المقدم: بسم الله الرحمن الرَّحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدِّين.
أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ومرحبًا بكم مع هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم في موكب الدَّعوة.
لقاؤنا في هذه اللَّحظات مع عالم الأمة، وبقية سلفها، ومُجدد دينها، غنيٌّ عن ضرب الألقاب، مُتجرد من الأوصاف إلا وصف العلم والتُّقى، ملأ الأرضَ وقاطنيها حبًّا وقبولًا.
ولا أجد وصفًا وبيانًا لضيفنا الكبير إلا أن أُرحب باسمكم جميعًا أيُّها الإخوة والأخوات بسماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، مفتي عام المملكة العربية السعودية، ورئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء، ورئيس هيئة كبار العلماء، فشكر الله لسماحته إجابة الدَّعوة، وحيَّاكم الله سماحة الشيخ.
الشيخ: بارك الله فيك.
المقدم: سماحة شيخنا الكريم، الحقيقة أنَّ الإخوة والأخوات بشوقٍ كبيرٍ إلى أن يتفضَّل سماحتكم بلمحةٍ مُوجزةٍ مُقتضبةٍ عن ولادتكم ونشأتكم.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فإني أسأل الله أن يُوفقنا جميعًا للعلم النافع، والعمل الصالح، وأن يُصلح قلوبنا وأعمالنا جميعًا، وأن يُوفقنا وجميع المسلمين لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد، ولكل ما فيه السَّعادة في الدنيا والآخرة.
أما مولدي ومنشئي: فقد ولدتُ في ذي الحجّة من عام 1330، في اليوم الثاني عشر من هذا الشهر المذكور.
ونشأتُ في طلب العلم والتَّفقه في الدِّين، وقرأتُ على عدة مشايخ، أفضلهم وأعلمهم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللَّطيف آل الشيخ، مفتي البلاد في وقته رحمة الله عليه، قد درستُ عليه سنوات كثيرة، وتخرَّجتُ عليه في أنواع العلوم: من الفقه، والحديث، والعقيدة، والنحو.
نسأل الله أن يتغمَّده بالرحمة والرِّضوان، وأن يُصلح ذريته، وأن يُوفق جميع علماء المسلمين لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد، وأن يُعيذنا وجميع إخواننا المسلمين من مُضلات الفتن، ومن نزغات الشيطان، إنه جوادٌ كريمٌ.
المقدم: إذًا الشيخ محمد بن إبراهيم هو شيخكم الأوَّل؟
الشيخ: هو الشيخ الذي لازمته رحمه الله.
المقدم: هناك أحدٌ غيره؟
الشيخ: في الشيخ محمد بن عبداللطيف، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ، رحمهم الله، وغيرهم.
المقدم: الحقيقة تقلدتم بحمد الله العديد من المسؤوليات والأعمال التي أنطتم بها، ونفع الله بكم نفعًا عظيمًا مباركًا ومشهودًا، ما أبرز هذه الأعمال والمسؤوليات التي تولَّاها سماحتكم؟
الشيخ: توليتُ في أول الأمر القضاء في الخرج ابتداءً من عام 1357، وبقيتُ في القضاء إلى نهاية العام 71 في الخرج، ثم انتقلتُ إلى الرياض للتَّدريس، ثم في عام 81 عُينتُ نائبًا لرئيس الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، ورئيسها شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم، ثم بعد وفاته عُينتُ رئيسًا لها، ثم في عام 95 في شوال انتقلتُ من الجامعة إلى رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدَّعوة والإرشاد في الرياض، ثم عُينتُ في عام 1414 مُفتيًا عامًّا للمملكة، ورئيسًا لهيئة كبار العلماء.
نسأل الله التوفيق وحُسن العاقبة، ونسأل الله الهداية والتَّسديد.
