شرح كتاب "المنتقى من أخبار المصطفى ﷺ" لمجد الدِّين أبي البركات عبدالسلام ابن تيمية الحراني.
برنامج أسبوعي، ضيف اللِّقاء سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز.
البرنامج من تقديم وتنفيذ: عبد الكريم بن صالح المقرن.
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم،
الحمد لله الذي أكمل لنا الدِّين، وأتم علينا النِّعمة، وجعلنا مُسلمين.
والصلاة والسلام على قائد الغُرِّ المحجَّلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات، إنَّ من أفضل ما تصرف به الأوقات، وتفنى به الأعمار: طلب العلم الشرعي؛ علم الكتاب والسنة وما يلحق بهما من علومٍ، يقول تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
فطلب العلم الشَّرعي رفعة في الدنيا والآخرة، يكون للإنسان لسان صدقٍ في الآخرين، فإنَّ آثار العلم تبقى بعد فناء أهله، والعلماء الربانيون لم تزل آثارهم محمودةً، وطريقتُهم مأثورةً، وسعيهم مشكورًا، وذكرهم مرفوعًا.
ومن هؤلاء الأعلام الأفذاذ الذين ذاع صيتُهم في عالمنا الإسلامي، ولهم جهود مباركة ومشكورة في تبليغ دعوة الله وتعليم الناس دين الله بمختلف الوسائل والطرق: سماحة والدنا الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء، حفظه الله ورعاه، والذي وافق مشكورًا رغم كثرة مشاغله وأعماله على استضافة درسٍ علميٍّ عبر إذاعة القرآن الكريم.
أما الكتاب الذي سيقوم شيخُنا حفظه الله بشرحه والتَّعليق عليه فهو كتاب "المنتقى من أخبار المصطفى ﷺ" للإمام مجدّ الدِّين أبي البركات عبدالسلام ابن تيمية الحراني.
هذا الكتاب العظيم قال عنه الشيخُ محمد الشوكاني: إنه جمع من السنة المطهرة ما لم يجتمع في غيره من الأسفار.
نسأل الله أن يغفر للمؤلف، ويرفع درجاته، ويجزي عنا شيخنا عبدالعزيز بن عبدالله بن باز خير الجزاء على ما قدَّمه للإسلام والمسلمين.
لعلكم سماحة الشيخ تستفتحون هذا الكتاب بكلمةٍ توجيهيةٍ، وتعريفٍ بهذا الكتاب في برنامجنا، جزاكم الله خيرًا.
سماحة الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فهذا الكتاب كتاب عظيم، جمع فيه المؤلفُ رحمه الله عبدالسلام ابن تيمية جملةً من أحاديث الأحكام، واعتنى بها كثيرًا رحمه الله، وهو كتاب يدرسه العلماء من حين ألَّفه المؤلفُ رحمه الله، كتاب جليل ينبغي لأهل العلم أن يعتنوا به؛ لمراجعته والاستفادة منه؛ لأنه كتاب جليل، جمع من أحاديث الرسول ﷺ جملةً كبيرةً في جميع الأحكام: في الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحجّ، والمعاملات، وغير ذلك، وهو جدير بالعناية.
وسنتكلم إن شاء الله على ما يسَّر الله من ذلك في الدروس الآتية، ونسأل الله أن ينفع به المسلمين، وأن يجعلنا وجميع إخواننا من دُعاة الهدى وأنصار الحقِّ، وأن يُوفق جميعَ المسلمين للفقه في دينه، والثبات عليه، والنصح له ولعباده، إنه سميع قريب.
المقدم: اللهم آمين، جزاكم الله خيرًا، على بركة الله نبدأ بقراءة هذا الكتاب.
كتاب الطَّهارة
أبواب المياه
باب طهورية ماء البحر وغيره
1- عن أبي هريرة قال: سأل رجلٌ رسولَ الله ﷺ فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحرَ، ونحمل معنا القليلَ من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال رسولُ الله ﷺ: هو الطَّهور ماؤه، الحلُّ ميتته. رواه الخمسة، وقال الترمذي: هذا حسن صحيح.
