إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ [آل عمران:59- 63].
يقول جلَّ وعلا: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ فِي قُدْرَةِ اللهِ، حَيْثُ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ كَمَثَلِ آدَمَ حيث خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، بَلْ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فالذي خلق آدمَ من غير أبٍ قادرٌ على أن يخلق عِيسَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَإِنْ جَازَ ادِّعَاءُ النّبوة في عيسى لكونه مَخْلُوقًا مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَجَوَازُ ذَلِكَ فِي آدَمَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَمَعْلُومٌ بِالِاتِّفَاقِ أَنَّ ذَلِكَ باطلٌ، فدعواه فِي عِيسَى أَشَدُّ بُطْلَانًا وَأَظْهَرُ فَسَادًا، وَلَكِنَّ الربَّ جلَّ جلاله أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ قُدْرَتَهُ لِخَلْقِهِ حِينَ خَلَقَ آدَمَ لَا مِنْ ذَكَرٍ، وَلَا مِنْ أُنْثَى، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ عيسى من أنثى بِلَا ذَكَرٍ، كَمَا خَلَقَ بَقِيَّةَ الْبَرِيَّةَ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [مريم:21]، وَقَالَ هَاهُنَا: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.
الشيخ: والمعنى أنَّ الله جلَّ وعلا هو القادر على كل شيءٍ، وهو المستحقّ لأن يُعبد، بخلاف هذه المخلوقات التي خلقها وأوجدها من العدم، وجعلها أنواعًا بقُدرته العظيمة، هو المستحقّ لأن يُخضع له، ويُعظَّم، ويُطاع، ويُمتثل أمره، ويُنتهى عن نهيه؛ لأنَّه المتصرف المستقلّ الذي لا شريكَ له، ولا ندَّ له، ولا كفؤ له، ولا مثيلَ له ، فالذي خلق آدم أبا البشر من ترابٍ، لا من ذكرٍ، ولا من أنثى، وخلق زوجَه منه، ليست من أنثى، بل منه، من نفس آدم؛ هو القادر على أن يخلق عيسى من أنثى بلا ذكرٍ من باب أولى، ثم خلق البقيةَ من ذكرٍ وأنثى، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، الذكر هو آدم، والأنثى حواء، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
فتمَّت القسمةُ الرباعية، القسمة لا تخلو عن هذه الأقسام الأربعة: خلق بني آدم إمَّا من غير أبٍ ولا أمٍّ، أو من أبٍ بلا أمٍّ، أو من أمٍّ بلا أبٍ، أو من ذكرٍ وأنثى. وقد وقع هذا كلّه؛ فآدم من ترابٍ، لا من ذكرٍ، ولا من أنثى، وحواء من ذكرٍ، ليست من أنثى، وعيسى من أنثى بلا ذكرٍ، من مريم، ولا أبَ له، قال الله له: كن، فكان: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ، والبقية قبل عيسى وبعد عيسى كلهم من ذكرٍ وأنثى.
فجديرٌ بالعاقل أن يعتبر، وأن يأخذ من ذلك الآية العظيمة والحجّة القاطعة على قُدرة الباري سبحانه، وأن الله جعل آدمَ وحواء وعيسى وبقية بني آدم جعلهم آيات، جعلهم دلائل على قُدرته العظيمة، وأنه سبحانه هو ربهم وخالقهم، وهو المستحقّ لأن يعبدوه، وأن يُعظِّموه ويُنفِّذوا أوامره؛ ولهذا كرر هذا في آيات ليعتبر الناس: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1]، فالله خلق الجميعَ من نفسٍ واحدةٍ، فمرجعهم وإلههم ومالكهم ومُدبر شؤونهم والمتصرّف فيهم هو الله ، فوجب أن يعبدوه ويُعظِّموه، وينقادوا لأوامره، وينتهوا عن نواهيه، ويقفوا عند حدوده؛ يرجون ثوابه، ويخشون عقابه.