المقدم: دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب عليه رحمة الله دعوة مباركة، مع ما لقيته من تأييدٍ من الإمام محمد بن سعود عليهما جميعًا رحمة الله، إلا أنه مع الأسف الشَّديد لا يزال هناك بعض المسلمين يجهل حقيقة هذه الدَّعوة وأهدافها المباركة، في رأي سماحتكم ما الأسباب في ذلك؟ وما أسباب نجاحها وانتشارها بحمد الله؟
الشيخ: دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله دعوة سلفية، دعا إلى توحيد الله، والإخلاص له، ومحاربة الشِّرك والبدع، وأيَّده آل سعود رحمة الله عليهم في هذه الدَّعوة، وقد نفع الله بها المسلمين، وصار مجدد القرن الثاني عشر، يعني: النصف الثاني من القرن الثاني عشر هو المجدد رحمه الله، دعا إلى توحيد الله، والإخلاص له، والحذر من الشِّرك ووسائله وذرائعه، وحذَّر من البدع، وكتب في ذلك كتاب "التوحيد" و"كشف الشبهات" و"ثلاثة الأصول" و"القواعد الأربع"، وكتبًا أخرى رحمه الله ككتاب "الإيمان" و"فضل الإسلام".
وقد نفع اللهُ به المسلمين، وأزال به من هذه الجزيرة الشِّرك الأكبر ووسائله، وهذا من نِعَم الله على هذه البلاد، وقد ساعده في ذلك آل سعودٍ، وساعده علماء الحقِّ في هذه الجزيرة، وانتفع بدعوته جمٌّ غفيرٌ من المسلمين في الهند، وفي غير الهند، وفي العراق، وفي الشام، وفي مصر، وفي غير ذلك.
ولكن بعض علماء الشِّرك وعلماء البِدع ضادّوا هذه الدَّعوة؛ لجهلهم وضلالهم، وقلّة بصيرتهم، وما ابتُلوا به من سوء العقيدة، وإلا فعقيدته واضحة، وهو يدعو إلى ما دعا إليه الرسولُ ﷺ، يدعو إلى توحيد الله، والإخلاص له، وإلى اتِّباع القرآن والسُّنة، وإلى الحذر من البدع، وإلى الحذر من دعوة الأموات، والاستغاثة بالأموات، وغيرهم، فدعوته دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولكن كثيرًا من الناس في بعض الأمصار يجهلون ذلك، وقلَّدوا من جهل ذلك، واتَّبعوا الهوى، وزيَّن لهم الشيطان تقليد مَن جهل الحقّ، وعظم أصحاب القبور، ودعاهم من دون الله؛ جهلًا منهم وضلالًا، نسأل الله العافية.
س: ألا ترون أنَّ هذه الدَّعوة بحاجة إلى توضيح من الدُّعاة ومن العلماء في الكتابة عنها، وفي توضيحها، وبيان حقيقتها؛ حتى لا تلتبس على بعض العامَّة؟
ج: الواجب على أهل العلم بيان ذلك، الواجب على أهل العلم الذين عرفوها أن يُبَيِّنوا ذلك، والمقصود بيان ما كان عليه الرسول ﷺ وأصحابه، هو الأساس: أن يُبين ما كان عليه الرسول وأصحابه، وأنَّ هذه الدَّعوة سائرة على ما سار عليه الرسول ﷺ.
فالواجب على العلماء أن يُبَيِّنوا ما بعث اللهُ به نبيَّه ﷺ، وما درج عليه سلفُ الأمة من الصَّحابة ومَن بعدهم، ويُبين الدُّعاة إلى الحقِّ: كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم رحمة الله عليهما، وابن كثير، وأشباههم من علماء السنة، وهكذا الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وتلاميذه، وأحفاده، وأبنائه، ومَن سار على دعوته، كل ذلك واجب على أهل العلم أن يُبَيِّنوا ويُوضِّحوا؛ لأنَّ المقصود هو الدَّعوة إلى الله وبيان الحقِّ، كما قال الله سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا [فصلت: 33]، وقال جلَّ وعلا: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125].