الشيخ: هذا الحديث العظيم يدل على أنَّ ماء البحر طهور، وأنه يُتوضأ منه، ويُشرب منه، ولا حرج في ذلك؛ ولهذا قال ﷺ: هو الطهور ماؤه، الحلُّ ميتته، فإذا صفي منه ماء وشُرب فهو طيب، وإذا تُوضئ منه أو اغتُسل منه فهو طيب: هو الطهور ماؤه، الحلُّ ميتته.
فميتة البحر -من السَّمك وغيره من حوت البحر- كله حلال طيب، كما قال الله جلَّ وعلا: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة:96]، فالله أحلَّ لعباده طعام البحر من الحوت وسائر ما فيه من الحيوانات، وجعل ماءه طهورًا يتوضأ منه المؤمن، ويغتسل، ويشرب، ويغسل ثيابه، وغير ذلك.
هو الطهور ماؤه، الحلُّ ميتته كلمة جامعة من جوامع الكلم التي أُوتيها النبيُّ عليه الصلاة والسلام.
المقدم: يبقى هناك أسئلة سماحة الشيخ في هذا، وهي: ما الحكمة من حلِّ ميتة البحر؟
الشيخ: الله أعلم، علينا قبول ما جاء من الأحكام، والحمد لله، وإن لم نعلم الحكمة، ربنا حكيم عليم في كلِّ ما يشرعه ويُقدره سبحانه، فلما أباح لنا طعامَ البحر فالحمد لله، هذا من فضله وإحسانه جلَّ وعلا، أما الحكمة والعلة فأنا لا يظهر لي الآن شيء واضح في هذا أجزم به، ولكنه من نِعم الله العظيمة والحمد لله.
وحوت البحر يختلف: فيه الكبير والصغير، وقد أخرج لأصحاب النبي ﷺ حوتًا عظيمًا اسمه: العنبر، فهم لما أتوا سيفَ البحر، وهم سرية في إمرة أبي عبيدة، أرسلهم النبيُّ ﷺ، فقلَّ زادهم، فأخرج الله لهم حوتًا عظيمًا كالجبل، فأكلوا منه، وسمنت أجسامهم، وأخذ أبو عبيدة اثني عشر رجلًا أو ثلاثة عشر رجلًا أجلسهم في ..... عينه، من كبر جسمه كالجبل، وهذا من رزق الله، ومن نِعم الله العظيمة؛ ولهذا قال سبحانه: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96].
المقدم: أحسن الله إليكم، هناك أحكام متعلقة بماء البحر، فما هي هذه الأحكام سماحة الشيخ؟
الشيخ: أحكامه أنه طهور، ماء البحر طهور مُطهر من النَّجاسات ومن الأحداث، ولا حرج فيه والحمد لله.
المقدم: المستخرج من البحر سماحة الشيخ هل فيه زكاة؟
الشيخ: ليس فيه زكاة على الصحيح، لكن إذا حال عليه الحولُ وقد عدَّه صاحبُه للبيع صار من عروض التِّجارة، وإن كان ذهبًا أو فضةً وجبت فيه الزكاة إذا حال عليه الحول، أما إن كان غير ذلك، إن كان المخرج من البحر غير ذلك، وأعدَّه صاحبه للبيع؛ صار من عروض التِّجارة.
الشيخ: وهذا يدل على آيةٍ عظيمةٍ ومعجزةٍ كبيرةٍ للنبي ﷺ، تدل على أنه رسول الله حقًّا، وأن الله بعثه بالحقِّ، نبوع الماء من بين أصابعه هذه من آيات الله العظيمة، ومن مُعجزاته الكبيرة لنبينا عليه الصلاة والسلام.
وفيه الدلالة على أنَّ مثل هذا الماء طهور، نافع، عظيم، نبع من بين أصابع النبيِّ ﷺ، فدلَّ ذلك على أنَّ مثل هذا الماء إذا نبع من أرضٍ أو من جبلٍ أو من غير ذلك فإنه طهور، كما صار هذا الماء الذي نبع من بين أصابع النبي ﷺ طهورًا، توضأ منه الناس، فدلَّ ذلك على طهورية أنواع المياه؛ لأن الرسول قال: إنَّ الماء طهور لا يُنجسه شيء، والله يقول: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، فالأصل في المياه الطَّهارة، هذا هو الأصل، سواء كانت من بحرٍ، أو من نهرٍ، أو من بئرٍ، أو من جبلٍ، أو من غير هذا، هو الأصل: أنها طهور حتى يثبت ما يُنجسها من النَّجاسات التي تُغير طعمًا أو ريحًا أو لونًا.
