إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:124- 129].
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْوَعْدِ: هَلْ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَوْ يَوْمَ أُحُدٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِمْ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
قَالَ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ: عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَالَ: هَذَا يَوْمُ بَدْرٍ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ: حدَّثنا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ -يَعْنِي الشَّعْبِيَّ- أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَلَغَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ أَنَّ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ يُمِدُّ الْمُشْرِكِينَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ إِلَى قَوْلِهِ: مُسَوِّمِينَ، قَالَ: فَبَلَغَتْ كُرْزًا الْهَزِيمَةُ، فَلَمْ يُمِدَّ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يُمِدَّ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِالْخَمْسَةِ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: أَمَدَّ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِأَلْفٍ، ثُمَّ صَارُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ، ثُمَّ صَارُوا خَمْسَةَ آلَافٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ بَدْرٍ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:9- 10]؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْأَلْفِ هَاهُنَا لَا يُنَافِي الثَّلَاثَةَ الْآلَافَ فَمَا فَوْقَهَا؛ لِقَوْلِهِ: مُرْدِفِينَ بِمَعْنَى: يَرْدَفُهُمْ غَيْرُهُمْ، وَيَتْبَعُهُمْ أُلُوفٌ أُخَرُ مِثْلُهُمْ. وَهَذَا السِّيَاقُ شَبِيهٌ بِهَذَا السِّيَاقِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ كَمَا هو المعروف من أنَّ قتالَ الْمَلَائِكَةِ إِنَّمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ سَعِيدُ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ: عَنْ قَتَادَةَ: أمدَّ اللهُ المسلمين يَوْمَ بَدْرٍ بِخَمْسَةِ آلَافٍ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [آل عمران:121]، وَذَلِكَ يَوْم أُحُدٍ.
وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالزُّهْرِيِّ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَغَيْرِهِمْ، لَكِنْ قَالُوا: لَمْ يَحْصُلِ الْإِمْدَادُ بِالْخَمْسَةِ الْآلَافِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فَرُّوا يَوْمَئِذٍ. زَادَ عِكْرِمَةُ: وَلَا بِالثَّلَاثَةِ الآلاف؛ لقوله تعالى: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا، فَلَمْ يَصْبِرُوا، بَلْ فَرُّوا، فَلَمْ يُمَدُّوا بِمَلَكٍ وَاحِدٍ.
وَقَوْلُهُ: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا يعني: تصبروا على عدوِّكم، وتتقوني وتُطيعوا أمري.
وقوله تعالى: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ: أَيْ مِنْ وَجْهِهِمْ هَذَا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو صَالِحٍ: أَيْ مِنْ غَضَبِهِمْ هَذَا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مِنْ غَضَبِهِمْ وَوَجْهِهِمْ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ سَفَرِهِمْ هَذَا. ويُقال: من غضبهم هذا.
وقوله تعالى: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ أَيْ: مُعَلَّمِينَ بِالسِّيمَا.
الشيخ: اختلف الأئمةُ في هذا المعنى، وجهه أنه سبحانه قال: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ، ثم قال بعدها: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]؛ ولهذا اختلف العلماءُ في قوله: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ [آل عمران:124]، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا [آل عمران:125]، إلى آخرها، هل هذان المددان لأحدٍ أو لبدرٍ؟ والأقرب أنه لأحدٍ؛ لأنَّ السياق في أحدٍ، وذكر بدرٍ عارضٌ، والسياق في أحدٍ، غدوّهم كان لأحدٍ؛ لذكر نصر الله لهم في بدرٍ، يُبين سبحانه أنه هو الناصر لأوليائه، وعنده النصر ، كما فعل يوم بدرٍ مع قلَّتهم وذلَّتهم، وكثرة عدوهم وقوته؛ نصرهم وأيَّدهم بألفٍ من الملائكة مُردفين.