فالواجب على أهل العلم أن يُبَيِّنوا دين الله، وأن يُوضِّحوا للناس شريعة الله عن الكتاب والسُّنة، عن القرآن العظيم، والسُّنة المطهرة، وأن يُوضِّحوا علماء الحقّ؛ حتى يأخذ الناسُ بكلامهم وكتبهم، وحتى ينتفعوا بذلك، مثلما ألَّف العلماء سابقًا: كابن خزيمة رحمه الله، وعثمان بن سعيد الدَّارمي، وغيرهم، وهكذا مَن بعدهم من الأئمة، وهكذا أبو العباس ابن تيمية شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم رحمه الله، وتلميذه الثاني ابن مفلح في كتابه "الفروع" و"الآداب الشرعية".
وهكذا أئمة الدَّعوة، الواجب على العلماء أن يُوضِّحوا الدَّعوة إلى الله، وأن يُبَيِّنوا دينَ الله الذي بعث به رسله، وبعث به خاتمهم محمدًا ﷺ، وأن ينشروا الحقَّ، وأن يحذروا من الشِّرك والبدع، هذا هو الواجب على علماء الحقِّ أينما كانوا.
س: الفرقة والخلاف داء دبَّ في صفوف المسلمين عامَّة وطلبة العلم والجماعات الإسلامية على وجه الخصوص، هل من كلمةٍ في هذا الشَّأن من سماحتكم إليهم؟
ج: نعم، الواجب الحذر من الفرقة والاختلاف، الواجب الدَّعوة إلى الاستقامة على الكتاب والسُّنة، ولزوم جماعة أهل السنة والجماعة، ولا يجوز التَّفرق؛ لأنَّ الله ذمَّ ذلك فقال: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام: 159]، وقال سبحانه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105].
فالواجب على المسلمين الاتحاد، والثَّبات على الحقِّ، والاجتماع عليه، والاعتصام بحبل الله، كما قال جلَّ وعلا: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]، هذا هو الواجب على جميع المسلمين، وعلى عُلمائهم: أن يتَّحدوا، وأن يتعاونوا على البرِّ والتقوى، وأن يدعوا إلى ما دلَّ عليه كتاب الله الكريم، وسنة رسوله الأمين عليه الصَّلاة والسلام، وأن يدرجوا على ما درج عليه أصحابُ النبي ﷺ وأتباعهم بإحسانٍ.
هذا هو الواجب على الجميع، فمَن سلك مسلك أهل السُّنة، وسار على طريق الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فهو صاحب سنة، وجدير بأن يُدعا له بالتوفيق، وأن يُسلك طريقه، ومَن حاد عن ذلك فينبغي أن يُوبخ، وأن يُحذر من الفرقة والاختلاف، نسأل الله للجميع الهداية.
س: يظهر في بعض الأوقات -خصوصًا في مثل هذه الأيام- ردود بين طلبة العلم وبين العلماء فيما بينهم، وقد تحمل هذه الردود أحيانًا شيئًا من الحدة، وأحيانًا تتجنب بعض الأدب الذي ينبغي أن يكون بين طلبة العلم، هل لكم من كلمةٍ في هذا الشَّأن؟
ج: الاختلاف من قديمٍ، من عهد الصَّحابة ، الاختلاف موجودٌ من عهد الصَّحابة، لكن الواجب العدل والأدب في هذا، وأن يُبين الحقَّ الذي اختلف فيه الناس، فلم يزل الناسُ يختلفون من عهد الصحابة إلى يومنا هذا، لكن الواجب على العالم أن يُبين الحقَّ بأدلته، بالأسلوب الحسن، والكلام الطيب، مثلما قال الإمامُ مالك رحمه الله: "ما منا إلا رادٌّ ومردودٌ عليه إلا صاحب هذا القبر"، يعني النبي ﷺ.