المقدم: جزاكم الله خيرًا، سماحة الشيخ لعلنا نسأل حول هذا الحديث: ما الفرق بين المعجزة والكرامة؟
الشيخ: المعجزة للأنبياء، والكرامة تكون لغير الأنبياء من الصالحين، فخوارق العادات قسمان:
خارق يكون للأنبياء؛ معجزةً لهم، ودليلًا على نبوتهم، كما وقع للنبيِّ ﷺ في انشقاق القمر، وفي نبوع الماء من بين أصابعه، وغير هذا مما وقع له من المعجزات.
أما ما يقع من الكرامات للمؤمنين عند الشدة فهذه تُسمَّى: كرامة، كما وقع لأهل الكهف، وكما وقع لأسيد بن حضير وعبَّاد بن بشر من الأنصار ، من أصحاب النبي ﷺ؛ خرجا ذات ليلةٍ من عند النبي في ليلةٍ مُظلمةٍ، فأضاء لهما سوطُهما كالسِّراج، كل واحدٍ صار سوطه كالسِّراج يُنير له الطريق، ولما انصرف كلُّ واحدٍ إلى بيته استضاء بسوطه، هذه من آيات الله، ومن كرامات أوليائه.
وكذلك ما حصل من بركة الطعام: لما زار النبيُّ بعضَ أصحابه ووضع لهم طعامًا يسيرًا، فأنزل الله فيه البركة حتى أكل الجميعُ، وكانوا نحو ثمانين مع النبي ﷺ، وهو نحو صاعٍ من الطعام، فبارك الله فيه، وصار ذلك معجزةً للنبي ﷺ وكرامةً للمضيف.
وَمُتَّفَقٌ عَلَى مِثْلِ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ .
وفيه تنبيهٌ على أنه لا بأس برفع الحدث من ماء زمزم؛ لأنَّ قصاره أنه ماء شريف، مُستشفًى ومُتبرك به، والماء الذي وضع رسول الله ﷺ يده فيه بهذه المثابة.
الشيخ: والمقصود من هذا أنَّ الماء الذي نبع من يدي النبي ﷺ ماء شريف، ومع هذا توضأ منه الصحابة، ولهم أن يغتسلوا، ما قال لهم النبي: لا تغتسلوا، بل ما أخذوا من الماء يكون لهم فيه الغسل، ويكون لهم فيه الوضوء، فدلَّ ذلك على أنَّ الماء الشريف يُتوضأ منه، ويُغتسل منه: كماء زمزم، وكالماء الذي نبع من بين أصابع النبي ﷺ؛ لعموم قوله جلَّ وعلا: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، وهو يعمّ هذه المياه، والرجل والمرأة لهما الوضوء والاغتسال، وغسل الملابس من الأوساخ، أو من النَّجاسة، كل ذلك لا بأس به، ولا حرج فيه، وإن كان من ماء زمزم.
المقدم: إذًا يا سماحة الشيخ يجوز الاغتسالُ بماء زمزم؟
الشيخ: يجوز الاغتسال، وغسل الثياب النَّجسة، والبقعة النَّجسة، يجوز وإن كان ماءً شريفًا.
الشيخ: وهذا كالذي قبله دليل على أنه لا بأس بالوضوء من ماء زمزم، كما يشرب منه يتوضأ منه أيضًا.
بَابُ طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُتَوَضَّأ بِهِ
3- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعُودنِي وَأَنَا مَرِيضٌ لَا أَعْقِلُ، فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الشيخ: وهذا لما جعل الله فيما باشر جسده من الخير والبركة، فعرقه مبارك، وما باشر جسده من الوضوء مبارك؛ ولهذا كان الصحابةُ يتوضَّؤون بفضل وضوئه: من يده، ومن رأسه عليه الصلاة والسلام.