وذكر أنَّ الرسول قال لأصحابه: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ، ثم قال: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا، فهذا قاله لهم والله أعلم لأنَّ السياق يقتضيه، هذا يوم أحدٍ، فلم يصبروا، وحصل ما حصل من الخلل بالموقف، فلم يمدّوا بالخمسة، وأما الثَّلاثة فالأقرب والله أعلم أنهم أمدّوا بالثلاثة، وانهزم المشركون؛ ولهذا طمع الرُّماةُ أن يكون الأمرُ قد انتهى، طمعوا بحيازة الغنيمة، وتركوا الموقف؛ لأنَّهم اعتقدوا أنَّ المشركين انتهوا وانهزموا، فليس هناك حاجةٌ إلى أن يبقوا في الجبل الذي أمرهم النبيُّ بلزومه، فلما حصل ما حصل لم يمدّوا بالخمسة بسبب عدم الصبر وعدم التَّقوى في موقفهم، فجرت الهزيمةُ، لم يحصل الشرطُ فلم يحصل الإمدادُ بالخمسة.
أما الثلاثة فظاهر الواقع أنهم مدّوا بالثلاثة؛ فإنهم كانوا سبعمئة، أي: بعد انهزام عبدالله بن أُبي وجماعته والكفّار كانوا ثلاثة آلاف، فأمدّ اللهُ المسلمين بثلاثة آلاف، مع كونهم سبعمئة، فانهزم المشركون وولوا الأدبار، وسقطت رايتهم، وتبعهم المسلمون، وانصرف الرماةُ إلى جمع الغنيمة، فدخل العدو من جهة محل الرماة، والتبس أمرُ الناس وانكشفوا بسبب هذا الأمر.
ثم قال بعدها: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126] يعني: ذكر الإمداد بُشرى من الله جلَّ وعلا، وهو سبحانه قادرٌ على أن ينصرهم من دون أي مددٍ، إذا أراد نصرهم نصرهم بعددهم فقط، وبأقلّ منه، فالنصر بيده جلَّ وعلا: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ يعني: الوعد بالإمداد، مثلما قال في سورة الأنفال: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ يعني: الوعد بالإنزال إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:10]، فهو سبحانه يمدّ أولياءه وينصرهم بما شاء من الملائكة وغير الملائكة، فالنصر من عنده جلَّ وعلا، ولكنه سبحانه يُخبرهم بالمدد بُشرى وتطمين، فإذا اشتبك الجيشُ أو السّريةُ وصبروا واتَّقوا الله نصرهم على عدوهم وإن قلَّ عددهم، وإن قلَّت عدّتهم إذا كانوا ..... وأدّوا ما عليهم؛ لأنهم مأمورون بوسعهم: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، فإذا أعدّوا ما استطاعوا، واتَّقوا الله ما استطاعوا؛ نُصِرُوا وإن قلّوا، كما جرى يوم بدرٍ، كما جرى للصّحابة في قتال الروم وفارس في وقائع كثيرةٍ؛ كانوا قليلين، والروم أضعافهم، والفرس أضعافهم، فنصرهم اللهُ عليهم، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، هذا وعدٌ منه سبحانه، وهو صادق الوعد، ويقول جلَّ وعلا: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:40- 41]، ويقول جلَّ وعلا: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر:51]، ويقول : وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، ويقول : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ الآية [النور:55].
فهذه الآيات العظيمات واضحات في وعده سبحانه بالنصر لأوليائه إذا أدّوا الشرط الذي شرط: نصروا دينه واتَّقوه، فإنه وعدهم النَّصر، وهو الصَّادق في وعده، لا يُخلف اللهُ وعدَه، وإنما يأتي الخللُ من الجيش أو السّرية فيتخلَّف الوعدُ لعدم وجود الشرط، فإذا وُجِدَ الشرط وُجِدَ المشروط، سنة الله في عباده: هل يستقيمون؟ هل يُجاهدون أنفسهم؟ وليأخذوا الأهبة والعدّة حسبما أُمِروا.
