لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284].
يُخبر تعالى أنَّ له ملك السّماوات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ، وَأَنَّهُ الْمُطَّلِعُ عَلَى مَا فِيهِنَّ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ الظَّوَاهِرُ، وَلَا السَّرَائِرُ وَالضَّمَائِرُ وَإِنْ دَقَّتْ وَخَفِيَتْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَيُحَاسِبُ عِبَادَهُ عَلَى مَا فَعَلُوهُ وَمَا أخفوه في صدورهم، كما قال تعالى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:29]، وَقَالَ: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ بِمَزِيدٍ عَلَى الْعِلْمِ، وَهُوَ الْمُحَاسَبَةُ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ ، وَخَافُوا مِنْهَا، وَمِنْ مُحَاسَبَةِ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى جَلِيلِ الْأَعْمَالِ وَحَقِيرِهَا، وَهَذَا مِنْ شِدَّةِ إِيمَانِهِمْ وَإِيقَانِهِمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ: حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ -يَعْنِي الْعَلَاءَ- عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ جَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلاة والصّيام والجهاد والصَّدقة، وقد أُنزلت عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَا نُطِيقُهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلَمَّا أَقَرَّ بِهَا الْقَوْمُ وزلّت بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ.
الشيخ: بالذال: وذلّت.
وذَلَّت بها ألسنتهم أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَثَرِهَا: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، فَلَمَّا فَعَلُوا ذلك نسخها الله؛ فأنزل الله: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286] إِلَى آخِرِهِ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مُنْفَرِدًا بِهِ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَلَفْظُهُ: فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ، فأنزل الله: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، قَالَ: نَعَمْ، رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، قَالَ: نَعَمْ، رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، قَالَ: نَعَمْ، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، قَالَ: نعم.
الشيخ: والمعنى أنَّ الله أجاب دعوتهم، ولم يُؤاخذهم بما لا يستطيعون، المراد بالمحاسبة: الشيء الذي يستطيعون، وأمَّا ما لا يستطيعون من الخطرات التي تخطر في القلوب ثم تذهب، فهذه لا يُكلِّف الله عبدًا إلا وسعها، مثلما قال في الحديث الصَّحيح: ذاك صريح الإيمان، وإنما يُؤاخذ الإنسانُ بما استقرَّ في قلبه من نفاقٍ وكبرٍ ورياءٍ وغير هذا، أمَّا ما يخطر ويزول فالله لا يُكلّف به عباده.
والصَّحابة خافوا من هذه الخواطر التي تخطر في القلوب، وتمرّ بالقلوب كالرياح العاصفة، هذه لا تضرّ العبد، وإنما يضرّه ما استقرَّ منها وثبت في القلوب من نفاقٍ وكبرٍ ورياءٍ، وغير هذا من العقائد الباطلة، فهذه تضرّ القلوب، وتضرّ العباد وإن أخفوها، فالله لا تخفى عليه خافيةٌ ؛ ولهذا كان النِّفاقُ أكبر من الكفر الظاهر، وصار أهلُه في الدَّرك الأسفل من النار، فالله جلَّ وعلا يقول: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] يعني: الأشياء التي تُستطاع وتستقرّ في القلوب، أمَّا الخواطر فالله جلَّ وعلا أخبر أنَّه عفا عنها: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، قال الله: نعم، وفي اللَّفظ الآخر قال: قد فعلتُ، فهو سبحانه لا يُؤاخذ بما لا يستطيعه العبد، وبما يقع من نسيانٍ وخطأ.
وفي الحديث الصَّحيح أنَّ العبدَ الذي فقد ناقته لما وجدها قال من شدّة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدّة الفرح، فالمؤاخذة إنما تكون على الأعمال المستطاعة المختارة التي يستطيعها العبدُ، وتقع منه عمدًا، لا سهوًا، ولا خطأً، وهذا من جوده وكرمه : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:5] ، فالعبد محلّ النّسيان، ومحل الخطأ.
