وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ ابْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جبيرٍ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [آل عمران:119] أَيْ: بِكِتَابِكُمْ وَكِتَابِهِمْ، وَبِمَا مَضَى مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِكِتَابِكُمْ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِالْبَغْضَاءِ لَهُمْ مِنْهُمْ لَكُمْ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آل عمران:119] وَالْأَنَامِلُ: أَطْرَافُ الْأَصَابِعِ. قَالَهُ قَتَادَةُ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ: (وَمَا حَمَلَتْ كَفَّايَ أنْمُلي العَشْر).
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، والسُّدِّي، والرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الأنَامِل: الْأَصَابِعُ.
وَهَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ: يُظْهِرون لِلْمُؤْمِنِينَ الإيمانَ وَالْمَوَدَّةَ، وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ، وَذَلِكَ أَشَدُّ الْغَيْظِ وَالْحَنَقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119] أَيْ: مَهْمَا كُنْتُمْ تَحْسُدُونَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَغِيظُكُمْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مُتمُّ نِعْمَتَهُ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، ومُكَمِّلٌ دِينَهُ، ومُعْلٍ كلمتَه، وَمُظْهِرٌ دينَه، فَمُوتُوا أَنْتُمْ بِغَيْظِكُمْ.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَيْ: هُوَ عَلِيمٌ بِمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ ضَمَائِرُكُمْ، وتُكِنُّه سَرَائرُكُم مِنَ الْبَغْضَاءِ وَالْحَسَدِ وَالْغِلِّ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ يُرِيَكُمْ خِلَافَ مَا تُؤَمِّلُونَ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ فِي النَّارِ الَّتِي أَنْتُمْ خَالِدُونَ فِيهَا، لا محيدَ لكم عنها، وَلَا خُرُوجَ لَكُمْ مِنْهَا.
الشيخ: والمقصود من هذا البيان العظيم تحذير الأمّة الإسلامية من اتِّخاذ الكفّار بطانةً، سواء كانوا مُنافقين مُتظاهرين بالإسلام، أو كانوا مُعلنين كفرهم من اليهود والنَّصارى وغيرهم، فالبغضاء معلومة، وكونهم يسعون لضرر المؤمنين وإدخال السّوء عليهم أمرٌ معلومٌ، فالواجب الحذر من مكائدهم وشرِّهم؛ وذلك بعدم اتِّخاذهم بطانةً، بل يكونون بعيدين عن ذلك، وبالأطراف التي لا تكون بطانةً؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118]، وهذا يعمّ جميع الكفرة: اليهود والنصارى والمنافقين والوثنيين والملاحدة، فالآية عامَّة.
ثم نبَّه على حال المنافقين بخُبثهم وعظم ضررهم، المنافق شرٌّ من الكافر المعلِن، المعلِن قد يُتَّقى، وقد يُسلم من شرِّه بمعرفته، لكن المنافق خطره أعظم؛ لأنه يتظاهر بالإسلام، فإذا لقيك قال: أنا مؤمنٌ، وأنا، وأنا: وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا [آل عمران:119]، هذا هو الذي خطره أكبر؛ ولهذا صار عقابُهم أشدَّ يوم القيامة، صاروا تحت الكفَّار: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145]، لماذا؟ لغِلَظ الكفر؛ ولأنهم مُلَبِّسون، مُخادعون، فمَن لبَّس وخادع أعظم ضررًا ممن أعلن وأوضح لك الأمر؛ ولهذا يعظم ضررُ الخونة في الأعمال؛ لأنَّ أعمالهم خفيَّة، جاء التَّحذير من الخيانة لعظم ضررها، والأمر بالأمانة -بأداء الأمانة- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]، ويقول جلَّ وعلا في وصف المؤمنين: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8].
فالخيانة شرُّها عظيم وإن كانت من مسلمٍ: الخيانة في الشَّهادة، في الوظيفة، في الودائع، في غير ذلك شرُّها عظيم؛ لأنها خلافُ الظاهر، والمسلم قد يأمن مَن أظهر له الإيمان، ويُسِرُّ إليه بما يرى، ويُودعه أمواله، وقد يُودعه شهادةً، إلى غير ذلك، فيضرّه هذا الإعلان وهذا التَّظاهر بالإسلام ضررًا عظيمًا.
ثم بيَّن سبحانه في آخر الآية: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119]، لا تخفى عليه حال المنافقين وما يُضمرونه من الشَّر، وهذا تهديدٌ لهم، وتحذيرٌ لهم، وأنَّ كفرهم وعداءهم لأهل الإسلام أمرٌ لا يخفى على الله، وإن خفي على أكثر الخلق، لكنه لا يخفى على ربِّ الجميع، الذي يعلم خائنةَ الأعين وما تُخفي الصُّدور، بمعنى: احذروا عملكم الخبيث أيها المنافقون، فإنَّ الله سبحانه لا تخفى عليه خافيةٌ جلَّ وعلا، بل هو يعلم السِّر وأخفى، وهكذا غيرهم من العُصاة الذين يُبطنون الشَّر، ويُظهرون الخير، إنَّ الله لا تخفى عليه سبحانه أعمالهم.