ويقول سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [فاطر:5]، ويقول جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1]، إلى غير هذا من الآيات التي يذكر بها سبحانه أنه ربّهم وإلههم ومعبودهم الحقّ، وأنَّ الواجبَ عليهم طاعته، والحذر من أن يغترّوا بهذه الحياة العاجلة وشهواتها، أو بالغَرور: الشيطان الذي غرَّ أباهم وأمَّهم قبل ذلك، فعدوٌّ غرَّ أباك وأمَّك وسبَّب الشَّر الكثير جديرٌ بأن تحذره وتبتعد عن خُطواته ونزغاته ووساوسه، نعم.
أي هذا هو القول الْحَقُّ فِي عِيسَى، الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَلَا صَحِيحَ سِوَاهُ، وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ؟
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ ﷺ أَنْ يُبَاهِلَ مَنْ عَانَدَ الْحَقَّ فِي أَمْرِ عِيسَى بَعْدَ ظُهُورِ الْبَيَانِ: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ أَيْ: نُحْضِرُهُمْ فِي حال المباهلة ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي: نلتعن فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61] أَيْ: مِنَّا أَوْ مِنْكُمْ.
وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْمُبَاهَلَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا فِي وَفْدِ نجران: أنَّ النَّصارى لما قَدِمُوا فَجَعَلُوا يُحَاجُّونَ فِي عِيسَى، وَيَزْعُمُونَ فِيهِ ما يزعمون من النّبوة وَالْإِلَهِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ رَدًّا عَلَيْهِمْ، كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سيرته المشهورة وغيره: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَفْدُ نَصَارَى نَجْرَانَ سِتُّونَ رَاكِبًا، فِيهِمْ أَرْبَعَةَ عشر رجلًا من أشرافهم، يؤول أمرهم إليهم، وَهُم: الْعَاقِبُ وَاسْمُهُ: عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَالسَّيِّدُ وَهُوَ الْأَيْهَمُ، وَأَبُو حَارِثَةَ ابْنُ عَلْقَمَةَ، أَخُو بَكْرِ بن وائل، وأويس بْنُ الْحَارِثِ، وَزَيْدٌ، وَقَيْسٌ، وَيَزِيدُ، وَنَبِيهٌ، وَخُوَيْلِدٌ، وَعَمْرٌو، وَخَالِدٌ، وَعَبْدُاللَّهِ، وَيُحَنَّسُ. وَأَمْرُ هَؤُلَاءِ يؤول إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ، وَهُمُ: الْعَاقِبُ، وَكَانَ أَمِيرَ الْقَوْمِ، وَذَا رَأْيِهِمْ، وَصَاحِبَ مَشُورَتِهِمْ، وَالَّذِي لَا يَصْدُرُونَ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ. وَالسَّيِّدُ، وَكَانَ عَالِمَهُمْ، وَصَاحِبَ رَحْلِهِمْ وَمُجْتَمَعِهِمْ. وَأَبُو حَارِثَةَ ابْنُ عَلْقَمَةَ، وَكَانَ أُسْقُفَهُمْ، وَحَبْرَهُمْ، وَإِمَامَهُمْ، وَصَاحِبَ مَدَارِسِهِمْ، وَكَانَ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَلَكِنَّهُ تَنَصَّرَ؛ فَعَظَّمَتْهُ الرُّومُ وَمُلُوكُهَا وَشَرَّفُوهُ، وبنوا له الكنائس وَأَخْدَمُوهُ؛ لِمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ صَلَابَتِهِ فِي دِينِهِمْ، وَقَدْ كَانَ يَعْرِفُ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وصفته وشأنه مما علمه من الكتب المتقدّمة، ولكن حمله جَهْلُهُ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ فِي النَّصْرَانِيَّةِ؛ لِمَا يَرَى من تعظيمه فيها وجاهه عِنْدَ أَهْلِهَا.
