وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [الأنعام:34] هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَتَعْزِيَةٌ لَهُ فِيمَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَأَمْرٌ لَهُ بِالصَّبْرِ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَوَعْدٌ لَهُ بِالنَّصْرِ كَمَا نُصِرُوا، وَبِالظَّفَرِ حَتَّى كَانَتْ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ، بَعْدَ مَا نَالَهُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ مِنْ قَوْمِهِمْ وَالْأَذَى الْبَلِيغِ، ثُمَّ جَاءَهُمُ النَّصْرُ فِي الدُّنْيَا، كَمَا لَهُمُ النَّصْرُ فِي الْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [الأنعام:34] أَيِ: الَّتِي كَتَبَهَا بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171- 173]، وَقَالَ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21].
وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام:34] أَيْ: مَنْ خَبَرِهِمْ، كَيْفَ نُصِرُوا وَأُيِّدُوا عَلَى مَنْ كَذَّبَهُمْ مَنْ قَوْمِهِمْ؟ فَلَكَ فِيهِمْ أُسْوَةٌ، وَبِهِمْ قُدْوَةٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ أَيْ: إِنْ كَانَ شَقَّ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْكَ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ [الأنعام:35].
الشيخ: وإذا كان هذا في الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهكذا أتباعهم وخلفاؤهم يُمتحنون، وتكون لهم العاقبة: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49]، فالرسل كُذِّبوا وأُذوا، بل منهم مَن قُتِلَ، والله جعل لهم العاقبة ولأتباعهم: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51- 52]، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ من الرسل ومن أتباعهم، فلا بدَّ من الصبر، ولا بدَّ من الإخلاص والصّدق، ثم تكون العاقبةُ حميدةً، ولو أنَّ النصر والسَّعادة جاءت بالهوينا، وصار كل مَن دعا للخير أو عمل الخير يسلم من كل أذًى؛ لكان الناسُ أُمَّةً واحدةً، ولدخل الناسُ في الدين كلّهم، ولكنَّ الله ابتلى عباده وامتحنهم بالسّراء والضّراء، والشدّة والرّخاء، والتّكذيب والتّصديق، إلى غير هذا من أنواع الابتلاء، ثم تكون العاقبةُ لأهل التقوى والصَّبر: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2- 3].
فالمقصود أنَّ الواجب على أتباع الرسل هو الصّبر كما صبروا، والاستقامة، وحُسن الظنّ بالله، وانتظار العاقبة الحميدة، وألا يحملهم ما يُشاهدون وما يرون من التّكذيب والأذى على ترك الحقِّ والنّكول عنه، بل أهل الحقّ من الرسل وأتباعهم لا يزيدهم البلاء إلا ثباتًا ونشاطًا في الحقّ، وصبرًا عليه حتى يلقوا ربهم.
فنبيّنا ﷺ وأصحابه جرى عليهم في مكّة ما جرى من الأذى والتَّعذيب إلا مَن شاء الله منهم، ثم جرى عليهم يوم أحد ما جرى بسبب عدم امتثال الرّماة لما وُجِّهوا إليه، ولما أمرهم به عليه الصلاة والسلام، حتى جرى ما جرى على المسلمين من الامتحان والابتلاء وقتل جماعةٍ منهم، وجرح جماعةٍ، فصبروا، ثم جاءت غزوةُ الأحزاب سنة خمسٍ من الهجرة، وجرى فيها من الشّدة والبلاء ما جرى، وحُوصرت المدينة، وحُفر الخندق، وحاصر المدينة نحو عشرة آلاف مقاتل من شتى قبائل العرب؛ ليقتلوا النبيَّ ﷺ والصّحابة، وليستبيحوهم، فردّهم الله خائبين، وأرسل عليهم من الريح ما جعلتهم يرجعون بالخيبة والنّدامة؛ فأكفأت قدورهم، وقلعت خيامهم، وأطفأت نيرانهم، فلم يقرّ لهم قرار حتى انقلبوا خائبين، ثم جاء صُلح الحُديبية، وجرى فيها ما جرى من الامتحان، ثم تمّ الصلح، وجعل الله فيه العاقبة الحميدة للمؤمنين، ثم جاء فتحُ مكّة، ونصر الله نبيّه وأولياءه وهزم الكافرين، ثم جاءت غزوةُ هوازن، وجرى فيها ما جرى من الامتحان، ثم نصر اللهُ المؤمنين، ودمّر الكافرين، وصارت أموالهم وذُرياتهم ونساؤهم غنائم للمسلمين.