فالاختلاف لا بدَّ من وقوعه، لكن يجب على أهل العلم الإنصاف، والتَّحري للحقِّ، وإيضاح الحقّ بدليله من الكلام الطيب، والأسلوب الحسن في حقِّ مَن أخطأ من أهل العلم والبصيرة؛ لأنَّ كل إنسانٍ قد يُخطئ ويغلط، لكن إذا كان من أهل السُّنة يُبين له الخطأ بالأسلوب الحسن، والكلام الطيب، أما أهل البدع فيُنكر عليهم بدعهم وضلالهم، وتفرّقهم واختلافهم، لكن أهل السُّنة إذا غلط الواحدُ منهم الواجب أن يُبين له الحقّ بالأسلوب الحسن، بالرِّفق والحكمة، لا بالشدة؛ حتى يقبل الحقَّ، وحتى ينصاع للحقِّ، نسأل الله للجميع الهداية.
س: ظهر في الآونة الأخيرة قيام بعض مَن ينتمي إلى الإسلام، ويُسمون: بالجماعات الإسلامية المسلحة، والتي تهدف إلى ضرورة إصلاح الواقع الإسلامي في بعض البلدان ولو بالسلاح، أو ما يُعرف بالعنف، مما أحدث ردة فعلٍ عن الإسلام وعن المسلمين وصورته النَّاصعة الطيبة الحقيقية، ما رأي سماحتكم بمثل هؤلاء؟ وهل من كلمةٍ تُوجهونها إلى شباب الإسلام وناشئتهم والقائمين على الجماعات الإسلامية؟
ج: هذا العمل خطأ، لا يجوز لأهل العلم، ولا أهل الإيمان الإنكار بالسلاح، ولكن بالدَّعوة إلى الله، والتوجيه إليه، والترغيب والترهيب، وبيان الأدلة، أما العلاج بالسِّلاح فهذا خروجٌ على ولاة الأمور، ويُسبب فتنًا كثيرةً، وشرًّا كثيرًا، ولكن الواجب هو الإنكار باللِّسان والتَّعليم، مثلما قال ﷺ: مَن رأى منكم مُنكرًا فليُغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، التَّغيير باليد من ولاة الأمور الذين يستطيعون ذلك، ومن الهيئات المعينة لذلك على حسب صلاحياتهم، والرجل مع أهل بيته حسب القُدرة.
أما أن يُنكر بالسِّلاح على ولاة الأمور، أو على أهل المعاصي، فهذا لا يجوز؛ لأنه يُسبب فتنًا كثيرةً، وشرًّا كبيرًا، ولكن بالنَّصيحة والتَّوجيه والدَّعوة إلى الله جلَّ وعلا، والرفع إلى ولاة الأمور، والنَّصيحة لعامَّة الناس في المساجد وغيرها من دون السِّلاح.
س: الدَّعوة إلى الله وظيفة الأنبياء والرسل، والقيام بها ضرورة حتمية لا مناصَ عنها، ووسائل الإعلام هي المنبر الأول في الوقت الحاضر في الدَّعوة إلى الله ، إلا أنه مع الأسف يُشاهد تقصير من بعض طلبة العلم والدُّعاة في هذا الجانب، هل من كلمةٍ تُوجِّهونها إلى الدُّعاة، وإلى طلبة العلم والعلماء للمُشاركة في وسائل الإعلام -في شتى وسائلها- للدَّعوة إلى الله ، لا سيما وأننا ولله الحمد في هذه البلاد الوسائل متاحة ومُتوفرة، ومَن يقوم على وسائل الإعلام يدعو ويُرحب بمثل هؤلاء جميعًا؟
ج: الواجب على القائمين على وسائل الإعلام أن يتَّقوا الله، وألا ينشروا بين الناس إلا ما ينفعهم، وأن يحذروا نشر ما يضرّهم، سواء كان ذلك من طريق الإذاعة المرئية، أو المسموعة، أو المقروءة، الواجب التَّحري، الواجب على وزارات الإعلام أن يتَّقوا الله، وألا ينشروا بين الناس إلا ما ينفعهم في دينهم ودنياهم.