الشيخ: هذه بلية الجمّ الغفير، هذه البلية من بلية الجمّ الغفير، وهو أنهم يثبتون على الباطل، ويُخاصمون في الباطل من أجل المال والجاه وما يحصل لهم من غيرهم في ذلك، هكذا جرى لليهود ولأئمّة النصارى ودُعاتهم: إنكار الحقّ، والبقاء على الباطل، والمخاصمة في الباطل من أجل الحظِّ العاجل، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، كما قال في رؤساء قريش ..... في قريش: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، يجحدون وهم يعلمون أنَّ محمدًا صادقٌ، وأنه رسولٌ من عند الله، وأنه الأمين، لا يكذب، ولكن ما لهم من الرياسة والتَّعظيم عند قومهم والجاه حملهم على الجحد والإنكار، نسأل الله العافية.
الشيخ: هذه أقوال النَّصارى، لا تخرج عن هذا الملكيّة، والنّسطورية، واليعقوبية، ترجع إلى هذه الأقوال الثلاثة: أحدهم يقول: هو الله، والثاني يقول: هو ابن الله، والثالث يقول: ثالث ثلاثة، كلها باطلة، أبطلها اللهُ في كتابه العظيم.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّصْرَانِيَّةِ، فَهُمْ يَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ: (هُوَ اللَّهُ) بِأَنَّهُ كَانَ يُحْيِي الموتى، ويُبرئ الأكمه والأبرص والأسقام، وَيُخْبِرُ بِالْغُيُوبِ، وَيَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فينفخ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وليجعله اللهُ آيةً للناس.
ويحتجّون على قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ (ابْنُ اللَّهِ) يَقُولُونَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ يُعْلَمُ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ بشيءٍ لم يسمعه أحدٌ من بني آدم قبله.
ويحتجّون على قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ (ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَعَلْنَا، وَأَمَرْنَا، وَخَلَقْنَا، وَقَضَيْنَا. فَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ واحدًا ما قال إلا: فعلتُ، وأمرتُ، وقضيتُ، وخلقتُ. ولكنَّه هو وعيسى ومريم، تعالى الله وتقدَّس وتنزَّه عمَّا يقول الظَّالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا.
ففي كُلِّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ قَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ الْحَبْرَانِ قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَسْلِمَا، قَالَا: قَدْ أَسْلَمْنَا. قَالَ: إِنَّكُمَا لَمْ تُسْلِمَا، فَأَسْلِمَا، قَالَا: بَلَى قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ. قَالَ: كَذَبْتُمَا، يَمْنَعُكُمَا من الإسلام ادِّعاؤكما لِلَّهِ وَلَدًا، وَعِبَادَتُكُمَا الصَّلِيبَ، وَأَكْلُكُمَا الْخِنْزِيرَ. قَالَا: فَمَنْ أَبوه يَا مُحَمَّدُ؟ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْهُمَا فَلَمْ يُجِبْهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَاخْتِلَافِ أَمْرِهِمْ صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَى بِضْعٍ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْهَا.
