وَقَوْلُهُ: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام:62].
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ثُمَّ رُدُّوا يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ.
وَنَذْكُرُ هَاهُنَا الْحَدِيثَ الذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْمَيِّتَ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، اخْرُجِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وربٍّ غير غضبان. فلا تزال يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانٌ. فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ، كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، ادْخُلِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بروحٍ وريحانٍ وربٍّ غير غضبان. فلا تزال يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ .
الشيخ: السَّماء التي فيها اللهُ، يعني: في العلو، جنس العلو؛ لأنَّ الله فوق السَّماء، فوق العرش، مثل قوله: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]، فالسماء التي فيها الله، يعني: في العلو الذي فيه الله، وهو الذي فوق العرش .
وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السُّوءُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، اخْرُجِي ذَمِيمَةً، وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ، وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٍ. فلا تزال يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا، فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانٌ. فَيُقَالُ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ، كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، ارْجِعِي ذَمِيمَةً، فَإِنَّهُ لَا يُفْتَحُ لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ. فَتُرْسَلُ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ، فَيَجْلِسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَيُقَالُ لَهُ مِثْلَمَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَيَجْلِسُ الرَّجُلُ السُّوءُ فَيُقَالُ لَهُ مِثْلَمَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ.
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
الشيخ: غريبٌ، لكن سنده جيد، ومعناه صحيحٌ، وجاء معناه في حديث البراء وفي غيره، وأنَّ العبدَ إذا حضر الأجلُ جاءته ملائكةٌ، فإذا كان من الأخيار، من المؤمنين، قيل له: أبشر برحمة الله ورضوانه. ويُحبّ لقاء الله، ويُحبّ الله لقاءه، وإذا كان بالعكس، من الأنفس الخبيثة، بُشِّر بسخط الله وغضبه، فيكره لقاءَ الله، ويكره اللهُ لقاءَه.
وفي حديث البراء مثلما تقدّم في حديث أبي هريرة: أنها تُرفع إلى السَّماء روحُ المؤمن، يُشيِّعها من كلِّ سماءٍ مُقرَّبوها إلى السماء السَّابعة، حتى يُوقف بها على أمر الله جلَّ وعلا، فيقول: ارجعوا بعبدي إلى قبره، فمنها خلقتُه، ومنها أُعيده، واكتب كتابَ عبدي في عليين، والعكس للروح الأخرى، نسأل الله العافية.
المقصود أنَّ المؤمن عند خروج روحه يُبَشَّر بالجنة والسَّعادة ورضا الربّ جلَّ وعلا، والكافر بضدِّ ذلك؛ يُبَشَّر بغضب الله وعقابه.
فجديرٌ بالمؤمن، وجديرٌ بمَن تعزّ عليه نفسه، ويُحبّ لها النَّجاة، جديرٌ بذلك أن يعتني بهذا المقام، وأن يعدّ العدّة الصَّالحة، وأن يتأهَّب للقاء الله قبل أن يهجم عليه الأجلُ وهو لا يدري، فالنفوس بيد الله، والآجال بيد الله، ولا يعلم متى يهجم الأجلُ إلا الله ، فالحزم كل الحزم هو العناية بهذا الأمر، والإعداد له، وعدم الغفلة، وعدم التَّسويف، فأنت لا تدري متى ينزل بك أمرُ الله؟ فعليك بالحزم والحيطة والاستعداد، ولزوم التوبة والاستقامة على العمل الصَّالح حتى تلقى ربَّك، كما قال اللهُ لنبيِّه ﷺ -وهو أفضل الخلق- وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
الشيخ: وهذا هو الأظهر، هذا القول هو الأظهر: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام:62] يعني: الخلائق، وليس المراد الملائكة، الملائكة ..... عند ربهم، ويرجعون إليه، المراد المتوفّين، هم الذين يردّون إلى الله، توفَّاهم الملائكة، ثم يردّون إلى ربِّهم جلَّ وعلا فيُجازيهم بأعمالهم، خيرها وشرّها، يُجازيهم بعدله وفضله، لا بعدله فقط، بل بعدله وفضله، يُجازي أهل الكفر بالله بعدله، ويُجازي أهل الإيمان بفضله وإحسانه وكرمه وجوده ، وهو سياق الآية: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:60- 61]، ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام:62]، هذا الكلام كله في الأموات، المقصود أنها في الخلائق المكلَّفين.