والواجب على العلماء أن يتَّقوا الله أيضًا، وأن يُساهموا في وسائل الإعلام بما أعطاهم الله من العلم، سواء كانت الوسائل مرئية، أو مقروءة، أو مسموعة، عليهم أن يتَّقوا الله جلَّ وعلا، وأن يُساهموا في هذا الخير العظيم بنشر العلم، والدَّعوة إلى الله، وتعليم الناس ما أوجب عليهم، وتحذيرهم عمَّا يضرهم.
هذا هو الواجب على العلماء: أن يتعاونوا في هذا، وأن يبذلوا وسعهم في ذلك؛ لأنَّ الله أوجب عليهم ذلك، أوجب على العلماء أن يُبَلِّغوا، يقول جلَّ وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [البقرة: 159- 160]، قال: وَبَيَّنُوا، فدلَّ ذلك على أنه لا بدَّ من البيان.
وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران: 187].
فالواجب على أهل العلم أن يُبَيِّنوا، وألا يكتموا، وبذلك تصلح أمور الناس، فإذا تعاون العلماءُ مع العامَّة في بيان الحقِّ وإرشادهم إليه بالأسلوب الحسن والكلام الطيب، كان هذا من أعظم الأسباب في صلاح الجميع، ومن أسباب ظهور الخير، وخفاء المنكر، ومن التَّعاون على البر والتَّقوى، والله سبحانه يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2]، ويقول سبحانه: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1- 3].
أخبر سبحانه أنَّ الرابحين السُّعداء هم الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات، وتواصوا بالحقِّ، ومَن عاداهم خاسر، فلا يسلم من الخسارة إلا الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوا الله ورسوله، ثم عملوا بطاعة الله، فأدّوا ما أوجب الله، وتركوا ما حرَّم الله.
ثم مع هذا أمر ثالث: وهو التَّواصي بالحقِّ، والتناصح، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر.
ثم أمر رابع: وهو الصَّبر على ذلك.
لا بدَّ من هذه الأمور.
وقال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71].
هذه أوصاف المؤمنين، هذه أخلاقهم، يجب على كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ التَّخلق بهذه الأخلاق، فكل مؤمنٍ ومؤمنةٍ ولي لأخيه ولأخته في الله، بعضهم أولياء بعض، لا حقدَ، ولا شتم، ولا لعن، ولا خيانة، ولا شهادة بالزور، ولا غير ذلك مما حرَّمه الله، بل المؤمنون أولياء فيما بينهم، كل واحدٍ يُحب لأخيه الخير، ويكره له الشَّر، والمؤمنة كذلك: فلا غلَّ، ولا حقد، ولا خيانة، ولا كذب، ولا ظلم: كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه.
ثم مع هذا يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، هم أولياء، ومع هذا يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فالمحبة والولاية لا تمنع، بل تُوجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لأنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر هو طريق الصلاح، هو طريق السَّعادة، هو طريق النَّجاة، كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران: 110]، وقال جلَّ وعلا: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78- 79]، هذا وعيدٌ عظيم.
ورُوي عن النبي ﷺ أنه قال: والذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، ولتأخذنَّ على يد السَّفيه وفي روايةٍ: على يد الظالم، ولتأطرنَّه على الحقِّ أَطْرًا، أو ليضربَنَّ اللهُ قلوبَ بعضكم على بعضٍ، ثم يلعنكم كما لعنهم.
هذا وعيد عظيم، فيجب الحذر منه، ويجب التَّواصي بالحقِّ، والتناصح، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، في الحضر والسفر، بين الخواصِّ، وبين العامَّة، هذا هو الواجب على الجميع، وهذا هو طريق النَّجاة، وطريق السعادة، نسأل الله للجميع الهداية.