ثُمَّ تَكَلَّمَ ابْنُ إِسْحَاقَ على تفسيرها إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الْخَبَرُ مِنَ اللَّهِ وَالْفَصْلُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَأُمِرَ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ مُلَاعَنَتِهِمْ، إِنْ رَدُّوا ذَلِكَ عَلَيْهِ دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، دَعْنَا نَنْظُرْ فِي أَمْرِنَا ثُمَّ نَأْتِيكَ بِمَا نُرِيدُ أَنْ نَفْعَلَ فِيمَا دَعَوْتَنَا إِلَيْهِ. ثم انصرفوا عَنْهُ، ثُمَّ خَلَوْا بِالْعَاقِبِ -وَكَانَ ذَا رَأْيِهِمْ- فَقَالُوا: يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ، مَاذَا تَرَى؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى لَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْفَصْلِ مِنْ خبر صاحبكم، ولقد علمتُم أنَّه ما لاعن قَوْمٌ نَبِيًّا قَطُّ فَبَقِيَ كَبِيرُهُمْ، وَلَا نَبَتَ صغيرهم، وإنَّه الاستئصال منكم إن فعلتُم، فإن كنتم أَبَيْتُمْ إِلَّا إِلْفَ دِينِكُمْ وَالْإِقَامَةَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ فِي صَاحِبِكُمْ؛ فَوَادِعُوا الرَّجُلَ وَانْصَرِفُوا إِلَى بِلَادِكُمْ. فَأَتَوُا النَّبِيَّ ﷺ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قد رأينا ألَّا نُلاعنك، وأن نتركك عَلَى دِينِكَ، وَنَرْجِعَ عَلَى دِينِنَا، وَلَكِنِ ابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ تَرْضَاهُ لَنَا يَحْكُمُ بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا، فإنَّكم عندنا رضا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ائْتُونِي الْعَشِيَّةَ أَبْعَثْ مَعَكُمُ الْقَوِيَّ الْأَمِينَ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: مَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ قَطُّ حُبِّي إِيَّاهَا يَوْمَئِذٍ؛ رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ صَاحِبَهَا.
الشيخ: يعني من قوله: القوي الأمين، كما قال في قصّة خيبر: لأُعطين الرايةَ غدًا رجلًا يُحبّ الله ورسولَه، ويُحبّه اللهُ ورسولُه، يفتح اللهُ على يديه، فقال عمر: فما تطاولتُ لها إلا يومئذٍ؛ من أجل هذا الوصف.
الشيخ: وهو أمين هذه الأمّة من الصَّحابة.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: أَنَّ وَفْدَ أَهْلِ نَجْرَانَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فَذَكَرَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَشْرَافِ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ. وَذَكَرَ بَقِيَّتَهُ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَزِيَادَاتٍ أُخَرَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْحُسَيْنِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: جَاءَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ -صَاحِبَا نَجْرَانَ- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُرِيدَانِ أَنْ يُلَاعِنَاهُ، قَالَ: فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَا تفعل؛ فوالله لئن كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَّاهُ لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا. قَالَا: إِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا، وَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا، وَلَا تَبْعَثْ مَعَنَا إِلَّا أَمِينًا. فَقَالَ: لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ، فَاسْتَشْرَفَ لَهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ ابْنَ الْجَرَّاحِ، فَلَمَّا قَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هذا أمين هذه الأُمَّة. رواه البخاري وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ صِلَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ بِنَحْوِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ صِلَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قال: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ ابْنُ الْجَرَّاحِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَزِيدَ الرَّقِّيُّ أَبُو يَزِيدَ: حَدَّثَنَا فُرَاتٌ، عَنْ عَبْدِالْكَرِيمِ بْنِ مَالِكٍ الْجَزَرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أبو جهلٍ قبَّحه الله: إن رأيتُ محمدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَآتِيَنَّهُ حَتَّى أَطَأَ عَلَى رقبتِه. قَالَ: فَقَالَ: لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا، ولو أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا، وَلَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَرَجَعُوا لَا يجدون مالًا ولا أهلًا. وقد رواه التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِالرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِالْكَرِيمِ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي "دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ" قِصَّةَ وَفْدِ نَجْرَانَ مُطَوَّلَةً جِدًّا، وَلْنَذْكُرْهُ؛ فَإِنَّ فِيهِ فَوَائِدَ كَثِيرَةً.
الشيخ: رحمه الله، قدَّس الله روحه، فيها عِبَر، القصّة فيها عِبَر وذكرى، والله المستعان.
س: هل يُشرع أن يُقال للنَّصارى: مسيحيين؟
ج: لا أعلم فيه مانعًا؛ لأنهم نسبة إلى المسيح، دعواهم منسوبة إلى المسيح ابن مريم، يعني يقال: نصارى، ويقال: مسيحيون، لكنَّهم لم يتبعوه، نسبةً فقط، انتسابًا.