وفي هذا الحديث أنه توضأ وصبَّ الماء على جابرٍ، يعني: ما حصل من وضوئه صبَّه على جابرٍ؛ فعافاه الله وشفاه ؛ لما جعل الله فيما باشر جسده من الماء والعرق وغير ذلك جعل الله فيه بركةً عظيمةً عليه الصلاة والسلام.
ودلَّ ذلك على طهارة الوضوء، فإذا تطهر الإنسانُ وجمع ماءه في إناءٍ فهو طهور.
وقال بعضُ أهل العلم: إنه يكون طاهرًا، لا طهورًا. ولكن لا دليلَ على ذلك، فلو أنَّ إنسانًا غرف من الماء، وصار وضوؤه في إناءٍ آخر، الذي سقط من وجهه ومن يديه ومن رجليه صار في إناءٍ آخر، فإنه يكون طهورًا، ولا يكون طاهرًا، بل يكون طهورًا؛ لأنه ماء لم يتغير بنجاسةٍ، فصار طهورًا، أما جعله طاهرًا ليس بطهورٍ فلا دليلَ عليه.
المقدم: حول هذا أسئلة سماحة الشيخ: حديث جابر ، لعلنا نسأل ونقول: ما التَّبرك الجائز في حقِّ الرسول ﷺ، والتَّبرك الممنوع؟
الشيخ: التَّبرك بوضوئه وبعرقه وبشعره ﷺ، كل هذا يُتبرك به، وبملابسه عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّ الله جعل فيه بركةً، ولما حلق في حجة الوداع -حلق رأسه- قسم نصفه على الناس، وأعطى نصفه أبا طلحة لنفسه ولأهله.
المقدم: أحسن الله إليكم سماحة الشيخ، مَن تبرك سماحة الشيخ عبدالعزيز بالصَّالحين، واحتجَّ بفعل الصحابة مع المصطفى، كيف نُجيب على مثل هؤلاء؟
الشيخ: يُقال له: الرسول لا يُقاس على غيره، الرسول هو أفضل الخلق، والله جعله مباركًا، وجعله لا ينطق عن الهوى، ولا يسكت عن الباطل، فلو كان التَّبرك لا يجوز لمنعهم، فلما أقرَّهم دلَّ على أنَّ الله أذن في ذلك، وما سوى ذلك ليس عليه دليل، والأصل المنع بالتَّبرك بالناس إلا ما شرعه الله، فالرسول ﷺ أقرَّهم، فدلَّ على أنه مشروع، كما يُحتج بتقريره في غير ذلك، أما غيره فلا دليلَ على ذلك؛ ولأنَّ التوسل بغيره والتَّبرك بغيره وسيلة إلى الشرك والغلو، فكان من رحمة الله أن منع ذلك؛ حتى لا يقع الغلو في الناس، أما الرسول ﷺ فهو يُعلمهم ويمنعهم مما حرَّم الله عليهم، بخلاف غيره؛ فإنه قد يغلط، وقد يُقرهم على ما حرَّم الله عليهم.
فالحاصل أنه لا يُقاس عليه غيره؛ لما جعل الله فيه من البركة والخير؛ ولأنه لا ينطق عن الهوى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]، فلما أقرَّهم وسكت، وأعطاهم شعره ليتبركوا به، وسمح لهم أن يأخذوا من وضوئه؛ دلَّ على أنه أمر طيب، وأنه مأذون من الله جلَّ وعلا، أما غيره فلا؛ لأنَّ الأصل المنع.
المقدم: أحسن الله إليكم، أخيرًا سماحة الشيخ: الوسوسة في الوضوء والطَّهارة، كيف يتخلص منها المسلم؟
الشيخ: يتعوَّذ بالله من الشيطان، وينتهي، ويبني على ما فعل، ولا يلتفت إلى الوساوس، فإنه متى أصغى إليها طمع فيه عدو الله، لكن الواجب عليه أن يقطعها، وأن يبني على ما استيقن في وضوئه، وفي صلاته، وفي غير ذلك، هذا هو المشروع، وإذا كثرت عليه الوساوس طرحها وبنى على ظنِّه، أما إذا كانت الوساوسُ قليلةً فإنه يبني على اليقين في طهوره، وفي طوافه، وفي صلاته، يبني على اليقين، فإذا شكَّ هل غسل يده؟ غسلها، شكَّ هل غسل رجله؟ غسلها في الحال، أما بعد الطَّهارة والنهاية إذا شكَّ جديدًا فإنه لا يلتفت إليه.