س: الشَّباب هم أمل الأمة، وعليهم تُعلق الآمال الكبرى، ولكن كثيرًا من الناس يتشاءمون في مثل هذه الأوقات من الشباب ومن واقعهم، ما الأسباب في ذلك؟ وكيف ترون السبل الكفيلة بإصلاح الشباب وواقعهم، وخصوصًا في ارتباطهم مع عُلمائهم الثِّقات؟
ج: الواجب على الشَّباب وعلى أولياء الشَّباب التَّعاون على البر والتَّقوى، والواجب على أوليائهم من آباء وأجداد وإخوة كبار النَّصيحة والتَّوجيه، والواجب على العلماء كذلك نصيحة الشَّباب، وتوجيههم إلى الخير، فالشاب قد يضرّه الشباب بسبب جُلساء السُّوء، وبسبب قلّة العلم والبصيرة، ولكن إذا نصحه ولاةُ الأمور من أهل العلم، وقام عليه مَن يطمئن إليهم من آبائه وإخوته الكبار وجيرانه ونحو ذلك قد يستقيم، وقد ينفع الله بذلك.
فالواجب على الآباء، وعلى الجيران، وعلى العلماء، وعلى كل خيرٍ أن يتَّقوا الله، وأن يتعاونوا فيما بينهم فيما يتعلق بإصلاح الشَّباب، وتوجيهه إلى الخير، وإرشاده إلى أسباب النَّجاة، وتحذيره من أسباب الهلاك، هذا هو الواجب على الجميع، فالشباب بذمة العلماء والأخيار، وفي ذمّة الكبار.
فالواجب على العلماء والآباء والأجداد والإخوة الكبار والجيران التَّعاون مع الشباب على الخير، ونصيحتهم، ودعوتهم إلى الخير، والأخذ على أيديهم حتى يستقيموا على الحقِّ، وحتى يثبتوا على الحقِّ، وحتى يسيروا على الطريق السَّوي، هذا هو الواجب على الجميع، والله سبحانه يقول: تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، هذا هو طريق النَّجاة، وسبيل السَّعادة، ولا يجوز إهمال الشَّباب وإضاعتهم في ..... الشّر وميادين البلاء، بل يجب الأخذ على أيديهم، ونصيحتهم، ولو بالضرب، ولو بالسجن، ولو بغير ذلك، لا بدَّ من التعاون؛ لأنَّ الله قال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة: 71].
وقد يحتاج صاحبُ المنكر إلى تأديبٍ، مثلما قال ﷺ: مروا أولادكم بالصَّلاة لسبعٍ، واضربوهم عليها لعشرٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجع، فإذا دعت الحاجةُ إلى ضرب الولد أو سجنه، فلا بأس أن يضربه أبوه أو ولي الأمر أو الهيئة حتى يستقيم على الحقِّ، وحتى يدع الباطل، كل هذا داخلٌ في التَّعاون على البرِّ والتقوى، وداخلٌ في قوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.
فترك الشَّباب في الفساد، أو في السَّفه، أو في إضاعة الأوامر، معنى ذلك إعانة له على الباطل، ومعناه إهمال له، وظلم له.
فالواجب الأخذ بيده، ونصيحته، وتوجيهه إلى الخير ولو بالقوة، ولو بالتأديب.
رزق الله المسلمين التَّوفيق والهداية، وأصلح شباب المسلمين ووفَّقهم لكل خيرٍ.
المقدم: الرسول عليه الصلاة والسلام خصَّ المرأة المسلمة بحديثٍ وتوجيهٍ، والمرأة في العصر الحاضر تُواجه الكثير من الإغراءات والفتن والشَّهوات، وتنتظر أيضًا في مثل هذه اللَّحظات كلمةً من سماحتكم توجيهية تتفضلون بها إلى المرأة المسلمة في كل مكانٍ.