س: يعني ما تشمل الملائكة؟
ج: ما هناك مانعٌ، بل ..... أمر معلوم، يأتون لحاجةٍ ويرجعون، معروف أمرهم، يأتون لقبض روحه، ثم يرجعون، رجوعهم أمرٌ معلومٌ.
س: .............؟
ج: يقول النبيُّ ﷺ: إنَّ الروحَ إذا قُبِضَ تبعه البصرُ، هكذا رواه مسلمٌ في "صحيحه" من حديث أم سلمة في قصّة موت أبي سلمة: دخل على أبي سلمة وقد شقّ بصره، قد مضى، فقال: إنَّ الروحَ إذا قُبِضَ تبعه البصرُ.
وَلِهَذَا قَالَ: مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62].
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [الأنعام:63- 65].
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ فِي إِنْجَائِهِ الْمُضْطَرِّينَ مِنْهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، أَيِ: الْحَائِرِينَ الْوَاقِعِينَ فِي الْمَهَامة الْبَرِّيَّةِ، وَفِي اللُّججِ الْبَحْرِيَّةِ، إِذَا هاجت الرياحُ الْعَاصِفَةُ فَحِينَئِذٍ يُفْرِدُونَ الدُّعَاءَ لَهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ له، كَقَوْلِهِ: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ الآية [الإسراء:67]، وقوله: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْها رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ الآية [يونس:22]، وقوله: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:63].
وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً أي: جهرًا وسرًّا لَئِنْ أَنْجَانَا أَيْ: مِنْ هَذِهِ الضَّائِقَةِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي: بعدها، قال الله: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ أَيْ: تَدْعُونَ مَعَهُ فِي حَالِ الرَّفَاهِيَةِ آلِهَةً أُخْرَى.
الشيخ: وهذه حال قريشٍ وأشباههم من الكفرة: في الشَّدائد يُخلِصون لله العبادة، وفي الرَّخاء يُشركون به وهم يعرفونه، وهو ربّهم، ويُقرّون بربوبيّته، وأنَّه الخلَّاق، وأنه الرَّزاق، وأنه المحيي المميت، إلى غير ذلك، لكن يُنكرون المعاد والآخرة والجنة والنار، ويُشركون معه غيره من الأصنام والأوثان والأنبياء والصَّالحين، فيذكرهم سبحانه بأنَّ هذا الذي يُنجيكم في الشَّدائد وفي ظلمات البرِّ والبحر هو الذي يجب أن تعبدوه، دون مَن لا يُنجيكم ولا يُخلصكم مما ينزل بكم من الكروب، فكيف يليق بالعاقل أن ينسى خالقَه ومُربّيه والذي يُنجِيه في الشَّدائد، ويُشرك معه غيره في الرَّخاء من الأصنام والأوثان؟! لو كان أهلُ الشرك يعقلون.
وَقَوْلُهُ: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، لَمَّا قَالَ: ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا أي: بعد إنجائه إيَّاكم، كقوله فِي سُورَةِ سُبْحَانَ: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [الإسراء:66- 69].
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ الْأَعْوَرُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، قَالَ: هَذِهِ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ لِأُمَّةِ محمدٍ ﷺ وعفا عَنْهُمْ.
وَنَذْكُرُ هُنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ وَالْآثَارَ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَان، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَبِهِ الثِّقَةُ.
قال البخاريُّ رحمه الله تعالى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [الأنعام:65] يَلْبِسَكُمْ يَخْلِطَكُمْ، مِن الِالْتِبَاسِ، يَلْبِسُوا: يَخْلِطُوا.
الشيخ: ولم يلبسوا: لم يخلطوا، نعم.
شِيَعًا فِرَقًا.
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هذه أهون-أو أَيْسَرُ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَيْضًا فِي كِتَابِ "التَّوْحِيدِ" عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَمَّادٍ بِهِ.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا فِي "التَّفْسِيرِ" عَنْ قُتَيْبَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ مُسَاوِرٍ، وَيَحْيَى بْنِ حَبِيبِ بْنِ عربي –أَرْبَعَتُهُمْ- عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي "مُسْنَدِهِ" عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، سَمِعَ جَابِرًا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِهِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي "صَحِيحِهِ" عَنْ أَبِي يَعْلَى الْمَوصِلِيِّ، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي "تَفْسِيرِهِ" عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ الْقُرَشِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَسُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ –كُلُّهُمْ- عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ.
وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ آدَمَ ابْنِ أَبِي إِيَاسٍ، وَيَحْيَى بْنِ عَبْدِالْحَمِيدِ، وَعَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ. وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ –كِلَاهُمَا- عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِهِ.