هذه سنة الله في أوليائه وأنبيائه وأهل الحقّ في كل زمانٍ ومكانٍ، فلا بدَّ من صبرٍ، ولا بد من تأسٍّ بأولئك الأخيار حتى تثبت الأقدام، وتقوم الحجّة، وينصر الحقّ، ويخذل الباطل، والله المستعان، نعم.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: النَّفَقُ السِّرْبُ، فَتَذْهَبَ فِيهِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ، أَوْ تَجْعَلَ لَكَ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَصْعَدَ فِيهِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أَفْضَلَ مِمَّا آتَيْتَهُمْ بِهِ فَافْعَلْ.
وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ والسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [الأنعام:35] كقوله تَعَالَى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا الْآيَةَ [يونس:99].
قَالَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَحْرِصُ أَنْ يُؤْمِنَ جَمِيعُ النَّاسِ، وَيُتَابِعُوهُ عَلَى الهدى، فأخبره اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ إِلَّا مَنْ قَدْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ فِي الذِّكْرِ الأوَّلِ.
الشيخ: يعني: أنت عليك البلاغ، والله هو الذي يهدي من يشاء: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى هو الذي يهدي مَن يشاء، ويُضلّ مَن يشاء: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، هو الذي بيده الهداية، وقد قضى في علمه وقدره السَّابق أنَّ الناس ينقسمون: منهم الشَّقي، ومنهم السعيد، ومنهم مَن يقبل الحقَّ، ومنهم مَن يردّه، وأنَّ الأكثر هم الذين يردّون الحقّ ولا يقبلونه، وأنَّ الأقلَّ هم الذي يقبلون الحقَّ ويُؤثرونه، فليكن طالبُ الحقِّ والمجاهد في نصر الحقِّ على بصيرةٍ؛ حتى لا يحزن، وحتى يحسن ظنّه بربِّه، وحتى يسير على النّهج الذي رسمه اللهُ لأوليائه وأهل طاعته.
الشيخ: الَّذِينَ يَسْمَعُونَ يعني: سمع قبولٍ، سمع رغبةٍ في الحقِّ، سمع إذعانٍ وإيثارٍ، أمَّا سمع الأذن والقلب، صادٌّ عن الحقِّ، مُعرضٌ عنه لا يُريده؛ ما ينفع؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ يعني: يسمعون سماعًا ينفعهم، سماعًا أرادوه ورغبوا فيه، سماع قلوبٍ، وسماع آذانٍ، بخلاف الذين طبع اللهُ على قلوبهم؛ فأعطاهم أسماعًا لا يسمعون بها، وعقولًا لا يفهمون بها، وأعينًا لا يُبصرون بها، هؤلاء ما تنفعهم الآيات: وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يونس:101]، قلوبهم كافرة، نافرة من الحقِّ، لا تُؤمن به.
وفي سورة الأعراف يقول سبحانه: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ يعني: خلقنا كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]، لهم قلوب لكن لا يفقهون بها، مُعرضة، غافلة، تكره الحقَّ ولا تُريده، فهكذا آذانهم لا يسمعون بها سماعًا ينفعهم، سماع مَن يريد الحقَّ، سماع مَن يرغب فيه، وهكذا أعينهم تُبصر، ولكن لا تُبصر، تُبصر الشَّهوات والهوى، ولكن لا تُبصر الحقَّ وأدلّته، نسأل الله السَّلامة.
وَقَوْلُهُ: وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [الأنعام:36] يَعْنِي بِذَلِكَ الْكُفَّارَ؛ لِأَنَّهُمْ مَوْتَى الْقُلُوبِ، فَشَبَّهَهُمُ اللَّهُ بِأَمْوَاتِ الْأَجْسَادِ، فَقَالَ: وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ، وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ بهم والازدراء عليهم.
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:37- 39].
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أَيْ: خَارِقٌ عَلَى مُقْتَضَى مَا كانوا يُريدون، ومما يتعنَّتون، كقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا الآيات [الإسراء:90].
قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
الشيخ: ومعنى "لولا" يعني: هلا، لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يعني: هلّا، لماذا ما أُنزل عليه؟ ما أُعطي آيةً مثلما أُعطي فلان وفلان! مثلما أُعطي صالح النَّاقة، وأُعطي موسى ما أُعطي من العصا واليد، فالله سبحانه هو الحكيم العليم القادر على أن يُعطي آيات كثيرة، وقد أعطى نبيّه آيات لمن يعقل، ولمن يفهم، لو كان هؤلاء يفهمون، أعطاه آيات كثيرات، منها المعجزة العظيمة: القرآن العظيم الذي امتحنهم اللهُ به، ولم يستطيعوا أن يأتوا بسورةٍ مثله، ومنها ما حصل على يديه من الخير العظيم: كانشقاق القمر، وما حصل من نبوع الماء من بين أصابعه، والمباركة العظيمة في الطعام، وغيرها من الآيات الكثيرات والمعجزات لمن عقل.
أَيْ: هُوَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّ حِكْمَتَهُ تَعَالَى تقتضي تأخير ذلك؛ لأنَّه لو أنزل وَفْقَ مَا طَلَبُوا ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا لَعَاجَلَهُمْ بِالْعُقُوبَةِ كَمَا فَعَلَ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:95]، وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خَاضِعِينَ [الشعراء:4].
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38].
قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ أَصْنَافٌ مُصَنَّفَةٌ تُعْرَفُ بِأَسْمَائِهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الطَّيْرُ أُمَّةٌ، وَالْإِنْسُ أُمَّةٌ، وَالْجِنُّ أُمَّةٌ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ أَيْ: خَلْقٌ أَمْثَالُكُمْ.
وَقَوْلُهُ: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] أَيِ: الْجَمِيعُ عِلْمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا يَنْسَى وَاحِدًا مِنْ جَمِيعِهَا مِنْ رِزْقِهِ وَتَدْبِيرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بَرِّيًّا، أَوْ بَحْرِيًّا، كقوله: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] أَيْ: مُفْصِحٌ بِأَسْمَائِهَا وَأَعْدَادِهَا ومظانِّها، وحاصرٌ لحركاتها وسكناتها، وقال تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [العنكبوت:60].
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ وَاقِدٍ الْقَيْسِيُّ أَبُو عَبَّادٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ كَيْسَانَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: قَلَّ الْجَرَادُ فِي سَنَةٍ مِنْ سِنِي عُمَرَ الَّتِي وَلِيَ فِيهَا، فَسَأَلَ عَنْهُ فَلَمْ يُخْبَرْ بِشَيْءٍ، فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ رَاكِبًا إِلَى كَذَا، وَآخَرَ إِلَى الشَّامِ، وَآخَرَ إِلَى الْعِرَاقِ يَسْأَلُ: هَلْ رُؤِيَ مِنَ الْجَرَادِ شَيْءٌ أَمْ لَا؟ قَالَ: فَأَتَاهُ الرَّاكِبُ الَّذِي مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ بِقَبْضَةٍ مِنْ جَرَادٍ، فَأَلْقَاهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا رَآهَا كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: خَلَقَ اللَّهُ أَلْفَ أُمَّةٍ، مِنْهَا سِتُّمِئَةٍ فِي الْبَحْرِ، وَأَرْبَعُمِئَةٍ فِي الْبَرِّ، وَأَوَّلُ شَيْءٍ يَهْلِكُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ الْجَرَادُ، فَإِذَا هَلَكَتْ تَتَابَعَتْ مِثْلَ النِّظَامِ إِذَا قُطِعَ سِلْكُهُ.
الشيخ: هذا الحديث ضعيفٌ، والمشهور أنَّ أمم البحر أكثر من أمم البرّ، وربّك يعلم كلّ شيءٍ ، فهو يعلم دوابّ الأرض، ودوابّ البحر، وهو الذي يرزقهم سبحانه، ويتولّى شؤونهم جلَّ وعلا، فهم أمم مُتعددة، وأصناف كثيرة، الله رازقها، وخالقها، ومُصرّف شؤونها، أعد سندَه.
الشيخ: "التقريب" حاضر؟ انظر: عبيد بن واقد.