وهكذا لو طاف ثم طرأ الشَّك لا يلتفت إليه، وهكذا بعد الصلاة؛ لو طرأ شكٌّ بعد الصلاة لا يلتفت إليه، أما إذا كان الشَّك في نفس الصلاة، في نفس الطواف، في نفس الوضوء، فإنه يبني على ما استيقن، إلا أن يكثر ويكون وساوس مطرحة؛ فيبني على ما وقع في ظنِّه، ويستمر، ويكفي، ويطرح هذه الشكوك التي كثرت عليه، وأما إذا كانت الوسوسة قليلةً فإنه يبني على اليقين في طوافه وصلاته ووضوئه.
المقدم: أحسن الله إليكم.
الشيخ: كما تقدم هذا دليلٌ على أنه لا بأس بهذا، وأن التَّبرك به أمر مشروع، ومن ذلك فعل الصحابة يوم الحديبية: تبركهم بنخامته وبُصاقه، كل هذا من الأدلة على أنَّ هذا شيء مبارك وطيب؛ لأنَّ الرسول أقرَّهم، وأنه خاصٌّ به، لا يُقاس عليه غيره.
الشيخ: وهذا يدل على أنَّ الجنب طاهر، فالجنابة وصف معنوي لا تُنجسه، فإذا جامع أهله فجسده طاهر، إنه عليه الغسل لمعنًى في الجماع، وأما الجسد فهو طاهر، فإذا جالس الناس، أو أكل، أو شرب فلا شيء عليه؛ ولهذا قال ﷺ: إنَّ المسلم لا ينجس، وهكذا وقع لأبي هريرة.
فالمقصود أنَّ الجنب لا ينجس بالجنابة، وله أن يُجالس إخوانه، وله أن يخرج لحاجته، ولا حرج عليه، وثيابه طاهرة لو عرق وهو جنب، وهكذا الحائضُ بدنها طاهر، والنفساء لو عرقت بدنها طاهر، وثيابها طاهرة، إلا ما أصابه الدَّم، ما أصابه الدم ينجس، ويغسل البقعة التي أصابها الدم، أما بقية الثوب فهو طاهر.
فالجنب والحائض والنُّفساء أبدانهم طاهرة، وعرقهم طاهر، وشعورهم طاهرة، ولهم الأكل، ولهم الشرب، ولهم الجلوس مع الناس، أما ما أصاب البدن من دمٍ، أو أصاب الثوبَ يُغسل.
المقدم: جزاكم الله خيرًا سماحة الشيخ، هناك أسئلة حول هذا الحديث، وهو: ما حكم نوم الجنب سماحة الشيخ؟
الشيخ: السنة أنه يتوضأ قبل النوم، ولو نام فلا شيء عليه، لكن السنة: كان النبي يتوضأ ثم ينام، وأمر بذلك عليه الصلاة والسلام، هذا السنة: أن يتوضأ ثم ينام، وإن اغتسل غسلًا كاملًا كان أكمل، وكان النبي ﷺ ربما اغتسل ثم نام، وربما توضأ ثم اغتسل في آخر الليل عليه الصلاة والسَّلام.
المقدم: ما الدليل على استحباب الوضوء قبل النوم؟
الشيخ: أمر النبي ﷺ؛ أنه أمر قال: إذا أراد أحدُكم أن ينام فليتوضأ ثم ليضطجع على يمينه .. إلى آخره، أمرهم بالوضوء، هذا هو السنة عند النوم: أن ينام على طهارةٍ.
المقدم: هل يصح أن يقول المسلمُ عن نفسه بأنه نجس، أي مُحْدِث؟
الشيخ: لا، ما يقول: نجس، المحدِث ليس نجسًا، وإنما هو عليه معنى يُوجب الطَّهارة، وهو خروج الحدث، وليس بنجسٍ، النَّجس ما أصابته النَّجاسة من بولٍ أو غائطٍ أو نحوهما من النَّجاسات، أما كونه مُحْدِثًا أو جنبًا فليس بنجسٍ؛ ولهذا قال ﷺ للجنب: إنَّ المسلم لا ينجس يعني: بالجنابة.