الشيخ: الواجب على نساء المسلمين التَّفقه في الدِّين، والتَّبصر، والحذر مما حرَّم الله عليهن، والحرص على أداء ما أوجب الله من الصلاة، والزكاة، وصيام رمضان، وحجّ البيت مع الاستطاعة، وأداء حقّ الزوج، وحق الوالدين، وحق الرحم، وحق الجار.
الواجب عليهن جميعًا مثل الرجال، الواجب عليهم تقوى الله، والاستقامة على دين الله، والحذر مما نهى الله عنه، ومن ذلك: التَّبرج والخروج بالزينة إلى الأسواق، أو الطِّيب. ومن ذلك: الخلوة بالأجنبي، أو ما أشبه ذلك.
فالواجب على نساء المسلمين أن يتَّقوا الله، وأن يستقيموا على دين الله، وأن يحذروا ما حرَّم الله، وأن يتعاونوا مع أزواجهم وأهليهم على البرِّ والتَّقوى، كما قال الله سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، المؤمنون جميعًا كلهم دربهم واحد: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، هذا وصف الجميع.
فالواجب على كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ أن يتَّقي الله، وأن يُراقب الله، وأن يستقيم على دين الله، وأن يحذر محارم الله، وأن يقف عند حدود الله، وأن يكون مع إخوانه وأخواته من المتواصين بالحقِّ والصبر عليه؛ لأنَّ الله قال: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1- 3] من الرجال والنساء.
وقال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.
وقال عليه الصلاة والسلام: المسلم على المسلم حرام: لا يخذله، ولا يكذبه، ولا يظلمه، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعِرضه.
فالمسلم على المسلم حرام، سواء كان ذكرًا أو أنثى: لا يظلمه، ولا يخونه، ولا يكذبه، ولا يُهمله، بل يعتني به: كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعِرضه.
فالمسلمون شيء واحد، يجب عليهم التَّعاون على البرِّ والتقوى، رجالًا ونساء، ويجب التَّواصي بالحقِّ والصبر عليه بين الرجل وأهله، وبين الرجل وأخواته وإخوته، وبين الرجل وجيرانه، يجب التَّعاون على البرِّ والتقوى، يقول ﷺ: مَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم جاره، وفي اللَّفظ الآخر: فليُحْسِن إلى جاره، وفي اللَّفظ الآخر: فلا يُؤْذِ جاره، فالجيران أيضًا لهم حقّ بالتَّعاون معهم على البرِّ والتقوى، والتواصي بالحقِّ، رجالًا ونساء.
نسأل الله للجميع الهداية والتَّوفيق.
المقدم: بحمد الله هناك العديد من المجالات المتاحة في حفظ الوقت، والذي قد يضيع على كثيرٍ من الناس رجالًا ونساءً في غير ما ينفعهم، وإذاعة القرآن الكريم من المجالات الطيبة التي يستفيد منها الإنسان، وهناك العديد من البرامج الطيبة والمباركة، والتي على رأسها برنامج "نور على الدرب"، والذي لسماحتكم دور في المشاركة فيه منذ زمنٍ بعيدٍ، هل من كلمةٍ تُوجهون الناسَ إليها للاستفادة من هذه الفرص المتاحة ولله الحمد؟
الشيخ: نعم، أنا أنصح إخواني جميعًا في كل مكانٍ -في المملكة، وخارج المملكة- أن يعتنوا بإذاعة القرآن ويستفيدوا منها؛ لأنَّ فيها خيرًا كثيرًا من جهة المحاضرات والنَّصائح التي تُلقى منها، ومن جهة ما فيها من قراءة القرآن، ومن جهة ما فيها من "نور على الدرب" كل ليلة، وهكذا في العصر، هذه نِعَم كثيرة.
فأنا أُوصي إخواني في كل مكانٍ: في المملكة وخارجها، أُوصيهم بالاستفادة من إذاعة القرآن، وأن ينصحوا أهلهم بذلك، وأن يسمعوها دائمًا؛ لما فيها من الخير العظيم، والفوائد الكثيرة.
رزق الله الجميع التَّوفيق والهداية.