طَرِيقٌ آخَرُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي "تَفْسِيرِهِ": حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا مِقْدَامُ بْنُ دَاوُدَ: حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ يوسف: حدَّثنا عبدُالله بن لَهِيعَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا قَالَ: هَذَا أَيْسَرُ، وَلَوِ استعاذه لأعاذه.
ويتعلّق بهذه الآية أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ:
أَحَدُهَا: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي "مُسْنَدِهِ": حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ: حَدَّثَنَا أبو بكر -يعني ابْنَ أَبِي مَرْيَمَ- عَنْ رَاشِدٍ -هُوَ ابْنُ سعدٍ المقرئي.
الشيخ: انظر: راشد بن سعد في "التقريب".
عن سعد ابن أبي وقَّاصٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهَا كَائِنَةٌ، وَلَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ.
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ به. ثم قال: هذا حديثٌ غريبٌ.
الشيخ: وغريبٌ هذا، السند ظاهر؛ لأنَّ أبا بكر ابن أبي مريم هذا ليس بشيءٍ عندهم، أبو بكر ابن أبي مريم ضعيفٌ عندهم، ولكن مثلما تقدّم وعيدٌ، من باب الوعيد، الله جلَّ وعلا يتوعّد عباده بالوعيد الذي يدعوهم به إلى استقامتهم على طاعته، وتركهم معصيته، وهو سبحانه القادر على أن يُعذِّبهم من فوق، ومن تحت أرجلهم، بنزول العذاب كالصَّواعق والأمطار الجارفة والرياح العاصفة، وغير ذلك، ومن تحتهم بالخسف -والعياذ بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله- أو يلبسهم شيعًا؛ يجعل بأسَهم بينهم، كما قد وقع، ولا يزال واقعًا بالاختلاف والنِّزاع والتَّناحر والقتال، كل هذا واقعٌ.
فالمقصود أنَّه يجب الحذر وأخذ الأسباب التي تمنع من ذلك، فيجب على المكلَّفين الاستقامة على أمر الله، والتَّعاون على البرِّ والتَّقوى، والتَّواصي بالحقِّ، والحذر من الاختلاف والنِّزاع الذي يجعل بأسَهم بينهم: يتناحرون، ويتقاتلون، فيجب أخذ الحيطة؛ وذلك بالاستقامة على أمر الله، والتَّواصي بالحقِّ، والصَّبر عليه، والحذر من المعاصي، والسكوت عنها، والتواصي بتركها، هكذا المؤمنون: يتواصون ويتناصحون فيما ينفعهم، ويُرضي الله عنهم، ويُبعد عنهم خطرَ العقوبة، نسأل الله السلامة.
مداخلة: راشد بن سعد المقرئي: بفتح الميم، وسكون القاف، وفتح الراء، بعدها همزة، ثم ياء.
الشيخ: المقرئي.
الطالب: ثقة، كثير الإرسال، من الثالثة، مات سنة ثمانٍ، وقيل: ثلاث عشرة. (البخاري في "الأدب" والأربعة).
الشيخ: نعم.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْلَى -هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، عن عامر بن سعيد ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى مَرَرْنَا عَلَى مَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ، فَدَخَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَصَلَّيْنَا مَعَهُ، فَنَاجَى رَبَّهُ طويلًا، ثم قال: سألتُ ربي ثلاثًا: سألتُه ألا يُهلك أُمَّتي بالغرق، فأعطانيها، وسألتُه ألا يُهلك أُمَّتي بالسّنة، فأعطانيها، وسألتُه ألا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَمَنَعَنِيهَا.
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ فَرَوَاهُ فِي كِتَابِ "الْفِتَنِ" عَنْ أَبِي بَكْرِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، ومُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ –كِلَاهُمَا- عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ. وَعَنْ محمد بن يحيى ابن أبي عمر، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ –كِلَاهُمَا- عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ بِهِ.
الشيخ: تعليق على ابن جرير في أول الدرس، واحدٌ من الإخوة تكلّم.
الطالب: عند قوله.
الشيخ: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ يعني: الملائكة.
الطالب: عند قوله: (يعني: الملائكة) قال ابنُ جريرٍ: ثُمَّ رُدُّوا يعني: الملائكة إلى الله مَولَاهُمُ الْحَقّ، قال: لفظ ابن جرير: ثم ردّت الملائكةُ الذين توفّوهم، فقرَّبوا موتهم وأرواحَهم إلى الله سيّدهم الحقّ.
الشيخ: المعنى واحد.