ولو كان أحدٌ يُنصر بمجرد أنَّه مسلم، أو أنه مُؤمن، لكان الرسولُ ﷺ وأصحابُه أولى الناس بالنَّصر في يوم أحدٍ وفي غيره، وهكذا أصحابه، وهكذا المؤمنون بعد ذلك، إذن لا بدَّ من مراعاة الشروط، ولا بدَّ من الأخذ بالصِّفات التي رتَّب اللهُ عليها النَّصر.
وهذا الابتلاء والامتحان ليتميّز هؤلاء من هؤلاء، وليتميز الصَّابرون من غيرهم، كما قال : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]، ويقول سبحانه: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ يعني: هذا حسبان باطل، ما هو بصحيحٍ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1- 3]، ولقد فتنا مَن قبلهم، يعني: اختبرهم، الفتنة: الاختبار والامتحان، يقال: فتن الذهب: اختبره، وفتن المادة الفلانية: اختبرها، الفتنة: الاختبار والامتحان بالحوادث، بالمصائب، بالأمراض، بالمال، بالفقر، بغير ذلك، الفتنة تكون بأنواعٍ كثيرةٍ: فالمال فتنة، والفقر فتنة، والنصر فتنة، والهزيمة فتنة؛ ليتميز أولياءُ الله وحزبه من ضدِّهم، يتميز الصَّابرون المجاهدون المتَّقون من المتساهلين، يتميز مَن يجتهد في أخذ العدّة والأخذ بالأسباب، ممن يتساهل ويُفرط.
ويقول سبحانه في سورة النساء: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، هذه أسباب: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ وهم في الصلاة، فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ حتى يُراقبوا، الأسباب لا بدَّ منها، كان في صلاة الخوف إذا صلَّى بهم جميعًا والعدو أمامهم: الصف الأول يسجد معه، والصف الثاني يُراقب، ما يسجد حتى يقوم الصفُّ الأول، فإذا قاموا سجدوا؛ لماذا؟ للمُراقبة، حتى لا يهجم العدو، وحمل السلاح وهم في الصلاة لماذا؟ ليكونوا مُستعدين، لو هجم العدو فالسلاح بأيديهم، هذه سنة الله في عباده في جميع الأحوال، والله وعد الناسَ بالرزق: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ [الذاريات:58]، فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ [العنكبوت:17]، هل معنى هذا أنه ينام ولا يطلب الرزق، لا في الليل، ولا في النَّهار، يجلس في البيت فقط؟ لا بدَّ من عملٍ، يطلب الرزق: يبيع، يشتري، يحرث، يعمل، يطلب الرزق بأنواعه وأسبابه، إلى غير ذلك، نعم.
المقصود أنَّ هذه المسائل يجب على طالب العلم أن ينتبه لها، هذه المسائل لا بدَّ من الانتباه لها؛ حتى يعلم كلُّ أحدٍ أنه لا بدَّ من أخذ الأسباب التي شرعها الله في كل شيءٍ.
س: ما حكم إعداد العدّة للجهاد في واقع المسلمين اليوم؟
ج: اليوم وفي كل يومٍ يجب أخذ العدّة، أينما كان المسلمون يجب بكلِّ ما يُناسب المقام، حسب طاقة المسلمين: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] بالسلاح والتَّدرب، وصنع السلاح، وشراء السلاح، والآن الصناعة والإعداد للصناعة والتَّدرب حتى تكون عندهم قوّتهم، ليست في يد غيرهم: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ [الأنفال:60]، ما قال: كل قوة، قال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فإعداد الأبدان مُستطاع، وإعداد القوة حسب الطاقة، وصنعها في البلاد حسب الطاقة.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ: عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، قَالَ: كَانَ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ الصُّوفَ الْأَبْيَضَ، وَكَانَ سيماهم أيضًا في نواصي خيولهم. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ: حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:125] قَالَ: بِالْعِهْنِ الْأَحْمَرِ.
