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الشيخ: والصّواب أنَّه نسخ بعض التّوراة، وبيَّن لهم بعضَ ما اختلفوا فيه؛ لأنَّه قال: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50]، ما قال: ما حرَّمتُم أنتم، حُرِّمَ عَلَيْكُمْ يعني: ما حرَّم اللهُ عليكم، وهكذا الرسل، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48].
س: ..............؟
ج: ............
ثُمَّ قَالَ: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: بِحُجَّةٍ وَدَلَالَةٍ عَلَى صِدْقِي فِيمَا أَقُولُهُ لَكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَيْ: أَنَا وَأَنْتُمْ سَوَاءٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ لَهُ والخضوع والاستكانة إليه، هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ.
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:52- 54].
يَقُولُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى أَيِ: اسْتَشْعَرَ مِنْهُمُ التَّصْمِيمَ عَلَى الْكُفْرِ وَالِاسْتِمْرَارَ عَلَى الضَّلَالِ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ مَنْ يَتْبَعُنِي إِلَى اللَّهِ؟
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوري وغيره: أي مَنْ أَنْصَارِي مَعَ اللَّهِ؟
وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ أَقْرَبُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ أَنْصَارِي فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ؟ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ قَبْلَ أن يُهاجر: مَن رجلٌ يُؤويني حتى أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي، حَتَّى وَجَدَ الْأَنْصَارَ، فآووه، ونصروه، وهاجر إليهم، فواسوه، ومنعوه من الأسود والأحمر رضي الله عنهم وأرضاهم.
وهكذا عيسى ابن مريم عليه السلام انْتَدَبَ لَهُ طَائِفَة مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: فَآمَنُوا به، ووازروه، وَنَصَرُوهُ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ؛ وَلِهَذَا قال اللهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ.
الْحَوَارِيُّونَ قِيلَ: كَانُوا قَصَّارِينَ. وَقِيلَ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِبَيَاضِ ثِيَابِهِمْ. وَقِيلَ: صَيَّادِينَ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَوَارِيَّ: النَّاصِرُ، كَمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لما نَدَبَ النَّاسَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ ندبهم فانتدب الزبيرُ ، فقال النبيُّ ﷺ: لكل نبيٍّ حواريٌّ، وحواريي الزُّبَيْرُ.
الشيخ: ومعنى (انتدبهم) يعني: قال: مَن يذهب إلى قريشٍ يُعطينا خبرهم؟ ذلك في يومٍ شاتٍ شديد البرد، يوم الأحزاب قال: مَن يذهب يأتينا بخبر هؤلاء ولا يُحدث حدثًا؟ فانتدب الزبيرُ، قام الزبيرُ وقال: أنا. ثم انتدب فقال الزبيرُ: أنا. فانتدبه، قال: لكل نبيٍّ حواريٌّ، وحواريي الزبير، وإنما سكت الآخرون لأنَّه لم يُسمِّ أحدًا، إنما قال: مَنْ، ومَنْ لِمَ لَمْ يُسمَّ، لا يلزم منه التَّعيين؛ فلهذا انتدب الزبير رضي الله عنه وأرضاه، وقام بالمهمة، وكان في يومٍ شديد البرد، في خوفٍ عظيمٍ، الله المستعان.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ قَالَ: مَعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ. وَهَذَا إسنادٌ جيدٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مَلَأ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا هَمُّوا بِهِ مِنَ الْفَتْكِ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِرَادَتِهِ بِالسُّوءِ وَالصَّلْبِ حِينَ تَمَالَؤُوا عَلَيْهِ، وَوَشَوْا بِهِ إِلَى مَلِكِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وكان كافرًا: أنَّ هنا رَجُلًا يُضِلُّ النَّاسَ وَيَصُدُّهُمْ عَنْ طَاعَةِ الْمَلِكِ ويُفسد الرَّعَايَا، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَبِ وَابْنِهِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَلَّدُوهُ فِي رِقَابِهِمْ وَرَمَوْهُ بِهِ من الكذب، وأنَّه ولد زنيةٍ، حَتَّى اسْتَثَارُوا غَضَبَ الْمَلِكِ؛ فَبَعَثَ فِي طَلَبِهِ مَنْ يَأْخُذُهُ وَيَصْلُبُهُ وَيُنَكِّلُ بِهِ، فَلَمَّا أَحَاطُوا بمَنْزِلِهِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ ظَفِرُوا بِهِ، نَجَّاهُ اللهُ تعالى مِنْ بَيْنِهِمْ وَرَفَعَهُ مِنْ رَوْزَنَةِ ذَلِكَ الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ، وَأَلْقَى اللَّهُ شَبَهَهُ عَلَى رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ عِنْدَهُ فِي الْمَنْزِلِ، فَلَمَّا دَخَلَ أولئك اعتقدوه في ظُلمة الليل عيسى؛ فَأَخَذُوهُ وَأَهَانُوهُ وَصَلَبُوهُ، وَوَضَعُوا عَلَى رَأْسِهِ الشَّوْكَ، وَكَانَ هَذَا مِنْ مَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ، فَإِنَّهُ نَجَّى نَبِيَّهُ وَرَفَعَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ يَعْمَهُونَ؛ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ قَدْ ظَفِرُوا بِطَلَبَتِهِمْ، وَأَسْكَنَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ قَسْوَةً وَعِنَادًا لِلْحَقِّ مُلَازِمًا لَهُمْ، وَأَوْرَثَهُمْ ذِلَّةً لَا تُفَارِقُهُمْ إِلَى يَوْمِ التَّنَادِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54].
الشيخ: وهذه من الصِّفات التي وصف بها نفسَه؛ لأنها حقٌّ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطلاق:15- 16]، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142]، صفات بالنسبة إليه حقّ؛ لأنها بحقٍّ؛ لأنه خدعهم بحقٍّ، ومكر بهم بحقٍّ؛ لظُلمهم وعُدوانهم.
فالمكر إذا كان بحقٍّ، والكيد إذا كان بحقٍّ وصف كمالٍ، ليس بنقصٍ، إنما يكون وصفَ نقصٍ إذا كان ظلمًا وعدوانًا، نسأل الله السَّلامة.
س: .............؟
ج: ثابتة لله على الوجه اللائق بالله ..... صفات كمالٍ بالنسبة إليه؛ لأنها وصف انتقامٍ له من أعدائه بحقٍّ.
س: .............؟
ج: هذا في يومٍ، وهذا في يومٍ.
س: .............؟
ج: يعني الحواريين.