س: .............؟
ج: على طريقة العرب؛ ينسبون الشَّخص إلى ما ينتسب إليه من دينٍ، أو مذهبٍ، أو نسبٍ، ينسبونه إليه بحقٍّ أو باطلٍ، بحسب ما اشتهر به، كما يُقال عن الحنفيين والشَّافعيين والمالكيين والحنبليين، وبعضهم أئمّتهم منهم براء؛ لانحرافهم، لكن بالشُّهرة.
س: .............؟
ج: ما فيها شيء، المباهلة إذا كان الخصمُ ..... وتيقَّن أنَّه على الحقِّ فلا بأس أن يُباهل المبطِل.
مداخلة: أحسن الله إليك، هذا "مسند أحمد" بسنده، يقول: حدَّثنا إسماعيل بن يزيد الرَّقي -أبو يزيد الرقي- قال: حدَّثنا ..... عن عبدالكريم، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما.
الشيخ: وأيش قال شاكر؟
الطالب: هذا إسناده صحيحٌ؛ إسماعيل بن يزيد -أبو يزيد الرّقي- من شيوخ أحمد، وقد ذكره ابنُ الجوزي فيهم، وترجمه الحافظ في "التعجيل" (38)، ونقل عن الحسيني قال: "فيه جهالة"، ثم استدرك عليه بأنَّه معروفٌ، وأنَّه إنما نُسب إلى جدِّه، وأنَّه مترجم في "التهذيب" باسم "إسماعيل بن عبدالله بن يزيد الرَّقي، قاضي دمشق"، والذي في "التهذيب": "إسماعيل بن عبدالله بن خالد بن يزيد" (1/ 307).
وأنا أرى أنَّ هذا خطأٌ، وأنَّ هذا غير ذاك؛ أمَّا أولًا: فإنَّ الذي في "التهذيب" كُنيته "أبو عبدالله"، وقيل: "أبو الحسن"، والذي هنا كُنيته "أبو يزيد"، كما صرَّح بذلك الإمامُ أحمد. وأما ثانيًا: فإنَّ المترجم في "التهذيب" مُتأخِّر، من شيوخ ابن ماجه، ومات بعد سنة 240. وأمَّا ثالثًا: فإنَّ الذي هنا يُحدِّث عن "فرات بن سلمان" سماعًا، وفرات مات سنة 150، فأنَّى له أن يُدركه ويسمع منه؟!
ولعلَّ شيخ أحمد عمّ ذاك الذي في "التهذيب"، وأيًّا ما كان فهما اثنان، وأحمد يتحرّى شيوخه؛ فلا يروي إلا عن ثقةٍ، وعن ذاك صحّحنا حديثه:
فرات: هو ابن سلمان الحضرمي، الجزري، الرقي، وهو ثقة، وثَّقه أحمد، وترجمه البخاري في "الكبير" (4/ 1/ 129)، فلم يذكر فيه جرحًا.
عبدالكريم: هو ابن مالك الجزري.
والحديث ذكره ابنُ كثير في "التفسير" (2/ 156) عن هذا الموضع، ووقع فيه: "قرة" بدل "فرات"، وهو خطأ، وقال: وقد رواه البخاري والترمذي والنَّسائي من حديث عبدالرزاق، عن معمر، عن عبدالكريم، به.
وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ.
وذكره فيه أيضًا (9/ 248)، وأشار إليه فيه (1/ 235)، وذكر منه ما يتعلّق بأبي جهلٍ.
الشيخ: الذي عنده "قرة" يصلح "فرات"، الذي عنده منكم "قرة" يُصلحه "فرات"، والتَّصحيف سهلٌ؛ لأنه سقطت الألف، والقاف نقطة إذا زِيدت فيها صارت قافًا بدل الفاء، تصحيفٌ قليلٌ.