وقال مجاهد: مُسَوِّمِينَ أي: محذفة أَعْرَافُهَا، مُعَلَّمَةٌ نَوَاصِيهَا بِالصُّوفِ الْأَبْيَضِ فِي أَذْنَابِ الخيل.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَتِ الْمَلَائِكَةُ مُحَمَّدًا ﷺ مُسَوِّمِينَ بِالصُّوفِ، فَسَوَّمَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنْفُسَهُمْ وَخَيْلَهُمْ على سيماهم بالصّوف.
وقال قتادةُ وعكرمةُ: مُسَوِّمِينَ أَيْ: بِسِيمَا الْقِتَالِ.
وَقَالَ مَكْحُولٌ: مُسَوِّمِينَ بِالْعَمَائِمِ.
وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْه مِنْ حَدِيثِ عَبْدِالْقُدُّوسِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءِ ابْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي قَوْلِهِ: مُسَوِّمِينَ قَالَ: مُعَلَّمِينَ، وَكَانَ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بدرٍ عمائم سود، ويوم حنين عمائم حمر.
وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ حُصَيْنِ بْنِ مُخَارِقٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض، قَدْ أَرْسَلُوهَا فِي ظُهُورِهِمْ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ عَمَائِمَ حمر، وَلَمْ تَضْرِبِ الْمَلَائِكَةُ فِي يَوْمٍ سِوَى يَوْمِ بَدْرٍ، وَكَانُوا يَكُونُونَ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَيَّامِ عَدَدًا وَمَدَدًا لَا يَضْرِبُونَ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فذكر نحوه.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْأَحْمَسِيُّ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ يَحْيَى بن عباد: أنَّ الزبير كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ بَدْرٍ عِمَامَةٌ صَفْرَاءُ، مُعْتَجِرًا بِهَا، فَنَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ عَمَائِمُ صُفْرٌ. رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِالله بن الزبير. فذكره.
وقوله تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ [آل عمران:126] أَيْ: وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ وأعلمكم بإنزالهم إِلَّا بِشَارَةً لَكُمْ، وَتَطْيِيبًا لِقُلُوبِكُمْ وَتَطْمِينًا، وَإِلَّا فَإِنَّمَا النَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الَّذِي لَوْ شَاءَ لَانْتَصَرَ مِنْ أَعْدَائِهِ بِدُونِكُمْ، وَمِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى قِتَالِكُمْ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ أَمْرِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِتَالِ: ذَلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ [محمد:4- 6]؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أَيْ: هُوَ ذُو الْعِزَّةِ الَّتِي لَا تُرَامُ، وَالْحِكْمَةِ فِي قَدَرِهِ وَالْإِحْكَامِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:127] أَيْ: أَمَرَكُمْ بِالْجِهَادِ وَالْجِلَادِ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي كُلِّ تَقْدِيرٍ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ جَمِيعَ الْأَقْسَامِ الْمُمْكِنَةِ فِي الْكُفَّارِ الْمُجَاهِدِينَ، فَقَالَ: لِيَقْطَعَ طَرَفًا أَيْ: لِيُهْلِكَ أُمَّةً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ أَيْ: يُخْزِيَهُمْ ويردّهم بغيظهم لَمَّا لَمْ يَنَالُوا مِنْكُمْ مَا أَرَادُوا؛ وَلِهَذَا قَالَ: أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا أَيْ: يَرْجِعُوا خَائِبِينَ أَيْ: لَمْ يَحْصُلُوا عَلَى مَا أَمَّلُوا.
ثُمَّ اعْتَرَضَ بِجُمْلَةٍ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فقال تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] أَيْ: بَلِ الأمر كله إليَّ، كما قال تعالى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرعد:40]، وَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272]، وَقَالَ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص:56].
وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَيْ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْحُكْمِ شَيْءٌ فِي عِبَادِي إِلَّا مَا أَمَرْتُكَ بِهِ فِيهِمْ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى بَقِيَّةَ الْأَقْسَامِ فَقَالَ: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَيْ: مِمَّا هم فيه من الكفر فيهديهم بَعْدَ الضَّلَالَةِ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] أَيْ: يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا حبان بن موسى: أنبأنا عبدالله: أنبأنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْفَجْرِ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا بَعْدَمَا يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الآية. وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَعَبْدِالرَّزَّاقِ –كِلَاهُمَا- عَنْ مَعْمَرٍ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ -قَالَ أَحْمَدُ: وَهُوَ عَبْدُالله بن عقيل، صالح الحديث، ثقة- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا، اللَّهُمَّ الْعَنِ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ الْعَنْ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، اللَّهُمَّ الْعَنْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ، فَتِيبَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ العلائي.
الطالب: تكلم عليه في الحاشية .....
الشيخ: يعني: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، كانوا من صناديد الكفرة، وكان شرُّهم عظيمًا في يوم أحد ويوم بدر، وبعد ذلك يوم الأحزاب، لكنَّ الله هداهم وأسلموا والحمد لله، أسلموا كلهم عام الفتح، وصفوان تأخَّر إسلامه إلى ما بعد حنين أيضًا.
قال البخاري: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كان رسولُ الله يَدْعُو عَلَى رِجَالٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ، حتى أنزل اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الْآيَةَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ ابْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ أَوْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَرُبَّمَا قَالَ إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لمن حمده، ربنا لك الْحَمْدُ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ ابْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، يَجْهَرُ بِذَلِكَ.
وَكَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا لِأَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الآية [آل عمران:128].
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ حُمَيْدٌ وَثَابِتٌ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: شُجَّ النبيُّ ﷺ يوم أحد، فَقَالَ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ؟ فَنَزَلَتْ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ.
وَقَدْ أَسْنَدَ هذا الحديث الذي علَّقه البخاري في "صحيحه"، فقال الْبُخَارِيُّ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ.
الشيخ: كذا عندكم: وقد أسند؟
الطالب: أحسن الله إليك: وقد أسند هذا الذي علَّقه البخاري رحمه الله. قال المحشِّي: .....
الشيخ: هنا سقط شيء، كأنَّه فلان بن فلان، فيه سقط، سقط شيء؛ لأنَّ الذي بعده ما له تعلّق به، كأنه سقط شيء.
الطالب: ............
الشيخ: المقصود هنا الموضوع هنا فيه ..... وقد أسند هذا، ماشٍ، لكن ظاهر السياق أنه سقط شيء، أيش بعده؟
الشيخ: ما يستقيم هذا.
مداخلة: ليس عندنا: في "صحيحه".
الشيخ: أيش بعده؟
الطالب: وقد أسند هذا الذي علّقه البخاري رحمه الله ..... قال البخاري في غزوة أحدٍ.
الشيخ: هذا السقط، وقال البخاري: حدَّثنا؟
الطالب: حدَّثنا يحيى بن عبدالله السلمي.
الشيخ: ما عندك: فقال؟
الطالب: وقال.
الشيخ: الذي عند الشيخ سلطان أحسن؛ لأنه ما يستقيم إلا الذي مع الشيخ سلطان.
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عبدالله السّلمي: أَخْبَرَنَا عَبْدُاللَّهِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ: أنَّه سمع رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْفَجْرِ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا بَعْدَمَا يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الآية [آل عمران:128].
وَعَنْ حَنْظَلَةَ ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْعُو عَلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَزَلَتْ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ.
هَكَذَا ذَكَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقَةً مرسلةً، وقد تقدمت مُسندةً متَّصلةً في "مسند أحمد" آنِفًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي جَبْهَتِهِ حَتَّى سَالَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ.
الشيخ: هذا محل "وقد أسند"، تقديمٌ وتأخيرٌ هذا محلّه، تقديمٌ وتأخيرٌ في النّسخ، طُبِعَ على غير الوجه المطلوب، هذا محلّه: "وقد أسند": قد أسند هذا المعلّق أحمد رحمه الله فقال. فحصل تقديمٌ وتأخيرٌ يبين بالقراءة، نعم.
