وقوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] يَعْنِي: حَرَمَ مَكَّةَ، إِذَا دَخَلَهُ الْخَائِفُ يَأْمَنُ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْتُلُ، فَيَضَعُ فِي عُنُقِهِ صُوفَةً وَيَدْخُلُ الْحَرَمَ، فَيَلْقَاهُ ابْنُ الْمَقْتُولِ فَلَا يُهَيِّجُهُ حَتَّى يَخْرُجَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ: حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى التَّمِيمِيُّ.
مداخلة: في نسخة "الشُّعَب": أبو يحيى التَّيمي.
الشيخ: حطّ عليه إشارةً، انظر: أبا يحيى التَّميمي أو التَّيمي في "الكنى".
عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا قَالَ: مَنْ عَاذَ بِالْبَيْتِ أَعَاذَهُ الْبَيْتُ، وَلَكِنْ لَا يُؤْوَى وَلَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى، فَإِذَا خَرَجَ أُخِذَ بِذَنْبِهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، وَقَالَ تَعَالَى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3- 4].
وَحَتَّى إِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ تَحْرِيمِهَا: حُرْمَةُ اصْطِيَادِ صَيْدِهَا وَتَنْفِيرِهِ عَنْ أَوْكَارِهِ، وَحُرْمَةُ قطع شجرها، وَقَلْعِ حَشِيشِهَا، كَمَا ثَبَتَتِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا.
فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" -وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ الْفَتْحِ -فَتْحِ مَكَّةَ- لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا، وَقَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ -فَتْحِ مَكَّةَ- إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّماوات وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا فِي سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ الله، إلا الإذخر؛ فإنَّه لقينهم ولبيوتهم. فقال: إِلَّا الْإِذْخرَ. وَلَهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلهُ أَوْ نَحْوهُ.
وَلَهُمَا -وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا- عَنْ أبي شُريح العدوي: أنَّه قال لعمرو بن سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مكةَ حرَّمها اللهُ، ولم يُحرّمها الناسُ، فلا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيهَا فَقُولُوا لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغائبَ، فقيل لأبي شُريح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَربةٍ.
الشيخ: (بخربة) يعني: جناية وداهية.
مداخلة: في نسخة "الشعب": بخزية.
الشيخ: المعروف: "خربة"، قد تكون روايةً، لكن المعروف: "خربة".
الطالب: أبو يحيى التّيمي .....
الشيخ: و"التقريب" ما ذكر شيئًا؟
الطالب: ..........
الشيخ: نعم.
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لأحدكم أَنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلَاحَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَدِيِّ ابْنِ الْحَمْرَاءِ الزُّهْرِيِّ.
الشيخ: كذا عندكم: عبدالله بن عديّ ابن الحمراء الزهري؟
الطالب: نعم.
الشيخ: انظر: عبدالله بن عدي ابن الحمراء الزهري.
أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وهو واقفٌ بالحزورة بسوق مكّة يقول: وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ.
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -وَهَذَا لَفْظُهُ- وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَكَذَا صَحَّحَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ.
...........
مداخلة: أبو يحيى التَّيمي، هناك ثلاثة:
الأول: أبو يحيى التَّيمي الكوفي، هو إسماعيل بن إبراهيم الأحول، أبو يحيى التَّيمي، الكوفي، ضعيف، من الثامنة. (الترمذي وابن ماجه).
الآخر: هو عبيدالله بن عبدالله بن موهب، أبو يحيى التَّيمي، المدني، مقبول، من الثالثة.
الثالث: أبو يحيى التَّيمي المدني آخر، اسمه: إسماعيل بن عبدالله، متروك، من الثامنة. (التمييز).
الشيخ: هو إمَّا الأول أو الثالث، الذي عنده التَّميمي يحطّه: التَّيمي.
الطالب: عبدالله بن عدي ابن الحمراء الزهري، قيل أنَّه ثقفي، حالف بني زُهرة، صحابي.
الشيخ: يكفي، يكفي، بارك الله فيك.
الطالب: ..... مداخلة عن الحزورة.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ آدَمَ ابْنِ بِنْتِ أَزْهَرَ السَّمَّانُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ زُرَيْقِ بْنِ مُسْلِمٍ الأعمى، مولى بني مخزوم: حدَّثني زياد ابن أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا قَالَ: آمِنًا مِنَ النَّارِ.
وَفِي مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ: حدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيُّ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُؤَمَّلِ، عَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ دَخَلَ فِي حَسَنَةٍ، وَخَرَجَ مِنْ سَيِّئَةٍ، وَخَرَجَ مَغْفُورًا لَهُ، ثُمَّ قَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ عبدُالله بن المؤمّل، وليس بالقويِّ.