س: "نعم" هذه من قول الرَّب؟
ج: قول الرب جلَّ وعلا، نعم يقوله الرب، وفي اللَّفظ الآخر: قال الله: قد فعلتُ.
وفي رواية مسلم هذه رفع التُّهمة عن عبدالرحمن بن إبراهيم: أنَّه لم ينفرد بهذه الرِّواية، بل عبدالرحمن بن إبراهيم تابع غيره.
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ آدَمَ بْنِ سُلَيْمَانَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ قَالَ: دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ مِنْ شَيْءٍ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا، فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ إِلَى قَوْلِهِ: فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:285- 286].
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ ابْنِ أَبِي شيبةَ، وَأَبِي كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ وَكِيعٍ بِهِ: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهدٍ قال: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ، كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَبَكَى، قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قُلْتُ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ حِينَ أُنْزِلَتْ غَمَّتْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ غمًّا شديدًا، وغاظتهم غيظًا شديدًا، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْنَا إِنْ كُنَّا نُؤَاخَذُ بِمَا تَكَلَّمْنَا وَبِمَا نَعْمَلُ، فَأَمَّا قُلُوبُنَا فَلَيْسَتْ بِأَيْدِينَا! فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. قَالَ: فَنَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ إِلَى لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ، فَتَجَوَّزَ لَهُمْ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَأُخِذُوا بِالْأَعْمَالِ.
الشيخ: والمعنى: أنَّ الخواطر ليست من الكسب، الخواطر تمرّ كما تمرّ الرياح، ليست من الكسب، ولا يُؤخذ بها العبدُ، بخلاف ما يستقرّ ويثبت، هذا هو محل المؤاخذة.
س: .............؟
ج: فيه كلمة ساقطة، المعنى –يعني- مثله، السياق ظاهر، معروف المعنى.
الشيخ: وكأنَّ ابن عمر لم يطّلع على ما رواه .....؛ ولهذا لما تلاها بكى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فإنَّ ما يقع للنّفوس من الخواطر شيء خطير وعظيم؛ ولهذا خاف ابنُ عمر، وخاف الصَّحابةُ قبله جميعًا، حتى أنزل الله جلَّ وعلا ما بعدها –الآيتين- آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، وخلافًا لأهل الكتاب حيث قالوا: سمعنا وعصينا. الصحابة قالوا: سمعنا وأطعنا. فأثابهم سبحانه بقوله: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ، فالخواطر التي تمرّ في القلوب لا يُؤاخِذ اللهُ بها جلَّ وعلا، الوسوسة التي يُلقيها الشيطانُ، ويدفعها المؤمنُ بإيمانه وتصديقه فتزول وتذهب؛ فهذه لا يُؤاخذ اللهُ بها أحدًا، وإنما يُؤاخذ بما يستقرّ في القلوب من نفاقٍ وكبرٍ وشركٍ ورياءٍ وغير ذلك، هذا هو محلّ المؤاخذة: ما يستقرّ وتعمده القلوب.
س: .............؟
ج: هذا تكلم بكلمةٍ، لكن ما يتدبرها، ما يُعطيها حقَّها من العناية؛ لتساهله وقلّة مُبالاته، نسأل الله العافية.
وفي الحديث الصَّحيح الآخر: إنَّ الله تجاوز عن أمّتي ما حدَّثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تكلّم، حديث النَّفس ما يسلم منه أحد، مثلما قال الصَّحابة فيما تقدم: إنَّ أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخرّ من السّماء أهون عليه من أن يتكلم به. فقال لهم النبيُّ ﷺ: ذاك صريح الإيمان يعني: ذاك الاستعظام لما يقع في القلوب من الخواطر والكراهة لها والخشية له فذاك هو صريح الإيمان، أما كون الإنسان يتكلم ولا يُبالي، وربما تكلم بكلمةٍ من سخط الله ما يُلقي لها بالًا، ما يتثبّت فيها -كما في الحديث- يكتب اللهُ له بها سخطه إلى يوم يلقاه؛ ليس من هذا الباب، هذا كلام عمد، نسأل الله السَّلامة.
س: قوله: لعمري؟
ج: لا، هذا معفوٌّ عنه: لعمري، لعمر زيد، هذا ليس من القسم المحظور، جاء في بعض الأحاديث من فعل النبي ﷺ وفعل الصَّحابة له، الصَّحيح أنه ليس من القسم الممنوع، الممنوع أن يقول: والنبي، وحياة النبي، أو ورأسك، وشرف فلان، أو والأمانة، أو بالأمانة، أو وحياة فلان. هذه هي الأقسام الممنوعة.
س: جاء في حديث؟
ج: نعم، الحديث جيد، لا بأس به، النبي قال: لعمري اللهم صلِّ عليه.
س: ............؟
ج: ما أتذكر، لعله في بعض السّنن: في الترمذي، أو في غيره بسندٍ جيدٍ، ما أذكره الآن.
س: لما أنزلت الآيةُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] ابن عمر لم يكن حاضرًا لما فسَّرها النبيُّ؟
ج: كأنَّه ما حضر، أو نسي، وابن عمر عمّر، عاش إلى ثلاثٍ وسبعين، آخر عام ثلاثٍ وسبعين، أو في أول عام أربعٍ وسبعين، ومات رحمه الله في محرم، أو في آخر ذي الحجّة، مات في آخر ذي الحجّة من عام ثلاثٍ وسبعين، أو في أول محرم من عام أربعٍ وسبعين رحمه الله.
س: آخر الصَّحابة موتًا؟
ج: آخر الصَّحابة موتًا: أبو الطّفيل عامر بن واثلة اللّيثي، هو آخر مَن مات من الصّحابة، مشهور، عام عشرٍ ومئة، في أول القرن الثاني، وقيل: على رأس المئة عام فقط، المشهور عند جماعةٍ من المحدّثين أنه عام عشرٍ ومئة، يعني: عمّر مئة وعشر سنين، فإنه وُلد على رأس الهجرة، وحضر حجّة الوداع، وتوفي وله مئة وعشر سنين رحمه الله.
س: قوله: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72]؟
ج: هذا قسمٌ من الله بحياة النبي ﷺ، الله يُقسم بما شاء: وَالْعَصْرِ [العصر:1]، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1]، ما هو الكلام في هذا، الكلام في قسم الإنسان، هو الذي يُمنع من الحلف بغير الله، أما الربّ لا يتحجّر عليه أحدٌ .
س: "لعمري" ما هو من باب القسم؟
ج: لا، ما هو من باب القسم، ليس من القسم الممنوع.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ: أَنَّ أَبَاهُ قَرَأَ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284]، فَدَمعَتْ عَيْنَاهُ، فَبَلَغَ صَنِيعُهُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، لَقَدْ صَنَعَ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حين أُنْزِلَتْ، فَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.
فَهَذِهِ طُرُقٌ صَحِيحَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الشيخ: الطّريق الأول عن ابن عمر، شيوخ الطريق الأول هذا: سفيان بن حسين، عن الزهري، فيه شيء عند أهل العلم، ليس بذاك عن الزهري، انظر الطريق الأول الذي عن ابن عمر الذي بكى، الذي قرأته قبل قليلٍ.
الشيخ: يكفي، يكفي، سند جيد.
الشيخ: الذي بعده الذي وقفت عليه.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أَحْسَبُهُ ابْنَ عُمَرَ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ قَالَ: نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةَ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالَّتِي بَعْدَهَا. وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ فِي كُتُبِهِمُ السِّتَّةِ مِنْ طَرِيقِ قتادة، عن زُرارة ابن أبي أَوْفَى.
الشيخ: عن زُرارة بن أوفى، هذا يقع في كثيرٍ من الكتب: ابن أبي أوفى، يحسبونه من جنس عبدالله ابن أبي أوفى الصَّحابي، لا، هذا ابن أوفى، تابعي.
عن زُرارة بن أَوْفَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ.
وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قَالَ اللَّهُ: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً، وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا، لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَهُوَ فِي أَفْرَادِهِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عن العلاء، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ قَالَ اللَّهُ: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبْتُهَا لَهُ حسنةً، فإن عملها كتبتُها له عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ أَكْتُبْهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً.
س: ما حكم دخول المساجد بأشياء كُتبت عليها دعاية تجارية .....؟
ج: الدخول بفنيلة أو شنطة معه يُعتبر من الدعاء مع الله أحدًا.
س: ...........؟
ج: الله يهديك، الله يهديك، الله يُعيذنا وإياكم من الشيطان، هذا لا يضرّ، لكن إذا دعت الحاجةُ: قد يكون مُسافرًا، قد يكون محتاجًا، معه شنطته، أو معه فنلّات، أو معه شيء ما يضرّ، يحطّه في محلٍّ، ما يُشوش على النَّاس.
س: والتَّقاويم؟
ج: والتَّقاويم يحطّها في محلٍّ حتى يخرج من الدَّرس أو من الصلاة في آخره.
س: ............؟
ج: لا، التَّقاويم لها شأنٌ آخر؛ إذا علَّق التَّقويم الذي يحتاجه الناسُ في محلٍّ لا يُؤذي الناس ولا يُشوش، قد يحتاج الناسُ إليه في المسجد، يحطّه في محلٍّ ما يُشوش، ما يضرّ إن شاء الله.
س: ............؟
ج: لا يُعلّق في المسجد شيء، لا يُكتب في المسجد شيء؛ لأنه يُشوش: لا آيات، ولا غيرها، هذا الذي ينبغي، مكروه، ترك هذا هو الذي ينبغي، ولو وُجد في بعض المساجد، كما في المسجد الحرام، والمسجد النَّبوي .....، المساجد الأخرى ينبغي ألا يكون أمام المصلين شيء يُشوش عليهم.
س: ............؟
ج: تشويش على المصلين، المصلي قد ينظر إليها ويُصلي، وقد يتأمّلها، يُشوّش.
س: خلفهم؟
ج: إذا كان في المتأخّر أسهل، لكن تركها أولى، ترك الجدران سليمةً أسلم.
س: وفي المجالس؟
ج: في المجالس أسهل.
س: ............؟
ج: يقول النبيُّ ﷺ: إياكم والظنَّ؛ فإنَّ الظنَّ أكذبُ الحديث، والله يقول في كتابه الكريم: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، ما يجوز له أن يظنّ السّوء إلا بدليلٍ، أمَّا بدون دليلٍ فهذا ما يجوز: إياكم والظنَّ؛ فإنَّ الظنَّ أكذبُ الحديث، كونه يظنّ بأخيه شرًّا بدون دليلٍ هذا ما يجوز.
س: ما يدخل في حديث النَّفس؟
ج: لا، هذا إذا استقرَّ في قلبه ما يدخل، أمَّا إذا مرَّ وما استقرَّ ما يضرّ، يكون من حديث النَّفس الذي يمرّ ويذهب، وأما الظنّ الذي يستقرّ في قلبه: أنَّ فلانًا متَّهمٌ بالنِّفاق، أو فلانًا كذا بغير دليلٍ، أو أنه زنَّاء، أو أنه شرَّاب خمرٍ بغير دليلٍ؛ ما يجوز هذا، أمَّا إذا كان له دليلٌ؛ لأنَّه يُجالس أهل السّوء ويجلس مع الفُسَّاق؛ هذا يُتَّهم.
س: ............؟
ج: نعم هو منه: إيَّاكم والظنَّ؛ فإنَّ الظنَّ أكذبُ الحديث يعني: الظنّ، حديث النَّفس الباطل.