فالواجب الحذر، وأن تكون مُطيعًا لربك سرًّا وعلنًا، حذرًا منه في جميع الأحوال، فهو يعلم سرَّك، ويعلم علانيتك، فاحذر أن تخلو بمعصيته، واحذر أن تُضمر ما يُغضبه، واحرص على أن تكون أعمالُك وأقوالُك على الحقِّ والهدى، سرًّا وعلنًا، فالله سبحانه: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]، وهو جلَّ وعلا عليمٌ بذات الصّدور، يعلم السِّر وأخفى.
فجديرٌ بالمؤمن بالله أن يحذر الخيانة، وأن يحذر إبطان السّوء في جميع الأمور، وهذه الدار الدنيا دار العمل، ودار الامتحان، ودار الاختبار، فمَن جاهد نفسَه لله وألزمها الحقَّ وصبر أفلح غاية الفلاح، ومَن أعطى النفس هواها ندم غايةَ النَّدامة، والله يقول سبحانه: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:6]، جهادك لنفسك، ولنجاتها، ولسلامتها، والله سبحانه غنيٌّ عنك وعن أعمالك، وعن كل شيءٍ، وعن جميع الخلق، ويقول سبحانه: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [الإسراء:7]، ويقول : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [فصلت:46].
العاقل يتدبر ويعلم أنَّ إحسانه لنفسه، وأنَّ شرَّه عليها، ويعلم أيضًا أنَّ جهاده في هذه الدار لن ينفعه إلا بأسباب هداية الله له، وتوفيق الله له، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، فمَن جاهد نفسه لله، وجاهد هواه وشيطانه، وجاهد أعداء الإسلام، وجاهد دُعاة الشَّر والبدعة، وجاهد العُصاة بالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر؛ هداه الله سبيل السَّعادة، وصار من المتقين المحسنين: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا أطلق، ما ذكر المفعول: جَاهَدُوا فِينَا، لا قال: أنفسهم، ولا قال: الكفار، ولا قال: الشيطان، أطلق حتى يعمَّ أنواع الجهاد، يعمّ جهاد النفس، وجهاد الكفَّار، وجهاد العُصاة، وجهاد الهوى والنفس، وجهاد أهل الإنسان ومَن تحت يده، يعمّ: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا.
المقصود أن يكون جهادُك في الله إخلاصًا لله، جاهد لله، وفي الله، لا لغرضٍ آخر، سواء كان جهادُه لنفسه، أو جهاده لأهل بيته وأولاده ومَن تحت يده، أو كان جهاده للعُصاة، أو كان جهاده للكفَّار في الجهاد الشَّرعي، والله سبحانه بهذا الجهاد الصَّادق، وبهذا الجهاد الخالص لله؛ من ثواب الله له أنه يهديه سبيله القويم، ويُوفّقه، ويُسدده، ويجعله من المتقين المحسنين: لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ.
ثُمَّ قَالَ: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا [آل عمران:120].
وَهَذِهِ الْحَالُ دَالَّةٌ عَلَى شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ مِنْهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ خِصْبٌ وَنَصْرٌ وَتَأْيِيدٌ، وَكَثُرُوا وَعَزَّ أَنْصَارُهُمْ، سَاءَ ذَلِكَ الْمُنَافِقِينَ، وَإِنْ أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ سَنَةٌ -أَيْ: جَدْبٌ- أَوْ أُديلَ عَلَيْهِمُ الْأَعْدَاءُ؛ لِمَا لِلَّهِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، كَمَا جَرَى يَوْمَ أُحُدٍ، فَرح الْمُنَافِقُونَ بِذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخَاطِبًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ.
الشيخ: يعني وهكذا المنافقون، وهكذا سائر الكفرة: إن تمسس المسلمين حسنةٌ تسؤهم، وإن تُصيبهم سيئةٌ يفرحوا بها؛ لأنهم أعداء، والعدو يفرح بالشَّر على خصمه، ويغيظه الخير في خصمه، هذا أمرٌ معلومٌ، لكن في حقِّ المنافقين أشدّ.
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120] يُرْشِدُهُمْ تَعَالَى إِلَى السَّلَامَةِ مِنْ شَرِّ الْأَشْرَارِ وكَيْدِ الفُجَّار بِاسْتِعْمَالِ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ الَّذِي هُوَ مُحِيطٌ بِأَعْدَائِهِمْ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ لَهُمْ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ إِلَّا بِتَقْدِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ.
ثُمَّ شَرَعَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ قِصَّةِ أُحُدٍ، وَمَا كَانَ فِيهَا مِن الِاخْتِبَارِ.