الشيخ: وهذا ليس بشيءٍ: مَن دخله كان آمنًا من النار، ليس بشيءٍ، باطل في المعنى، إلا أن يُحمل على أنَّ مَن دخله كان آمنًا يعني: مُطيعًا لله، مُتَّقِيًا لله، لكن أبا جهل وعتبة بن ربيعة وأبا طالب عاشوا فيه وهم من أهل النار، المقصود مَن دخله كان آمنًا في الدنيا؛ لا يُعتدى عليه، فإذا جاء لا يُقتل، بل يهجر ويُحال بينه وبين أسباب الإقامة حتى يخرج ويُؤخذ منه الحقّ، أمَّا مَن فعل الجنايةَ في نفس الحرام فهذا يُقام عليه حدّها؛ لأنَّه هتك الحرم، هو هتك حُرمة الحرم، فوجب أن يُؤخذ بحقِّه؛ ولهذا تُقام الحدود في مكّة من فعل الجنايات، ويُقتصّ ممن قتل، ويُقام حدّ الزنا على مَن زنا وهو مُحصن؛ فيُقتل وقد جنى في مكّة، أُخِذَ بالحدِّ الذي عليه، أمَّا مَن جاء من الخارج وعليه شيء يُمْهَل حتى يخرج ..... ما يقتضي عدم بقائه في مكّة حتى يُؤخذ منه القصاص الذي عليه، إذا كان عليه القصاص، أو مُرتدًّا ولم يتب.
س: درجة حديث الزهري: لولا أني أُخْرِجْتُ منكِ ما خَرَجْتُ؟
ج: صحيحٌ، لا بأسَ به.
..........
س: القول الراجح في قوله: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا؟
ج: هذا على ظاهره، يعني: يُؤمن حتى يخرج، يكون آمنًا حتى يخرج فيُؤخذ منه الحقّ، إذا كان جاء من خارجٍ لا يُقتل، لكن لا يُؤوى، ولا يُنكح، ولا يُجالس، ولا يُكلّم، يُهْجَر من جميع الوجوه حتى يخرج ثم يُقام عليه الحدّ.
س: قوله: "لا ينفر صيده"؟
ج: إذا كان الصيدُ تحت الشَّجرة ما تُنفره وتجلس تحت الشجرة، تخليه، اتركه، الصيد الذي وسط مكّة لا تنفره، ولا تقتله، ولا تُؤذه.
س: أحسن الله إليك، في قوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا قال ابنُ عباسٍ: مَن عاذ بالبيت أعاذه الله. أليس من الأولى أن يقول: مَن عاذ بربِّ البيت؟
ج: "عاذ بالبيت" يعني: لجأ إلى البيت، أعاذه الله ربّ البيت، هذا المراد، "عاذ بالبيت" يعني: جعل اللهُ البيتَ عائذًا له، والبيت ما يعيذ أحدًا، لكن الله الذي جعله يعيذ، هذا من أمر الله.
س: في حديث النبي ﷺ: والله إنَّك لخير أرض الله، وأحبّ أرض الله إلى الله في هذا دليلٌ على أن يُحبّ المرءُ وطنَه حتى ولو كان الوطن ..؟
ج: لا، ما فيه دليل، ما فيه دليل، لكن مكّة يدل هذا الحديثُ على أنها أفضل البقاع، مكّة أفضل البقاع، ثم تليها المدينة، فأفضل البقاع مكّة، خير البقاع مكّة، لكن إذا سكنها الأشرارُ خرج منها المؤمنُ مُهاجرًا، مثلما خرج منها النبيُّ ﷺ؛ ولهذا قال: لولا أني أُخرجتُ منكِ ما خرجتُ؛ لما فيها من مُضاعفة الحسنات؛ الحسنة فيها مُضاعفة، والصلاة في مكّة بمئة ألف صلاةٍ، فضلٌ عظيمٌ، وخيرٌ عظيمٌ.
...........
س: لا يحلّ لأحدٍ أن يحمل السِّلاح ..... هذا على سبيل النَّدب؟
ج: نعم، ما يجوز حمله؛ لأنَّه قد يُفضي إلى الفتنة، قد يُفضي إلى القتال، إلا إذا دعت الحاجةُ إلى ذلك، هذا شيءٌ آخر، وإلا ينبغي ألا يحمله، لكن إذا دعت الحاجةُ: وليّ الأمر أمر بحمل ذلك، أو خاف على نفسه؛ لأنَّ البلد لم يحترمها أهلُها أو نحو ذلك، وإلا فلا يحمله.
س: صاحب الجناية يُخرج من مكّة أو يُهجر حتى يخرج؟
ج: ظاهر النصوص أنَّه لا يُؤوى ولا يُعمل معه ما يُبقيه، بل يُهجر حتى يخرج ويُؤخذ منه الحقّ.