الشيخ: وهذه الآيات وهذه الأحاديث فيها الدّلالة على أنَّ المؤمنين عليهم الصبر، وليس لهم من الأمر شيءٌ، عليهم الصّبر والجهاد والقيام بالواجب، وعليهم الصّبر إذا أصابهم ما يكرهون من جراحٍ أو هزيمةٍ أو قتلٍ أو غير ذلك، لا بدَّ من الصبر، لكن هذا يُقال لنبيِّهم، إذا كان هذا يُقال لنبيِّهم والصَّحابة وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، ونبيّهم أفضل الأنبياء، يُقال لهم هذا الكلام، فغيرهم من باب أولى، فهي تعزية وتسلية، والمعنى: عليكم الامتثال، وعليكم الطاعة، وعليكم العمل بما وجّهتم إليه، أما هداية النَّاس والنَّصر والهزيمة وغير ذلك فهذه إلى الله، له الحكم ، هو البصير بعباده، ينصر مَن يستحقّ النصر ومَن أخذ بأسبابه، ويهزم مَن أراد اللهُ هزيمته بإخلاله بأسبابه، فله الحكمة البالغة، أنتم عليكم الأسباب، وعليكم الأخذ بالأوامر، وليس لكم في التَّدبير شيءٌ، التَّدبير إلى الله، ليس لك من الأمر شيءٌ، هذا رسولُ الله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ [البقرة:272]، قد يُجرح ويُقتل وهو نبيّ، فغيره من باب أولى.
فهذه تسلية للناس، لأهل الإيمان، تسلية لهم إذا أصابهم ما يكرهون فلهم أسوة في الأنبياء: قُتِلَ الأنبياء، جُرحوا، هُزِموا، فمَن دونهم من باب أولى، لا تجزعوا، لا بدَّ من صبرٍ، ولو كان كلُّ مؤمنٍ وكل سريةٍ مؤمنةٍ وكل غزوٍ مسلمٍ يُنصرون أبدًا ما كان بقي كافرٌ، ما بقي قسمان، ..... لو كان كل كافرٍ يرفع رأسَه يُقتل أو يموت ما بقي أحدٌ، هذه دار الابتلاء والامتحان، فيها قسمان، فالابتلاء والامتحان هو الذي جرأ هؤلاء، وجرأ هؤلاء، اغترّوا، ولله الحكمة البالغة ، ولو شاء لانتقم منهم جميعًا، ولأهلكهم جميعًا: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [الأنعام:35]، وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة:13]، لا بدَّ من صبرٍ، ولا بدَّ من أخذٍ بالأسباب، ولا بدَّ من عنايةٍ بما شرع الله، ثم التَّسليم لله في كل شيءٍ.
س: حكم الدّعاء على المعيّن؟
ج: الدّعاء للمُعين والدّعاء على المعين جائز، إذا اقتضت المصلحةُ ذلك دُعِيَ له وعليه، كما دعا النبيُّ ﷺ على جماعةٍ، ودعا لجماعةٍ بعد نزول هذه الآية عليه الصلاة والسلام، دعا لناسٍ قبل الفتح مُستضعفين بمكة، سمَّاهم بأسمائهم، وسمَّى آخرين ولعنهم، فإذا اقتضت المصلحةُ ذلك فلا بأس بالدُّعاء لهم وعليهم.
أمَّا إذا لم تكن هناك مصلحة يدعو على العموم، يدعو على العموم، والدَّعوة على العموم.
س: .............؟
ج: سلمة يُدعا له، والحارث يُدعا عليه؛ لأنَّ الحارث ضد المسلمين، وسلمة مع المسلمين، فدعا لقومٍ، وعلى قومٍ: اللهم أَنْجِ الوليد بن الوليد.
س: ...........؟
ج: نعم، نعم، بقي القنوت، والصَّحابة كذلك: الصديق وعمر ومَن بعدهم.