الشيخ: وهذه بشارة عظيمة للمؤمنين: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ، هذه بشارة عظيمة أنَّ المؤمنين متى صبروا على المصيبة، وعلى جهاد أعدائهم، واتَّقوا الله في أنفسهم، وفي جهاد أعدائهم؛ لا يضرّهم أذاهم، وإنما يُؤتون من جهة أنفسهم: إمَّا من عدم الصَّبر والانهزام، وإمَّا من جهة الإخلال بالتَّقوى بالمعاصي، أما إذا صبروا في جهاد الأعداء، وصابروا، ورابطوا، واتَّقوا الله في أنفسهم؛ فالله ينصرهم، ولا يضرّهم كيد أعدائهم شيئًا، وما قد يقع من إدالة العدو أسبابها هم، كما جرى يوم أحد وغيره، قال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يعني: يوم أحد قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا يعني: يوم بدر قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا من أين أوتينا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، وهذا هو المذكور في قوله جلَّ وعلا: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ إذا تقتلونهم بإذنه حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران:152]، الجواب: سُلِّطوا عليكم. محذوفٌ دلَّ عليه السِّياق، وهذا هو الذي فعله الرُّماة الذين أُمِرُوا بأن يثبتوا في الموقف، وألا يتزحزحوا عن مكانهم، سواء نُصِرَ المؤمنون أو هُزِمُوا، فالرسول أمرهم أن يثبتوا، فلما رأوا هزيمةَ المشركين ظنّوا أنها الفيصل، وأنَّ الأمر انتهى؛ فأخلوا الموقف، وعصوا أمر أميرهم، وعصوا قبل ذلك قول نبيِّهم عليه الصلاة والسلام، وفشلوا وتنازعوا؛ فدخل العدو من جهتهم، وصارت الهزيمةُ والجراحات والقتل.
فالمؤمنون متى صبروا على ما قد يُصيبهم من البلاء والشّدة، واتَّقوا ربهم في طاعة الأوامر وترك النَّواهي؛ فإنَّ الله يُديلهم على عدوهم، وينصرهم على عدوهم، ولا يضرّهم كيد العدو شيئًا؛ لأنَّ الله محيطٌ بالعدو وبالجميع، وبيده تصريف الأمور ، ولا يغلبه غالبٌ جلَّ وعلا، وإنما يُديل العدو لحكمةٍ بالغةٍ، ولأسبابٍ من نفس المؤمنين، كما قال تعالى في الآية الأخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، وقال : وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ [الحج:40- 41]، وقال تعالى في آخر سورة آل عمران: وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186].
فالواجب على أهل الإسلام الصَّبر على طاعة الله، وعلى جهاد أعداء الله، وعلى الشَّدائد المؤلمة، والتَّقوى لله فيما يأتون ويذرون من فعل الأوامر، وترك النَّواهي، والوقوف عند الحدود، والله جلَّ وعلا ناصرهم ومُؤيّدهم، وهو الذي يجعل لهم العاقبة الحميدة، ويهزم عدوهم، ويُديلهم عليه بإذنه سبحانه بقُدرته العظيمة، وبالأسباب التي يُقدّرها .
وفي قصة أحدٍ عبرة وعظة: لو كان أحدٌ يُنْصَر بمجرد أنَّه صالح، أو أنه تقيّ، أو أنه نبيّ؛ لنُصِرَ الأنبياء كلهم، ولنُصِرَ الناس يوم أحدٍ، فيهم نبيّ الله، أفضل الخلق، وفيهم المؤمنون، أفضل الخلق بعد الأنبياء، لما أخلّوا بالأسباب التي أُمِرُوا بها جاءتهم الهزيمة، فلا بدَّ من أخذ الأسباب؛ لأنَّ هذا من التقوى، ومن نصر الله الأخذ بالأسباب التي شرعها وأمر بها، هو من نصر الله، وهو من التقوى، وهو من الصبر، لا بدَّ من ذلك، فإذا أخلَّ المؤمنون بالأسباب التي أُمِرُوا بها جاءتهم المصائب، وجاءهم الخذلان، وسُلِّط عليهم العدو بأسباب تفريطهم وعدم قيامهم بما أُمِرُوا به من الأسباب.
وهذا أنت أيّها الشخص؛ لا بدَّ أن تُجاهد نفسك أيضًا، لا بدَّ أن تُحاسبها، فما أصابك مما يضرّك ويسوؤك فمن نفسك، كما قال جلَّ وعلا في كتابه العظيم: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] يعني: أسبابها نفسك وأعمالك، فعليك أن تُحاسب هذه النفس، وأن تُجاهدها أبدًا، وما أصابك مع ذلك فهذا خيرٌ لك: من مرضٍ، أو فقرٍ، أو غير ذلك، فالله جلَّ وعلا يُكفِّر به من سيئاتك، ويحطّ به من خطيئاتك، ويرفع به من درجاتك، ويُضاعف به حسناتك، فأنت على خيرٍ عند المصيبة، إذا استقمتَ أنت على خيرٍ عظيمٍ، وما يحصل مما يسوؤك فأسبابه نفسك، والله يُكفِّر به من خطيئاتك .
س: حديث: لا يُهزم اثنا عشر ألفًا من قلَّةٍ؟
ج: جيد، لكن مع الأخذ بالأسباب، وإذا ما أخذوا بالأسباب ولو كانوا ملايين لن يهزموا من قلَّةٍ، لكن قد يُهزمون من غير القلّة؛ من معاصيهم وتخاذلهم وغير هذا من الأسباب، لكن من جهة القلّة لا.