حتى قال فيها الشّافعي رحمه الله: "لو ما أنزل إلا هذه السّورة لكفتهم". أي: على الناس، وما ذاك إلا لما فيها من أصول السَّعادة والسَّلامة من أسباب الهلاك والخسران، وفي لفظٍ: "لو ما أنزل اللهُ حُجَّةً على خلقه إلا هذه السّورة لكفتهم"، يُروى هذا عن الشَّافعي رحمه الله.
وقال فيها آخرون معانٍ عظيمة، وهي جديرة بذلك، والله أقسم جلَّ وعلا على ما فيها، وهو الصَّادق وإن لم يُقْسِم، بل لا أصدق منه : وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87]، حلف بالعصر، وهو الزمان من ليلٍ ونهارٍ: أنَّ جنس الإنسان في خسران إلا مَن اتَّصف بهذه الصِّفات الأربع، وهي: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحقِّ، والتواصي بالصبر، هؤلاء هم المفلحون، هم الرابحون، هم النَّاجون، هم السُّعداء.
والله سبحانه يُقسم من خلقه بما يشاء، لا أحد يتحجّر عليه، فقد أقسم بالسّماء وبالشّمس وبالنّجم وبالطّور، وبالليل إذا يغشى، وبالعصر كما في هذه السورة؛ لما في هذه المخلوقات من الآيات والبراهين والدلائل على أنه ربّ العالمين، وأنه المستحقّ لأن يُعبد .
أما المخلوق فليس له أن يحلف إلا بالله، العبد ليس له أن يحلف إلا بربِّه؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: لا تحلفوا بآبائكم، مَن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت، وقال في اللَّفظ الآخر: مَن كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله أو ليصمت، وقال عليه الصلاة والسلام: لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمّهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون.
وفي "المسند" بإسنادٍ صحيحٍ عن عمر ، عن النبي ﷺ أنه قال: مَن حلف بشيءٍ دون الله فقد أشرك.
وفي "السنن" من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك شكٌّ من الراوي: هل قال النبيّ: كفر، أو قال: أشرك.
وهذا يدل على عظم جريمة الحلف بغير الله، وأنها جريمة تدخل في الشّرك والكفر؛ لما فيها من تعظيم المخلوق بما لا يليق إلا بالله ، وهو شركٌ أصغر عند أهل العلم، الحلف بغير الله شركٌ أصغر وكفرٌ أصغر ما لم يعتقد صاحبه أنَّ محلوفه من جنس الله، وأنه يُعظّم كما يُعظّم الله، أو يُدعا كما يُدعا الله، أو يستحقّ من العبادة كما يستحقّ الله، فإذا اعتقد هذا الاعتقاد صار كفرًا أكبر بهذا الاعتقاد.
والمقصود أنَّ الحلفَ بغير الله أمرٌ لا يجوز، والحلف يختصّ بالله، وقد أجمع العلماءُ على ذلك، ذكر أبو عمر ابن عبدالبر رحمه الله إجماعَ الناس، إجماع أهل العلم على أنه لا يجوز الحلف بغير الله، كائنًا مَن كان، فجنس الإنسان في خسرانٍ إلا مَن مَنَّ اللهُ عليه بهذه الصِّفات الأربع، وهي: الإيمان الصَّادق بالله ورسوله، إيمانًا يتضمن العمل، إيمانًا بالله يتضمّن توحيده والإخلاص له، والإيمان بأنّه مستحقٌّ للعبادة، ويتضمّن الإيمان بأسمائه وصفاته على الوجه اللّائق به ، ويتضمن الإيمان بكلِّ ما أخبر الله به، وأخبر به رسوله عليه الصلاة والسلام مما كان، وما يكون، ويتضمن الإيمان بالرسول ﷺ، وأنه رسول الله حقًّا، وأنه خاتم الأنبياء، وأنه الرسول إلى جميع الثَّقلين: الجنّ والإنس، ويتضمن الإيمان بكلِّ ما أخبر الله به ورسوله عن المرسلين الماضين، وعن الساعة والقيامة والجنة والنار، وعمَّا يكون في آخر الزمان، إلى غير ذلك.
ويتضمن هذا الإيمان العمل؛ ولهذا قال بعدها: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر:3] يعني: العمل بما أوجب الله، وترك ما حرَّم الله، وإلا فيكون إيمانًا ضعيفًا، لا بدَّ أن يكون إيمانًا يتضمن العمل بما أوجب الله، وترك ما حرَّم الله.
والإيمان قولٌ وعملٌ عند أهل السّنة، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، يزيد بالطاعات: كالنوافل، والذكر لله جلَّ وعلا، والصّدقات، وغير هذا من الطّاعات، وينقص بالمعاصي والمخالفات، ويضعف حتى يزول بوجود مُكفِّرٍ يُخرج صاحبَه من الملّة.
هذا قول أهل الحقّ، أهل السّنة والجماعة: أنَّ الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطَّاعات والذكر، وينقص بالمعاصي والغفلة.
ومن جملة الإيمان: التواصي بالحقِّ، والتواصي بالصبر، خصلتان عظيمتان، وهي الخصلة الثالثة والرابعة، وهما من الإيمان، لكن الله نصَّ عليهما لعظم شأنهما، وإلا فهما من جملة الإيمان، شعبتان من شُعب الإيمان، وهما أيضًا من العمل المذكور في قوله: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، لكنَّه ذكرهما تخصيصًا بعد تعميمٍ؛ لعظم شأنهما، والدّلالة على أنه لا بدَّ منهما: لا بدَّ من تواصٍ بالحقِّ، ولا بدَّ من تواصٍ بالصبر، هكذا يجب على أهل الإيمان -ذكورًا وإناثًا- أن يتواصوا بالحقِّ أينما كانوا.
ومعنى بِالْحَقِّ يعني: بطاعة الله ورسوله، والإيمان به، واتِّباع شريعته، وتعظيم أمره ونهيه، وترك ما نهى عنه، ولا بدَّ أيضًا من التواصي بالصبر على ذلك، فلا إيمانَ إلا بصبرٍ، لا بدَّ من صبرٍ، قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، وقال سبحانه: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]، وقال سبحانه: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، وقال سبحانه: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127]، وقال : فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35]، وقال سبحانه: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48]، وقال عن لقمان أنَّه قال لابنه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان:17].
فلا بدَّ من إيمانٍ صادقٍ، وعملٍ صالحٍ، وتواصٍ بالحقِّ، وتواصٍ بالصبر، وهذا واجب المؤمنين جميعًا، رجالًا ونساءً، واجبهم أن يتخلَّقوا بهذه الأخلاق، وأن يستقيموا عليها، وأن يتواصوا بها أينما كانوا في جميع الأحوال: في الشدّة والرّخاء، في الصحّة والمرض، في السفر والإقامة، في الغنى والفقر، في الأمن والخوف، في جميع الأحوال يكون المؤمنون صادقين بالله وحده، مُوحّدين له، مؤمنين برسوله عليه الصلاة والسلام، مُستقيمين على شريعته قولًا وعملًا وعقيدةً، مُتواصين بالحقِّ، متواصين بالصبر أينما كانوا، وبهذا يحصل لهم الإيمان الكامل، والربح الكامل، والسعادة الأبدية، والنَّجاة في الدنيا والآخرة.
جعلنا الله وإياكم من هؤلاء الأخيار، ورزقنا وإياكم التَّواصي بهذه الخصال، والاستقامة عليها، والثبات عليها حتى نلقاه ، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه.
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام:22- 26].
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَسْأَلُهُمْ عَنِ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِهِ، قَائِلًا لَهُمْ: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، كقوله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص:62].
وقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ أَيْ: حُجَّتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ.
قال الضَّحاك: عن ابن عباسٍ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ أَيْ: حُجَّتُهُمْ.
وَقَالَ عطاء الخراساني عنه: أَيْ مَعْذِرَتُهُمْ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ: قِيلُهُمْ. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ بَلِيَّتُهُمْ حِينَ ابْتُلُوا إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ: ثُمَّ لَمْ يَكُنْ قِيلُهُمْ عِنْدَ فِتْنَتِنَا إيَّاهم اعتذارًا عمَّا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ.
الشيخ: "من الشِّرك" تفسيرٌ لما سلف، سُميت الآلهة: شُركاء، على زعمهم -على زعم المشركين- وإلا فهم ليسوا بشُركاء، ليس لله شريكٌ ، ولكن شركاؤهم يعني: بزعمهم أنَّهم شُركاء لله: يعبدونهم معه، ويدعونهم معه، ويستغيثون بهم، ويزعمون أنَّ لهم شفاعةً عنده، وأنهم يتصرَّفون، هذه الشركة التي زعموها باطلة، ويوم القيامة يتَّضح لهم بطلانها، ويعرفون أنهم في غرورٍ، وفي ضلالٍ.