الطالب: عبيد بن واقد القيسي، أو الليث، أو عباد، ضعيفٌ، من التَّاسعة.
الشيخ: والذي بعده؟ الذي بعد عُبيد.
الشيخ: محمد بن عيسى بن كيسان، المقصود أنَّ الخبر ضعيفٌ، في بعض روايات هذا الخبر أنَّ من جملتها الذّباب، وأنَّ عمره لا يزيد على أربعين ليلة، وهو حديثٌ ضعيفٌ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام:38]، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ قَالَ: حَشْرُهَا الْمَوْتُ.
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سَعِيدِ بن مَسْرُوقٍ.
الشيخ: سعيد بن مسروق، أبو سفيان الثوري، انظر: سعيد بن مسروق.
عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَوْتُ الْبَهَائِمِ حَشْرُهَا.
وَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنْهُ.
الشيخ: والظَّاهر قوله: يُحْشَرُونَ ليس المراد بالحشر الموت، والمقصود: يُجمعون يوم القيامة، ثم يُقضى بينهم، ويُحاسَب مَن استحقّ، ثم يُقال لها: كوني تُرابًا، إلا المكلّفين من الجنِّ والإنس، فهم الذين يبقون: إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وأما هذه الأمم فتُحشر يوم القيامة: تُجمع يوم القيامة، ويُقتصّ للشَّاة الجلحاء من الشاة القرناء، ويُعطى كلٌّ حقّه، ثم تموت، ثم يقال لهم: موتوا، فيموتون وينتهي أمرهم، فالحشر جمعٌ، مثلما في قوله سبحانه: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ [النمل:17] يعني: جُمع لسليمان جنوده، يوم الحشر يعني: يوم الجمع، ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يعني: يُجمعون ويُقتصّ من بعضهم لبعضٍ، ثم بعد ذلك يموتون.
س: تحيا جميع الخلائق؟
ج: لذوات الأرواح: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ كلها تُحشر: تحيا يوم القيامة، تحيا وتُحشر: تُجمع ويُقتصّ من بعضها لبعضٍ.
مُداخلة: سعيد بن مسروق الثّوري والد سفيان، ثقة، من السادسة، مات سنة ستٍّ وعشرين، وقيل بعدها. (الجماعة).
الشيخ: غيره؟
الطالب: ما في إلا هو.
الشيخ: هذا المعروف؛ لأنَّ مسروق الذي هو صاحب ابن مسعود ..... فوق ذلك، فوق هذه الرتبة، الظاهر أنه ابن مسروق والد الثّوري.
مداخلة: ..... الذي عندنا: عن إسرائيل، عن سعيد، عن مسروق؟
الشيخ: الظاهر أنَّ هذا غلطٌ في الأصل، في نفس ابن جرير، الصَّحيح: ابن مسروق، لكن تبقى عليه إشارة حتى نُراجع شيوخ سعيد بن مسروق وتلاميذه، خلّوا عليه العلامة.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ مثله.
(والقول الثاني) أنَّ حشرها بعثها يوم القيامة؛ لقوله: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير:5].
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَشْيَاخٍ لَهُمْ، عَنْ أَبِي ذَرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى شَاتَيْنِ تَنْتَطِحَانِ، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تدري فِيمَ تَنْتَطِحَانِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي، وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا.
وَرَوَاهُ عَبْدُالرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي ذرٍّ قال: بينا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذِ انْتَطَحَتْ عَنْزَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَتَدْرُونَ فِيمَ انْتَطَحَتَا؟ قَالُوا: لَا نَدْرِي، قَالَ: لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي، وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، فَذَكَرَهُ، وَزَادَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: وَلَقَدْ تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَمَا يُقَلِّبُ طائرٌ جناحيه في السَّماء إلا ذكر لنا مِنْهُ عِلْمًا.
س: النَّص الوارد في أنَّهم يموتون بعد النَّفخة؟
ج: جاءت فيه عدّة نصوص، لا يبقى إلا الجنّ والإنس فقط، أهل التَّكليف، هو محل إجماعٍ بين أهل العِلْم.
ذكر بعضُهم عند قول الكافر: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [النبأ:40] حين يرى موت الحيوانات الأخرى قال: يتمنّى أن يكون مثلهم، نسأل الله السَّلامة.