وَقَوْلُهُ: وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ [البقرة:282] قِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا يُضَارَّ الْكَاتِبُ وَلَا الشَّاهِدُ، فَيَكْتُبُ هَذَا خِلَافَ مَا يُمْلَى، وَيَشْهَدُ هَذَا بِخِلَافِ مَا سَمِعَ، أَوْ يَكْتُمُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا يَضُرُّ بهما، كما قال ابنُ أبي حاتم: حَدَّثَنَا أُسَيْدُ بْنُ عَاصِمٍ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ –يَعْنِي: ابْنَ حَفْصٍ- حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَزِيدَ ابْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مقْسَم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ قَالَ: يَأْتِي الرَّجُلُ فَيَدْعُوهُمَا إِلَى الْكِتَابِ وَالشَّهَادَةِ، فَيَقُولَانِ: إِنَّا عَلَى حَاجَةٍ. فَيَقُولُ: إِنَّكُمَا قَدْ أُمِرْتُمَا أَنْ تُجِيبَا. فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَارَّهُمَا.
ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَطَاوُسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَعَطِيَّةَ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّان، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَالسُّدِّيِّ، نَحْوُ ذَلِكَ.
الشيخ: الآية عامَّة، تعمّ هذا وهذا، قوله جلَّ وعلا: وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ يعمّ المضارّة للشَّاهد والكاتب، ويعمّ كون الكاتب والشَّاهد يُضارّان بالمشهود له، أو المشهود عليه، أو المكتوب له، أو المكتوب عليه، بل يجب عليهما أن يتحرَّا العدل، الشَّاهد يتحرى العدل، والكاتب كذلك، فلا يزيد الشَّاهد والكاتب ولا ينقصان، وليس لمن أراد الكتابة والشَّهادة أن يُضارّهما فيطلبهما في الوقت الذي لا يُناسب، يعني: يتحرى الوقت المناسب لهما، ليس فيه ضرر عليهما، فالآية تعمّ هذا وهذا، كما تقدم في قوله: وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُوا [البقرة:282]، فإنها تشمل التَّحمل والأداء، والقرآن كلام الله، جامع، وهو أفضل الكلام وأصدقه وأجمعه للخير، والله أنزل على نبيّه جوامع الكلم في كتابه العظيم، وفي السّنة المطهرة.
فالواجب على مَن أراد الكاتب أو الشَّاهد أن يتحرى الوقت المناسب، وألا يُضارّهما، وأن يتلطف بهما بالأسلوب الحسن، وهما كذلك عليهما أن يتَّقيا الله في شهادتهما، في الشَّهادة والكتابة، فليس للشَّاهد أن يظلم، ولا للكاتب أن يظلم، لا بزيادةٍ، ولا بنقصٍ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [البقرة:282] أَيْ: إِنْ خَالَفْتُمْ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، وَفَعَلْتُمْ مَا نُهِيتُم عَنْهُ، فَإِنَّهُ فِسْقٌ كَائِنٌ بِكُمْ، أَيْ: لَازِمٌ لَكُمْ، لَا تَحِيدُونَ عَنْهُ، وَلَا تَنْفَكُّونَ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيْ: خَافُوهُ وَرَاقِبُوهُ، وَاتَّبِعُوا أَمْرَهُ، وَاتْرُكُوا زَجْرَهُ، وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ [البقرة:282]، كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، وَكَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ [الحديد:28].
الشيخ: وهذا يُبين لنا أنَّ التقوى من وسائل العلم والبصيرة والنور، طالب العلم إذا اتَّقى ربَّه بطاعة الأوامر، وترك النَّواهي، وجهاد النفس في ذلك؛ كان هذا من أسباب تحصيل العلم النافع، والنور الذي يُضيء له الطريق، ويهديه السَّبيل، أمَّا إذا لم يتَّقِ الله فإنه حريٌّ بألا يُوفَّق في طلبه، ولا يحصل له النور الذي يُضيء له الطريق؛ ولهذا قال: وَاتَّقُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ يعني: اتَّقوه سبحانه، وهو يُعلِّمكم ما ينفعكم، ويُذلل الطريق لكم، ويهديكم السَّبيل.
وأصرح منها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا جعله جوابَ الشرط: إن تتَّقوا يجعل لكم، والفرقان: النور والهدى والبصيرة، والتَّقوى كلمة جامعة، فمَن اتَّقاه في طاعة الأوامر وترك النَّواهي والوقوف عند حدوده سبحانه أعطاه اللهُ الفرقانَ والبصيرةَ، وهو النور، وهو الهدى؛ حتى يُفرّق بين الحقِّ والباطل، والهدى والضَّلال، والخير والشَّر، وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفال:29]، مع الفُرقان يُعطى تكفير السّيئات، وغفران الخطايا، وهذا فضلٌ عظيمٌ من الله .
وفي آية الحديد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ [الحديد:28]، هذا شيءٌ عظيمٌ: كفلين من الأجر، ونور يُهدى به في الطريق إلى الآخرة، يعرف به طريق السَّعادة وطريق الغواية، يعرف به طريق الحقِّ وطريق الباطل، يعرف به أهلَ الإيمان وأهل الفجور، يُهدى به إلى كل خيرٍ، مع المغفرة والرحمة.
فجديرٌ بأهل العلم، وجديرٌ بطلاب العلم أن يلزموا التَّقوى في كل شيءٍ، وأن يُجاهدوا النفوسَ في ذلك حتى تحصل لهم هذه الخيرات العظيمة، والأمر يحتاج إلى عنايةٍ، وإلى صبرٍ، وإلى مُراقبةٍ لله في استحضار عظمته وحقّه في كل شيءٍ، ليس بالأمر الهين، ولكنه مُيَسَّرٌ لمن يسَّره الله له، ولمن لجأ إلى الله، وضرع إليه، وطلب العون.
وفي الآية الأخرى يقول جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الأحزاب:70- 71]، هكذا في آخر سورة الأحزاب، يحصل لهم إصلاح الأعمال، وغفران الذنوب، وهذا القول السَّديد من جملة التقوى وتحري الحقّ في الكلام، وأن يصدق في كلامه، ويتَّقي الله في كلامه، مع عمله: يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ، يُوفّق العبد لصلاح العمل، مع مغفرة الذنب، وهذا أيضًا خيرٌ عظيمٌ، وفضلٌ كبيرٌ، أسبابه تقواك ربّك، أسبابه أن تتَّقي الله، وأن تصون لسانَك عمَّا لا ينبغي، هذا اللِّسان الخطير تلزمه، تصونه عمَّا لا ينبغي من كذبٍ وسبٍّ وشتمٍ وغيبةٍ ونميمةٍ، وغير هذا من آفات اللِّسان، وهو داخلٌ في التقوى، صيانة اللِّسان من التقوى، لكن الله نبَّه عليه لعظم الشَّأن والخطر، فهو من عطف الخاصِّ على العام.
س: القول السَّديد أليس الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر؟
ج: عامّ، يعمّ هذا وهذا، يعمّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعمّ الصدق في الحديث، والصدق في الشّهادة، وصيانة اللِّسان عن الكذب والغيبة والنَّميمة، وغير هذا من آفات اللِّسان.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282] أَيْ: هُوَ عَالِمٌ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَمَصَالِحِهَا وَعَوَاقِبِهَا، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ، بل علمه محيطٌ بجميع الكائنات.
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة:283].
يَقُولُ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ أَيْ: مُسَافِرِينَ، وَتَدَايَنْتُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا يَكْتُبُ لَكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْ وَجَدُوهُ وَلَمْ يَجِدْ قِرْطَاسًا أَوْ دَوَاةً أَوْ قَلَمًا، فَرَهْنٌ مَقْبُوضَةٌ، أَيْ: فَلْيَكُن بَدَلَ الْكِتَابَةِ رِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فِي يَدِ صَاحِبِ الْحَقِّ.
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَا يُلْزِمُ إِلَّا بِالْقَبْضِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ.
وَاسْتَدَلَّ بِهَا آخَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَقْبُوضًا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ.
الشيخ: وأيش الفرق بين القولين؟
الطالب: واحد.
الشيخ: كأنَّ فيه شيئًا من السَّهو رحمه الله.
وَاسْتَدَلَّ آخَرُونَ مِنَ السَّلَفِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّهْنُ مَشْرُوعًا إِلَّا فِي السَّفَرِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رسُولَ اللَّهِ ﷺ تُوفِّي وَدِرْعُه مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ عَلَى ثَلَاثِينَ وَسْقًا مِنْ شَعِيرٍ، رَهَنَهَا قُوتًا لِأَهْلِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ. وَفِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ: عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ.
وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي كِتَابِ "الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ"، ولله الحمد والمنّة، وبه المستعان.
الشيخ: والصّواب ليس بشرطٍ، بل الرهن يكون في السَّفر، ويكون في الحضر، ولكن الآية سيقت مساق الغالب؛ لأنَّ الغالب أنَّ الكاتبَ يُفقد في السَّفر، فقد لا يجد المتبايعان كاتبًا في السفر، وإلا في الحضر في الغالب مُتيسّر؛ ولهذا يحتاجون للرهن، وإلا فالرهن جائزٌ في الحضر والسّفر جميعًا؛ ولهذا رهن النبيُّ ﷺ درعًا من حديدٍ ليهوديٍّ وهو في الحضر في المدينة، وهذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم.
والآية تدل على أنَّه لا بدَّ من قبضٍ: فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ؛ لأنَّه إذا صار مقبوضًا أتمّ في التوثيق، أمَّا إذا كان في يد الراهن، ما في يد المرتهن شيء؛ قد يبيعه الرَّاهن، قد يتصرَّف فيه، قد –يعني- يحول بينه وبين صاحبه، فإذا كان في يد المرتهن صار أوثق، متى شاء طالب بالبيع إذا حلَّ الأجل ولم يُعطه حقَّه ..... الرهن واستيفاء حقّه، وهذا هو قول الجمهور.
وذهب جمعٌ من أهل العلم إلى أنَّه لا يلزم القبض، إنما هذا وصفٌ أغلبيٌّ، فإذا تمَّ العقدُ بينهما لزم العقد، ولو لم يقبض يكون عقدًا لازمًا، وله الحقّ في المطالبة بالرهن إذا حلَّ الدَّين، ولو لم يقبضه، وإنما قال: مَقْبُوضَةٌ يعني: وصفًا أغلبيًّا؛ ولأنَّ بعض الناس قد لا يستطيع أن يقبض، قد يكون الرهنُ بيد إنسانٍ ساكنٍ فيه، قد يكون الرهنُ سيارةً يتكسَّب عليها لطلب الرزق، قد يكون مطيَّةً يتكسَّب عليها، يضرّه إقباضه لها -إقباضه للمرتهن- فيحصل الجمعُ بين المصلحتين: بأن يكتب عليه عقد الرهن، ويُبقي الدار بيده يسكنها، أو السيارة يستعملها، أو الدابة يستعملها؛ لينتفع الجميع، وهذا في الغالب هو الذي عليه العمل في الغالب؛ لأنَّ الضَّرورة تدعو إليه، تدعو إلى بقائه في يد الراهن، والعقد لازمٌ، فإذا حلَّ الأجلُ ولم يُوفِ ساغ للقاضي أن يُلزمه بالبيع؛ لأنَّ الله قال: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وهذا عقدٌ، فإن أقبضه فهذا أكمل، كما قال الجمهور، وإن لم يقبضه فالعقد لازمٌ.
ولعلَّ هذا الفرق بين القولين، لكن ما كانت العبارةُ واضحةً في بيانهما، وإلا فالقولان معروفان: أنَّه لا بدَّ من قبضٍ فعليٍّ يكون في يد المرتهن، هذا قول الأكثر؛ لظاهر الآية، والقول الثاني لا يشترط قبضًا فعليًّا، بل يكفي مجرد العقد، وهو عقدٌ لازمٌ، فالله سبحانه أمر بالوفاء بالعقود، فإذا دعت الحاجةُ إلى أن يبقى في يد الرَّاهن فلا مانع، ويُكتفى بالعقد جمعًا بين المصلحتين؛ لأنَّ الراهن قد تكون له حاجة، مُضطرّ إلى الرهن، وصاحب الدَّين محتاجٌ إلى الرهن، فيتوثق، فيجمع بين المصلحتين الوثيقة في العقد اللازم، ويبقى الرهنُ في يد الراهن؛ لشدة الحاجة أو الضَّرورة إليه؛ لكونه مسكنه ومسكن عياله، أو أنَّ السيارة هي التي يتكسَّب عليها، حين قبضها المرتهن تعطل هذا المسكين، فيجمع بين المصلحتين، ويُلزم بالبيع عند حلول الدَّين، فيكون في هذا جمعًا بين المصلحتين، وعلى هذا يعمل كثيرٌ من القُضاة، وكنت أعمل به حين قضائي، كنتُ أُلزم به وإن لم يُقبض؛ جمعًا بين المصلحتين.
س: الفرق بين القولين أنَّ مذهب الجمهور يكفي مجرد القبض، ولو لفترةٍ قصيرةٍ، أمَّا في مذهب أحمد فإنَّه لا بدَّ أن يكون طيلة مدّة الدَّين: الرهن مقبوضة؟
ج: لا، ما هو بواضحٍ في كلام المؤلف لزوم القضاء، لزوم القضاء ..... يقولون: يلزم القبض أوَّلًا، ثم يردّه إلى صاحبه، إذا قبضه ثم ردّه .....، ولكن هذا ما يُحقق المصلحة المطلوبة، المهم القولان الحقيقيّان: إمَّا أنَّه لا بدَّ من قبضٍ تحت يد المرتهن دائمًا، وإمَّا أن يُعفا عنه ويكفي مجرد العقد، ويجمع بين المصلحتين بذلك، ويكون في يد الراهن لينتفع به، والمرتهن يكفيه العقد اللازم ..... بالوفاء.
س: هل يُفهم من ذلك أنَّ الرهن للتَّوثيق، والعقد لتبيين الحقوق فقط؟
ج: كله توثيق، الرهن للتَّوثيق، مثل الضَّامن.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ.
رَوَى ابنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ نَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا ائْتَمَنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلَا بَأْسَ أَلَّا تَكْتُبُوا، أَوْ لَا تُشْهِدُوا.
وَقَوْلُهُ: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّه يَعْني: المؤتَمن.
الشيخ: لأنَّه هو الذي فيه الخطر، قد يجحد.
كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ.
وَقَوْلُهُ: وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ أَيْ: لَا تُخْفُوهَا وَتَغُلُّوهَا وَلَا تُظْهِرُوهَا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: شَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَكِتْمَانُهَا كَذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ. قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: فَاجِرٌ قَلْبُهُ. وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ [المائدة:106]، وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135]، وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.
س: كيف: ولا تُظهروها؟
ج: لا تكتموها وتغلوها ولا تُظهروها. يعني: أظهروها وبيِّنوها، لا تكتموها وتغلّوها، بل أظهروها وبيِّنوها.
س: في الشَّهادة هل يسأل الإنسانُ الشَّهادة ابتداءً؟
ج: لا، إذا طلبوه يُؤدِّيها، وإذا أعرضوا عنه ووجدوا غيره فالحمد لله، أمَّا إذا ظنّ أنهم جاهلون أو ناسون يُنبّههم، مثلما في الحديث: ألا أُنبِّئكم بخير الشُّهداء؟ مَن يأتي بالشَّهادة قبل أن يُسألها، إذا ظنَّ أنهم ناسون أو أنهم جاهلون للشَّهادة يُبين، يقول: ترى عندي لكم شهادة. أمَّا إذا كان عندهم شهودٌ كثيرٌ واستغنوا ببعضهم فالحمد لله.
س: ............؟
ج: يلزمه أن يُؤدّيها، ويلزمه أن يُخبرهم إذا كانوا ما دروا.
س: هل يجوز للمُرتهن أن ينتفع بالرَّهن؟
ج: لا، لا بدَّ من اتفاقٍ بينه وبين صاحب الرهن، له أن ينتفع بظهره ولبنه، الظهر يُركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ويشرب اللّبن إذا كان مرهونًا، إذا كان يُنفق عليه له أن ينتفع بقدر النَّفقة: بظهره ولبنه، أمَّا إذا كانت النَّفقةُ من الراهن ما له حاجة، يعطل سيارةً تُعطّل، تذهب دابَّة وتبقى في المرعى، أو في محلِّ العلف، أمَّا إذا اتَّفقوا هو والراهن لا بأس؛ يقول: أنت انتفع به بقدر النَّفقة. أو الراهن عطّله، ما أعطاه نفقةً؛ لا بأس أن ينتفع بالرهن، كما قال النبيُّ ﷺ، الظهر يُركب إن كان مرهونًا بالنَّفقة، حسب النَّفقة واللّبن.
س: إذا كان بيتًا؟
ج: البيت يتَّفق هو وإياه على الإيجار، يُؤجّره الراهن، أو يأذن له، يُؤجّره أو يُوكّل وكيلًا يُؤجّره، ولا يُؤجّر إلا بإذنٍ.
س: يُباع الرهن؟
ج: بعد ذلك، بعدما يحلّ الدَّين ولم يُوفِ يُباع بأمر القاضي في المحكمة.
س: إذا اتَّفق الطرفان على ذلك دون ..... القاضي يُباع أو لا يُباع؟
ج: هذا فيه خلافٌ: هل إذا اتَّفقوا على أنه إذا أقرضه عشرة آلاف، وقال: هذا البيت رهنٌ، فإن سلَّمتك المبلغ وإلا فالبيت لك. فجماعةٌ من أهل العلم يقولون: لا بأس، يصحّ البيع. وجماعةٌ آخرون يقولون: لا؛ لأنَّه قد يتساهل في البيع في هذا؛ لأنَّه ظانٌّ بأنه يُوفي، قد ..... بثمنٍ قليلٍ، يُسمّون هذا: غلقًا، والرسول قال: لا يغلق الراهن، له غنمه، وعليه غرمه، قالوا: والغلق أن يأخذوا المرتهن بالدَّين من دون رضا صاحبه، والغالب أنَّ الراهن يتساهل في هذا؛ قد يكون البيت يساوي مئة ألفٍ، وهو تسلَّف منه خمسين ألفًا، يقول: أوفيتُك وإلا خذ البيت. يعني ..... بأنَّه يُوفيه وإلا ما هو ببائعه بخمسين ألف؛ لهذا معروفٌ عند الحنابلة وجماعة أنه لا يصلح، لا بدَّ من تجديد عقدٍ يُسمّى: غلقًا.
وذهب بعضُ أهل العلم إلى أنَّهم إذا اتَّفقا على هذا أنَّه يصحّ، ولا حاجةَ إلى القاضي. ولكن الأحوط في مثل هذا أنه يُجدد العقد ولا يظلمه، ولا سيما إذا كان يعلم أنه مظلومٌ ومغبونٌ، وأنه تساهل معه في هذا الكلام يتَّقي الله؛ لأنَّ الناس عند الرهن من جهة حرصهم على المال لنفقتهم وقلّة مَن يُقرض قد يتساهلون في الموافقة على البيع عند تمام المدّة، وهم مغبونون، مظلومون، لو باعوا عليهم مضرّة كبيرة؛ لأنَّ الدَّين أقلّ من قيمته بكثيرٍ.
س: يقول الله في سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ [البقرة:62]، ويقول في سورة المائدة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى [المائدة:69]، فالوجه نحويًّا، يعني في سورة البقرة؟
ج: تُراجع "تفسير البغوي" وغيره والحواشي تجد الجواب.