ومعنى الحشر: الجمع، يحشرهم: يجمعهم، وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ يعني: نجمعهم يوم القيامة، فإذا قيل: أين شُركاؤكم؟ يعني: أين آلهتكم؟ حينئذٍ ما بقي لهم إلا الجحد: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ يعني: ما كان جوابهم عند الفتنة، عند الاختبار، فتنتهم يعني: مُقتضى الفتنة، ونهاية الفتنة التي امتُحنوا بها، وهي أن سُئِلُوا عن آلهتهم، واختُبروا، والاختبار والامتحان يُقال له: فتنة، إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ.
ويوم القيامة له أحوال: في بعضها يقولون: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ يجحدون، وفي وقتٍ آخر يُقرّون، قال تعالى في الآية الأخرى: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42]، وفي وقتٍ آخر يجحدون ويُنطق اللهُ أسماعَهم وأبصارَهم وجلودَهم: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65]، حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [فصلت:20]، فالفضيحة حاصلة، وإقامة الحجّة عليهم لا بدَّ منها على رؤوس الأشهاد: من سمعهم، وأبصارهم، وجلودهم، وأيديهم، وأرجلهم، إذا كتموا بألسنتهم.
وفي موضعٍ من القيامة يُنكرون ويقولون: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، يجحدون ما هم فيه، ويتكلَّمون جاحدين، كاتمين بالألسن؛ وذلك لما أُصيبوا به من الدَّهشة والذّعر العظيم، والمصيبة العظيمة، يتناقضون، ويختلفون، وتشهد عليهم أسماعهم وأبصارهم وجلودهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون، نسأل الله العافية.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ: حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، عَنْ عَمْرِو ابْنِ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابن عباسٍ قال: أتاه رجلٌ فقال: يا ابنَ عَبَّاسٍ، سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ. قَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا أَهْلُ الصَّلَاةِ، فَقَالُوا: تَعَالَوْا فَلْنَجْحَدْ. فَيَجْحَدُونَ، فَيَخْتِمُ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَتَشْهَدُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، فَهَلْ فِي قَلْبِكَ الْآنَ شَيْءٌ؟ إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ القرآن شيءٌ إلا ونزل فِيهِ شَيْءٌ، وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَجْهَهُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَذِهِ فِي الْمُنَافِقِينَ.
وفيه نَظَرٌ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالْمُنَافِقُونَ إِنَّمَا كَانُوا بِالْمَدِينَةِ، وَالَّتِي نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ آيَةُ الْمُجَادَلَةِ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ الآية [المجادلة:18]، وَهَكَذَا قَالَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:24]، كقوله: ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا الآية [غافر:73- 74].
وَقَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام:25] أي: يجيئون ليستمعوا قِرَاءَتَكَ، وَلَا تُجْزِي عَنْهُمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً، أَيْ: أَغْطِيَةً؛ لِئَلَّا يَفْقَهُوا الْقُرْآنَ.
وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا أَيْ: صَمَمًا عن السّماع النافع لهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً الآية [البقرة:171].
الشيخ: وهذه الأكنة في القلوب، والوقر في الأسماع بسبب أعمالهم الخبيثة، وإعراضهم وغفلتهم عن الحقِّ، وجحدهم له؛ فصارت هذه الأسماع وهذه القلوب لا تعي ولا تفهم ولا تُبصر الحقّ، قامت بها الحجّة، وانقطعت بها المعذرة، ولكنَّهم في عمى -نسأل الله العافية- في إعراضهم عن الحقِّ: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، لما أعرضوا وتكبَّروا عن استماع الحقِّ لم تُغْنِ عنهم هذه الأسماع وهذه القلوب وهذه الأبصار، لم تُغْنِ عنهم شيئًا، بل صاروا بمنزلة مَن لا يسمع، ولا يُبْصِر، ولا يعي، ولا يعقل: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [البقرة:18]، نسأل الله العافية.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام:25] أَيْ: مَهْمَا رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ والحجج البيّنات والبراهين لَا يُؤْمِنُوا بِهَا، فَلَا فَهْمَ عِنْدَهُمْ، وَلَا إنصاف، كقوله تَعَالَى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ الآية [الأنفال:23].