بَابُ بَيَانِ زَوَالِ تَطْهِيرِهِ
6- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: لَا يَغْتَسِلَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ، فَقَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، كَيْفَ يَفْعَلُ؟ قَالَ: يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ.
الشيخ: وهذا دليل على أنه لا ينجس الماء، وأنه لا يسلبه الطّهورية، وما ذكره المؤلفُ؛ وهو أنَّ هذا يدل على أنه يسلبه الطّهورية ليس بواضحٍ، لكنه يُنهى عن الاغتسال بالماء الدائم؛ لأنه قد يُقذره على الناس، وليس معناه أنه ينجسه أو يسلبه الطّهورية، لا، ولكن غسله فيه قد يُقذره على الناس، فمن محاسن الشَّريعة أن أمر الجنب أن يغتسل خارج الماء، ويغترف اغترافًا، ولا سيما إذا كان الماءُ ليس بالكثير، فقد يُؤثر فيه، ولكن يغترفه اغترافًا حتى لا يُكدره على الناس، ولا يُؤثر فيه مما يُسبب كراهتهم له.
وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد: لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ.
وهذا النَّهي عن الغسل فيه يدل على أنه لا يصحّ ولا يُجزئ، وما ذلك إلا لصيرورته مُستعملًا بأول جزءٍ مُلاقيه من المغتسل فيه.
الشيخ: ليس هذا بظاهرٍ، والصواب أنه لا يسلبه الطّهورية، وإنما نُهي عن ذلك لأنه قد يُقذره، وقد يقع من المغتسل أشياء تُنجسه إذا كان المجلس فيه نجاسة، أما كون الغسل يُنجسه أو يسلبه الطّهورية فلا، والرسول نهى عن البول في الماء الدائم والغسل في الماء الدائم لأنه قد يُؤثر، البول قد يُنجسه، قد يكثر حتى يُغيره فيُنجسه، والغسل في الماء الدائم قد يُقذره على الناس حتى يكرهوا شربه والأخذ منه، فمن رحمة الله ومن كمال الشَّريعة ومن محاسنها أن نهى الجنب أن يغتسل في الماء الدائم، ونهى أن يبول فيه؛ حتى لا تكثر النَّجاسات، فربما غيَّرته وسلبته الطّهورية.
المقدم: هناك أسئلة حول هذا الحديث سماحة الشيخ، وهو: قد يستفسر سائلٌ عن مقدار الماء الكافي لغسل الجنابة؟
الشيخ: الأفضل صاع وما يُقاربه، صاع إلى خمسة أمداد، إلى صاع ونصف، السنة عدم الإسراف؛ أن يقتصد، كان النبيُّ ﷺ يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، وكان يغتسل مع عائشة من فرقٍ يسع ثلاثة آصعٍ من الماء، فإذا اغتسل بهذا المقدار فهو حسنٌ، وإن لم يكفِه زاد حتى ينقي، حتى يُبرئ ذمَّته، لكن يتحرى حتى لا يُسرف الماء، ولو أنَّ إنسانًا لم يكفِه الصاع ولم تكفِه خمسة أمداد فإنه يزيد حتى يكمل طهارته عن يقينٍ، وهكذا الحائض والنُّفساء.
المقدم: الماء المتساقط من الغسل طهور أو طاهر؟
الشيخ: طهور، الماء الساقط طهور.
المقدم: إذا كان المسلمُ يغتسل من الدُّشِّ، هل يلزمه الدَّلك والفرك؟
الشيخ: الدَّلك مستحب، وليس بلازمٍ، من الدشِّ وغير الدشِّ، المهم إجراء الماء، فلو فرك بدنه فهذا خيرٌ إلى خيرٍ، ولكن ليس بواجبٍ، المهم إجراء الماء وإسباغ الماء.
المقدم: شكر الله لكم سماحة الشيخ، وبارك الله فيكم وفي علمكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين.