تفسير قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (1)

وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ۝ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ۝ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [الأنعام:4- 6].

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُعَانِدِينَ: إِنَّهُمْ مَهْمَا أَتَتْهُمْ مِنْ آيَةٍ -أَيْ دَلَالَةٍ وَمُعْجِزَةٍ وَحُجَّةٍ مِنَ الدَّلَالَاتِ- على وحدانيَّة الله وَصِدْقِ رُسُلِهِ الْكِرَامِ، فَإِنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْهَا، فَلَا ينظرون إليها، وَلَا يُبَالُونَ بِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ، وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ؛ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَلَيَجِدُنَّ غِبَّهُ، وليذوقن وباله.

الشيخ: والمقصود من هذا التَّحذير، المقصود من هذا تحذير المخاطبين أن يُصيبهم ما أصاب مَن قبلهم من الأمم المكذّبة، فأحلّ بهم عقابَه ، وأنزل بهم نقمتَه: كعاد وثمود وقوم نوح، وغيرهم ممن كذَّب الرسل، وأعرضوا عمَّا جاءت به الرسل؛ فحلَّت بهم العقوبات والنّقمات، يعني: فاحذروا يا معشر قريش، واحذروا يا معشر العرب جميعًا أن يُصيبكم ما أصاب مَن قبلكم؛ ولهذا قال: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ، لا يلتفتون إليها، لا يتدبّرونها، ولا يتعقّلونها حتى يستفيدوا، حتى يُجيبوا داعي الحقِّ، بل يستهزئون ويُعرضون.

فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فسوف يجدون غبَّ عملهم السَّيئ، وعاقبتهم السَّيئة، كما وجد ذلك مَن قبلهم من الأمم: فقوم نوح كذَّبوا فأخذهم الله بالطّوفان، وعاد كذَّبت فأخذها الله بالرِّيح العقيم، وثمود كذَّبت فأخذها الله بالصيحة والرَّجفة، وقوم لوط كذَّبوا فأخذهم الله بالخسف، فأمطرهم العذاب، وهكذا قوم شعيب، إلى غير ذلك.

فالواجب على كل ذي عقلٍ من المكلَّفين أن ينتبه، وأن يأخذ العظة مما أصاب مَن قبله، وألا يغترَّ بإمهال الله وإنظاره، فأولئك قد أُمهلوا وأُنظروا ثم أُخذوا، فأنت كذلك لا تغترّ بإمهال الله وحلمه؛ فإنَّه جلَّ وعلا يُملي ولا يغفل: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42]، وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الأنعام:132].

فلا يليق بالعاقل أن يُقيم على المعصية، ويغترّ بحلم الله وإنظاره له وعدم عُقوبته، فقد يهجم عليه الأجلُ وهو على هذه الحالة، ويكون عقابُ الله أشدّ، قد تهجم عليه العقوبة قبل الموت؛ فيجمع عليه بين العقوبتين: العقوبة العاجلة والآجلة.

وفي هذا القرآن العظيم العظة والذّكرى لمن تدبّر وتعقّل، فهي نبأ مَن قبلنا، وخبر ما بعدنا: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29]، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الآية [الإسراء:9]، ولا سيما في هذا العصر: عصر الغُربة، وقلّة الحقّ وأهله، وكثرة الباطل وأهله، يجب على المكلَّفين أن يأخذوا حذرَهم أكثر وأكثر: بدأ الإسلامُ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطُوبى للغُرباء، فالغُرباء هم الذين يصلحون عند فساد الناس، ويُصلحون ما أفسده الناس، فليحذروا نقمةَ الله، وأن يعدّوا للقاء ربّهم العدّة الصَّالحة، ولا يغترّوا بكثرة الهالكين.

س: بعض الإخوان يقول: إنَّ قولنا نحن في غُربة الدِّين أنَّ هذا يُثبّط العزائم عند الناس، كلما يحدث حادثٌ أو يأتي منكرٌ يقولون: نحن في غُربةٍ. فيتخاذلون عن إنكار المنكر؟

ج: لا، هذا جهلٌ، هذا جهلٌ، في الغُربة التَّشجيع على العمل الصَّالح، والتَّشجيع على الثَّبات على الحقِّ، وألا ييأس الإنسان ولو رأى ما رأى، لا ييأس، يكون عنده نشاط وقوة وصبر، هكذا أمر النبيُّ ﷺ، قال: طوبى للغُرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، وفي لفظٍ آخر: يُصلحون ما أفسده الناس، فالإخبار بالغُربة حثٌّ على الصبر والثَّبات والنَّشاط في دعوة الناس إلى الخير، وألا ييأسوا من روح الله.

ثم قال تعالى واعظًا لهم، وَمُحَذِّرًا لَهُمْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ الدُّنْيَوِيِّ مَا حَلَّ بِأَشْبَاهِهِمْ وَنُظَرَائِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ الَّذِينَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَأَكْثَرَ جَمْعًا، وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَاسْتِغْلَالًا لِلْأَرْضِ، وَعِمَارَةً لَهَا، فَقَالَ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الأنعام:6]، لَكُمْ أَيْ: مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ والأعمار، والجاه العريض، والسعة، والجنود؛ ولهذا قال: وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا أَيْ: شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أَيْ: أَكْثَرْنَا عَلَيْهِمْ أَمْطَارَ السَّمَاءِ وَيَنَابِيعَ الْأَرْضِ، أَيِ: اسْتِدْرَاجًا وَإِمْلَاءً لَهُمْ، فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أَيْ: بِخَطَايَاهُمْ وسيّئاتهم التي اجترحوها، وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ أَيْ: فَذَهَبَ الْأَوَّلُونَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ، وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ، وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [الأنعام:6] أَيْ: جيلًا آخر لنختبرهم، فعملوا مثل أعمالهم؛ فأُهلكوا كإهلاكهم، فَاحْذَرُوا أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، فَمَا أَنْتُمْ بِأَعَزَّ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ، وَالرَّسُولُ الَّذِي كَذَّبْتُمُوهُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ رَسُولِهِمْ، فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْعَذَابِ وَمُعَاجَلَةِ الْعُقُوبَةِ مِنْهُمْ، لولا لطفه وإحسانه.

الشيخ: ولهذا يقول جلَّ وعلا: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف:111]، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف:3]، الله يقصّ علينا أنباء الماضين وأخبارهم لنقتدي بالصَّالحين، ونحذر صفات الهالكين، هذه الفائدة العظيمة من القصص: أن نأخذ بأسباب النَّجاة، وأن نحذر أسبابَ الهلاك.

وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ۝ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ۝ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ۝ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ۝ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام:7- 11].

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَعِنَادِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ لِلْحَقِّ، وَمُبَاهَتَتِهِمْ وَمُنَازَعَتِهِمْ فِيهِ: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ أَيْ: عَايَنُوهُ وَرَأَوْا نُزُولَهُ وَبَاشَرُوا ذَلِكَ، لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُكَابَرَتِهِمْ: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ۝ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر:14- 15]، وكقوله تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ [الطور:44].

وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ أي: ليكون معه نذيرًا، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ أَيْ: لَوْ نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ لَجَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْعَذَابُ، كَمَا قال الله تَعَالَى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ [الحجر:8]، وَقَوْله: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ الآية [الفرقان:22].

...........

وقوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ أَيْ: وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَعَ الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ مَلَكًا، أَيْ: لَوْ بَعَثْنَا إِلَى الْبَشَرِ رسولًا ملكيًّا لكان على هيئة الرَّجل؛ ليُمكنهم مُخَاطَبَتُهُ، وَالِانْتِفَاع بِالْأَخْذِ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لالتبس عليهم الأمر، كما هم يَلْبِسُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي قَبُولِ رِسَالَةِ الْبَشَرِيِّ، كقوله تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [الإسراء:95]، فمن رحمته تَعَالَى بِخَلْقِهِ أَنَّهُ يُرْسِلُ إِلَى كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْخَلَائِقِ رُسُلًا مِنْهُمْ لِيَدْعُوَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلِيُمَكِّنَ بَعْضَهُمْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِبَعْضٍ فِي الْمُخَاطَبَةِ وَالسُّؤَالِ.

الشيخ: يعني من جنسهم، ينطق بلغتهم، ويعرفونه؛ حتى يتمكَّنوا من مُخاطبته والاستفادة من كلامه، فلو كان من غير جنسِهم لما تمكَّنوا من مخاطبته والأخذ عنه، ولكنه جعل رسولهم منهم.

كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ الآية [آل عمران:164].

قال الضَّحاك عن ابن عباسٍ في الْآيَةِ يَقُولُ: لَوْ أَتَاهُمْ مَلَكٌ مَا أَتَاهُمْ إِلَّا فِي صُورَةِ رَجُلٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ النَّظَرَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ مِنَ النُّورِ، وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ أَيْ: وَلَخَلَطْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَخْلِطُونَ، وَقَالَ الْوَالِبِيُّ عَنْهُ: وَلَشَبَّهْنَا عَلَيْهِمْ.

وَقَوْلُهُ: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام:10] هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِه، وَوَعْدٌ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ بِالنُّصْرَةِ وَالْعَاقِبَةِ الْحَسَنَةِ فِي الدُّنيا والآخرة.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام:11] أَيْ: فَكِّرُوا فِي أَنْفُسِكُمْ، وَانْظُرُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ بِالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُ وَعَانَدُوهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا ادُّخِرَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي الْآخِرَةِ، وَكَيْفَ نُجِّيَ رُسُلُهُ وعباده المؤمنون.

الشيخ: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس:103]، فسبحانه وتعالى أوعد الكافرين وأنذرهم، وأقام الحجج، وقطع المعذرة، ونجَّى أولياءه وأهلَ طاعته من الرسل وأتباعهم: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ.

فالواجب على أهل العقول النَّظر والعناية والتَّفكير في الدَّلائل التي جاءت بها الرسل؛ حتى يستفيدوا منها، وحتى ينتفعوا بها؛ لأنَّ الله أقام الأدلةَ على الحقِّ والهدى، وعلى الكذب .....، فإذا تأمّل العاقلُ الراغبُ في الحقِّ بأدلة الرّسل عرف صدقهم وما هم عليه من الحقِّ، وما أيَّدهم الله من الآيات؛ فاتَّبعهم واستقام على هداهم.

أمَّا إذا أعرض وغفل وأساء الظنَّ فهو الذي سعى في هلاك نفسه؛ لعدم إخباره عن الحقِّ، ولعدم طلبه له، ولعدم عنايته له.

وهكذا اليوم، وهكذا كل يوم: طالب الحقِّ يبحث وينظر ويتأمّل الأدلة، ويعتني ويلتمس الحقّ، ويسأل ربَّه التوفيق، ويُحسن النية، هكذا طالب الحقّ.

أمَّا الغافل المعرِض الذي لا يُريد إلا اتِّباع الهوى؛ هذا ما أراد الحقّ، فهو حريٌّ بالخذلان وسوء المصير؛ لإعراضه وغفلته وعدم طلبه الحقّ، نسأل الله العافية.

وهذا عامٌّ، حتى في المسألة الواحدة، الذي يطلب مسألةً في الصَّلاة، في التوحيد، في الشرك، في الزكاة؛ لا بدَّ أن يكون عنده فيها العناية، وعنده الرغبة فيما عند الله، وعنده إصلاح النية؛ حتى يُوفّق لحل المشكلات، والوقوف على الحقيقة بأدلتها، كلما حسنت النّية، وطاب المقصد، وبُذل الوسع لطلب الحقِّ؛ يسّر اللهُ أمرَ العبد، ويسّر له مطلوبَه، وأعانه عليه، فالأمران مطلوبان في كل وقتٍ: الإخلاص والصّدق في كل مسألةٍ، الإخلاص لله هو صدقٌ في الطّلب.