وقوله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ أَيْ: يُحَاجُّونَكَ وَيُنَاظِرُونَكَ فِي الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام:25] أَيْ: مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ إلَّا مأخوذٌ مِنْ كُتُبِ الْأَوَائِلِ، وَمَنْقُولٌ عَنْهُمْ.
الشيخ: ومعنى (أساطير) كذب الأوّلين، يعني: ما له حقيقة، الأسطورة: الكذب، إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعني: مكذوبات الأوّلين، ما لها حقيقة، هذه مُكابرة؛ لأنَّه من أكبر الواضح، ومن أعظم الحقِّ البين ما أخبر به سبحانه وبيَّنه جلَّ وعلا، وجاءت به الرسل قبل محمدٍ عليه الصلاة والسلام، ولكن أهل الباطل يُكابرون ويُعاندون.
وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26]، في مَعْنَى يَنْهَوْنَ عَنْهُ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَتَصْدِيقِ الرسول والانقياد للقرآن.
وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ أي: ويُبعدونهم عَنْهُ، فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ الْقَبِيحَيْنِ.
الشيخ: ويبعدون هم ..... بعد يبعد الهاء والميم مُستقلة .....، وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ينهون عنه الآخرين، وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ بأنفسهم، يبتعدون عنه بأنفسهم، نسأل الله العافية.
لَا يَنْتَفِعُونَ، ولا يدعون أحدًا ينتفع.
قَالَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عباسٍ: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ يردّون النَّاسَ عَنْ مُحَمَّدٍ ﷺ أن يؤمنوا به.
وقال محمد ابن الْحَنَفِيَّةِ: كَانَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لَا يَأْتُونَ النَّبِيَّ ﷺ، وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ. وَكَذَا قال قتادةُ ومجاهد وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ حَبِيبِ ابْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَمَّنْ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ؛ كَانَ يَنْهَى النَّاسَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ يُؤْذَى.
وَكَذَا قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ، وَحَبِيبُ ابْنُ أَبِي ثابتٍ، وعطاء بن دينار، وغيره: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ ابْنُ أَبِي هِلَالٍ: نَزَلَتْ فِي عُمُومَةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَكَانُوا عَشَرَةً، فَكَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ مَعَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ، وَأَشَدَّ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي السِّرِّ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ أي: ينهون الناس عن قتله، وقوله: وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ أَيْ: يَتَبَاعَدُونَ مِنْهُ.
الشيخ: والمعنى الأول أصحّ، والمعنى: أنهم ينهون عن محمدٍ ﷺ، وعن اتِّباعه، فإذا جاء أحدٌ من الخارج يريد اتِّباع محمدٍ صدّوه ونهوه، وقالوا: لا تأتِهِ؛ يُضلّك ويدعوك إلى ترك دين آبائك وأسلافك. فهم يصدّون الناس عن اتِّباعه، وعن مجالسته؛ حتى لا يهتدوا، وهم في أنفسهم يبتعدون عن مجلسه، وينأون عن مجلسه؛ حتى لا يسمعوا الحقَّ؛ خوفًا من أن يدخل قلوبهم فيهتدوا، نسأل الله العافية.
وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام:26] أَيْ: وَمَا يُهْلِكُونَ بِهَذَا الصَّنِيعِ وَلَا يَعُودُ وَبَالُهُ إِلَّا عَلَيْهِمْ، وهم لا يشعرون.
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:27- 28].
الشيخ: نسأل الله العافية، وهذه موعظةٌ للعاقل: أنه ينبغي له أن يجتهد في سماع الحقِّ، والقرب من الحقِّ، والقرب من أهله، ويحرص على تفهّمه؛ حتى لا يُشابه أعداء الله في البُعد عن الحقِّ، أو الصدّ عنه وعدم تفهّمه، ولا سيما في هذا العصر الذي كثر فيه الشَّر وأهله ودُعاة الباطل.
فجديرٌ بالمسلم، وبكل عاقلٍ أن يحرص على استماع الحقِّ وتفهّمه، والإقبال عليه، ومجالسة أهله؛ حتى ينتفع، حتى يستفيد، حتى يتبصَّر.